أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رابح لونيسي - الجذور البعيدة والقريبة للدولة الإجتماعية في الجزائر















المزيد.....


الجذور البعيدة والقريبة للدولة الإجتماعية في الجزائر


رابح لونيسي
أكاديمي

(Rabah Lounici)


الحوار المتمدن-العدد: 7349 - 2022 / 8 / 23 - 16:09
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يلاحظ أي متتبع للمجتمع الجزائري بأنه في عمومه يولي أهمية بشكل كبير للعدالة الإجتماعية أكثر من الحريات الديمقراطية، فهو يعطي الأولوية للعدالة على الحريات، فيمكن لأي رئيس أن يكتسب شرعية شعبية إذا وفر الخدمات الإجتماعية، وضمن العدالة الإجتماعية بين المواطنين بغض النظر عن الطرق والأساليب التي وصل بها إلى السلطة، فمثلا الرئيس بومدين أكتسب شرعية واسعة بواسطة التنمية وتحقيق العدالة بين المواطنين، ويرى الكثير من الباحثين، خاصة الغربيين منهم أن هذه الطبيعة ليست خاصة بالجزائري، لكنها تعم كل الشعوب المسلمة، فإن كان من الصعب تعميم هذا الطرح على هذه الشعوب لأنها رغم إشتراكها في دين واحد إلا أنها تختلف بعضها عن بعض سياسيا وتاريخيا وذهنيا وثقافيا وغيرها، مما أُثر بشكل جلي حتى على تأويلاتها وفهمها لنصوص الإسلام ذاته كالقرآن الكريم وأحاديث نبيه محمد(ص) وغيرها.
ففي الحقيقة يعود إرتباط الجزائري بالعدالة الإجتماعية إلى أسباب بعيدة وقريبة، فبشأن الأسباب البعيدة نسجل بأن ذلك يعود لما أشرنا إليه في مقدمتنا، وهي أن الجزائري إنسان مسلم، وفي ذهنه وتصوره أن الإسلام دين العدل، وأن لكل مسلم رسالة نشر العدل في العالم والدفاع عن المستضعفين، فقد غرست في ذهنه عدالة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشكل كبير، بل يرى الكثير أن أحد أسباب إعتناق أجداده الإسلام هو عدالة هذا الدين، فقد كان يحب العدالة ومتمسك بها حتى قبل ذلك، خاصة أثناء مواجهته للإستعمار الروماني الإستغلالي، كما أعتنق في عمومه قبل مجيء الإسلام المذهب المسيحي الدوناتي الذي أنشأه ابن سوق اهراس دونات، والذي كان أقرب المذاهب إلى المسيحية الأصيلة التي جاء بها سيدنا عيسى عليه السلام، والتي أستند عليها حتى الكثير من الإشتراكيين ودعاة العدالة الإجتماعية في أوروبا مثل ثورة الفلاحين في ألمانيا في القرن17م التي كتب عنها انجلس بشكل مستفيض، فالدوناتية تحالفت مع الدوارين من أجل طرد الإستعمار الروماني بقيادة فيرموس وإستعادة الآراضي الفلاحية التي أستولى عليها المعمرون الرومان آنذاك، فثورتهم ضد الرومان كانت ذات طابع وطني وإجتماعي، وهي تشبه في ذلك إلى حد كبير حركة التحرير الوطنية الجزائرية ضد الإستعمار الفرنسي كما سنوضح ذلك فيما بعد، فبشأن إستعادة آراضيهم من المعمرين الرومان، فهي تقريبا نفس ما تكرر مع طرد الإستعمار الفرنسي بإستعادة الجزائريين لآراضيهم التي استولى عليها المعمرون الأوروبيون، مما دفع الرئيس بن بلة آنذاك إلى مسايرة الفلاحين الجزائريين، فأصدر قرارات مارس1963 حول الآراضي الشاغرة، وكان من المفروض أن تسير تلك المزارع ذاتيا من الفلاحين، لكن تدخلت أطراف من السلطة المركزية، فحرفت ذلك بتعيين مسؤولين إداريين وبيروقراطيين لتسييرها، مما دفع الفلاحون إلى التذمر تدريجيا من تصرفات هؤلاء المسؤولين وذهنيتهم البرجوازية المتعالية، فقد كان ذلك بداية نشأة ما نسميه ب"البرجوازية البيروقراطية" التي ستقضي على كل المشروع الإشتراكي في الجزائر بعد ثمانينيات القرن الماضي كما سنرى فيما بعد، وقد تحدث المجاهد علي محساس الذي خلف عمار اوزقان على رأس وزارة الفلاحة والإصلاح الزراعي بإسهاب عن هذا الموضوع في كتابه "التسيير الذاتي في الجزائر-المعطيات السياسية للمراحل الأولى لتطبيقها-"، كما نشر محمد حربي أحد منظري الإشتراكية في عهد بن بلة في أفريل الماضي كتابا هاما عن هذه التجربة بعنوان "التسيير الذاتي في الجزائر(1963-1965)- ثورة أخرى؟-".
فبشأن الدوناتية نشير بأنها قد مهدت بشكل كبير لإعتناق اجدادنا الإسلام بحكم تقاربها معه، وكانت أحد عوامل ذلك الإعتناق إلى جانب عوامل أخرى طبعا، ومنها عدالة الإسلام كما أشرنا من قبل، كما نسجل أنها كانت البذرة أو الصورة الأولى للإرتباط الوثيق بين ثلاثية (الوطنية-الدين- الإشتراكية أو العدالة الإجتماعية) التي ميزت التيار الإستقلالي في الجزائر في مواجهته للإستعمار الفرنسي، فهذه الثلاثية موجودة دائما بقوة في مجتمعنا، فكما واجه الجزائريون الإستعمار الروماني بالدوناتية كهوية دينية خاصة بهم ومختلفة عن مسيحية روما، وكذلك الوطنية لتحرير الأرض والعمل من أجل إستعادة الآراضي من المعمرين الرومان وتوزيعها بشكل عادل، فإننا سنجد نفس الأمر تقريبا يتكرر في مواجهة الشعب الجزائري للإستعمار الفرنسي بهذه الثلاثية حيث نجد الوطنية لتحرير الجزائر والإسلام كهوية للحفاظ على الشخصية الجزائرية والإشتراكية لإقامة العدل والدولة الإجتماعية بعد طرد المستعمر.
هذا إن ذهبنا بعيدا وفي عمق التاريخ لتفسير أسباب تعلق الجزائري بالعدالة الإجتماعية، وبما يسمى اليوم بالدولة الإجتماعية، أما الأسباب القريبة التي تعود إلى تاريخنا المعاصر نلاحظ أن الإستعمار الفرنسي وإستغلاله للجزائريين جعلت الوطنية الجزائرية التي تستهدف طرد المستعمر مرتبطة بشكل وثيق مع إقامة الدولة الإجتماعية، أي دولة مبنية على العدالة الإجتماعية، وهو ما يظهر بجلاء في كل مواثيق وبرامج إتجاهات الحركة الوطنية، خاصة نجم شمال أفريقيا الذي يحتوي برنامجه في1927 على جزئين، فهناك جزء خاص بالأهداف البعيدة، وهو إستعادة الأمة الجزائرية إستقلالها وإقامة دولة ديمقراطية وإجتماعية، وكذلك جزء خاص بمطالب إجتماعية تحسن بها وضع الجزائري، فمن الطبيعي أن يعمل نجم شمال أفريقيا من أجل ذلك ليس فقط بحكم التخلص من بؤس الجزائريين الذين يعانون من الإستغلال، بل أيضا بسبب قاعدته العمالية، فكل مؤسسيه هم من العمال المهاجرين في فرنسا ومتأثرين بشكل كبير بالأفكار الإشتراكية هناك، كما احتكوا كثيرا بالحزب الشيوعي الفرنسي، حيث لم يكن نجم شمال أفريقيا في بدايته إلا فرع تابع لهذا الحزب، وينظم عمال شمال أفريقيا في فرنسا قبل ان يستقل عنه، ويتحول إلى تنظيم تحرري يعمل من أجل إستعادة الجزائر إستقلالها، فبقي هذا التيار الإستقلالي حريصا على هذه المباديء الإجتماعية حتى بعد تغيير إسمه إلى حزب الشعب الجزائري في1937ثم الحركة من أجل الإنتصار للحريات الديمقراطية في 1946، ولم يكن خلافه مع الحزب الشيوعي الجزائري إلا على أساس إعطائه الأولوية لإسترجاع الإستقلال، فإن كان الحزب الشيوعي الجزائري يحلل المجتمع الجزائري على أساس طبقي بحت دون أي تمييز بين المعمرين الأوروبيين وما يسميهم بالإقطاعيين الجزائريين، فهو يرى بأن ليس المعمرين فقط هي الطبقة الإستغلالية، بل معها إقطاعيون جزائريون أو ما يسميه "المئتي شخص المسيطرون على الإقتصاد، وينهبون عرق الكادحين"-حسب تعبيراته-، لكن التيار الإستقلالي بقيادة مصالي الحاج رفض هذا الطرح، ويرفض تقسيم الجزائريين على أسس طبقية أو دينية أوثقافية أولسانية وغيرها، فهو يسعى إلى جمعهم جميعا في حركة من أجل إسترجاع الإستقلال، فمن هنا جاءت تسمية "حزب الشعب الجزائري" في1937، ويرى بأن المسألة كلها تتمحور حول أمة فرنسية تستغل الأمة الجزائرية، ومعناه طرد الإستعمار الفرنسي يؤدي حتما إلى التحرر الإجتماعي من الإستغلال لكل الأمة الجزائرية، وهو ما يعني في الأخير أن الدولة الوطنية ستكون دولة إجتماعية يخلو فيها الإستغلال، وتكون في خدمة كل شعبها الذي يعاني من البؤس، وبالتعبير المعاصر فإن الإتجاه الإستقلالي يقول بشكل بسيط ما قاله أصحاب نظريات التبعية كالمصري سمير أمين والأرجنتيني راؤول بيربيش وكذلك إيمانويل والرستين وغيرهم في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حيث يستندون على فكرة البريطاني هوبسن في كتابه "الإستعمار"، وكذلك لنين في كتابه "الإستعمار أعلى مراحل الرأسمالية" بالقول انه مادام الإستعمار هو نتيجة للرأسمالية العالمية، فإن التحرر الإجتماعي مرتبط بفك الإرتباط بالرأسمالية العالمية بعد طرد الإستعمار، لكن لم يتمكن مصالي الحاج وإخوانه من الوصول إلى هذا الطرح بوضوح، بل لم يقله بشكل علمي حتى أصحاب نظريات التبعية إلا بعد ما لاحظوا أن الإستغلال والتخلف تواصل رغم طرد هذا الإستعمار، مما جعلهم يبحثون عن سبب ذلك، فلاحظوا بأن الإستعمار ربط إقتصادياتنا بإقتصاده، فجعلنا تابعون له يستغلنا بشكل ناعم حتى بعد خروجه من آراضينا، وهي الفكرة القائلة بوجود مركز رأسمالي إستغلالي له أطراف ومحيط يستغله بأشكال متعددة بعد ما ربطه بالمركز أثناء المرحلة الإستعمارية، وهي البلدان المستعمرة أو ما سمي فيما بعد ب"العالم الثالث".
لعل البعض يعتقد أن هذا الطرح حول البعد الإجتماعي موجود لدى التيار الإستقلالي فقط، بل هو موجود أيضا حتى عند الإتجاهات الأخري، ففرحات عباس مثلا كان لبيراليا في المجال السياسي، لكنه إشتراكيا في المجال الإجتماعي، طبعا عندما نقول إشتراكي ليس معناه شيوعي كما يعتقد البعض، بل هي إشتراكية الأممية الثانية الشبيهة بما يسمى بالإشتراكيين في فرنسا مثل جان جوريس أو متيران وغيرهم، وكذلك الدول الإسكندنافية كالسويد وغيرها، فقد كان فرحات عباس يركز على تحسين الوضع الإجتماعي للجزائريين، بل وضعه شرطا أساسيا يمهد لهم، ويحضرهم للمطالبة تدريجيا بإستعادة إستقلال الجزائر، فهو في الحقيقة كان يضع آماله على الإنسانيين في فرنسا لتحقيق ذلك، فمثلا معروف فرحات عباس بثلاثيته التي تدور حول الأرض لخدمة المجتمع الجزائري وإخراجه من بؤسه، وهي الأرض التي يبنى حولها الطريق والمدرسة والمستوصف، أي بتعبير آخر يرى أنه لابد من إصلاح زراعي يعطي قطع أرضية للجزائريين، ثم يبنى لهم الطريق والمدرسة والمستوصف كي يخرج من بؤسه، فيحرك بذلك كل العملية التنموية للريف، وقد وضح ذلك بالتفصيل في رسالته المطولة للماريشال بيتان في 1941 التي أعاد نشرها عام 1981، فهذا البرنامج في حقيقته لا يختلف كثيرا عن برنامج الإشتراكيين في منطقتنا، بل قريب نسبيا من فكرة القرى الإشتراكية التي بناها الرئيس بومدين.
كما نجد طرح مقارب جدا لدى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فكم من حديث ومقالة كتبها الشيخ بن باديس عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري واصفا أياه ب"الإشتراكي"، أي بمعنى العدالة الإجتماعية، وهنا لا بد ان نفتح قوس لتوضيح مسألة هامة حول مصطلح الإشتراكية الذي حوله البعض إلى مصطلح معاد للإسلام بعد صعود إسلام البترودولار الخليجي منذ السبعينيات أين يلاحظ اليوم تغييب تام لأبي ذر الغفاري في خطابنا الديني، فعلينا التنبيه أن مصطلح "الإشتراكية" ذاته نابع من روح الإسلام وجوهره، ومن حديث لرسول الله صلي الله عليه وسلم، ولهذا يستخدمها بن باديس والكثير من أصحاب المرجعيات الإسلامية قبل أن يظهر إسلام البترودولار المتحالف مع الرأسمالية في بدايات سبعيينات القرن20، فعلى القاريء أن يعلم أن مصطلح "السوسياليزم" إذا تم تعريبه، فمعناه عدالة إجتماعية أو النزعة الإجتماعية، لكن أول من استخدم المصطلح العربي "الإشتراكية" هو جمال الدين الأفغاني حيث عندما نفي إلى أوروبا، وبالضبط فرنسا لاحظ إنتشار الأفكار الإجتماعية هناك، فقال أن هذه الأفكار موجودة في الإسلام مشيرا إلى حديث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم "الناس شركاء في ثلاث الماء والنار والكلأ"، فمعناه إشتراكية، وهي إشارة إلى الملكية العامة لوسائل الإنتاج التي تتحكم في حياة المجتمع وعدم تركها في أيدي الأفراد.
فبناء على كل هذه الأفكار الإجتماعية التي انتشرت بقوة لدى الجزائريين، فمن الضروري أن تكون الدولة الوطنية دولة إجتماعية، فلو نعود إلى مواثيق وبرامج ثورتنا التحريرية من بيان أول نوفمبر وأرضية الصومام إلى طرابلس وكل المواثيق بعد إسترجاع الإستقلال نجدها تركز على الجانب الإجتماعي، وما يسمى بالإشتراكية، فهذا يعود إلى إتجاهات الحركة الوطنية، خاصة نجم شمال افريقيا ثم حزب الشعب الجزائري، فالحركة من أجل الإنتصار للحريات الديمقراطية أين نجد عبارة "الدولة الديمقراطية والإجتماعية" الذي سيتكرر في كل هذه المواثيق.
فأثناء الثورة التحريرية كان كل الثوار وكل الجزائريين يرون بأن من ثمار إسترجاع الإستقلال هو إنشاء دولة يسودها العدل والرفاه، ولايتحقق ذلك إلا بتطبيق كل ما يناقض النظام الإستعماري، فعندما أسترجعت الجزائر إستقلالها تبنت الإشتراكية أو ما يعتبر دولة إجتماعية، فأتخذ بن بلة عدة إجراءات لخدمة المحرومين لايمكن ان ينفيها أحد، كما أعتبر بن بلة المؤتمر الثالث لحزب جبهة التحرير الوطني في أفريل1964 أين تم إقرار ميثاق الجزائر 1964 الذي تبنى بشكل واضح الإشتراكية بأنه "أول نوفمبر الثورة الإشتراكية"، أي بمعنى بعد ثورة التحرير، ستأتي الثورة الإشتراكية، ونشير ان أغلب المجاهدين وقيادات الثورة إن لم نقل كلها سواء كانوا في السلطة أو المعارضة كانت إشتراكية التوجه، وذلك بحكم ضرورة إنهاء أي مظهر إستغلالي للنظام الإستعماري البائد، وكذلك بحكم غلبة أصحاب الإتجاه الإستقلالي الممثل في حزب الشعب الجزائري على الثورة، وقد كان هؤلاء مـتأثرين كثيرا بالأفكار الإشتراكية، فحتى المجاهد العقيد محمدي السعيد الذي يريد أن يصوره لنا البعض بأنه ذو توجه إسلامي بحكم نزعته الدينية القوية، فقد نشر كتيب في 1964 بصفته نائبا لرئيس الجمهورية حول الإشتراكية عنوانه "الإسلام ذو المحتوى الإشتراكي"، وأعطى شرعية للإشتراكية بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، كما كان جيش ما وراء الحدود إشتراكيا بأتم معنى الكلمة، خاصة بعد ما وصل بومدين إلى قيادة أركان جيش التحرير الوطني في جانفي1960، حيث شجع فرانز فانون المتأثر على إلقاء المحاضرات على الجنود والضباط حول الثورة الإشتراكية التي ستخدم الفلاحين وسكان الأرياف بصفتها القاعدة الأساسية للثورة وجيش التحرير الوطني، وكان يستخدم هذا الجيش مصطلح الإشتراكية بشكل عادي، بل أنشأ بومدين أول قرية إشتراكية على الحدود في تونس سميت ب"قرية المجاهد"، وهي نموذج للقرى الإشتراكية التي سيبنيها فيما بعد في السبعيينيات.
عندما جاء بومدين إلى السلطة في 1965 آخذ الرئيس بن بلة على طريقة بنائه للإشتراكية، واعتبرها بأنها ليست جدية، بل فلكلورية، فقد حمل بومدين مشروعا إجتماعيا وإقتصاديا طموحا لبناء جزائر قوية ومستقلة إقتصاديا تسودها العدالة الإجتماعية، بل أكثر من هذا يمكن إعتباره الرئيس الوحيد الذي عمل من أجل نقل الجزائر من إقتصاد ريعي مبني على المحروقات إلى إقتصاد منتج، وهو ما يظهر بجلاء في ثورته الصناعية، لكن من أخطاء بومدين هو إعتماده على الأحادية، وبتعبير آخر كرر نفس أخطاء الستالينية في الإتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، لأن هذه الأحادية أضعفت الرقابة الشعبية، مما سمح بظهور برجوازية بيروقراطية أستغلت مناصبها في الإدراة والحزب وغيرها لتحقيق الثراء غير المشروع، فهذه البرجوازية البيروقراطية هي التي حطمت مشروع بومدين بعد وفاته بالتواطؤ مع قوى رأسمالية عالمية كانت تخشى من مشروعه الذي سيحرر الجزائر إقتصاديا، ويحولها إلى دولة صناعية، مما سيضر بمصالح هذه القوى التي تريد إبقاء بلداننا مجرد أسواق لسلعها ومصدرا للمواد الأولية والمحروقات ومناطق للإستثمار في الصناعات الإستخراجية، ونشير أن هذا الخطأ الذي أرتكبه بومدين قد سبق ان حذر منه اليوناني كورنيليوس كاستورياديس منذ1949 في مجلته الشهيرة "إشتراكية أم بربارية"، ولانعتقد أن الأمر قد غفل عنه بومدين لأن منشورات كاستورياديس كانت تباع في الجزائر آنذاك، لكن نعتقد أن بومدين كان يرى أن أي إطلاق للحريات الديمقراطية لن يكون في فائدة المحرومين، وأن المجتمع الجزائري غير مستعد لنظام ديمقراطي بعد، فلابد من المرور على مرحلة البناء الإشتراكي، وهي في الحقيقة ما نسميه اليوم في الكثير من مقالاتنا "رأسمالية وطنية"، وكان يسمونها معارضيه الإشتراكيين الآخرين كالتروتسكيين بأنها "رأسمالية دولة"، فقد كان بومدين يعتقد أن الثورة الصناعية ستغير ذهنيات المجتمع، وتجعله قادر على ممارسة الديمقراطية مستقبلا بمسؤولية كما وقع في أوروبا القرن19، وقد صرح بلعيد عبدالسلام بذلك صراحة في الكثير من حوراته وكتاباته فيما بعد، خاصة في كتابه "الصدفة والتاريخ" الذي هو عبارة عن حوارات طويلة مع كل من علي الكنز ومحفوظ بنون، وهذا التفكير هو في الحقيقة تبني لفكرة ماركس القائلة بأن تغيير البنية التحية الممثلة في قوى الإنتاج سيؤدي حتما إلى تغيير البنية الفوقية المتمثلة في شكل الدولة والثقافة والذهنيات وغيرها.
كما وقع بومدين في إشكالية كانت أيضا سببا في إضعاف مشروعه، وهو ما سمي "البطالة المقنعة" بسبب الضغط الإجتماعي، خاصة الهجرات الريفية، فلم يتمكن من إبقاء الفلاح في أرضه بسبب جذب المدينة له، وكذلك بسبب الأجور المرتفعة لعمال المصانع مقارنة بمداخيل عمال الأرض، فأضطر لمواجهة ضغط البطالة إلى البطالة المقنعة، وهو توظيف عدد من العمال أكبر مما تحتاجه المصانع، مما أثر سلبا على أرباح هذه المصانع التي ذهبت إلى أجور دون عمل أو إنتاج مقابل، مما عرقل عملية توظيف وإستثمار نسبة كبيرة من أرباح الإنتاج في عملية التوسع الصناعي والإقتصادي.
نلاحظ أن عند أي إقلاع إقتصادي لبناء إقتصاد قوي في دولة إجتماعية نصطدم منذ البداية بمعادلة الفعالية الإقتصادية وضمان المطالب الإجتماعية في نفس الوقت التي يصعب حلها، ويمكننا القول أنها مستحيلة الحل إلا توفرت موارد مالية كبيرة يذهب جزء منها إلى المطالب الإجتماعية والجزء الآخر إلى الإستثمار في الصناعات والزراعة وغيرها من النشاطات الإقتصادية التي لن تظهر نتائجها إلا بعد سنوات، وهنا يدخل مخطط فاليد Valhyd أي تقييم المحروقات لبلعيد عبدالسلام، وهو الإستغلال الأقصى لثروة المحروقات وإستثمار مداخيلها لخدمة الإقتصاد الوطني وتلبية كل الحاجيات، لكن عارضه آخرون بدعوى الحفاظ عليها للأجيال القادمة، وقد وضح بلعيد عبدالسلام المسألة بشكل مبسط في حواره مع محفوظ بنون وعلي الكنز مشبها المحروقات بأنها مثل توفر كمية من المال، فإما نقوم بإستثمارها في قطاعات تخلق الثروة وتراكمها، فتستفيد منها كل الأجيال أو تركها مالا بدعوى الحفاظ عليها للأجيال القادمة أين يمكن أن تفقد قيمتها، لكن تم التخلص من هذا المشروع بعد وفاة بومدين بدعوى الحفاظ على المحروقات للأجيال القادمة، لكن في الحقيقة تم التخلي عن مشروعه الطموح بدعوى تصحيح إختلالاته، إلا أنه في الحقيقة هو صعود تلك البرجوازية البيروقراطية التي تحدثنا عنها وسعيها للبحث عن منافذ لإستثمار ما نهبته بإستغلال مناصبها، فبدأت تبرز مظاهر الغني في الشارع في الثمانينات، وهو أحد أسباب أحداث اكتوبر1988 وكل ما نتج عنها فيما بعد.
فقد كانت دائما مشكلة إقامة إقتصاد حقيقي تنافسي بأسعار حقيقية وحل معادلة التوفيق بين الفعالية الإقتصادية وضمان الخدمات الإجتماعية، ومنها دعم الأسعار أكبر مشكل يعاني منه الإقتصاد الجزائري، فإن أرتفعت أسعار المحروقات تم شراء السلم الإجتماعي على حساب الإستثمار المنتج، فإن أنخفضت هذه الأسعار يقع مشكل كبير ومحاولات التفكير في التخلي عن الطابع الإجتماعي للدولة، وفي بعض الأحيان نلجأ إلى إطلاق الحريات بشكل كبير لإمتصاص الغضب الإجتماعي كما وقع بعد أكتوبر1988.
لكن نعتقد ان هذه المشكلة يمكن حلها بالإنتقال من إقتصاد ريعي إلى الإقتصاد المنتج بجلب الإستثمارات الأجنبية وتشجيع الداخلية منها، لكن يجب ان ينحصر الإستثمار في القطاعات المنتجة التي تخلق الثروة ومناصب العمل سواء كانت صناعية أو فلاحية أو سياحية مع محاربة التهرب الضريبي بتفعيل جهاز قوي لجباية الضرائب التي بإمكانها تغطية الكثير من الخدمات الإجتماعية بمساعدة جزء من مداخيل المحروقات حتى تتحول الجزائر قوية إقتصاديا، وتتحرر نهائيا من إعتمادها على المحروقات مثل دول غير نفطية كثيرة كاليابان مثلا التي لاتمتلك أي ثروة طبيعية، لكن ثروتها تكمن في العمل والذكاء المبني على الإنضباط والتعليم الراقي وتشجيع البحوث العلمية والتكنولوجية التي تتطلب رفع قيمة العلم في المجتمع بآليات قانونية تجعل الطفل يلد وكل همه أن يصبح باحثا علميا لما يدره ذلك على حياته ومكانته في المجتمع بدل ما يفكر أن يصبح تاجرا أو لاعبا أو سياسيا يجري وراء المنصب، فبثورة صناعية وعلمية ستتمكن الدولة من أن تصبح قوية إقتصاديا وغير تابعة لا للخارج ولا للمحروقات، فتغطي نفقاتها الإجتماعية من الضرائب الآتية من مختلف القطاعات المنتجة المنتشرة بقوة في كل التراب الوطني، وتترك موارد المحروقات للإستثمار في القطاعات الإستراتيجية الكبرى وتغطية أي عجز طاريء في النفقات الإجتماعية.



#رابح_لونيسي (هاشتاغ)       Rabah_Lounici#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أي مضمون لشعار- لم الشمل- في ستينية إسترجاع الجزائر إستقلاله ...
- سيد قطب وبرتراند راسل -التزوير الفاضح-
- مقاربة لتحرير الديمقراطية من الرأسمالية الإستغلالية
- مستقبل العلاقات الجزائرية-الفرنسية بعد إعادة إنتخاب ماكرون
- صعود اليمين المتطرف وعودة فكرة إعادة بناء الأمبرطوريات
- هل ستتحطم روسيا بتكرار حرب يوغوسلافيا في أوراسيا؟
- هل وقع بوتين فعلا في فخ أمريكي؟
- موقع أوكرانيا على رقعة الشطرنج الكبرى
- كيف تجسست المخابرات الصهيونية على قمم عربية وإسلامية؟
- هل ناقض مالك بن نبي الآيات القرآنية والطرح الخلدوني حول البد ...
- توسيع عملية التمدين لإضعاف العصبيات الخلدونية
- معضلة الإقلاع الإقتصادي في منطقتنا بين الوطنية الإشتراكية وا ...
- ماذا بقي من -علم الإستغراب- لحسن حنفي؟
- هل سار ماكرون على نفس خطى جيسكار ديستان؟
- هل الشمولية الإلكترونية هو الخطر القادم؟
- مقاربة جديدة للحد من تكرار أحداث تونس أو غيرها
- الحل الأمثل للدفاع عن الإنسان في فلسطين
- عرقلة حركة التاريخ بغطاء ديني
- أفكار فوضوية دون باكونين
- الخريف العربي والحراك الجزائري-أوجه التشابه والإختلاف-


المزيد.....




- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا
- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رابح لونيسي - الجذور البعيدة والقريبة للدولة الإجتماعية في الجزائر