أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - أدب الرحلات والشرق المفترض















المزيد.....

أدب الرحلات والشرق المفترض


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 1366 - 2005 / 11 / 2 - 13:02
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


((لقد جئت إلى نهاية أوربا هذه التي لا يتوقف دولابها عن الدوران لترى عيناي الآن روعة الشرق و فساده)) رحلة ايوثين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

-1-
مع بزوغ عصر النهضة بدأت رحلات المغامرين الغربيين إلى الشر ق و إلى الشرق الأدنى تحديداً. لكن القرنين الثامن عشر و التاسع عشر كانا قد شهدا أهم تلك الرحلات ، وما تمخض عنها من أدب مكتوب . ففي عام 1706 ترجمت حكايات (ألف ليلة و ليلة) للمرة الأولى في الغرب، وفي هذا الوقت راح ينمو جمهور من القراء الشغوفين بالسرديات المثيرة والممتعة.. عندها كان لا بد أن تترك تلك الحكايات صداها عميقاً في عقول الغربيين، وأن تشعل خيالهم ، وتثبت فيهم روح المغامرة ، و تغريهم بالذهاب إلى الشرق.
بيد أن ما حصل هو أن تلك القراءة منحت الأوربي منظاراً خادعاً في رؤيته للشرق .. هنا كان الشرق المفترض غارقاً في نفث الخرافة و دخان السحر.. عامراً خارج التاريخ، في اللازمن.. مخلوقاته يغشون قاع البحر و يطيرون على بساط الريح.. يرحلون إلى ما وراء المتوقع و المألوف، ثم يعودون محملين بالهدايا العجيبة، وقصص الخوارق و الحوادث المذهلة.
هكذا بات الوعي الغربي يجنح ويتيه في مدن ساحرة، غريبة، لامعقولة، يتنصل منها التاريخ وتنكرها الجغرافية. مدن يسقطها الخيال الموار لرحالة بغيتهم إضفاء مسحة من الأسطورة على العالم الذي غامروا باقتحامه واكتشافه، والذي سيكسبهم صفة البطولة. والمشهد البطولي الذي جاءوا بحثاً عنه ولم يجدوه، فلا بأس أن يختلق على الورق ويدهش القراء الذين لم يعبروا البحر قط إلى الشرق.
أكان البحث عن الدفء ديدنهم؟. أم أن الذي حرّضهم هو جاذبية الصحراء المترامية تحت الشمس التي تسكب ذهباً، وفي مواجهة الرمال المذعنة لمشيئة ملك العواصف؟. أم تراهم أغرموا بمشاهدة صنف آخر من البشر المهيئين ليكونوا شعراء وفرسانا أسطوريين، وربما أنبياء أيضاً، وليروا بيوتهم التي هي حرة مثل ساكنيها لا يسجنها مكان، ولا يغلها زمان.. بيوت تدور مع دورة الفصول لا تترك في الرمل أساساً راسخاً ولا أثر يمكن أن يبقى.
أجل هكذا تصورهم الذهن الغربي البارد الذي أيقظ فيه عصر النهضة، ومن ثم عصر الأنوار والثورة الصناعية هاجس المغامرة.
-2-
غيرت الصناعة نمط حياة الغرب، ونظمت العلاقات والخريطة الاجتماعية على وفق متطلباتها، وقصرت المسافات باختراع وسائط نقل سريعة، وأغلقت الآفاق بالبنايات الشاهقة، وعكرت السماء بالدخان.. إذ ذاك وجدت الروح الأوربية المشبعة بروح الرومانس عند بعضهم منفذاً للهروب إلى الشرق، حيث المديات المفتوحة والفضاء اللامتناهي والطبيعة التي لا تزال عذراء تستثير تلك الروح لتستدرجها إلى مسالكها الغامضة العصية، و لتستبقيها في متاهاتها الممتعة شهوراً أو سنوات.
كانت لفظة ((الرحالة)) مقولة الشرق الذي لم يخترق بعد بالآلة الصناعية الغربية و تبعاتها. وكان أدب الرحلات إفراز ذلك العصر الذي لم يكن قد شهد بعد ظهور المدينة الشرقية الحديثة المحاكية للمدينة الأوربية، وكانت الطرق دون معالم، لا يمكن قطعها إلا بمساعدة أدلاء محليين يتعرفون على الاتجاه بشم التراب، وملاحقة النجوم والاستنجاد بحدوسهم الفطرية.
-3-
إن روح النهضة وعصر الأنوار قد فعلت فعلها في نفوس الأوربيين وكان الشرق – المكان الآخر العجيب – يغوي أصحاب تلك الروح لأن يأتوا ويكتشفوا، لا فقط ما لم تسبر من أغوار الجغرافيا، بل لرفع الحجب عما خفي داخل فجوات التاريخ.
هناك، من جاء وهو يحلم أن يلتقي بشهرزاد التي تروض ملكاً مطعوناً في كرامته بالحكايات. وبالحريم بأثوابهن الزاهية وهن يسرين بالغناء والرقص عن سلاطين يقتلهم الضجر ،وبالسندباد الذي استراح أخيراً من عناء أسفاره المجيدة.. وهناك من ألفى ملاذه في غرابة الشرق و دفئه.. وهناك من أراد أن يفتح كوّة إلى روح الشرق الهائلة، الفسيحة، والمتمنعة.. وهناك من جعل عقله و حواسه في خدمة إستراتيجية ما للهيمنة على الشرق. ولكن ماذا وجد هؤلاء غير الليل العثماني الموحش الطويل؟.
وفي الأحوال كلها كانوا يأتون كما لو أنهم هاربون من صقيع وجودهم بحثاً عن الذات، أو اكتشاف ممكنات الذات، أو لاختبار صيرورة الذات في مكان غير مكانها، وقد حمّلوا بافتراضات وتصورات مسبقة واضعين إياها على المحك فكان عليهم أن يلووا أعناق الوقائع، ويكيفوا الحقائق لحظة تبلورها في الذهن لتتفق مع افتراضاتهم و تصوراتهم.. وكانوا يأتون بنزعة التفوق – التفوق في كل شيء – على الشرق.
إن المرور القاسي في ارض تشبه عالم الحلم حيث لا أثر يتخلف على الطريق، وحيث الأفق حضن مشرع لا يدرك.. هذا المرور يسمو بالذات، وقد يوهمها بأنها تطهرت واكتسبت حالة القداسة. فالرحالة، غالباً ما، يكتب كتاباً أو أكثر بعد أن يتقمص شخصية نبي أو بطل أو قديس، ومن زاوية كونه كائناً سامياً.
إن عقدة الشعور بالتفوق المطلق لا تقل في سلبيتها عن عقدة الشعور بالنقص.. وربما كانت الأولى تحويلاً معقداً مموهاً عن الثانية.. أي أن الرحالة ساعة اصطدام وعيه بواقع مغاير لا يستطيع أن يفهمه أو يستوعبه يقع في وهم تفوقه عليه ومن هنا ينتهي بطلاً مزيفاً أو قديساً مزيفاً.
-4-
اليوم، شيدت المدينة الشرقية الحديثة المشابهة للطراز الأوربي وعبدت الطرق، وأقيمت محطات سكك الحديد والمطارات في قلب الصحراء ولم تعد هناك حاجة للإدلاء.
أما مجاهل الشرق فقد أميط عنها اللثام، وتم ولوج العوالم الغريبة التي سلخت عنها أقنعة الغرابة.. هذه الحقيقة أسقطت مسوغات وجود الرحالة و القيام برحلات الاستكشاف. وهذا الغياب يؤشر أفول الرومانتيكية و ثقافتها المنتجة على مهل وطغيان الواقعية المبتذلة التي هي ثقافة السائح العابر على عجل.
حل محل الرحالة المغامر السائح الذي يجتاز آلاف الأميال خلال ساعات قليلة وينتقل من مدينة إلى أخرى بالطائرة أو الحافلة المكيفة أو القطارات السريعة.. ينام في فنادق لا تختلف كثيراً عن تلك الموجودة في المكان الذي قدم منه ويسير في أسواق تعرض فيها بضائع مستوردة من المكان الذي قدم منه، و يتعرف على بشر يتكلمون بإجادة لغته ويتناقشون في مسائل السياسة والاقتصاد والإعلام، والتي تتصل بتلك المطروحة في المكان الذي قدم منه.
إن السائح الباحث عن المتعة، والصحفي، مراسل وكالة أنباء أو صحيفة أجنبية – الباحث عن الجديد و الغريب و المثير - و الجاسوس، وكيل استخبارات غربية – الباحث عن الأسرار العسكرية و السياسية التي يمكن أن تخدم اتجاهات الإستراتيجية الموضوعة في مؤسسات الغرب، والتاجر الباحث عن الأسواق المضافة والربح المضاف.. كثر من هؤلاء يأتون اليوم كما كان أجدادهم يأتون بالإحساس المشبع بالغرور ذاته، وبالشعور بالتفوق ذاته، وتصيد البطولة بالطريقة ذاتها أو بطريقة أخرى.
فمذ صار الشرق أفق الحلم الرومانسي المهدد بالموت من قبل الشيطان الصناعي في لا وعي الغربي المتجه نحو الشرق.. هذه الافتراضات تحولت بمرور الزمن إلى عقبة أمام معرفة الشرق كما هو، لا كما حكمته تلك الافتراضات.
إن الإشكالية التي خلفتها تلك الكتب في العقل الغربي هي تعليق الشرق خارج التاريخ ومحاكمته بعيداً عن المنطق والشرط التاريخيين ليسوغ هذا الفراغ التاريخي فكرة تمثيله كونه عاجزاً عن تمثيل نفسه، ومن ثم إخضاعه. ذلك هو الوهم الكبير الذي لا تزال الإنسانية تدفع ثمنه الباهظ منذ حقب طويلة.
-5-
كيف يمكن تغيير رؤية الغربي للشرق؟. وقبل هذا كيف يمكن نسف ذلك الشرق الموهوم الذي صنعته مئات كتب الرحلات وطروحات المستشرقين في إطار الفكر الغربي؟. كيف يمكن تحطيم تلك الفاصلة الكاذبة التي عمل كثيرون في الغرب بنيات شتى لتأبيدها؟ تلك الفاصلة التي تبرر للغربي أن يطل من عل ليرى ذاته متفوقة وإلى الأبد، ويرى الآخر مختلفاً وواطئاً ومتخلفاً إلى الأبد.
وعلى تخوم قرن جديد و عالم جديد ، وفي ظل مفاهيم القرية الكونية و العالم الواحد كيف يستطيع هذا الذي حددت المؤسسة الغربية صنفه بأنه ((شرقي)) أن يخرج من ورطته التاريخية ويكون واثقاً من نفسه.. قوياً وفاعلاً مشاركاً في بناء حضارة المستقبل ومن دون أن تذوب شخصيته ويفقد هويته.. هويته لا بمعناها الجوهراني المنغلق الزائف، بل في كونها حقيقة متغيرة، متطورة، مفتوحة على العالم وأفق الوجود؟.
كيف له أن يختار سبيله بنفسه، ويقرر مصيره بنفسه؟. ذلك هو امتحانه، وتلك هي مهمته، وعليه أن لا يدع الفرصة تفلت من يده هذه المرة، فلعلها فرصته الأخيرة.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السيرة الذاتية: حضور الوثيقة ومناورات الذاكرة
- المثقف وخانق السياسة
- نصف حياة - نيبول - نموذج للرواية ما بعد الكولونيالية
- أدب ما بعد الكولونيالية: إتساع المفهوم وتحديدات السياق
- إخفاق المثقفين
- خطاب السلطة.. خطاب الثقافة
- الفاشية واللغة المغتصبة
- الفكر النهضوي العربي: الذات، العقل، الحرية
- اغتراب المثقفين
- في الثرثرة السياسية
- ماذا نفعل بإرث إدوارد سعيد؟
- أدب ما بعد الكولونيالية؛ الرؤية المختلفة والسرد المضاد
- الأغلبية والأقلية، والفهم القاصر
- قيامة الخوف: قراءة في رواية( الخائف والمخيف ) لزهير الجزائري
- الرواية والمدينة: إشكالية علاقة قلقة
- المجتمع الاستهلاكي.. انهيار مقولات الحداثة
- العولمة والإعلام.. ثقافة الاستهلاك.. استثمار الجسد وسلطة الص ...


المزيد.....




- قائد الجيش الأمريكي في أوروبا: مناورات -الناتو- موجهة عمليا ...
- أوكرانيا منطقة منزوعة السلاح.. مستشار سابق في البنتاغون يتوق ...
- الولايات المتحدة تنفي إصابة أي سفن جراء هجوم الحوثيين في خلي ...
- موقع عبري: سجن عسكري إسرائيلي أرسل صورا للقبة الحديدية ومواق ...
- الرئاسة الفلسطينية تحمل الإدارة الأمريكية مسؤولية أي اقتحام ...
- السفير الروسي لدى واشنطن: وعود كييف بعدم استخدام صواريخ ATAC ...
- بعد جولة على الكورنيش.. ملك مصر السابق فؤاد الثاني يزور مقهى ...
- كوريا الشمالية: العقوبات الأمريكية تحولت إلى حبل المشنقة حول ...
- واشنطن تطالب إسرائيل بـ-إجابات- بشأن -المقابر الجماعية- في غ ...
- البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - أدب الرحلات والشرق المفترض