أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - بين كاداريه وساراماغو: أضاليل التاريخ ومناورات الروائي















المزيد.....

بين كاداريه وساراماغو: أضاليل التاريخ ومناورات الروائي


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 1416 - 2005 / 12 / 31 - 07:12
المحور: الادب والفن
    


لا شيء مؤكد تماماً.. هذا ما تحاول الروايات الحديثة أن تقوله لنا. فهي تبدي الشك إزاء أشد المسلّمات وضوحاً ورسوخاً إذ تعمل على تجريد المسلّمات تلك، من دعائمها اللاموضوعية واللامعقولة.
وكل رواية من هذا القبيل تنطوي على رؤية متهكمة ذات قدرة على النفاذ عالية. وهي، في الغالب، تنطلق من سؤال غير بريء.. سؤال يفتح أفقاً لمتواليات من الأسئلة والأفكار. ومن ضمن هذا الإطار تجعل الرواية من التاريخ فريسة ـ التاريخ الممأسس والقار ـ ومثل هذه الروايات تثير حفيظة المؤرخين، وقد تكون هدفاً لاستهجانهم وتهجماتهم.
تمنح الرواية فرصة لرؤية، أو رؤى مغايرة.. أن نقول؛ إن الأمور لم تحصل هكذا.. إن هناك احتمالات أخرى.. أشياء غابت، أو غُيّبت، وجرى طمرها، أو السكوت عنها، أو تجاهلها.. أن تستجلي التاريخ الآخر المبرأ من أهواء السياسة والأيديولوجيا، والمنزوع عنه وشاح القداسة.
يتدخل الروائي مستغلاً ثغـرة منطقيـة، في التاريخ المكتوب، كما في رواية ( الوحش ) لإسماعيل كاداريه، ورواية ( تاريخ حصار لشبونة ) لخوسيه ساراماغو.. أو فسحة تحفز لعب التخييل كما في رواية ( الجنرال في متاهته ) لماركيز وخماسية ( مدن الملح ) لعبدالرحمن منيف.. أو وثيقة مهملة يمكنها أن تغيّر منظومة الأرشيف القديم كما في بعض روايات أمبرتو إيكو وصنع الله إبراهيم.
إذا كان ( ريموندو سيلفا ) الشخصية الرئيسة في رواية ( تاريخ حصار لشبونة ) يأخذ على عاتقه مهمة الكشف عن الملابسات الخفية لمعركة حدثت فعلياً في التاريخ، ويشكك بالسرد الرسمي والأكاديمي لوقائعها، فإن ( جنت ) شخصية رواية ( الوحش ) لكاداريه يتعرض لحدث شهير في التاريخ، هو معركة طروادة بين الإغريق والطرواديين، محاولاً دحض الحكاية المعروفة عن الحصان الخشبي الهائل الذي يعتقد أنه كان السبب في سقوط طروادة.
إن حصان طروادة بثقله الواقعي والرمزي يتعرض على يد كاداريه من خلال بطل روايته ( جنت ) إلى المساءلة والتشكيك حد عدّه وهماً، أو محض رمز، أو تأكيد أنه (( وجد من غير أن يوجد )) ص 40.
إن ( جنت ) عبر افتراضات منطقية عديدة يسعى لكشف خديعة المؤرخ القديم، وأضاليل التاريخ.. إن الحكاية التي تناقلتها الأجيال حجبت الحقيقة طوال قرون، وإن من روجوا لهذه الحكاية لابد أنهم كانوا يريدون إخفاء (( الحيل، الفظائع، الجرائم، المذابح... لا عن عيون عصرهم، بل عن عيون العصور القادمة )). ص 52.
في كلتا الروايتين ( تاريخ حصار لشبونة ) لساراماغو و ( الوحش ) لكاداريه يحاول الروائيان إقامة نوع من التناظر، أو المعادل الموضوعي بين حدث تاريخي قديم، وآخر معاصر.
تبدأ رواية ( الوحش ) بظهور شاحنة ضخمة مهجورة في ضواحي المدينة.. ينتاب الشك بعض الأشخاص حيالها من أنها قد تكون مخبأ لأناس مدفوعين بحوافز تخريبية.. هذه الشاحنة تلوح في الأيام الصافية مثل حصان يكون كناية لحصان طروادة. وكاداريه في بنائه الروائي يستثمر خياله من أجل بث دلالة سياسية وهو في ذلك يبني رواية أقل تعقيداً من رواية ( تاريخ حصار لشبونة ) أو ( الإنجيل يرويه المسيح ) لساراماغو.. إن راويه الأول كلي العلم الذي يتحدث بضمير الغائب ( هو ) يؤمِّن الحفاظ على إيقاع واحد للرواية، على الرغم من انتقاله من اللحظة الحاضرة إلى أعماق التاريخ. أما ( جنت ) شخصية الرواية فإنه يبقى على مسافة من الحدث التاريخي، ويبقى القارئ معه على المسافة ذاتها، وكلاهما يطلان على الحدث من بعد زماني ومكاني. ولذا لا تتدخل أصوات الرواة، ولا تحصل انتقالات مفاجئة في مستويات السرد، وأشكاله في هذه الرواية. أما رواية ( الإنجيل يرويه المسيح ) لساراماغو فتتكئ على الهيكل العام لقصة المسيح، كما هي موجودة في الأناجيل المعتمدة تاريخياً، وتفارقها في الوقت نفسه.
يتجنب الروائي في هذه الرواية إدخال علامة الشارحة، أو كلمة ( قال ) إلاّ في النادر، أو غيرها، في سياق الحوار، فيختلط إذ ذاك أصوات الشخصيات بصوت الراوي، وعلى القارئ أن يكون متنبهاً كفاية من أجل أن يميز صوت يسوع، عن صوت الله، عن صوت الشيطان، عن صوت مريم الأم، عن صوت مريم المجدلية، عن أصوات بقية الشخصيات، عن صوت الراوي كلي العلم الذي يحكي لنا قصة يسوع المسيح من سنوات تسبق ولادته وحتى صلبه. مقترحاً علينا إنجيلاً جديداً يفترض من خلال العنوان أن يسوع نفسه يحكيه وليس أي من حوارييه.. أي أن صوت الراوي، ربما كان صوت المسيح عينه. وتبقى إشكالية؛ متى وكيف تسنى ليسوع أن يجلس في مقعد السارد ليسرد لنا قصته، إذ كيف لهذا الإنجيل أن يرويه المسيح إذا كان قد صُلب وغادر الحياة الدنيا؟ أم أن ذلك معجزة أخرى من معجزاته التي يحاول الروائي أن لا يُخرجها، في الغالب، من حدود قوانين الفيزياء الفاعلة في عالمنا المادي.. إننا، هاهنا، إزاء كائن أرضي، على الرغم من سعي السرد لإضفاء ما هو فوق فيزيقي على لحظات وجوده. فيسوع، في هذه الرواية، يقوم بالوظائف البيولوجية كافة التي تتطلبها وتؤديها الأجسام البشرية.
في رواية ( تاريخ حصار لشبونة ) لساراماغو يُشعرنا الراوي الأول الذي هو صوت الروائـي بوجوده.. إنه يتخفى طويلاً خلف أكثـر من قناع، ولاسيما قناع ( ريموندو سيلفا ) ليظهر لنا مكشوفاً ومباشراً (( كانت الأدلة التي طرحتها الأحداث التي تشكل، حتى الآن، جوهر هذه القصة، قد أقنعت ريموندو سيلفا بأنه لا جدوى من فرض وجهة نظره الخاصة.. . )) ص 297.
يلعب معنا ساراماغو لعبة سردية، هي بسيطة ومعقدة في الوقت نفسه. فهناك راوٍ أول، ليس كلي العلم تماماً، يخبرنا عن ( ريموندو سيلفا ) و ( ماريا سارا ). وهو ( ريموندو سيلفا ) الذي يخبرنا عن مقترحه المتخيل لحصار لشبونة، قبل أكثر من سبعة قرون. وإذا كان ( ريموندو ) لا يخفي أنه بصدد كتابة عن تاريخ.. تاريخ واقعة حقيقية يتخيل تفاصيلها من دون أن ينتابه الشك إزاء ذلك، فإننا، في الوقت نفسه، أمام الراوي الآخر/ الأول الذي يأخذ على عاتقه مهمة تصوير ما يجري مع ( ريموندو ) ومع الملك ( الفونصو الأول )، وهو يقود جيشـاً غاليـاً ( من بلاد الغال )، لاستعادة لشبونة من المغاربة الذين فتحوها منذ أكثر من ثلاثة قرون.. فالراوي، الذي هو صوت الروائي ( ساراماغو )، في داخل نسيج الرواية، ينقلنا عبر الأمكنة، في الآن ذاته، في نسق متوازٍ.
( وبينما تتمدد في فراشها لاتزال، راحت تعيد سماعة الهاتف إلى موضعها ببطء محسوس، وفي اللحظة نفسها، كان ريموندو يفعل الشيء نفسه من مكانه )) ص 280.
وينقلنا الراوي ذاك عبر الأزمنة أيضاً، في نسق متداخل هذه المرة.
(( في ظهيرة اليوم التالي بينما يؤدي المغاربة صلاة الظهر { فليحمنا الرب جميعاً، إذ نحارب باسمه المقدس }. ولابد أن ريموندو سيلفا قد همس بدعاء مماثل، نطق به بضمير المخاطب المفرد وهو يشرع في إدارة قرص الهاتف، بالرقم الذي سيرسم مصيره )). ص 270.
إن ما يحصل هو كتابة كتاب داخل الكتاب.. رواية في طور الكتابة، في إطار رواية مكتوبة. والأولى هي محاولة في كتابة تاريخ بتقنيات الجنس الروائي، وهذا يتطلب اختلاق شخصيات لإضفاء طابع الإقناع الفني على العمل الذي هو قيد الإنشاء وإعطائه مسحة من الإثارة والتشويق..
(( تساءلت:
ـ من أورونا هذه، ومن موجيم؟.
كان اسمها مدوناً هناك، كما نعرف، ومذيلاً ببعض التفاصيل القليلة.. تقدم ريموندو خطوتين قصيرتين باتجاه المائدة، ثم توقف.
ـ لا أعرف حتى الآن.
قال ذلك ثم صمت مرة أخرى، على أية حال، لابد وأنه خمّن أن ماريا سارا سوف تستفسر عن هاتين الشخصيتين ابتداءً { من هذين، هذه وذاك؟ }. باختصار { من نحن؟. }. )). ص 310.
ومثلما نعرف من الرواية فالنتيجة ليست هي المهمة، بل كيفية الوصول إليها، وهذه مزيّة لريموندو ـ مصحح البروفات، والكاتب فيما بعد ـ.
(( ولكن هناك بعض الناس، الحالمين تحديداً، يفضلون الشك على اليقين، يهتمون بالأثر المفضي إلى الشيء أكثر من اهتمامهم بالشيء نفسه، بآثار الأقدام فوق الرمل، لا بالحيوان الذي تركها خلفه.
ـ أنت بالطبع واحد من هؤلاء. )). ص 314.
وساراماغو أيضاً واحد من هؤلاء. وفي روايته ( الإنجيل يرويه المسيح ) يتبع الطريقة عينها.. يشك ويهتم بالأثر المتروك على الرمل، ويتحرى ويتعقب، ليترك لنا النتيجة، ندركها، أو لا ندركها.. نقتنع بها، أو لا نقتنع.. نؤمن بها، أو لا نؤمن. فهو يلمّح لنا، في أكثر من مكان، بأنه لا يمتلك الوثائق كلها. وأنه إزاء فراغات. وأن معينه في الأمر هو التخييل ليس إلاّ. ليحقق قفزته الضرورية؛ من قارئ البروفات إلى الفنان.. من المؤرخ إلى الروائي.

المصادر:
1 ـ ( الوحش ) رواية ـ إسماعيل كاداريه ـ ترجمة؛ د. عفيف دمشقية.. دار الآداب ـ بيروت.. ط1/ 1992.
2 ـ ( الإنجيل يرويه المسيح ) رواية ـ خوسيه ساراماغو ـ ترجمة؛ سهيل نجم.. دار الكنوز الأدبية ـ بيروت.. ط1/ 2000.
3 ـ ( تاريخ حصار لشبونة ) رواية ـ خوسيه ساراماغو ـ ترجمة؛ سيد عبدالخالق.. دار العصور الجديدة ـ القاهرة.. ط1/ 2000.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في الذكرى المئوية لولادة سارتر
- المجتمع الاستهلاكي: الأسطورة وصناعة الزائف
- الحوار المتمدن في أفقنا المعرفي
- الإعلام والعولمة: كيف يحولنا الإعلام؟
- حوارمع سعد جاسم أجراه بلاسم الضاحي
- هيرمان الساحر
- أدب الرحلات والشرق المفترض
- السيرة الذاتية: حضور الوثيقة ومناورات الذاكرة
- المثقف وخانق السياسة
- نصف حياة - نيبول - نموذج للرواية ما بعد الكولونيالية
- أدب ما بعد الكولونيالية: إتساع المفهوم وتحديدات السياق
- إخفاق المثقفين
- خطاب السلطة.. خطاب الثقافة
- الفاشية واللغة المغتصبة
- الفكر النهضوي العربي: الذات، العقل، الحرية
- اغتراب المثقفين
- في الثرثرة السياسية
- ماذا نفعل بإرث إدوارد سعيد؟
- أدب ما بعد الكولونيالية؛ الرؤية المختلفة والسرد المضاد
- الأغلبية والأقلية، والفهم القاصر


المزيد.....




- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - بين كاداريه وساراماغو: أضاليل التاريخ ومناورات الروائي