أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهند البراك - ذكريات الصبا..يحيى فائق، مظفر النواب .19.















المزيد.....


ذكريات الصبا..يحيى فائق، مظفر النواب .19.


مهند البراك

الحوار المتمدن-العدد: 7345 - 2022 / 8 / 19 - 20:47
المحور: الادب والفن
    


كانت تلك التوترات السياسية الإجتماعية تغلي، في وقت لم تنقطع فيه الحياة اليومية بتنوعها و صخبها و روتينها و مفارقاتها، لم تنقطع عن السير اعتيادياً . . حيث عاد باص مدرسة والدتي الى انتظارها هي مع اختي سوسن في الكاظمية عند باب البيت ليوصلها الى مدرستها في الصليخ، بعد ان قررت مديرة المدرسة السيدة (نعيمة القره غولي) ان يخرج الباص عن دورته اليومية بشكل اوسع ليصل الى بيتنا و ينقل والدتي ذهاباً و ايّاباً، اعتزازاً بها . . و عاد والديّ الى شراء المؤونة الشهرية من (محلات رشيد شلال) في الأعظمية ـ رأس الحواش المتمسك بدروشته لطريق جدّنا الحاج فخري، حيث كانت محلاته تنقل الحاجات المنزلية الى بيتنا شهرياً بسيارة تلك المحلات، و الدفع بحساب مفتوح شهري او اكثر، في عناية لاتُنسى . .
و انكببنا نحن الشباب الصغار بالعناية بالحديقة و بالدجاج و البيض، و العناية بجراء كلبتنا المخلصة (وردة)، التي كانت من كلاب الشوارع و كنّا نرمي لها بقايا الأكل و استقرت عند بابنا و كانت ترافقنا في مسيرنا خارج البيت، حتى جاء يوم استنفرت فيه وردة بشكل غير اعتيادي و اخذت تضرب الباب لتنبيهنا و انطلقت الى البستان المقابل حيث كان اختي الاصغر سوسن ذاهبة لشراء الخبز من الخبازة هناك . .
ذهبنا انا و محمود راكضين خلف (وردة) حتى دخلنا بستان الخبازة و وجدنا سوسن معتصمة بالحائط و قد اسقطت عدد من ارغفة الخبز ارضاً في تراجعها امام هجوم كلبة عُرفت بوحشيتها، كانت تتقدم ببطء بنباحها المتواصل لإتمام سيطرتها على ضحيتها، حين هاجمتها وردة و دخلا في صراع دموي حاد فسح المجال لـ سوسن بالهروب نحونا بعد ان رأتنا و عدنا معاً . . لتعود وردة بعدئذ و هي مدماة و تعرج بشكل غير متناسق لأن جروحها النازفة كانت في اكثر من ساق . . و صارت وردة كلبتنا و صرنا نعتني جميعاً بها، و لاحقاً بجرائها ايضاً . .
كان الأهم في تلك الفترة هو انكبابنا على قراءة الروايات الإنسانية و الثورية التي ربّت فينا حب الحياة و الوطن و الناس، و التضحية من اجل الحق و العدالة، فكانت ثلاثية نجيب محفوظ : بين القصرين، السكّرية، قصر الشوق . . التي شدّتنا لها، لأنها كانت تحاكي مجتمعنا و الصراع بين الحداثة و التقاليد البالية المحافظة. و " في بيتنا رجل " لإحسان عبد القدوس عن نضال الشباب الجدد في سبيل الحرية . .
اضافة لما جادت به المكتبة الثرية لصديق الوالد (علي الطعان) ابن تاجر السجّاد الكبير (حسين الطعان) الذي حُكم بسبب ابنه ستة شهور في محكمة النعساني السعيدية سيئة الصيت اواخر الاربعينات بتهمة (تضليل العدالة) حينها، لأنه قال : (كل ماهناك ان ابني "علي" شيوعي متطرف على طرف) و كان يقصد ان لإبنه اصدقاء شيوعيين من طرف بعيد . . كما مرّ.
فقرأنا بلهفة رواية (الأم) لمكسيم غوركي، و شدّتنا مجاميع قصصه القصيرة التي توالف الواقع بالخيال لتخلق الأمل في (مولد انسان) : من (شرارات قلب دانكو) الذي قتله قومه لأنهم شعروا بأنه كان يخدعهم، و كانت الحقيقة انه اراد اخراجهم من الغابة الكثيفة التي سجنتهم في جحورها و منعت عنهم الشمس، اراد اخراجهم منها بطريق يتطلب تضحيات، بما عرفه و تعلّمه من علم و حساب و نظريات الأولين . . و بسقوطه قتيلاً تدحرج قلبه و تكسّر و بإشعاعات المحبة العميقة للناس من ذلك القلب، انفتحت الغابة و صارت بقايا تلك الإشعاعات، شرر الحشرات الليلية المضيئة في الغابات التي تدلّ على مواقع الماء و مواقع العسل، بعد ان انفتحت الغابة بتلك الشرارات . .
و الى (طائر النوء) ـ النورس ـ المتفاعل مع العواصف و الرعود و مجاهل البحار كمشاعر فئات الشعب ـ منادياً على قومه و بصريخ عالي . . هنا الطريق !! هنا اليابسة . . نذهب معاً !! صاعداً نازلاً مبشّراً بأن طريق الثورة هو الطريق المفضي الى السعادة و العدالة . . و (حكاية صقر و افعى) عن افعى لم تعرف من الحياة سوى زحفها قرب و حول جحرها، و قابلت يوماً صقراً جريحاً في معركة . . . كان يسعى زاحفاً للوصول الى حافة الجبل ليلقي بنفسه في الهواء علّه يستطيع الطيران من جديد كما تعوّد في حياته و وصفته بأن مجنون !! و اجابتها الجبال وسط رياح متناغمة معها : " اننا نغنيّ المجد لجنون الشجعان !! المجد، المجد !!
ثم " العاصفة " لإيليا اهرنبورغ في وصفه لحياة بنات و ابناء باريس من عمالها و كادحيها و الى مثقفيها و علمائها و مختلف اوساطها و كيف مروّا بحياة الإحتلال النازي و كيف نشأت المقاومة الفرنسية للإحتلال النازي . . و ( الاجراس تقرع للابطال) للكاتب الأميركي الشهير إرنست همنغواي عن المقاومة الإسبانية لنظام فرانكو الفاشي، حين كان متطوعاً فيها . . و كان اغلبها صادر عن دار اليقضة العربية في بيروت و دمشق . .
و بعدئذ (المؤامرة الكبرى على روسيا) الواصفة لحرب الغرب الرأسمالي على روسيا الثائرة لمحاولة خنق ثورة اكتوبر الإشتراكية و تكوينه مئات من افواج (الحرس الأبيض) و شرائه الآلاف من القوميين المتعصبين و تنظيمهم في وحدات، كما في : اوكرانيا، الدون ـ روستوف، الدونباس، ارمينيا، القفقاس . . و (الفولاذ سقيناه) عن مدى صبر البشر في تحقيق اهدافه ان آمن بها . .
(عشرة ايام هزّت العالم ) للكاتب و الصحفي الأميركي اليساري جون ريد، الذي عايش احداث ثورة اكتوبر و انتصارها في العشرة ايام الاخيرة التي توّجت بالنصر، حين كان في روسيا متنقلاً بين موسكو و بطرسبورغ ، (متى يطلع الفجر يارفيق) عن الصراعات البطولية في اوروبا من اجل العمال و عموم الفقراء قبل انتصار ثورة اكتوبر الإشتراكية، و وفق انواع المذاهب الإشتراكية من السلمية الى المسلحة . . (ارض ثمارها من ذهب) و (فارس الأمل) لـ ( جورج آمادو) عن النضالات الطبقية و الفلاحية و حروب العصابات في اميركا اللاتينية و الجنوبية . . و غيرها و غيرها الكثير مما يهندس النفوس البشرية و يُلمّعها .
و كنّا كمجاميع اخرى من الشباب نتناقش حولها و اين؟ و متى؟ و من يقول ذلك ؟ و هل قرأتم الرواية او عمّاذا تتحدث تلك الرواية ؟؟ . . التي كانت نقاشات هذّبتنا و هذّبت طبائعنا و احلامنا و آمالنا و مودّتنا للآخر . .
و قد اهتمّ الوالد كعادته باصطحابنا الى مسرحيات (معهد الفنون الجميلة) في مواسمها السنوية، التي شاعت انباء الأكثر التزاماً و منفعة للناس منها . . كمسرحيات (عذراء اللورين)، (عطيل)، (هاملت) . . التي كان يفسّر لنا ما يصعب علينا فهمه، سواء كان الوالد او اصدقائه في المعهد . .
و ما اثار انتباهي في اوساط المعهد هو تكرار ذكرهم و احترامهم لرائد المسرح العراقي الفنان الكبير (يحيى فائق)، الذي كان يشكّل لهم المثال الملهم للفنانين المسرحيين العراقيين بروحه الثورية المتحديّة للتخلف و طاقاته النادرة في النشاط و التجديد و الإبتكار، كما كان يدور من احاديث جعلتني اتمنى ان اراه و ان احييه و اتعلم شيئاً منه . . و لم ادرك انه سيأتي يوماً لألتقيه و اعيش معه و مع عائلته بعد اكثر من خمسة عشر عاماً . .
ففي اواخر السبعينات شنّت انواع من وحدات الأمن و الوحدات الصدامية الخاصة اعنف هجوم عرفته البلاد، ضد القوى الديمقراطية و الحزب الشيوعي العراقي، وفق ملفات جديدة و قديمة عادت لإنقلاب شباط الدموي عام 1963 ، و وفق ملفات ملفقة . . في نيّة لإبادة حَمَلةْ اي فكر تحرري و تقدمي لاينسجم مع فكر البعث الصدامي . . و امتلأت السجون و المواقف و مقرات المنظمات الصدامية بعشرات الآلاف من الرجال و النساء و العوائل الذين واجهوا انواع اساليب التعذيب الجسدي و النفسي و ضاقت العاصمة بغداد بعشرات آلاف آخرين يبحثون عن الإختفاء لمواصلة النشاط او لحماية التنظيم و حماية انفسهم و عوائلهم . .
في تلك الظروف القاسية و فيما كنت ابحث عن مخبا ( تفاصيل ذلك ستأتي في حلقات لاحقة وفق التسلسل الزمني للذكريات)، عرّفتني اختي شذى في زمن لعبت فيه الشابات ادواراً بطولية لاتُنسى ، عرّفتني على عائلة خالة صديقتها، التي ابدت استعداداً لإخفائي . . كانت تلك العائلة، عائلة الفنان الكبير المخرج يحيى فائق الذي خاطر بقبولي رغم ان ابنه الشهيد موفق كان جندياً يؤدي خدمته العسكرية آنذاك، و كان انكشاف اختفائي في بيتهم يؤدي الى حكمه بالاعدام وفق قوانين صدام القراقوشية .
و بإختفائي في بيت الفنان يحيى فائق . . تكوّنت لي صداقة حميمة معه رغم فارق السن واختلاف الإختصاص، و جَمَعَتنا الكثير من الأحاديث حول الثقافة والتراث البغدادي الجميل مطعّمة دائماً بتجاربه الشخصية وآرائه الوطنية ومعاناته بسبب مواقفه الثورية التي بقي متمسكاً بها حتى وفاته، و من ضمن ماجمعنا هو ما كلّفني به حينها بجمع و توحيد ما كتبه في بحثه المسرحي الذي أعتبرَه باكورة أبداعه و تجربته والموسوم بـ "نظرية البعد الرابع" في المسرح، والذي كان قد كتبه على عشرات القصاصات في ازمان مختلفة ماضية، و اثارت تلك القصاصات حين كنا نتوقف لمحاولتي معرفة مايريد منها لصياغتها لغويّاً، اثارت الكثير من ذكرياته الغزيرة عن احداث و شخصيات و عن مجتمعنا آنذاك. وقد جلب انتباهي كثيراً كيف ان لقائه مع الرفيق "فهد"، قد غيّر مجرى حياته ابداعيّاً وشخصيّاً .
و مما قاله متذكّراً :
" " . . كنت في مطلع الأربعينات من الشباب الوطني المحب لشعبه والساعي من اجل سعادته، وكنت آنذاك مولعاً بالفن المسرحي الذي اسَرَني وملأ حياتي، ولم أكن اعرف ان هناك رسالة للفنان و دور اجتماعي هائل لتطوير و تغيير المجتمع. كنت ابن عائلة ميسورة، استهزأ بالسلطة و بقيود التخلّف والأخلاق ، كنت رافضاً لأغلالنا الأجتماعية وواثقاً أن شعبنا سينطلق يوماً من اساره ويلحق بركب التقدم والحضارة، ولكن لم أعرف كيف، و لا ماهو الطريق لذلك، و ماهو دوري ؟؟
و في ظهيرة صيفية بينما كنت ذاهباً الى بيت نسيبي، الشيوعي المتحمّس الذي لم يخل بيته من الضيوف يوماً، طرقت الباب، ففتحها رجل وسيم هادئ الملامح، قال لي ان نسيبي سيعود بعد حوالي الساعة وقال: جنابك الأستاذ يحيى فائق ؟
لاقت تلك الكلمات المهذّبة وقعاً طيباً في نفسي، واجبت بخيلاء : نعم !
جلست على كرسي وجلسَ مقابلي على دكّة سلّم البيت الشرقي القديم بدشداشته النظيفة، واخذ يسألني عن المسرح ويعرض لي كيفية تفاعل وحماس المشاهدين لمسرحيّاتي الناقدة ـ التي مُنعت بعدئذٍ، وكانت قد شغلت المجتمع البغدادي ووجوهه آنذاك، على قِصَرها و قلّتها ـ، وابدى ملاحظات واقتراحات وجدتها هامة و مفيدة دلّت على مشاهدته واهتمامه الجديّ بمسرحيّاتي، الأمر الذي زاد من جديّتي في سماعه وتوضيح ما سأل عنه، كان يُبدي آراءً على اساس انه قرأها ووجدها منطقية، وكشف عن الدور الخطير للمسرح في ايصال الفكر الأنساني للجماهير الأميّة، أضافة لدوره التحريضي الذي تخافه السلطات الظالمة، لذا تحاربه بالرزق وتتهمه بالخروج عن الأخلاق والدين في الوقت الذي تدعم فيه المسرح الهابط اللاأخلاقي . واورد مفاهيماً أسمعها لأول مرة، مثل (اعطني خبزاً ومسرحاً أعطيك شعباً واعياً)، ثم قال :
ـ شيء جميل يا أستاذ يحيى ان تكون (فنان الشعب)، الذي لايكتفي بكشف المظالم والحقائق وانما يسعى ليدل على طرق الحل، بخطة ان يكون هناك عمل جاد واحد يوضع ضمن لائحة مجموعة اعمال عادية، كي تضمن اجازة المسرحيّة .
لم استقبل لقب (فنان الشعب) بارتياح، وقلت في نفسي وانا ببدلتي السموكن البيضاء والوردة الحمراء ( من يظن نفسه هذا ؟ انا يحيى فائق !! فنان الحفاة ؟؟؟)
كان الحديث قصيراً، الاّ انه اجاب عن جوهر تساؤلاتي وحيرتي . خرجت وانا غارق فيما اثاره ذلك الغريب من مواضيع، وكنت فرحاً بالتعرّف على صديق عميق الثقافة، عارف بهموم الناس ومزاجها، وعقدت العزم على ان أراه بأستمرار . تكررت زياراتي لبيت نسيبي على امل لقائه ولكن بلا فائدة . . والمؤسف اني كنت اتجنّب السؤال عنه لغروري !!
مرّ اكثر من عام وكنت قد اخذت بملاحظات ذلك الصديق التي ازداد بها نجاحنا، وبينما كنّا نعرض مسرحيّة (بيدبا) الناقدة الشهيرة، واثناء أدائي لدوري لمحت وجهاً مشوّقاً وسط القاعة، وبلمحة تبادلنا الأبتسام . وفي نهاية المسرحيّة وأثناء تحيّتنا للجمهور الذي اثرنا حماسه فيما تجمّع رجال الأمن و حاملو الدونكيات . . نظرت الى مكان الصديق، كان خالياً، استبدّت بي الرغبة للبحث عنه ولكن، ما أسمه ؟؟ وانا في قلقي واضطرابي جاءني المحامي (محمد حسين أبو العيس) الذي كان صديقي المقرّب لتقدير اية مسرحية يمكن ان نقدّم في الظرف السياسي ـ الإجتماعي المحدد . . وبعد ان هنّأني على نجاح المسرحية، قدّم لي ورقة صغيرة ،قرأتها بسرعة، ورد فيها :
( الى فنان الشعب : اهنّئك واشدّ على يديك ! ـ صديقك ـ )
مرّت السنين والأحداث، وكنت اشعر بحرص وأهتمام القوى الوطنية والديمقراطية وفي مقدمتها الحزب الشيوعي بأعمالنا وبنا شخصيّاً وكنت اشعر بوجود ذلك الصديق في المسرحيّات ثم في المظاهرات التي أخذت اشارك بحماس فيها، حتى مظاهرة 1946 لنصرة الشعب الفلسطيني التي رشقتها الشرطة بالرصاص واستشهد فيها (شاؤول طويق)، حين اخبرني (ابو العيس) :
( تحيات صديقك الحارة اليك، ويقول لا تكن في مقدّمة المظاهرة، ان جبهتكم الأمامية هي المسرح، حافظ على نفسك للمسرح فالفنانون لا يُعَوَّضون بسهولة ! ) .
لم أعلم بهويّة ذلك الصديق المربيّ الاّ بعد أستشهاده البطولي الذي هزّ أعماق الضمير الشعبي في البلاد بكلّ مكوّناتها . . هكذا كان القائد فهد انساناً متواضعاً، أحب الناس وأحترمهم واستطاع ان يحرّك طاقاتهم وأستعدادهم مهما تواضع، في سبيل قضية الشعب، فكسب حب وأحترام أوسع الأوساط الشعبية، وبقي نداءاً يتردد داعياً للحرية و لكرامة الأنسان في عراقنا الحبيب ! ""
. . . . . .
. . . . . .
و في سير الحياة الاجتماعية الإعتيادية في الكاظمية . . كان جيراننا المجاورون لصق بيتنا من جهة الجسر، اكراداً فيليين . . كانت عائلة (العلي) مؤلفة من أم و بنت و خمسة ذكور، و كان لديهم محل لتصليح السيارات في محلة الشيخ معروف في الكرخ، و بعد وفاة والدهم قام بإدارته محلّه الأبن الثاني (صبحي) الذي كان خريجاً متعلّماً و صار يدير محل ابيهم، فيما كان الأول الفيتر الحقيقي قد ترمّل بوقت مبكر حيث توفيت زوجته تاركة له ولدين صغيرين، و كان الابن الثالث لعائلة العلي طالب اعدادية . . و اصغر الأبناء (سعيد) من جيلي و اصغر مني بعام كما اتذكّر . .
و كانت سوالف الأم الكوردية الفيلية الضخمة، معنا كصبيان و اصغر، من اصدقاء ابنها سعيد، كانت تدور بشكل متواصل عن الخلق والخالق والجنة والنار و الملائكة و الشياطين و بشكل لاينتهي، حتى في زيارة والدتي العائلية لهم . . حيث دخلت في احاديث و اخبار (متجددة و كأن لها مراسلين هناك)، كما تحدثت عن تطورات جهنم والنار، واخبار الدراويش و كيف ان دراويش لورستان حيث اهلها، عمالقة ضخام، اختارهم الباري لجبروتهم ليكونوا حراس الجنة والنار . . حتى كانت تنام بين حين و آخر من كثرة الحديث عن النار والجنة، و كان الحاضرين يبتسمون . .
في تلك الفترة كانوا يبحثون عن عروس لأبنهم الثاني (صبحي)، الذي كان ينتظر كل صباح قبيل الدوام عند ثانوية قريش للبنات واخته ساهرة معه لتتحدث مع من تعجبه وتسأل عن عنوانها ليذهبوا الى اهلها خطّابة . . و كنّا نضحك على ذلك الاسلوب، الاّ ان والدتي كانت تشرح لنا بأن ذلك الاسلوب رغم كونه في زمن سابق، الاّ انه اسلوب محترم مادام يؤدي الى زواج . .
الاّ ان صبحي و اخته ساهرة تفاجآ ذات يوم بشباب احاطوا بهما و تحدّثوا معهما بخشونة و خاصة احدهم الذي قال :
ـ ولكم انتو شتريدون من ابنة عميّ ؟؟ من اين انتم لتقتربوا منها و تتحدثوا لها عن مشاريع خطبة و زواج ؟؟ عدويّة خطيبتي و اكسّر راس اكبر واحد يقترب منها، بحجة خطبة و زواج و الله يعلم شكو وراه !! افتهمت ابن المطي ؟؟ بطلّوا من اساليبكم القذرة . . و الله و الله نخرّب بيتكم و نشيّلكم بليلة سوده ! افتهمت جاي بقاط و رباط ، اشدّك بيه و اسحلك سحل . . !!
و انتبه صبحي ان احدهم كان يحمل مسدساً كان بروزه واضحاً من خلال دشداشته، و اخر مشبّك بوكس حديد في يده . . و انسدت الباب بوجه صبحي الذي كان يحلم بالزواج من عدوية طالبة الإعدادية التي رآها و أُعجب بها، و شخصت امامه مشكلة البحث عن زوجة مجدداً و هو في مهنة الفيترية التي من النادر فيها آنذاك ان يقابل او يتحدث مع إمرأة . .
و في يوم آنذاك سُمعت هلاهل من بيت العلي . . معلنة خطوبة الأبن الكبير الأرمل على شابة
واعدّوا جفافي المهر والحلويات و وزّعوها على الجيران في المحلة اضافة الى الشباب والصبيان، و كان اهل المحلة وخاصة النساء، يراقبن المنزل بكل الطرق المستورة عسى ان يشاهدوا العروس وهن يحملن اطفالهن، كبركة للعروس و امنيات لها بالأطفال . . وبعد اسبوع جرت حفلة الزواج التي ابتدأت بذبح خروف في الضحى . .
دفعني الفضول لمشاهدة العروس، الى ان ندخل انا و سعيد بحذر من باب حديقة جانبي، كي لايرانا احد، التزاماً بكلام الأم الضخمة القوية بعدم رؤية الذكور للعروس قبل مجئ عريسها لأن ذلك يحمل سوء الفال، الاّ ان ذلك زاد من فضولنا . . دخلنا متحججين بحاجة سعيد للدرس، وتتبعنا احتمالات مكان وجود العروس، حتى تيقّنا من انها في الغرفة الكبيرة العلوية، ثم شاهدنا العروس التي كانت تبكي، وبين البكاء و الشهقات كانت تبتسم !!
و ترددت اغاني من تلك الغرفة :
دا تمخطري ياحلوة يازينة ياوردة من وسط جنينة
بيت العز يابيتنا على بابك عنبتنا
وقالت النساء :
ـ انها تبكي من الفرح ماكو احسن من هذا العريس . . مال و عائلة نشيطة محترمة.
و فيما شاهدنا العروس لاحقاً في ليلة العرس و هي تتزيّن و نساء يعتنين بزينتها، و نحن متلصلصين من فتحة الباب عملاً باوامر الأم، كنّا نتسمّع لحكايات العجائز و المتزوجات معها بان عليها ان لاتخاف، وان عليها ان تفعل كذا وكيت . . وكانت ضحكات الحاضرات تعلو برنين خاص وكركرات تتصاعد من حين لآخر وهن يتذكرن ليلة دخلتهن هنّ . .
قالت احداهن، انها من ارتباكها لم تعرف كيف تنزع سروالها الذي بقي شابكاً عند قدميها، حتى مزّقه العريس المنفعل اللي يمكن ماشايف قبل او متلهّف و مستعجل للعمل و خايف مايكمّل للنهاية . . فيما قالت اخرى ان امها نصحتها باحتساء شئ من الخمر وقد فعلت ذلك مرغمة رغم طعمه الحاد وشعرت ان الأرض تدور بها ولم تفق الاّ والعريس فوقها بوجه متهلل متورّد وهو يصيح :
ـ البرهان معي الآن !!
ضبطتنا ساهرة متلبسين وكنا شاحبين من المفاجأة . . الاّ انها ابتسمت و ضحكت و هي الطالبة الجامعية واعطتنا من ملبّس الزواج وهي تقدّر بأني لا ازال صغيراً لكوني صديق اخيها الصغير سعيد، بتقديري . . وبقى ذلك اللقاء مصحوباً بتلك الأبتسامة واحيانا مع قطعة حلوى. . و سأل سعيد :
ـ لماذا عليهما التعريّ و يجب ذلك في تلك الأمسية ؟؟
ولم اعرف كيف اجيبه . .
و انطلقت اطلاقات نارية بالهواء لم يعرف احد من اين اتت، و قيل انها زيادة بالإحتفال و بأعلان الزواج . . و انطلقت اهازيج رجالية : زفيّناه واخلصنا منّه . .
و الليلة حنّتهم بالبصرة زفتهم . .
. . . . .
. . . . .
في تلك الأيام دعى والدي الشاعر المعروف مظفر النواب على الغداء، الذي كان ينزل بين فترة و اخرى ضيفاً في بيت جيراننا النقيب المتقاعد ابو سلام . . و اعدّت والدتي غداءً عامراً للضيف متمحوراً على تبسي سمك بالفرن بعد ان علمت ان الشاعر يفتقده منذ فترة، اضافة الى الرز المناسب بالكشمش و اللوز و انواع من السلاطات و المقبلات . .
و بينما كان والدي فرحاً بلقاء الشاعر الذي كان ابن صديقه الحميم و الذي كان من مؤيدي مدرسة (الأهالي) لكامل الجادرجي، يوم شاركا معاً في الإحتجاجات و التظاهرات الحاشدة زمن النظام الملكي و كانا يذهبان معاً مع العوائل لزيارة و مقابلة السجناء السياسيين الذين كان منهم الشاعر الشهير مظفر النواب و الصحفي الموهوب عدنان البراك . . و كان معجباً بشعر النواب المشجّع و المحمّس للنضال من اجل قضية و حق الشعب بالخبز و الحرية . .
و كان يردد دوماً :
ياسعود احنا عيب نهاب يابيرغ الشرجية
هذي يشامغ الثوّار تبرج نار حربية . .
و كان يجمع اشعار النواب و الجواهري الكبير بدفتر جيب صغير مكتوب بخط اليد، كان يحمله و يراجعه دوماً و عند حاجته اليه . . فكان لقاء الشاعر مناسبة عزيزة للوالدين و لنا نحن الأبناء الذين حفظنا اشعاره من كثرة ترديد الوالد لها و استعداده لشرح ماصعب علينا استيعابه منها . . اضافة الى ما كتبه من مقاطع اشعار الجواهري الكبير المنادية للنضال :
تقحّم لُعنتَ ازيزَ الرصاص و جرّب من الحظ مايُقسمُ
وخضها كما خاضها الاسبقون وثنّ بما افتتح الأقدمُ
و بعد استقبالنا الحار للشاعر النواب كعائلة و جلوسنا معاً متبادلين انواع الأحاديث . . اعلنت والدتي ان الغداء جاهز و غمزتنا بأن ننسحب، و اصر النواب على بقاء الأبناء على الأقل على المائدة . . فجلسنا محمود و مفيد و انا و بدأنا نأكل ببطء و لاحظنا ان النقاش الدائر صار يميل الى المحدودية، فانسحبنا من المائدة بالتدريج الى الصالة لتلبية اي طلب ممكن ان يحصل . .
و ارتفعت اصوات النقاشات و خاصة بين الشاعر النواب و ابو سلام و التي كنا نسمعها من الصالة كما سيأتي . . (يتبع)

19 / 8 / 2022 ، مهند البراك



#مهند_البراك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن صراع قوى الإسلام السياسي
- ذكريات الصبا..الشيخ، اتحاد الطلبة الصدور .18.
- ذكريات الصبا..ولاتبرّجن تبرج الجاهلية.. ـ17ـ
- هل يخطط لنظام دكتاتوري جديد ؟
- ذكريات الصبا..محطة لسنوات مريرة .16.
- آمنت بالشعب المضيّع و المكبّل !
- ذكريات الصبا..اضرابات عمالية .15.
- صراع طوائف ام صراع طبقات ؟؟
- الصين، و آزوفستال يكشف !
- ذكريات الصبا..مجرمون و سياسيون .14.
- ذكريات الصبا..عباس شكاره .13.
- ذكريات الصبا ..الساطور! .12.
- الحرب في اوكرانيا . . و منطقتنا ! .4.
- الحرب في اوكرانيا . . و منطقتنا .3.
- الحرب في اوكرانيا و منطقتنا . . .2.
- الحرب في اوكرانيا . . و منطقتنا .1.
- ذكريات الصبا.. و حرقوا البيت! .11.
- ذكريات الصبا .. الإغتيال .10.
- ذكريات الصبا.عفا الله عما سلف.9.
- ذكريات الصبا..اعتداءات و آراء .8.


المزيد.....




- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهند البراك - ذكريات الصبا..يحيى فائق، مظفر النواب .19.