أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عبد الجبار الغراز - تخطيط المدن واستراتيجياته،المرسومة من قبل الدولة المغربية: دراسة في التجليات والانعكاسات على الشخصية المغربية.















المزيد.....



تخطيط المدن واستراتيجياته،المرسومة من قبل الدولة المغربية: دراسة في التجليات والانعكاسات على الشخصية المغربية.


عبد الجبار الغراز
كاتب وباحث من المغرب

(Abdeljebbar Lourhraz)


الحوار المتمدن-العدد: 7345 - 2022 / 8 / 19 - 00:45
المحور: الادارة و الاقتصاد
    


يعتبر التمدن مظهرا من مظاهر التحضر ونتاجا طبيعيا له . فبفعله يتحول من نمط قروي إلى نمط شبه قروي ، و بعدها إلى نمط حضري مكتمل البناء و متكامل العناصر .والمغرب لا يشد عن هذا الطابع النمائي التحولي العام الذي تعيشه البلدان و الأمصار منذ القدم إلى الآن ؛ لكن ، حالته "التمدنية " ، إن صح هذا التعبير ، خضعت لسيرورة تحضر ناقصة الاكتمال؛ ذلك إن الدارس و الفاحص المتأمل للحالة العمرانية المرتبطة بمدن المغرب الكبرى و المتوسطة سيكتشف أن هذه الأخيرة، و لأسباب مرتبطة بمسلسل التحديث الذي خضع له المغرب، بعد التغلغل الاستعماري الفرنسي و الإسباني ،شابتها اختلالات بنيوية ووظيفية . اختلالات تكبر دوائرها وتزداد اتساعا كلما اقتبس المغرب نموذجا تنمويا غربيا، ينسج على منواله، أو يستنسخه كله، دون تفكير أو تمحيص في مخرجاته على المدى المتوسط أو المدى الطويل، ليقدم لنا في نهاية المطاف " مسخا تمدنيا" يعكس عمق التناقضات التي يتخبط فيها المجتمع المغربي، ويصور لنا حجم المفارقات المرسومة على خارطة التمدين فيه.

فقبل التغلغل الاستعماري كان جل المغرب قرويا، وفي ظرف زمني قصير تحول سكانه، بسبب النزوح أو الهجرات، أو لأسباب أخرى عديدة ومختلفة، من قرويين إلى حضريين؛ حيث قطن أغلبهم في أحياء فقيرة مهمشة أو في مدن الصفيح، وتماهوا مع مستحدثات التنمية الاقتصادية وابتكارات التقنية في ميادين حياتية شتى ومختلفة.

ونظرا إلى هذه التحولات التي عرفتها البنية الحضرية المغربية من حيث أساليب التمدين، بقيت القرى المغربية، في مقابل ذلك، خارج التغطية، وكأنها غير معنية بكل تلك الديناميات المذكورة الاقتصادية والبشرية والاجتماعية التي عرفتها المدن؛ إذ نجدها قد فُصِّلَت على المقاص حتى لا تتحول إلى عنصر فعال واعد بالعطاء وقابل للتغير تجعل من القروي كائنا مندمجا مع المجالات الحضرية المحيطة به. قرى مهمشة تُصَدِّرُ لنا بشكل مهول أفواجا عديدة من الشباب المهاجر إلى المدينة بقصد البحث عن العمل ، أو بقصد تحقيق الحلم في عيش "مديني "رغد مُغْر بشتى المغريات و أسباب العيش المريح التي لا تتوافر في القرية ؛ فحين يجلب القروي عائلته معه وزوجته وأولاده بغرض الاستقرار الدائم في المدينة ، ترسم للتو مشاهد لا هي بالحضرية ولا هي بالقروية، تعيد لنا إنتاج نفس المنظومات التقليدية ونفس الأنماط السلوكية و العادات و التقاليد الموروثة ؛ وقد استقرت و ترسخت في أذهان ساكنة الحواضر و المدن ، و لا سبيل لنا لاجتثاثها من جذروها .

و الحديث عن المجال الحضري و تحولاته و القرية ووقوفها صامدة في وجه كل تغيير ، هو حديث أيضا عن تحولات أخرى مست الجوانب القيمية لدى الإنسان المغربي و المرجعيات التقليدية التي يستند عليها ؛ إذ يجب ، هي الأخرى ، وضعها في الميزان ، أو على محك الدرس و التحليل ، يتعلق الأمر بقيام الدولة المغربية الحديثة بجملة توجهات و اختيارات كبرى مصيرية بغرض الدفع بعجلة النماء و التطور إلى الأمام ، لكنها ، في مقابل ذلك ، أبقت ما هو تقليدي مجاورا لما هو حداثي عصري ؛ وخلقت ، بفعل ذلك ، بوعي منها أو بدونه ، تعايشا هشا ساكنا بين حدود هذين الطرفين المتناقضين، دون حسم في تلك التوجهات و الاختيارات الكبرى ،كالفقر و الأمية و البطالة وغيرها من الإشكاليات العويصة.

يأتي العهد المغربي الجديد في أفق الألفية الثالثة، بعد انقضاء زمن العهد القديم، بما لهذا الأخير من جوانب إيجابية وما عليه من سلبيات، جمدت لعقود طويلة مسلسل استكمال التحديث المغربي بسبب تقاطبات سياسية وتجاذبات نخب سياسية متصارعة على الحكم، ليرسم خطوطا عريضة للتنمية الاقتصادية والبشرية. فرغم عملياته التحريرية للممكنات البشرية المغربية الذي توجت ببلورة مشروع ديمقراطي حداثي و مباشرة مفهوم جديد للسلطة ، عمل على إدخال تغييرات في أنماط التسيير و التدبير السياسي و الإداري المركزية و الترابي و الاجتماعي و القانوني المكلل بإحداث مدونة للأسرة و تأهيل العمل التشريعي بإصلاح بنياته و هياكله التنظيمة ؛ حتى تقدم وظائف جديدة ، مع فتح أوراش التنمية و إحداث مؤسسات جديدة كمؤسسة محمد الخامس للتضامن، والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، و الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري وديوان المظالم ، و تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة لطي صفحة الماضي وسنوات الجمر وبناء مصالحة وطنية و حياة ديمقراطية وازنة، غايتها جعل قاطرة التنمية في سكتها الحقيقية ، لا زال مغربنا الراهن يخبط خبط عشواء في اختياراته و في تبنيه ، في كل وقت وحين ، لنماذج تنموية متقادمة لفظها الغرب ، بعدما استنفذ هذا الأخير جميع أغراضها و قذف بها نحونا ، لنحولها بدورنا إلى قيم استهلاكية لا تسمن و لا تغني من جوعنا الحضاري ولا تسد من ثغراتنا النفسية أي شيء، أو تستجيب لعنصرنا الهووي ، ومطامحنا في بناء الحاضر و المستقبل المغربيين الواعدين .

لقد برزت في خضم هذا الجو المشحون بالرغبات في التطور و التغيير و القصد في النماء ، مفاهيم جديدة كمفهوم الحكامة الحضرية ، و التدبير الرشيد ، و مفهوم الإشراك و التشارك و غيرها من المفاهيم التي دخلت قاموسنا التدبيري ، و حاولنا جعلها مفاهيم إجرائية تلعب دور الآليات الكفيلة بإحداث التنمية و تتبعنا مسارتها ، كي تلعب أدوارا أخرى جديدة مرتبطة بالسكان الذين لم يعودوا كتلا انتظاراتية جامدة في مكانها تنتظر من يدبر لها أمورها الحياتية ، بل أصبحت ، بفعل هذا التحول ، قوى مشاركة في الفعل التنموي و التدبير الرشيد ، مع الفاعلين المحليين و الجهويين و الوطنيين بمختلف مشاربهم ، في ظل ديمقراطية تأسست على التشارك ، و ليس على التمثيل و الإنابة .

ومهمتنا في هذا الموضوع، هي تتبع تلك المفاهيم ورصدها عبر تناولها بالدرس والتحليل وإخضاعها لمحك واقعنا الاجتماعي، لمعرفة مدى نجاعتها وقدرتها التفسيرية في فهم ظاهرة التحضر، وبالتالي، استيعاب التمدين في مغربنا المعاصر.

فكيف، إذن انبنت وتشكلت صورة التحضر من خلال استراتيجيات التمدين التي سعى المغرب إلى تبنيها في هذا العهد الجديد؟ وما هي تلك الاستراتيجيات؟ وكيف نبني تمدينا حقيقيا يساهم في تحقيق التنمية المستدامة؟

أولا - تدبير المجال الحضري كاستراتيجية أولية للتمدين

يعتبر المجال هو ذلك الامتداد الجغرافي القابل للقياس والتحديد بالطرق الهندسية ويتشكل من عناصر اقتصادية واجتماعية متنوعة. يمثل المجال إطارا للنشاط البشري، وهو من هذه الزاوية شرط لهذا النشاط ومحددا له نظرا لما يتضمنه من عناصر وما يتيحه من إمكانيات اقتصادية. وتختلف النظرة إلى المجال باختلاف المدارس الجغرافية، فبالنسبة للبعض يعتبر المجال مجرد إطار طبيعي للنشاط البشري ومحدد له، فهو التوزع المجالي للسكان أو الأنشطة الاقتصادية محكومان بالخاصيات الطبيعية للمجال.

وبناء عليه فتدبير المجال، يعتبر مسألة حساسة بالمغرب، على الدوام.، استنادا إلى التوجهات الموروثة، غداة الاستقلال فقد تحدد تدبير المجال الوطني والمجالات المحلية من خلال هدف مزدوج الاتجاه: يرمي اتجاهه الأول إلى تقوية نسيج التراب الوطني، بوصفه شرطا لتنميته، ولتأكيد وحدته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. أما اتجاهه الثاني فيتمثل في التمكن من إدارته ومراقبته السياسية والاجتماعية، بواسطة تقطيعات تسهل، بالأساس، تأطير النخب المحلية والموارد والسكان. وكما هو الشأن بالنسبة لحماية وتثمين الإمكان الطبيعي الوطني .

فسيرورة تنظيم المجال ينبغي أن تكون مندمجة تدمج كل العناصر، لتشق طريقها نحو رسم نموذج تنموي فريد في التنمية والتهيئة والتنظيم المحكم والعقلاني للمجال، بحسب ما يوفره، هذا الأخير من موارد طبيعية وبشرية، ويختزنه من إمكانات مادية وثقافية واجتماعية واقتصادية وايكولوجية، وذلك بخلق صيغ توافقية ما بين مكوناته كمجال غير متجانس يقبل التعددية ويحبذ الاختلاف، ساعيا إلى إزالة الحدود وتوطين العدالة الاجتماعية فيما بين تلك العناصر توزيع لمدخلاته ومخرجاته بشكل منصف وعادل فيما بينهما.

كما عرف التمدين في المغرب تحولات أخرى وتباينات تمت على المستوى العمودي؛ إذ ظهر ذلك في عهد الحماية، في تبلور تشكيلات طبقية جديدة أعطت لهذا المشهد الجديد تراتبيات وحركيات اجتماعية ذات طابع خاص وأنماط جديدة للنشاط الاقتصادي والاجتماعي؛ لكنها، على الرغم من ذلك لم تفرز لنا طبقة متوسطة مكتملة الشروط في الوجود والوعي المشترك بالانتماء يؤهلانها في أن تلعب دورا تحريك دواليب الديناميات الاقتصادية والاجتماعية.
وبناء عليه، يشكل التمدين في المغرب المعاصر ظاهرة جديدة أتى نتيجة سيرورة كبرى عرفها المجتمع المغربي، وتحول كبير من نمط قروي إلى نمط حضري؛ وقد ارتفعت نسبتها ما بين سنة 1960 إلى 2004 من 29 % إلى 55 %؛ إذ كان هذا التحول، في أول الأمر، في صالح المدن الكبرى التي فاق سكانها 100 000 نسمة، لكنه عرف نوعا من إعادة الانتشار في المدن المتوسطة والمدن الصغرى على مستويين: التوزيع الجغرافي ووتيرة النمو .

ويبقى التمركز في بعض المدن الكبرى، وهيمنة الساحل الأطلسي (المحور الممتد ما بين القنيطرة والجديدة) وعدم تناسق المجال الحضري؛ إذ نجده يجاور ما هو قروي، وترييفه نتيجة النقص في المرافق الجماعية، بالإضافة إلى انتشار مدن الصفيح، أهم السمات الأساسية التي تسم المجالات الحضرية بالمغرب.

ثانيا - الحكامة كاستراتيجية لتمدين حقيقي

ومسألة التحول العميق، التي أتينا على ذكرها الآن، والتي طالت البنيات المجتمعية تثير، في حقيقة الأمر، مسألة الحكامة على مستوى المركز وعلى مستوى المجالات الترابية، وأيضا على مستوى القطاعات العمومية أو الخاصة. فمن المعلوم أن المغرب قد شرع في العمل بمقتضى اللامركزية منذ السنوات الأولى من استقلاله ؛ حيث نظم سنة 1960 أولى الانتخابات الجماعية العامة ، بعدها اعتمد الميثاق الجماعي سنة 1976 لتوسيع اختصاصات المجالس الجماعية ، و اعتمد ميثاقا جماعيا آخر سنة 2002 لملء ثغرات سلفه ؛ لكن يبدو إنه ، رغم كل هذا المجهود الكبير في تفعيل الحكامة الترابية تبقى أوراش الإصلاح غير ذات جدوى ، مادامت الانزلاقات التي تسجل أثناء كل عملية انتخابية عميقة ، و ما دام الاستقرار المؤقت يسم التحالفات الحزبية المحلية بالعرضية ، وما دام المؤهل الفكري و الثقافي للمنتخبين متفاوتا بشكل صارخ ، و ما دامت سلوكيات أخرى مشينة تطال مشهدنا المحلي و الجهوي و الوطني ، كسوء التدبير و التسيير للمرفق العمومي المحلي ، والتقطيع الانتخابي الذي تتحكم فيه البيروقراطية المخلصة لمبادئ الاستعمار ؛فهذه عوامل كلها تساهم بشكل ملفت للانتباه في إحداث الخلل بالتنمية البشرية .

ويمكن القول ، بأنه ، لا زالت الحكامة تشكو من اختلالات كبيرة في توازنها ونقائص لا نراها فقط في الإدارة، ولكن أيضا في العديد من المقاولات و التنظيمات السياسية والمدنية مثل الارتشاء و المحسوبية و العلاقات الزبونية و الفساد المرتبط بتبذير المال العام وتفضيل هيمنة النظرة القطاعية الضيقة ؛ والكفاءة غير المتساوية ؛ وعدم استقرار موظفي الوزارات والمسؤولين الإداريين ؛ وعدم الاعتبار الممنهج للاستحقاق ؛ والتواجد المفارق لوزارات متضخمة إلى جانب أخرى محدودية الصلاحية غياب "البين-وزارية" ؛ والفواصل البيروقراطية،و تقلب الهياكل الإدارية وتنازع اختصاصاتها ، والانفعالية في التسيير، وضعف الاستشارة والحوار، وعدم إعمال مبدأ التفاوض لفضّ التوترات والنزاعات ؛ هذا ، زيادة على التعالي الذاتي المفرط، للأشخاص على حساب هيمنة الهياكل والبنيات، بالرغم من بعض التحولات التي مست الحكامة المرتبطة بالإدارة المركزية و أجهزتها الأخرى اللامتمركزة ، كاعتماد قواعد عادلة ومحفزة في تدبير الموارد البشرية، وكذلك ، و هذا هو المهم ، إحداث مجالس جهوية للحسابات، واللجوء إلى الافتحاصات الداخلية والخارجية بشكل متكرر ، والإعلان عن ميثاق حسن التدبير، وتحسين شفافية إبرام الصفقات العمومية .

ثالثا- سياسة إعداد التراب الوطني كاستراتيجية لحكامة المجال

تعتبر حكامة المجال لإعداد التراب الوطني، في معناها الراهن حكامة جديدة أدرجت بشكل متأخر بشكل اضطراري، ولم تكن نتيجة سيرورات داخلية منتظمة داخل المجال، فما كان يحكمها هو ضمان التوازنات المجالية، والتنافسية الترابية وتناسق البرامج التنموية، الموجهة نحو المجالات الترابية. ذلك إن سياسة إعداد التراب الوطني تم اختزالها في مجرد مقاربة ترميمية لتلك التوازنات الترابية، وفي مجرد تقابلات بين المجلات الساحلية والداخلية أو بين المجالات الحضرية والقروية؛ الشيء الذي نجد معه من غير المعقول أن حوالي 40 % من الثروات الوطنية تتمركز في 1 % من التراب الوطني، بما في ذلك المناطق القروية.، وأن نسبة 77 % من التراب الوطني لا تسهم إلا ب 10 % من القيمة المضافة الوطنية. فالتضامن الترابي لم يكن الهاجس الممنهج والمنظم، ضمن استراتيجية تنمية التراب. الوطني؛ الشيء الذي حتم مع بداية هذه الألفية الثالثة نهج مقاربة محددة، واعتماد ميثاق وطني ومخطط وطني لإعداد التراب ، بعد فتح قنوات حوار وطني واسع حول هذه النقطة، من شأنه فتح آفاق جديدة، في هذا الباب.

يراهن المغرب في افق 2025 على أن يكون مغربا لا مركزيا تسهم كل جماعاته الترابية في تحقيق التنمية الشاملة و التزام مبادئ الديمقراطية و العادلة الاجتماعية و المجالية مع منح استقلال ذاتي للأقاليم الجنوبية الصحراوية كمخرج معقول لمشكل الصحراء في إطار احترام هذه الأخيرة للسيادة الوطنية و الوحدة الترابية للمملكة ؛ مغرب مندمج عالميا و منفتح على قيم المواطنة العالمية و مجتمع المعرفة ، ذي حكامة جيدة راسخة في ممارسات و أخلاقيات كافة الفاعلين في التنمية ، مغرب قوي اقتصاديا داخل بيئة محفزة لا تعيق كل جهد هادف إلى تحقيق التقدم المنشود ،ومغرب ، بالتالي ، مندمج بعمق في محيطه المغاربي والإفريقي والمتوسطي والدولي .

التمدين في المغرب مرهون في تطوره بالانتباه إلى معضلة السكن والاكتضاض، ومرهون بتطوير مدن جديدة صغرى وأخرى متوسطة، وإعداد حضري للمجالات بين المدن إعدادا عقلانيا.

أما مستقبل العالم القروي، كأفق اقتصادي واضح ومنسجم المكونات، فيبقى مرهونا هو الآخر بتطور الفلاحة، وتبني رؤية جد واضحة لمستقبل القطاع الفلاحي، قبل التفكير في تنويع الأنشطة القروية، وعدم النظر إلى المجالات القروية كفضاءات للتصحيح الاجتماعي والاستدراك الدائم. وبلورة هذا الأفق يتطلب وجوبا إقامة تمفصل ذكي مع المدن الصغيرة والمراكز الحضرية، ضمن منظورات ترابية مدعمة من قبل الدولة وذات اتجاه ومنحى تشاوري بين كافة الأطراف المعنية بالشأن القروي، منظورات ذات اعتماد تمييز إيجابي يصب في اتجاه المناطق القروية التي تتوفر على مؤهلات خاصة.

رابعا - اللامركزية كاستراتيجية للتمدين

ما يزال هناك استمرار للطابع المركزي في كل تدبير إداري للمرافق، طابع كاشف عن هيمنة ثقافة مقاومة للتغيير، ثقافة غير مستعدة بتاتا كي تمنح ثقتها للمرتفقين المحليين والجهويين وتفويض جزء من اختصاصاتها لهم؛ مما يجعل اللامركزية، كلازمة ضرورية، للاتمركز الإداري، بعيدة المبتغى، ويضع، في الوقت الراهن، مسألة التنمية الجهوية في الميزان، وما تطرحه من إشكاليات مرتبطة بالهوية الموسعة والجهوية المتقدمة ومسألة الأقطاب الحضرية.

فإرساء اللامركزية الترابية في المغرب بعيد الاستقلال السياسي كانت تحكمه شروط مؤطرة للسلوك السياسي المصحوبة برغبة الفاعل السياسي في الهيمنة على باقي الحقول المجتمعية الأخرى . فالشغل الشاغل كان هو إنتاج نخب محلية تدور في فلكه تدبر الشأن العمومي بطريقة متكيفة وفعله السياسي؛ مما جعل الغلبة تكون للبعد الإداري التقني على كل فعالية أخرى تروم تطوير حكامة مواطنة على المدى المتوسط والبعيد، تقود إلى تحقيق تنمية محلية وجهوية فعلية وحقيقية. كان السياسي Le politique كحقل يلعب دور الوصي على باقي الحقول والمجالات الحيوية الأخرى؛ مما أضعف إمكانية إرساء لامركزية فعلية منتقلة من أسلوب الوصاية " الإحلالية " إلى أسلوب الوصاية التوجيهية المواكبة، بشكل موجب، لتطورات المحيط الجيو-سياسي والجيو- اقتصادي الإقليمي والدولي.

شكل دستور 2011 إضافة نوعية في تعاطي الدولة مع مفهوم الجهات باعتبارها دعامة أساسية لتحقيق التنمية ، و ذلك من خلال تعزيز التصور الجديد للامركزية ، الذي عمل المغرب جاهدا على تطويره منذ الاستقلال ، بوضع التقسيم الإداري سنة 1959 ، و أحداث 108 جماعة حضرية و قروية ، و تحسين الحكامة المحلية الجيدة ومنح صلاحيات أوسع للجماعات الترابية أهمها الإشراف على المشاريع و التفاعل مع محيطها .و بموجب دستور 1992 المعدل أحدث التقسيم الإداري 668 جماعة جديدة مع الارتقاء بالجهة إلى درجة جماعة محلية ، ليأتي تعديل الميثاق الجماعي لسنة 2002 ليشكل هو الآخر إضافة أخرى لمسلسل اللامركزية ، من خلال مراجعة اختصاصات المجالس وإدخال تحسينات على النظام الأساسي للمجالس المحلية ، وتحديد مهام لجانها وعلاقتها بها ، وتخفيف سلطة الوصاية والرجوع إلى نظام وحدة المدينة.. وقد عرفت سنة 2009 تعزيزا لمسار اللامركزية، انطلاقا من عصرنة التدبير المالي للجماعات المحلية. وتحسين الحكامة الجماعية عبر دعم دور المنتخب المحلي والإدارة الجماعية وتعزيز آليات التعاون والشراكة، ودعم دور الإدارة المحلية عن طريق مراجعة اختصاصات الكاتب العام.، واعتماد مبدأ وحدة المدينة، انطلاقا من تحسين تدبير التجمعات الكبرى، وتوضيح اختصاصات مجالس المقاطعات. دعم أجهزة التعاون والشراكة قصد تمكين المدن الكبرى من تدبير معقلن لمرافقها المحلية وللتجهيزات الجماعية وعن طريق خلق تجمعات للجماعات وشركات التنمية المحلية.

كما أن الدستور الجديد أتى بتغييرات عميقة في مجال اللامركزية ببلادنا ؛ حيث جعل الجهة تتبوأ مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الترابية الأخرى في عمليات إعداد وتتبع برامج التنمية الجهوية والتصاميم الجهوية ،وإعداد التراب في نطاق احترام الاختصاصات الذاتية لهذه الجماعات الترابية.، و كذا مبدأ التدبير الحر للشأن المحلي وقواعد الحكامة المتعلقة بحسن التطبيق له وإجراءات المراقبة والمحاسبة.، بالإضافة إلى اعتماد الانتخاب المباشر لأعضاء مجالس الجهات.، مع منح صلاحية تنفيذ مقررات مجالس الجماعات الترابية لرؤساء المجالس .

تسعى الجهوية، في منظورها التنموي إلى تحقيق تنمية مجالية، انطلاقا من تحسين الموارد المحلية تحصيلا وتصرفا، والعمل على إخضاع المجالس المنتخبة إلى التكوين من أجل تملك التحصيل لمواردها الذاتية بنوع من العقلنة؛ مما يعزز قدراتها التنفيذية والتدبيرية للجماعات الترابية وتمكين المجلس الجهوي من مراقبة مختلف الدراسات التقنية ومشاريع الاستثمار الجهوية، مع تأهيل الإدارات التابعة للجماعات الترابية وتحسين أساليب التدبير وأنظمة المعلومات وأشكال التقييم وتقديم الحساب.

وتبرز تقدمية الجهوية المتقدمة في كونها تنطلق مما هو مطبق من اختصاصات الجهات وتركيب البيانات الجهوية، ومنح المنتخبين الاختصاصات التنفيذية والتقريرية، وإيجاد نظام يعزز الاستقلالية المالية والتدبيرية للجهات، وإعادة النظر في علاقتها بالسلطات المركزية. ومن أهم مرتكزاتها الوحدة والتضامن والتوازن واللاتمركز الواسع. أما أهدافها فتتجلى في ترسيخ الحكامة وتعزيز إدارة القرب وتفعيل التنمية المندمجة.

أما توسعية الجهوية الموسعة، فتبرز في كونها تقوم على أساس اللامركزية السياسية، التي تتطلب وجود برلمان جهوي حقيقي وحكومة جهوية؛ بحيث يختزل دور السلطة المركزية في ضمان التنسيق بين المركز والجهات.فالجهوية المتقدمة تتخللها مجموعة من العوائق: فعلى الرغم من تنصيص دستور 2011 على مبدأ التدبير الحر ومبدأ التفريغ، إلا أنه في المقابل يختزل دورها في المساهمة، الى جانب الجماعات الترابية الأخرى، في تفعيل السياسة العامة للدولة، ولا يحق لها، والحالة هذه، إعداد السياسات الترابية إلا من خلال ممثليها في مجلس المستشارين.

فتبني نموذج جهوي مغربي- مغربي ينطلق من آلية ترسيخ مبدأ الحكامة الجيدة وتعزيز القرب من المواطنين ثم تفعيل التنمية الجهوية المندمجة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهل يستقيم ذلك بنخب محلية سياسية وتقنية غير قادرة على مواكبة هذا المشروع!؟

خامسا- التمدين في المغرب وسبل تحقيق التنمية المستدامة.

يعيش المغرب ،كباقي البلدان المستعمرَة ، تحديا كبيرا أمام هذه المعضلة المتجذرة في لحمة البنية المجتمعية ، ؛ حيث سجل، في هذه الآونة الأخير تراجعا كبيرا للدولة المغربية ، كعنصر فاعل و أساسي في تحقيق التنمية المستدامة ، بسبب اختيارات اقتصادية و اجتماعية لهذه الأخيرة ، أملتها ظروف العولمة ، بعد تطبيقه لسياسة التقويم الهيكلي وتشجيع القطاع الخاص عبر دعمه ماديا و لوجيستيكيا ، وبروز فاعلين في مجالات المجتمع المدني ؛ بالإضافة إلى تحديات الجبهة الداخلية و ما تفرضه من مشاكل مزمنة لها مفعول سلبي قوي تعوق مسيرة التنمية المجالية . وهذا الأمر حتم على المغرب مراجعة أوراقه والتحقق من مدى ملاءمتها مع عصر يتطور باستمرار متزايد. و هذا حتم عليه ، طرح الأمر، من زاوية مختلفة تروم بناء سياسة مواطنة تستهدف تهيئة و تنمية المجال الحضري و القروي ، وإعداد التراب الوطني، و التفكير بجدية ، من طرف المهتمين و المعنيين بالشأن العمراني والحضري في المغرب في صياغة الميثاق الوطني لإعداد التراب ، وعقد حوار وطني حوله، للوصول إلى نتائج مرضية و توجهات جديدة تنير الدرب الحضاري المظلم ،الغارق في متاهات عديدة : وضعية اجتماعية مزرية ، مستوى معيشي متدن ، فقر مدقع ، ضعف مهول للبنيات التحتية والتجهيزات الأساسية وتفشي البطالة وانتشار مدن الصفيح . فالوضع مستفحل بات معه التفكير في بلورة استراتيجيات و رسم خارطة طريق تنموية مصاغة في شكل مبادرات أو برامج تنموية، أو مبادرات ذات نظرات استباقية استشرافية للمستقبل أو برامج كبرنامج مدن بدون صفيح، والبرنامج الوطني لمحا ربة الإقصاء في الوسط الحضري واستراتيجية التنمية الحضرية المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وغيرها من البرامج الهادفة إلى الرفع من منسوب الوعي لدى السكان الحضر ، مع تحسين ظروفهم المعيشية و تأهيل مواردهم وتعبئتها في الاتجاه الأحسن لتحقق للأفراد و الجماعات أقصى ما يمكن من التمتع بالحياة الكريمة داخل بيئة طبيعية و اجتماعية سليمة .

برز الاقتصاد المغربي منذ الاستقلال إلى غاية بداية الثمانينات من القرن العشرين كنموذج ذي طابع ليبرالي ذي نزعتين حمائية و تدخلية اقتصادية واجتماعية للدولة ؛ لكن مع سنة 1983 تم الشروع في تطبيق برنامج التقويم الهيكلي و انطلاق العشرية بقصد تحقيق استقرار ماكرو-اقتصادي وتطهير المالية العمومية، مصحوبا بالتخلي التدريجي للدولة في شؤون الاقتصاد لصالح الليبراليين الاقتصاديين؛ باعتبار هؤلاء قوى صاعدة معبرة عن تحرر الأسواق ؛ خاصة بعد توقيع اتفاقية اللغات و محاولة تسريع وتيرة تحرير الأسواق و انفتاح هذه الكتل الصاعدة على برامج خوصصة، و قيام أسواق عصرية و الانفتاح على النماذج الليبرالية ، و الدخول ضمن شبكة المبادلات الدولية . لكن ، رغم كل ذلك ، اتسم الاقتصاد المغربي بطابع الفتور لعدم استطاعة تحقيق القطاعات الصناعية و التجارية و الخدماتية مستوى كاف من النمو ، بسبب عدم استقرار الوضعية الماكرو-اقتصادية، لمدة طويلة ؛ تمكن من خلالها ضمان رؤية واضحة لوضعية النمو، ناهيك عن ضعف تطور الدخل الفردي، لارتكازه على القطاع الفلاحي المرهون بالتقلبات المناخية وبصغر حجم المزارع والضيعات، والأساليب والوسائل الزراعية العتيقة ؛ وأيضا مرهون بنظام عقاري جامد وبطيء في تطبيق مساطره القانونية ، وبنوعية الأنشطة الزراعية ؛ ومثل هذا الوضع يكون غير مشجع على تبلور طبقة متوسطة وازنة لها القدرة على ترسيخ قيم التقدم من أجل التغلب على مواطن العجز الاقتصادي والاجتماعي و السياسي بالغ التأثير داخل بنيات المجتمع والدفع ، بالتالي ، بعجلة التطور المجتمعي إلى الأمام . أما القطاع الخاص، فليس مهيكلا بالشكل الكافي ؛ فهناك هيمنة في هذا القطاع الحيوي لأصحاب الرساميل الذين وظفوا أموالهم في قطاعات حيوية لها انعكاس مباشر، سلبي أو إيجابي على المواطن المغربي كقطاع التعليم والصحة والخدمات والمواد الاستهلاكية؛ فطغيان عقلية اقتصاد الريع أدت بهذا القطاع إلى ألا يؤدي الأدوار المنوطة به؛ هذا بالإضافة إلى اختلالات ونواقص تشوب مناحيه التدبيرية والتقنية والتنظيمية.

سادسا - نحو نموذج اقتصادي وسياسي فاعل ومندمج كمدخل للنموذج التنموي المنشود.

لا يمكن إنكار أن هناك دينامية متصاعدة ، في اتجاه جعل الانتقال الاقتصادي المغربي يعرف قفزات نوعية ، و بالتالي تحقيق نوع من الاندماج في الاقتصاد العالمي ، فالأوراش متنوعة و متعددة شملت البنيات التحية ( بناء ميناء طنجة-المتوسط، وشبكات الطرق السيارة ) ومشاريع سياحية (المخطط الأزرق ) والسياسة الصناعية الجديدة المنبنية وتأهيل المقاولة المغربية ( ميثاق المقاولات الصغرى و المتوسطة ، استراتيجية التأهيل ، Plan Emergence ... ) ترصيد التوازنات الماكرو-اقتصادية ( تقليص المديونة الخارجية ) الإصلاحات القانونية والإدارية، التي تهم قطاعات اقتصادية متنوعة ( مدونة الشغل، القطاع المالي والجبائي ... ) ووضع إطار أكثر نجاعة للاستثمار (صندوق الحسن الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، المراكز الجهوية للاستثمار)
وهناك أوراش فتحت على المستوى الاجتماعي والتربوي كورش الإصلاح التربوي باعتماد الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ودخول التأمين الصحي الإجباري إلى حيز التنفيذ؛ وبرامج السكن الاجتماعي للقضاء على مدن الصفيح وتدابير أخرى تستهدف فك العزلة عن العالم القروي ببناء شبكات الطرق والكهربة والماء الصالح للشرب

إن انخراط المغرب، في السياق العالمي قد حتم عليه بالدفع بقطاعاته الاستراتيجية كالفلاحة، والمعادن، والطاقة والصناعة، نحو إنتاج حركية تمشي بمنطق المشارك فقط في السباق العالمي نحو التقدم والرقي الاقتصادي وليس بمنطق كسب رهانات هذا الأخير. فهل مخطط المغرب الأخضر ساهم في تحديث الفلاحة المغربية حتى نتكلم عن الثمار التي سوف يجنيها منه المغرب؟ وهل ساعدت الاستراتيجية المندمجة لقطاع الصيد البحري بين النوافذ القطاعية في خلق إمكانات قوية للتصدير في منافستها داخل سوق بيع الأسماك العالمي؟ وما جدوى وفاعلية اتفاقية الصيد البحري المبرمة مع الاتحاد الأوروبي والمغاربة لا يصلهم من أرباح هذه الاتفاقية إلا القليل، وهم يشترون في أسواقهم الداخلية أسماك بحارهم بأثمنة جد مرتفعة؟ وهل المكتب الشريف للفوسفاط، من خلال زيادة حصة الطاقات المتجددة من إجمالي القدرة الطاقية بحلول هذا العام 2020، والاستثمارات في الطاقات المائية، والشمسية والريحية. سيساعد بالفعل في ترسيخ نسيج الصناعي في لحمة الاقتصاد العالمي؟ وهل مخطط التسريع الصناعي لعام 2014 والرامي إلى خلق نصف مليون منصب عمل في القطاع الصناعي بحلول هذا العام 2020 قد حقق أهدافه الكبرى وأبرز بالفعل تخصصات صناعية جديدة قادرة على التنافسية؟ وهل صناعة السيارات، والطيران والخدمات قد قادت المغرب إلى التصنيع الحقيقي أم أننا أمام صناعة تركيبة للعيار المستورد؟

الفجوة الاقتصادية الحالية بين المغرب والدول الأوروبية مقدرة في حوالي50 سنة، ويعني ذلك أن مستوى المعيشة الحالي للمغاربة يعادل نظيره مثلا لدى الفرنسيين في عام 1950، كما يعني أيضا اقتراب البنية الحالية للنفقات الاستهلاكية المعيشية للأسر المغربية من بنية البلدان الأوروبية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي؛ ذلك أن حصة. الإنفاق على الغذاء تأخذ نسبة 40 %، وهذا يعكس ضعف القدرة الشرائية لدى الأسر المغربية وهيمنة النفقات الأساسية الملزمة. وما ينطبق على المعيشة ينطبق أيضا على الصحة والنقل. إن تراجع دور الطبقة الوسطى بسبب ضمور بنيتها الناتج عن غلاء المعيشة والخلل الوظيفي للخدمات العمومية يجعلها تجد صعوبات في البروز، بسبب غلاء المعيشة والخلل الوظيفي للخدمات العمومية.

هناك توظيف متبادل لسلطتي الاقتصادي والسياسي ، و هذا يؤدي إلى خلق الثروات غير المشروعة ، و بالتالي ، الوصول إلى المواقع السياسية الحساسة عن طريق الانتهازية والمحسوبية والزبونية و الرشوة ، و ليس عن طريق الاستحقاق ؛ مما يضعف البنية المؤسسية و يحل محلها تطبيق التعليمات الفوقية من أشخاص نافذين على هرم السلطة الاقتصادية و السياسية ، هذا بالإضافة إلى معضلة غياب الوعي السياسي لدى المواطن المغربي و عزوفه عن الاشتغال في المجال السياسي ؛ فرغم المراقبة الفعلية لمؤسسات المجتمع المدني ، إلا أن هذه الأخيرة تتعرض للمضايقات أو إلى الاستقطاب بالإغراءات المالية أو بنيل المناصب الحساسية ؛ حتى تزيغ عن ممارسة نشاطها الرقابي بكل شفافية و اقتدار.

فكل هذه الديناميات المتصاعدة في اتجاه تكسير العزلة و نبذ الانعزالية لتجاوز حالة الكمون إلى حالة الوجود بالفعل ، وحالة اللاتوازن في النسق ،كي يعرف هذا الأخير طريقه لإنتاج وظائف جديدة تقطع مع التدبير للشأن المحلي و الجهوي، الذي يستجيب آليا لتعليمات فوقية أحادية في صنع القرارات ، هي التي تشكل الآن خصائص العمل وفق المقاربات الجديدة المبنية على المشاركة الفعالة في تبني مشروع ما و إعداد آليات تنفيذه بدءا من وضع تقويم تشخيصي محدد للأولويات و منتج للصيغ العلاجية لمختلف مراحله و انتهاء بالبرمجة و التنظيم و التنفيذ ؛ثم التقييم للنتائج و المكاشفة و المحاسبة و الشفافية و العقلانية .

كما أن ضعف الإطار القانوني الذي يكشفه ظهير 1971 المعتمد فقط على التقسيم الترابي وتركيزه على الإقليم كوحدة ؛ بحيث راهن عليه لتحقيق التنمية و نسي أن غايته هي الضبط الإداري، و كذا غياب القانون الذي سينظم التصور الجديد للنموذج المغربي للجهوية ،كما تمت الإشارة إليه في تقرير اللجنة الاستشارية للجهوية ؛ بالإضافة إلى إشكالات مرتبطة بنظام إنتاج النخب المحلية ،واقتصاد يعاني من الريع والمضاربة و يشكو من موقع لوبيات الفساد داخل المؤسسات السياسية التي تسخر لحماية للمصالح الشخصية لهاته الأخيرة ، فكل ذلك جعل خلق شروط التنمية مرهونة بالمزاجية وخصوصية كل ظرفية يعيشها المغرب ، وشكل أحد المعوقات الأساسية لتطور ديمقراطي حقيقي للمؤسسات في المغرب .

إن القدرة على التنافسية ما بين الفاعلين الاقتصاديين والمنتجين للقيم المادية، تجعل التعايش الهادف ما بين الإنسان والمجال والزمان، تعايشا يدخل في نطاق الممكنات وليس في نطاق المستحيلات. فتوافق الحديث مع كل ما له علاقة بالهوية والخصوصية الجهوية والمحلية، يقود الإنسان لا محالة نحو خلق شروط التهيئة النفسية للإنسان حتى يتقبل تجدد المجال الحضري وتهيئته وفق رغباته وحاجياته الأساسية.

فتأهيل الإنسان وإعداده أحسن إعداد هو تفكير في إعداد المجال الحضري؛ ذلك أن العلاقة بينهما علاقة تبادل تأثير وتأثر فيما بينهما. فلا فصل وانقطاع بينهما إلا في حلات قصوى في الندرة. كذلك يبرز عامل آخر هام وهو تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للإنسان الحضري، من خلال تقليص نسب الجهل والفقر والبطالة، وتمكين الشباب من الولوج إلى سوق الشغل، والعمل بشكل ديمقراطي على محاربة محسوبية تُقَدِّمُ الكسول والمتقاعس عن العمل وتؤخر الجدي المثابر والمبدع في مجالات تخصصه ؛توسيعا لرقعة التواصل الاجتماعي الحقيقي وتأصيلا للخيارات وتشجيعا للمواهب وتقوية وتعزيزا لكل قدرة تتوسم النجاح بكل طموح وحب للعطاء المساهم في إنتاج خيرات المجال المادية والمعنوية.

على سبيل الختم .

من خلال هذه الجوانب الكاشفة بشكل اختزالي عن استراتيجيات التمدين كما نهجتها الدولة المغربية، منذ الاستقلال إلى الآن، يمكن الخروج ببعض الاستنتاجات، وهي على الشكل الآتي:

- فحينما تبرز الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية داخل مجال معين، فمعناه، أن الانغلاقية التي تحكم كل مقاربة قطاعية ستكون حتما هي السائدة في السياسات لدى الرؤساء الذين يحتفظون لأنفسهم الحق في تسيير مرفق من المرافق دون إشراك مرؤوسيهم.
- الأفكار والتصورات الجديدة التي تتوخى المقاربة الشمولية التكاملية المندمجة، وصيغ التفكير الجديدة في ارتباطها العضوي بالساحة التداولية، المحلية والجهوية، هي التي تقود التنمية الحضرية (وأيضا القروية) نحو الأمام.
- الشأن المحلي والجهوي حين يدبر بغير فاعليه الحقيقيين المحليين والجهويين، يبقى شأنا غير راشد؛ إذ يحتاج دائما إلى وصاية من المركز، التي تقود الحقول السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بشكل انفرادي، وهذا أمر معطل للتنمية لعقود ومرهن لانتظاراتها، ومؤجل لمشاريعها التنموية. إلى أوقات لاحقة أو آجال غير مسماة.
- إن عدم التفعيل العملي للاختصاصات الواسعة التي تتمتع بها المجالس الجهوية في مجال تدبير الشأن العام الجهوي والمنصوص عليها في قانون 2أبريل 1997، والاقتصار على عقد اجتماعات الدورات بصياغة توصيات وملتمسات، لن يجعلها تعرف طريقها الى التنفيذ.
- يجب خلق نوع من الموازنة ما بين المنتج، من جهة، والمستهلك من جهة أخرى، وذلك عبر تقريب المسافات والتباعدات التي رسختها العادات وكرسها التقليد وحفظها التاريخ؛ فإذا كان لكل واحد منهما ثقافته واستعداداته ومؤهلاته وانتظاراته من الآخر، فذلك يعني أن الموازنة تتحقق بشرط التدافع بينهما والتفاعل البناء المبني على الأخذ والعطاء.
- كما يجب التفكير بجدية في إيجاد " تخريجة " منطقية ومعقولة لحل إشكالية " المديني " الآتي من أصوله القروية عبر نزوحه إلى المدينة طلبا للعيش أو بحثا عن ملاذ يشبع له رغباته بشكل طبيعي؛ حتى لا يتحول إلى مارد وبعبع مخيف يقوض أركان الصرح الحضري الذي بني من أجله. فمسألة الاندماج الحقيقي مسألة حاسمة هنا، ولا مجال لإرجاء النقاش حولها لخطورتها على المجال الحضري. فتحقيق المدينة الفعلية يأتي من رحم تمدن حقيقي، وهذا الأخير من بناء الإنسان المتمدن والمتحضر بكل ما تحمله هذه الكلمة من كثافة معنوية.
- التدبير الحضري وسياسة المدينة، يحتاج، في الأخير، إلى فلسفة حضرية جديدة، تسعى، إلى المحافظة على المورد الطبيعي، وعبره تخلق أسباب التنمية المستدامة، بتأهيلها للمجال وتركيزها على مناطق التدخل الخاص، وسعيها الحثيث نحو تطعيم الأقطاب الجهوية والعواصم بالميكانزيم الدافع نحو التنمية المحلية المندمجة، ولن يتحقق ذلك إلا بدعم قوي للامركزية وتوسيع نطاق اللاتمركز، وترسيخا للديمقراطية، وتعميقا للشراكة والمشاركة في سلوك مختلف الفاعلين المحليين والجهويين.
- التنافسية بين الأقطاب الحضرية يستلزم تبني حكامة حضرية، أساسها الإشراك والتشارك والتوافق من أجل خلق التوازن.
- واستشراف المستقبل الحضري الواعد بالعطاء المتجدد يستوجب بعد النظر الذي لا يتحقق إلا بالتفكير ذي النظرة الاستباقية، وتبني قرارات شجاعة وسلك مقاربات معقولة وجدية للمجال المديني، فالهدف الأول والأخير هو ابتكار أدوات عمل جديدة والتفكير في إيجاد حلول ملائمة تعبد طريق الاستدامة ليقطعه الجيل الحالي بأمان ويكون جسر وصل بين هذا الأخير وما ستليه من أجيال لاحقة.

قائمة المراجع
1 - العطري ( عبد الرحيم ) . صناعة النخبة بالمغرب، المخزن والمال والنسب والمقدس طرق الوصول إلى القمة. دفاتر وجهة نظر (9) / مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى 2006.
2- كرابية ( أمينة ) ، طبيعة الرابطة في المجتمع الحضري، دراسة سوسيو- أنثروبولوجية لرابطة القرابة بالسانية ولاية وهران، رسالة لنيل الدكتوراه في علم الاجتماع، جامعة وهران 2 محمد بن أحمد، كلية العلوم الاجتماعية، تحت إشراف د. محمد حمداوي
3 -. حسين (عبد الله ) وآخرون ، التهيئة الترابية وتنظيم المجال مادة الجغرافيا – وحدة التكوين، الجمهورية التونسية، وزارة والتكوين، المركز الوطني لتكوين المكونين في التربية.
4 - الصغيري ( عبد العالي ) المدن المغربية، أو حالة المغرب العمرانية أطروحة السياسة الحضرية وتدبير المجال المديني بالمغرب. عرض تحت إشراف د. عبد المالك ورد السنة الجامعية 2011 – 2012 –
5- الظهير الشريف رقم 1.02.121 صادر في فاتح ربيع الآخر 1423 ه الموافق ل 13 يونيو 2002 بتنفيذ القانون رقم 62.99 المتعلق بمدونة المحاكم المالية (المقتضيات المتعلقة بتنظيم المجالس الجهوية للحسابات)
6 - مشروع قانون حول إعداد التراب الوطني. الرابط على الانترنيت
http://www.sgg.gov.ma/portals/0/AvantProjet/57/Avp_loi_50.13_Ar.pdf
7- - قانون الميثاق الجماعي 2002. وزارة العدل. أصدارات مركز الدراسات والأبحاث الجنائية بمديرية الشؤون الجنائية والعفو. سلسلة نصوص قانونية غشت 2011، العدد 5. ص، 19 – 26 الرابط على الإنترنيت:
http://www.barreaurabat.ma/leslois/PDF_lois/qanonmitaqjamai.pdf
8- تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول متطلبات الجهوية المتقدمة، وتحديات إدماج السياسات القطاعية، إحالة ذاتية رقم 22/2، الرابط على الإنترنيت
http://www.ces.ma/Documents/PDF/Auto-saisines/2016/av22/rpas22a.pdf
9- خمسين سنة من التنمية البشرية وآفاق سنة 2020. اللجنة المديرية للتقرير. المستقبل يشيد والأفضل ممكن. ملخص تركيبي للتقرير العام.
10- شوفور ( جان بيير )، ملخص تحليلي. المغرب في أفق 2040. الاستثمار في الرأسمال المادي لتسريع الإقلاع الاقتصادي. مجموعة البنك الدولي (2017)، الرابط على الإنترنيت: https://openknowledge.worldbank.org/
11- لفقيه ( هشام ) " سياسة إعداد التراب الوطني بين إشكالية التقائية التدخلات العمومية ومتطلبات التنمية المجالية" جريدة " هيسبريس " الإلكترونية رابط المقال على الإنترنيت: https://www.hespress.com/opinions/445181.html
12- المستاري ( محمد ) ، في تحديات وإكراهات سياسة الجهوية المتقدمة بالمغرب، مجلة العلوم الاجتماعية – المركز الديمقراطي العربي ألمانيا – برلين، العدد 5 أوت 2018.
13- المستاري ( محمد ) ، تحديات مسار الإصلاح التنموي في المغرب، مجلة الدراسات الإفريقية وحوض النيل – المركز الديمقراطي العربي، المجلد الأول العدد الرابع، ديسمبر كانون الأول 2018.
14- الجريد الرسمية عدد 5167 – 13 شوال 1424 هـ الموافق ل 08 ديسمبر 2003م المتضمنة لقانون رقم 65.99 المتعلق بمدونة الشغل. الرابط على الإنترنيت: http://hrlibrary.umn.edu/arabic/Moroccan_Laws/Moroccan_Laws9.pdf



#عبد_الجبار_الغراز (هاشتاغ)       Abdeljebbar_Lourhraz#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- - سعادتنا -ما بعد جائحة كورونا
- المرأة المغربية: مجالات التمكين وسبل التنمية المرتقبة
- قراءة في كتاب: الهجرات العالمية والمغربية قضايا ونماذج. مقار ...
- الإيمان والعقل.. وجهان لعملة إنسانية واحدة
- الجامعة الإسلامية بمينيسوتا الولايات المتحدة الأمريكية، فرع ...
- أشغال الندوة العلمية الدولية -الهجرة والفنون - المنظمة بكلية ...
- الحاجة إلى ثقافة عربية متسامحة
- الغرب .. و هويتنا البيضاء
- لماذا تفشل النخب السياسية العربية المعارضة في مناهضتها للاست ...
- طفولة قاتلة .. و مقتولة !
- الفيلم الوثائقي: - تحت الثلج.. البياض القاتل - للمخرج المغرب ...
- اقرأ .. !!!
- آكادير .. على إيقاع ليلة الورشات الفنية
- إيبولا و داعش .. أيةعلاقة ؟
- فيلم :- أندرومان من دم و فحم - .. قراءة تحليلية لمفارقات الم ...
- وهج الأفكار و الذكريات
- في الحاجة إلى نقد ثقافة الإقصاء
- الربيع العربي .. المبني للمجهول !
- السوسيولوجيا الكولونيالية بالمغرب
- كرنفالات فاتح ماي .. نحو تأسيس خطاب مناهض لعنف الشغل


المزيد.....




- خبراء يفسرون لـCNN أسباب خسارة البورصة المصرية 5 مليارات دول ...
- اقتصادي جدا.. طريقة عمل الجلاش المورق بدون لحمة وبيض
- تحد مصري لإسرائيل بغزة.. وحراك اقتصادي ببريكس
- بقيمة ضخمة.. مساعدات أميركية كبيرة لهذه الدول
- بركان ينفت الذهب في أقصى جنوب الأرض.. ما القصة؟
- أبوظبي تجمع 5 مليارات دولار من طرح أول سندات دولية منذ 2021 ...
- -القابضة- ADQ تستثمر 500 مليون دولار بقطاعات الاقتصاد الكيني ...
- الإمارات بالمركز 15 عالميا بالاستثمار الأجنبي المباشر الخارج ...
- -ستوكس 600- يهبط ويتراجع عن أعلى مستوى في أسبوع
- النفط ينخفض مع تراجع المخاوف المتعلقة بالصراع بالشرق الأوسط ...


المزيد.....

- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى
- جذور التبعية الاقتصادية وعلاقتها بشروط صندوق النقد والبنك ال ... / الهادي هبَّاني
- الاقتصاد السياسي للجيوش الإقليمية والصناعات العسكرية / دلير زنكنة
- تجربة مملكة النرويج في الاصلاح النقدي وتغيير سعر الصرف ومدى ... / سناء عبد القادر مصطفى
- اقتصادات الدول العربية والعمل الاقتصادي العربي المشترك / الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عبد الجبار الغراز - تخطيط المدن واستراتيجياته،المرسومة من قبل الدولة المغربية: دراسة في التجليات والانعكاسات على الشخصية المغربية.