|
قصة قصيرة: زهر اللوز
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 1481 - 2006 / 3 / 6 - 11:16
المحور:
الادب والفن
الأضواء تتمدد بكسل على الجدران، وعلى بلاطات الدرب المتشققة.. أضواء تؤكد العتمة.. العتمة الحاضرة أبداً في عصب المكان.. مكان متعرج، مريب، كما لو أنه لم يدخله من قبل، أربك خطواته.. خطواته وقد استدرجتها الأضواء الشاحبة كي يوغل، ولا يتردد.. المكان العابق برائحة متخمرة تشي بالعتق والإهمال.. هو في المكان الصحيح، على الرغم من الليل.. أكيد.. وعلى الرغم من شبه الإعياء الذي يجعله يحلم بكأس شاي ثقيل، وفراش دافئ. لحظات وسيجد الباب.. سيطرقه، وسيخرج محمد المصري.. سيفتح فمه كالأبله، إلاّ أنه، في نهاية الأمر، سيصيح: ـ مين.. قاسم؟!. سيتذكره، لابد.. فهو لم يغب عنه أكثر من ثلاث سنين.. سنتين وثمانية أشهر بالأحرى.. لا شك أن هيئته اختلفت، وأنه فقد من وزنه ونضارته وحيويته.. ولا شك أن شعرات بيض كثيرة تسللت إلى رأسه، إلاّ أن محمد سيتذكره.. لقد كان هناك. ـ هل أنت قاسم؟. ـ أنا قاسم!!. ـ تفضل معنا.. لم يكن ثمة من داع ليسأل؛ من أنتم.. ومنذ تلك الساعة غاب عنه وجه محمد المصري.. غاب عنه وجه أبيه ووجه أخته.. غابت عنه وجوه وطرقات وحدائق وأحلام.. يذكر هذا المنعطف، وهذه الشناشيل.. تلك النافذة لم تكن زرقاء.. ربما كانت كذلك. لكن ذلك الباب لم يتغير.. البلاطات تآكلت. وعلى الحائط خطّ أحدهم هذه العبارة "أحبك ميسون" ووقّعها باسم العاشق الولهان.. كانت العبارة مكتوبة بالأزرق، تلمع في مسقط ضوء لم يلتفت ليعرف مصدره، وتحتها أشكال متناثرة بيض كالزهور.. فكر؛ إنها لا تشبه أزهار اللوز. صعد الدرجتين إلى الباب.. فكر فيما إذا كانوا نائمين.. الساعة لم تتجاوز العاشرة.. تذكر مطرقة الباب القديمة.. كانت هنا.. أحدهم انتزعها، ولم يبق سوى القاعدة المعدنية الصدئة.. طرقتان خفيفتان وانتظر، وظل الصمت يلفه.. لم يكن صمتاً كاملاً.. كان هناك وشيش التلفاز المنبعث من الداخل.. في ذلك الحين، كانت في هذه الدار عائلتان، وغرفته مع محمد المصري. تحسس جيبه.. اطمأن لوجود ورقة الدينار فيه.. طرق مرة أخرى.. طرقتان أقوى، وانفتح الباب.. أطل وجه صغير وعينان جريئتان.. لا يعرفها.. قد تكون بنت عائلة جديدة سكنت الدار بعده.. كانت في العاشرة، ترتدي ثوباً أخضر بأزهار بيض، لم يتبينها في العتمة.. فكر إن كانت أزهار لوز.. قال؛ ـ محمد المصري؟. دخلت الفتاة من دون أن تقول شيئاً.. وبعد لحظات جاءه رجل بدين، يرتدي جلباباً مصرياً.. لعله صديق محمد، أو أخوه.. هو لا يشبهه. ـ نعم؟. ـ محمد المصري؟. ـ محمد؟. تقصد أبو العلا؟. هز رأسه، وقد داخله بعض الارتياح. ـ نعم، هو.. ـ آسف يا أخ.. أبو العلا الآن في مصر. ـ ومتى سيعود؟. أحس كم في سؤاله من اليأس والإحباط والغباوة. ـ تفضل أدخل.. هو لن يعود. عبرا ممراً نصف مضاء، وتسلقا الدرج القديم.. في الغرفة قال الرجل البدين؛ أنا حنفي. حاول أن يتذكر؛ ماذا ترك في غرفته هذه غير فراشه وكتبه؟. والآن، في غرفة حنفي مدفأة وسرير حديد وفراش لشخص واحد، وجهاز راديو وتسجيل، وصورة كبيرة لأحمد عدوية، وصور أخرى ملصقة على الحائط بفوضى.. أشار حنفي إلى واحدة منها؛ هذا محمد. لم يكن متأكداً إنْ كانت هذه صورة محمد، غير أنه قال؛ نعم، محمد المصري، أبو العلا. وظل محمد المصري أبو العلا أمام التنور، جامداً في وقفته وفي عينيه المبحلقتين، المرعوبتين.. قالوا لـه؛ اخرس ولا تتدخــل، وما قال ســوى؛ ( يا اخوانا ).. وهو، امسكوه من ساعده.. القبضة على عضلاته الرقيقة كانت قوية، ودفعوه خارجاً.. لم يلتفت إلاّ أنه شم رائحة الخبز المحترق، وتخيل محمد جامداً في وقفته مايزال، والعرق يتصبب من وجهه الأسمر الطويل.. وفي الجوار تجمع بعض الصبية، وعمال التنظيف، وتخوصرت امرأة لم تكف عن مضغ وتدوير قطعة العلك الكبيرة في فمها، ومحمد لم يغادر مكانه أمام التنور، وبقي الخبز يحترق. وهو، أحكموا شد العصابة على عينيه، وحشروه بين اثنين في اللاند روفر، وكان أعمى، وانطلقت السيارة، ورائحة الخبز المحترق تلاحقه.. تناكده.. تلبث معه في لياليه المقبضة.. في كابوسه الذي تكرر مراراً.. يحملونه ليلقوه في التنور فيصرخ.. يوقظه أحدهم في الزنزانة.. حرارته مرتفعة وحلقه جاف، والحارس ينظر من كوّة الباب العلوية، ويشتم ببذاءة شاذة. قال: محمد كان صديقي. قال حنفي: نعم. قال: كنا نعمل معاً في المخبز. ولم يضف؛ ومعاً كنا في هذه الغرفة.. رفرف صمت حائر.. لحظ في عينيّ حنفي اتساعاً طفيفاً.. تساؤلاً مكتوماً. قال: أنا هو. قال حنفي: إذن، أنت هو. لم يقل شيئاً. قال حنفي: بعد أسبوع جئت أنا، وكان محمد يريد أن يغادر. قال: وغادر. قال حنفي: نعم، وترك غرفته لي. قال: وعمله. قال حنفي: لا.. أنا أعمل موظفاً في الحكومة. فكر؛ أين يمكن أن يكون محمد الآن، وإنْ كان غادر بسببه هو؟. لم يكن الشاي الذي قدمه له حنفي ساخناً كفاية كما اشتهى. وقال؛ لا داعي، حين اقترح حنفي وضع إبريق الشاي على المدفأة.. سأل عن محمد المصري أبو العلا، وإنْ كان حنفي يعرفه حقاً.. ضحك حنفي وقال؛ ( محمد بلدياتي ). وتثاءب.. قال؛ أنه سيغادر.. قال حنفي؛ أنه يتمنى لو كان معه في الغرفة فراش آخر، إذن لاستبقاه. وتساءل؛ إن كان سيجد سيارة تاكسي في مثل هذه الساعة تقله إلى بيته.. قال؛ أنه سيتدبر أمره.. قال لـه الرجل الكهل وهو ينزع العصابة السوداء عن عينيه وينزله من اللاند روفر؛ سيفرحون بك.. قال: من؟. قال الرجل الكهل: أهلك في البيت.. البيت؟.. البيت حلم أزرق.. شيء ما خلف خط السراب.. مثانته ممتلئة.. بحث عن زاوية مظلمة مهجورة.. أزعجه وشيش تبوله، والرجل الذي عبر تحت المصباح هناك، وقف لحظات ناظراً إليه بإنكار قبل أن يواصل سيره.. سيأتي غداً من يكتب ( البول هنا للحمير ).. أحس بقطرات ساخنة على أصابعه مسحها بطابوق الحائط، ومشى بخطوات متثاقلة.. ليس قطعاً إلى البيت. يفصله عن بيته سنين من المرارة والتيه.. أبوه، هل مازال هناك، حياً في تلك البلدة البعيدة المنسية؟. وأخته، ربما تزوجت.. من يدري وقد غاب سنتين وثمانية أشهر.. بيته الذي في المشهد الأثير.. هو وأخته وتلك الصبية التي كلما تذكرها استعاد مشهد زهر اللوز وقد رآه في أمسية دامية في جبهة الشمال من حرب قصية.. بيته وأخته والصبية، وفاصلة الحرب.. أمه ماتت وأخته لطمت خدها والصبية غادرت.. جاءت سيارة لوري مرسيدس حمراء ذات ظهيرة وحملتهم، هي بثوبها المرشوش بزهر اللوز، مع أبيها وأمها وأخوتها الثلاثة الصغار، مع الأثاث، وبقي هو وأخته يلوحان والسيارة اللوري الحمراء تبتعد في رهج الظهيرة، وحزنه الغامض، وزهر اللوز يتساقط على ذرور الدم في مساء الحرب يذكِّره بالصبية التي بثت فيه حزناً عميقاً غامضاً في رهج الظهيرة وهي تنأى إلى ما وراء سرّه.. وظل يفكر بها طويلاً، وربما حلم بها أيضاً.. تحسس في جيبه ورقة الدينار التي أعطاها له الكهل وهو يوصيه أن يبتعد عن المشاكل ووجع الرأس والسياسة وأولاد الحرام الذين يورطون الطيبين من أمثاله. دخل مطعماً صغيراً يضج بأغنية لأحمد عدوية.. كان البائع مصرياً، وكان زبائنه مصريين، وكان معهم سوداني، أو هو من بلاد النوبة.. سكتوا جميعاً وراحوا ينظرون إليه، ثم فجأة عادوا إلى لغطهم بعدما أخرج الورقة النقدية وطلب شطيرة بطاطا.. أكل الشطيرة وانتظر أن يسلمه البائع بقية نقوده.. قال البائع؛ الشطيرة بدينار.. قال؛ لا أدري، جئت من مكان بعيــد.. مد لـه البائـع بالدينار؛ ( خليه على حسابي ).. هز رأسه رافضاً وانسل من المطعم.. مر بشاب سكران، وبامرأة مع رجلين، وبرجلين من دون امرأة، سأله أحدهما عن الوقت، قال؛ لا أدري.. مرقت سيارة للشرطة، وأخرى ليست للشرطة.. وعلى الرصيف أبصر عجوزاً نائمة، متدثرة ببطانيات قديمة.. قد تكون مخبولة. وآخر المطاعم باتت تقفل أبوابها، ويتلاشى صوت أحمد عدوية، ويستوحش الشارع.. جلس على دكة أسمنتية عند مدخل زقاق معتم، شاعراً كم هو مقرور ونعسان ووحيد وغير مهتم في ليل شارع الرشيد هذا. 2005
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شهادة: هكذا تكتبني المحطات
-
شقاء المثقفين
-
فضاء مكتبة.. فضاء الكون*
-
سحر ماركيز
-
الرواية وسيرة الروائي
-
المثقف: إشكالية المفهوم والوظيفة
-
كالفينو: الوصايا والإبداع
-
مكر كونديرا
-
في رواية -الإرهابي- لديفيد معلوف: هل حدثت الجريمة حقاً؟.
-
حياة أوفيد المتخيلة
-
المثقف والفاشي وهاجس الأرشيف
-
في رواية ( كل الأسماء ) لساراماغو: البحث عن الذات عبر البحث
...
-
بين كاداريه وساراماغو: أضاليل التاريخ ومناورات الروائي
-
في الذكرى المئوية لولادة سارتر
-
المجتمع الاستهلاكي: الأسطورة وصناعة الزائف
-
الحوار المتمدن في أفقنا المعرفي
-
الإعلام والعولمة: كيف يحولنا الإعلام؟
-
حوارمع سعد جاسم أجراه بلاسم الضاحي
-
هيرمان الساحر
-
أدب الرحلات والشرق المفترض
المزيد.....
-
-ذخيرة الأدب في دوحة العرب-.. رحلة أدبية تربط التراث بالحداث
...
-
قناديل: أرِحْ ركابك من وعثاء الترجمة
-
مصر.. إحالة فنانة شهيرة للمحاكمة بسبب طليقها
-
محمد الشوبي.. صوت المسرح في الدراما العربية
-
إيرادات فيلم سيكو سيكو اليومية تتخطى حاجز 2 مليون جنية مصري!
...
-
ملامح من حركة سوق الكتاب في دمشق.. تجمعات أدبية ووفرة في الع
...
-
كيف ألهمت ثقافة السكن الفريدة في كوريا الجنوبية معرضًا فنيا
...
-
شاهد: نظارة تعرض ترجمة فورية أبهرت ضيوف دوليين في حدث هانغتش
...
-
-الملفوظات-.. وثيقة دعوية وتاريخية تستكشف منهجية جماعة التبل
...
-
-أقوى من أي هجوم أو كفاح مسلح-.. ساويرس يعلق على فيلم -لا أر
...
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|