سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 1667 - 2006 / 9 / 8 - 09:32
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
بدءاً، ونحن نقرأ رواية "هالة النور" للروائي المصري الشاب محمد العشري نواجه بسؤال التجنيس الأدبي. هل أن ما كتبه العشري هو رواية حقاً أم سيرة ذاتية مكيفة بطريقة ملتوية كي تأخذ شكل وطابع الجنس الروائي. وإذا لم تكن هناك قواعد نهائية قارّة، ومعايير نقدية متفق عليها لتعريف الرواية وتمييزها عن الأجناس الأخرى فإن حدس القارئ وتجربته السابقة مع القراءة الروائية يعينانه في الغالب في مثل هذا التعريف والتمييز، وقد استثمر روائيون كثر صفة الرواية بعدِّها جنساً مفتوحاً يستفيد من غير حذر كبير من ممكنات الأجناس الأدبية الأخرى "الشعر، القصة القصيرة، السيرة الذاتية، المسرحية، الملحمة، الخ". ومن هنا كانت الرواية تتخلص من مأزقها، في كل مرة تعلو فيها الأصوات منذرة بموت الرواية، مطلة بأشكال وتقنيات ومعالجات سردية جديدة، وداخلة مناطق بكراً في التناول والبناء، وهذا ما حصل مع رواية الواقعية السحرية، ومع الرواية الفرنسية الجديدة، ومع ما يكتبه الآن حشد هائل من الروائيين بمستويات إبداعية مختلفة ليفاجئوا القراء والنقاد بحقيقة أن الرواية تختبر نفسها بطرق لا تكاد تنضب لتثبت، على عكس ما يرى المتشائمون، بأنها مستمرة ومتجددة، وإنها تقاوم الموت.
إذن ونحن نروم استعادة قواعد وشروط الكتابة الروائية نصطدم بنسبية ولا استقرار تلك القواعد والشروط، لكننا نستطيع تأشير بضع نقاط بهذا الصدد منها لغة الراوي، وأنساق السرد المتبعة والمحمول الفكري ووجهة النظر وعنصر الخيال، وعلى الرغم من محاولات العشري في اللعب على الأنساق، وإعطاء نصه بعداً شعرياً ذا رؤى وجودية ولا سيما في التهويمات التي يعيشها الروائي وهو في مواجهة لا نهائية الصحراء بفضائها وآمادها واحتمالات تقلباتها ومفاجآتها يبقى الانطباع المولد عند القارئ هو أن العشري يعكس إلى حد بعيد تجربة شخصية معاشة أو متخيلة بلغة أقرب إلى لغة كتابة السيرة منها إلى اللغة الروائية في كثير من الفقرات والمواضع. وحين نضيف شرط طول الشريط اللغوي الذي تؤكد عليه الناقدة اللبنانية يمنى العيد نخرج بنتيجة أن ما أمامنا من نص هو قصة طويلة أكثر من كونها رواية ( 120 صفحة من القطع المتوسط ). وأحسب أن رواية العشري كانت أيضاً بحاجة إلى ثيمة موازية أخرى لثيمة الحب لتكتسب شكلها المركب ليقنعنا، في النهاية، بأن ما نقرأه هو رواية حقاً. فالهاجس الأساسي للشخصية الرئيسة هو الحب، لكننا لا نتعرف بشكل مباشر وكافٍ على موضوع ذلك الحب "الحبيبة" حتى لتبدو أنها من بنات خيال الراوي أكثر من كونها شخصيــة واقعيـــة ( أي من ضمن الواقع الافتراضي في نسيج الرواية التي هي عمل تخييل قبل كل شيء ). فالراوي على الرغم من إشاراته إلى أجواء العمل إلا أنه لا يبني حدثاً درامياً متصاعداً يوازي حدث الحب قوةً.
تذكرني رواية العشري "هالة النور" برواية " فساد الأمكنة" لصبري موسى، وإلى حد ما ببعض روايات عبد الرحمن منيف كون الصحراء جزءاً من فضاءاتها، غير أن العشري لا يتحدث عن قاطني الصحراء، وإنما عن تجربة الراوي الشخصية المتحدر من برجوازية المدينة والذي يعمل مهندساً في شركة تنقيب في الصحراء، فعلاقة البطل بالصحراء عرضي وعابر.. إنه موجود في الصحراء بحكم عمله، لكن صلته بالصحراء تتعمق وهو يفكر بحبيبته، ومن ثم بالحياة والوجود، فيرى فيها مجالاً لحريته حتى وإن كانت هذه الحرية مقتصرة على الرؤى وانفلاق الأفكار، والاستغراق في الخيال
"فالصحراء آسرة ، ساحرة ، تشرب الروح في رمالها العطشى ، وتبخرها في ليلها نسيمـًا أخاذاً ، يلف الكون بعطره وموسيقاه" ص8 .
والراوي هنا لا يستكين، إن مشاعره متقلبة مثل الصحراء فبعد صفحتين فقط نقرأ؛
"تحول فراغ الصحراء من حوله إلى بحر من الأمواج الرملية الساخنة ، التي تغرقها باندفاعها وثورتها ، تسحق رأسه بحوافها الحادة ، وأسنانها الشرسة . قبض على قطعة صخر زلطية ، شعر بلسعها ، قذفها أمامه بعنف ، أحدثت شرراً صاحبه صوت حاد" ص10.
وهو يكاد يكون وحيداً، في الغالب. وحيداً مع نفسه وخيالاته وهواجسه وتوقه إلى حبيبته، وأفق الصحراء الذي أمامه يمنحه فرصة لتكوين تصوراته الوجودية عن الكون الحياة والموت.
( في الأعماق برزت له متتالية الأسئلة التي تحيره ، وتحفزه دائمـًا في اتجاه البحث عن إجابة ، في غوصه الذي لم يتوقف ، سأل نفسه :
لماذا خلق العالم على هذا النحو ؟ هل هذا هو أفضل شكل متاح ؟.
لماذا تقيدنا أجسادنا على هذا النحو ؟ هل هي وحدها التي تمنحنا اللذة وطعم الحياة ؟ ثم ما الحياة أصلا ؟ ) ص71 .
ولأنه يخوض تجربة حب جياشة تبرز له أسئلة وجوده ذاتاً تعاني وتسعى من أجل تكوين هويته والتعرف على ماهيتها وهو في خضم تعاطيه مع الطبيعة من حوله، بعيداً عن الآخرين.
( السكون الذي خدرني بعد أن مسني شعور اللذة ، جعلني حائراً ، أتساءل :
من أنا ؟
هل أنا حقًّا أنا ؟
أم أنا الشجرة ؟
هل أنا ظلها ؟
في شوق إلى أن تسكنني العصافير ، تخترقنى طلقة الصياد من آن لآخر، وفى لحظات ما أستطيع أن أتجرد من كل شيء ، تتساقط أوراقي ، تطير طيوري ، أصبح عاريـًا في حاجة إلى الدفء ، إلى غلاف حي يحتــوى الــروح الشاردة ) ص 16 ـ 17.
يحرص العشري في هذا المقطع كما في بقية صفحات روايته على استثمار ممكنات تحليقاته الشعرية التي تمنح لغته طراوة ورومانسية تجعله يطيح أحياناً بمتطلبات اللغة السردية ومسارها، حتى يتهيأ للقارئ ان العشري ينسى كونه بصدد كتابة رواية. وهذا ما يفضي به في مواضع كثيرة إلى استخدام استعارات بلاغية غير مسوغة تثقل لغته الروائية وتضفي عليها شيئاً غير قليل من المبالغة هو في غير حاجة إليها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر " أمعن في ثني حديد الوقت... أزاح سيف القلق" ص10، يهز ذيل اللامبالاة"ص10 "طائرة النوم أطلقت أزيزها" ص12 "انفجرت قنبلة الخجل في أعصابه" ص36.
يستخدم العشري في هذه الرواية ضميري الغائب والمتكلم في آن معاً، فحين تكون الشخصية المحورية "حسام" في الصحراء، حيث كل شيء يجري برتابة، وتهيم الشخصية مع أحلامها وأفكارها ينبري الراوي كلي العلم ليحدثنا عنه وعن وضعه النفسي وحركته وأفكاره بضمير الغائب، أما حين يكون الفضاء هو المدينة يسمح لشخصيته بسرد الحدث بضمير المتكلم، وأعترف أنني لم أجد مسوغاً مقنعاً لهذا التقسيم لا سيما أن وجود الشخصية في الصحراء يتيح له فرصة لجريان تيار وعيه وهذا ما فعله حقاً، لكن استخدام ضمير المتكلم هنا يكون أجدى في رأيي، على عكس ما يحصل في المدينة حيث تتلاحق الأحداث التي يمكن سردها بضمير الغائب بسلاسة وموضوعية، وربما كان للمؤلف عذره ومبرراته الفنية التي لم أقع عليها.
ينجح الروائي في جعلنا متفاعلين ومتعاطفين مع شخصيته الروائية، وتواقين لمشاركته رحلته إلى حيث سيلتقي بحبيبته التي تلفها الغموض، فهو لا يحدثنا عنها بوضوح، فهي هناك، جميلة، جذابة متمنعة في حضورها كأنها امرأة في حلم، وهو في طريقه إليها، إلى المدينة، يجلس إلى جانب سائق في عربة جيب بعد أن انهى مهمة له في مشروع تنقيب في الصحراء، وفي النهاية يستغرق الأثنان في حيث عن التنقيبات الأثرية في الصحراء المصرية وعن أسلاف الإنسان والديناصورات، ثم نعرف إنه لإشكاليات تخص الوظيفة يستقيل من عمله ليتفرغ لمدة أربع وعشرين ساعة في اليوم كما يقول لرعاية حبيبته التي لا يهمها كونه عاطلاً عن العمل في الوقت الحاضر.
ما يحسب لمحمد العشري في هذه الرواية أنه يستثمر معلوماته عن العمل في الصحراء وفي الشركات التقنية وما يتصل بفعالياتها فنياً وإدارياً ليؤثث بها جانباً من نسيج روايته وهذا ما يمنحه نبضاً واقعياً مقنعاً، ومن خلال قراءاتي للرواية العربية أجد أن قلة من الروائيين يتكلمون في رواياتهم عن فعل شخصياتهم في العمل، لا سيما تلك التي تتطلب مهارات فنية وتجري في اماكن نائية كالصحارى والبحار. وربما هذا ما جعل الرواية تقترب في بنائها كما أشرت في البدء من نوع السيرة أو المذكرات.
إن قارئ رواية "هالة النور" لمحمد العشري موعود بلغة ذات دفق شعري شفاف، وسرد لا يخلو من المتعة، ومعلومات في شؤون شتى لا غنى عنها.
* ( هالة النور ) محمد العشري.. مركز الحضارة العربية/ القاهرة.. ط1/ 2002.
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟