أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - في الذكرى المئوية لولادة سارتر















المزيد.....



في الذكرى المئوية لولادة سارتر


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 1410 - 2005 / 12 / 25 - 11:40
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


1ـ مع سارتر.. ضد سارتر

كان في الثانية من عمره حين توفي والده ـ المهندس البحري ـ في الهند الصينية. سيقول فيما بعد؛ ( حسناً فعل بموته المبكر، وإلا كان كتم على أنفاسي وحطمني ).. ولما تزوجت أمه، ويومها كان في الحادية عشرة، كفله جده. وبعد تخرجه من مدرسة المعلمين العليا اشتغل مدرساً للفلسفة وتم استدعاءه للتجنيد عشية الحرب العالمية الثانية فوقع في أسر الألمان غير أنه هرب من معسكر الاعتقال عائداً إلى باريس بعد توقيع اتفاقية استسلام فرنسا لألمانيا. وفي هذه الآونة انضم إلى المقاومة السرية ونشر كتباً عديدة أشهرها رواية "الغثيان" ومسرحية " الذباب" والكتاب الفلسفي "الوجود والعدم". وفي أعقاب الحرب أصدر مجلة "الأزمنة الحديثة" كما أصدر صحيفة "اليسار" نصف الشهرية، وتحوّل مع زميلته ( سيمون دي بوفوار ) إلى ظاهرة ثقافية وسياسية تعدى تأثيرها حدود فرنسا إلى ما ورائها. وكانت لمواقفهما الشجاعة والصريحة من المسائل الحيوية المعاصرة صداها العالمي ولا سيما فيما يتعلق بقضية الجزائر، وقضية المجر وربيع براغ. وفي أثناء ثورة الطلاب 1968في فرنسا كان محرِّضاً وقائداً، وقد جرى اعتقاله فتدخل ديغول لإطلاق سراحه هاتفاً بجملته الشهيرة ( كيف يمكنكم اعتقال فرنسا؟! ). وكان من أبرز من أثر فيه هيجل وماركس وهوسرل وهيدجر. ولاسيما ماركس والماركسية.. يقول؛ ( إن كتاباً ماركسياً جيداً واحداً هو فرصة، لكل واحد منا، كيما ينجح في كتابه القادم ).
استطاع جان بول سارتر إنزال الفلسفة من برجه العاجي إلى الشارع. وبدا أن قطاعاً واسعاً من الشباب المتمرد والرافض لقيم المجتمع البورجوازي قد وجد فيه، وفي فلسفته، على الرغم من أنها لم تكن مبسطة، ويكتنفها شيء من الغموض، ملاذاً. لا في فرنسا وحدها وإنما خارجها أيضاً وربما كان مرد ذلك إلى أن تلك الفلسفة كانت لصيقة إلى حد بعيد بالحياة والذات الإنسانية، وبقيم الحرية والمسؤولية والالتزام الأخلاقي. وسواء أراد أو لم يرد فإنه عومل كما لو كان نبياً أو قديساً من قبل مجموعات من الشباب الغارق في اليأس والباحث عن أفق للأمل والخلاص، فهل شكل سارتر، أيضاً، أساساً لواحد من أوهام القرن التي تساقطت تباعاً؟.
إن مآسي الحربين العالميتين، ومناخ اليأس والعدمية ساعدت على انتشار الوجودية في أوربا ولا سيما في فرنسا وألمانيا وإنكلترا والنمسا، وكذلك في أميركا حتى وصل بتأثيرها إلى بعض عواصم العالم الثالث ومنها بلداننا العربية. وقد تصوّر كثر من المراهقين الوجودية، كما طرحها سارتر، على أنها الإباحية والفوضى الأخلاقية والتحلل من القيم والأعراف واللامبالاة. وغالباً ما أخذ هؤلاء من الوجودية كما فهموها جانبها السلبي الذي ينقض ما هو واقع أو موروث أو متعارف عليه من دون بدائل بناءة مثل تلك التي حلم بها سارتر نفسه.. وعلى وفق هذا صارت الوجودية موضة ذلك العصر.
يقول كليمان روسيه/ وهو من أبرز مناوئي سارتر: ( بصراحة، لم أفهم أبداً لماذا وكيف اتخذت الوجودية المنطلقة من "الغثيان" لسارتــــــــر بسرعة مصيراً مبدئياً وسياسياً جعل من سارتـر بوقت قصيـــــــــر رجلاً مشهوراً يعرفــه الجميـــــــــــع إمـا للاحتفاء به أو لشجبه، مناضلاً يملك الحقيقـــــة ولا يشك في شيء، مصدراً لدروس اجتمعت فيها السيئات والهفوات، قاضياً لم يسلم منه الكثيرون " فكل عدو للشيوعية هـــــو كلب"، مع تبنيه القضايا الأكثر شكاً إن لم تكن الأكثر إجراماً ).
إن سارتر جزء هام من ذاكرة الثقافة العالمية في القرن العشرين، ولعله أكثر مفكري ذلك القرن إثارة للجدل، فقد وجد لـه مريدين كثراً فبيعت من روايته "الغثيان" في سبيل المثال، أكثر من ستة ملايين نسخة، لكنه بالمقابل واجه خصوماً لدودين سواء في داخل فرنسا أو خارجها.. كان هناك الشباب المتمرد والغاضب الذي يرتاد مقاهي باريس، وهؤلاء في الغالب لم يكونوا قد قرأوه جيداً، أو فهموا اللغز العميق لفلسفته لكنهم كانوا مسحورين به وبرفيقته دي بوفوار. وهناك قراء مجلة "الأزمنة الحديثة" الذين حاولوا اقتفاء أثر أفكاره التي حلم هو ـ سارتر ـ بمأسستها من خلال حزب يساري، غير شيوعي، ولم يفلح. وكان ديدنه وضع برنامج للإصلاح الاجتماعي يدمج بوساطته البروليتاريا الفرنسية بالهيكل السياسي الوطني خارج إطار الحزب الشيوعي الفرنسي فأسس التجمع الثوري الديمقراطي ولم يحقق هذا التجمع أهدافه، وإذ ذاك حاول التصالح مع الحزب الشيوعي بعد أن اقتنع بأن ذلك الحزب هو القادر الوحيد على تمثيل البروليتاريا وتحقيق الفعل الاجتماعي، وهنا حاول التأثير في سياسة هذا الحزب، ورأى أن العداء للشيوعية سيكون مناسبة لخدمة عناصر اليمين في فرنسا. وعند هذه النقطة حصلت القطيعة بينه وبين صديقه ألبير كامو الذي رأى الخطر المميت في أي شكل من أشكال التواطؤ مع الشيوعية.. يقول جرمين بري في كتابه عن ألبير كامو؛ ( كلا الرجلين كان مخلصاً. فلا سارتر ولا كامو كان يضمر في نفسه مطامح شخصية، وكلاهما معني بالمشكلات نفسها عن إخلاص. بيد أن بينهما خلافاً فكرياً أساسياً، فسارتر مع رفضه لأسس الماركسية الفلسفية، يقبل التأويل الماركسي للجبرية التاريخية، وكامو يرفضها )).
كان سارتر مرفوضاً من قبل اليمين الفرنسي الذي حملت جماهيره لافتة في إحدى تظاهرات العام 1960 المنددة بفكرة استقلال الجزائر وتحريره من الاستعمار الفرنسي.. كانت تلك اللافتة تقول بصريح العبارة ( أطلقوا النار على سارتر ). ورأى فيه الحزب الشيوعي الفرنسي بورجوازياً متشائماً فوضوياً مثالي الفكر يثبط عزيمة الطبقة العاملة. فيما حاربه المتشددون الدينيون بدعوى كونه ملحداً وداعية يحث على التحلل الأخلاقي. وفي معظم الأحوال كان ثمة سوء فهم مؤسف من قبل كثر ممن ذكرناهم ـ من معه ومن ضده ـ لأفكاره ومواقفه.
في الجزء الأول المعنون ( الأدب الملتزم ) من سلسلة "مواقف" التي احتوت على مقالاته المنشورة، في دوريات مختلفة تبحث في شؤون الفكر والسياسة والمجتمع، يعدد سارتر بعضاً من الانتقادات والاتهامات الموجهة إليه من قبل أشخاص ينتمون إلى اتجاهات متنافرة ( كتب شاب سخيف: إذا كنت تريد أن تلتزم، فماذا تنتظر لكي تنتسب إلى الحزب الشيوعي؟. وقال لي كاتب كبير، ملتزم حيناً وغير ملتزم أحياناً، لكنه نسي ذلك: إن أسوأ الفنانين هم أكثرهم التزاماً، انظر إلى الرسامين السوفيات. وتشكى ناقد هرم بهدوء: أنت تريد أن تغتال الأدب. إن احتقار الآداب الجميلة واضح إلى حد وقح في مجلتك. ويصفني ذو عقل صغير بذي الرأس العنيد، ومن الواضح أن هذا أسوأ شتيمة في رأيه. ويأخذ عليّ مؤلف وجد صعوبة في جر نفسه من حرب إلى أخرى، اسمه يوقظ أحياناً ذكريات ذابلة لدى الشيوخ، إنني لا أهتم بالخلود، إذ هو يعرف، شكراً لله، عدداً من الناس الشرفاء، الخلود أملهم الرئيسي، ويرى صحفي أميركي أن خطيئتي هي أنني لم أقرأ قط برغسون أو فرويد، أما بالنسبة إلى فلوبير، الذي لم يلتزم مطلقاً، فيبدو أنه متسلط عليّ كما يتسلط على الإنسان تأنيب الضمير ).
لا أحد اقرب إلى سارتر من سيمون دي بوفوار ولقد عاشا معاً مذ تعرف عليها في فترة تلمذته في العام 1929، وكتبت عنه مراراً إبان حياتهما المشتركة، وبعد موته أصدرت كتابها "وداعاً سارتر"، عدّه النقاد بمثابة تصفية حساب معه، وقالت مدافعة عن نفسها بهذا الصدد: ( أحسست كما لو أن هناك من يريد دفني حية إلى جانب سارتر )، وفي مقبرة مونبارناس إذ أحرقت جثة سارتر بناءً على وصيته وقفت تنظر إلى الرماد المتبقي بألم وذهول، وقالت جملتها التي لا تنسى للممثلة الفرنسية " سيمون سينوريه" التي كانت تصاحبها: ( لقد دخل سارتر العالم الواسع حيث سبقه من قبل بودلير.. رامبو.. ماركس.. نيتشة.. هيغل، إلى آخر الراحلين ). وعن تعقد العلاقة بينها وبين سارتر تقول: ( الحقيقة أنني كنت منفصلة عن سارتر بالقدر الذي كنت التحم فيه مع هذه الشخصية.. كانت علاقتنا جدلية. أحياناً كنت أشعر أنني على مسافة لا معقولة منه، وفي أحيان أخرى كنت أشعر كأنني النصف الذي يكمل النصف الآخر. أخذت منه وأخذ مني، وبالتأكيد لم أكن تابعة لـه ).
أُتهم سارتر بأنه جعل من نفسه ( السيد الصحيح ) ليحكم على الآخرين الذين يختلفون معه في الرأي بالخطأ والضلال. ولكن؛ أليس هذا هو ما يفعله الجميع على وجه التحديد؟. أليس المفكرون والفلاسفة، بشكل عام، يعتقدون أن ما يطرحونه من أفكار ومفاهيم وقناعات هي الصواب؟.
اتسم أسلوب سارتر بالفظاظة والسخرية.. كان متعجرفاً في مواجهة خصومه.. لا يجامل أحداً. وقادته صراحته الجارحة إلى خضم من معارك لا تنتهي مع قوى وأحزاب وتيارات وأشخاص. فهو لم يكن ليواري كراهيته وقرفه وحقده واستعلاءه ـ حيثما تطلب الموقف إذا ما اقتنع ـ الكراهية والقرف والحقد والاستعلاء. ومفكر مثل سارتر يصدم قناعات المفكرين التقليديين، ناهيك عن الناس الاعتياديين ويسعى إلى تسفيه قيمهم التي تعارفوا عليها طويلاً لا بد أن يلقى معارضة واسعة ويصنع لنفسه عداوات، هو المثقف الذي عرّف المثقف بالشخص الذي يدس أنفه فيما لا يعنيه. وحفلت أعداد مجلته "الأزمنة الحديثة" بافتتاحيات ومقالات، كانت معظمها فصولاً من المعارك الأدبية والفكرية ضد الأقربين والأبعدين،وتلك كانت سمة حيوية المناخ الفكري والثقافي الفرنسي خلال أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن المنصرم. ومن عشرات النماذج يمكن أن نأخذ نموذجاً واحداً عن أسلوب سارتر الفظ في الرد على مناوئيه.. يكتب في مقال "رد على بيير نافيل": ( مقال نافيل صفر. لكنه صفر سامّ. لذا فقد رأيت أنني أحسن صنعاً إذا تكلمت عنه. لقد تعودت على الاعتداءات المسلحة: إنني أُقتل، تسرق مني صرة نقودي وشرفي، ثم يتوارى الفاعل. لكنني أُبعث حياً، والرصاصة أو السكين لم تترك فيّ أثراً. منذ بضعة أسابيع أعلنت "دومان" بعناوين كبيرة:"سارتر خان". وقد أجبت؛ ان روسيه ليس من الناس الذين يرد عليهم، وأحرى بنا أن نتركه يكسب معيشته كيفما يستطيع ).
وسارتر من المفكرين القلائل، عبر التاريخ الذين استدرجوا شرائح واسعة من البشر لينغمسوا في النقاش الفلسفي، وينشغلوا بالقضايا الكبرى لعصرهم عبر رؤية متعمقة وناقدة. وكان مثالاً حياً لذلك المثقف الملتزم بمواقف إزاء المستجدات السياسية والاجتماعية والثقافية. وكانت الحرية أس فلسفته الوجودية وشغله الشاغل. ولذا صار في مواجهة محتدمة مع الفاشية والنازية والنظريات الكليانية بما فيها الشيوعية، على الرغم من عدّه الماركسية فلسفة العصر التي لا تضاهى.
ربما لم يكن بمستطاع سارتر أن يتنبأ بما سيكون عليه العالم بعد ربع قرن من وفاته ـ توفي في العام 1980 ـ فهو ما كان عرافاً ولم يدّع أنه يعرف ما سيحصل في أعماق المستقبل، لكن ثمة إشارات هنا وهناك في مؤلفاته تشف عن رؤية ثاقبة وقراءة ناقدة لا تغفل اتجاهات حركة البشر، واحتمالات نتائج تفاعلات القوى المتصارعة في الساحة السياسية والاجتماعية.. كتب في العام 1947 يقول؛ (( إن الشيوعيين لم يكونوا قط أقوياء كما هم اليوم في أوروبا، ومع ذلك لم تكن فرص الثورة ضئيلة قط كما هي اليوم )). وفي السنة ذاتها في المقال عينه يقول؛ (( هناك دولتان عالميتان، ليست أي منهما بورجوازية، وليست أي منهما أوروبية، تتنازعان على امتلاك العالم. وانتصار إحداهما معناه تسلط الدولة البيروقراطية الأممية. وانتصار الأخرى معناه قيام عهد الرأسمالية المجردة )).
يتجلى قلق سارتر في توسيع أفق الذات الإنسانية وإخراجها من محدوديتها، وهنا نتلمس المغزى العميق لمقولته الشهيرة (( الجحيم هي الآخرون )) بحسب تأويل سيمون دي بوفوار، أو على وفق عبارتها: ( توسيع مساحة الفرد الذي يعيش داخل الحصار ). وها هو كولن ولسن يجد أن البحث في أسس سارتر الفكرية يقودنا إلى اكتشاف أن جميع مؤلفاته ما هي إلاّ احتجاج ضد محدودية الإدراك البشري.. يقول ولسن؛ (( حين يتساءل روكانتان ـ بطل رواية الغثيان ـ " لماذا أنا هنا" فإنه يسأل أيضاً: لماذا يكون إدراكه محدوداً بحيث أنه لا يستطيع أن يجيب على ذلك السؤال ). أراد سارتر فتح مساحات إضافية للوعي البشري كي يرى لنفسه نطاق حرية أرحب، وكان يشمئز من الجمود العقائدي الذي يحبس الوعي ويحدد الممكنات الإنسانية.
تروي سيمون دي بوفوار مشهداً من واقعة زيارة لـه للاتحاد السوفيتي السابق، وكذلك يرويه هو في الجزء السادس من "مواقف" والمعنون بـ "شبح ستالين" إذ سأل أحد الكتّاب السوفيت المحتفين به عن كافكا، ولماذا لا يترجمونه فقال لـه هذا؛ ليس لنا علاقة به بعد أن تبناه المثقفون البورجوازيون، وشوهه نقد الغرب حتى صار يبدو وكأنه عدو لنا. فرد سارتر؛ ( عليكم استعادته منهم، فالمناهج النقدية الماركسية تذهب في التفسير إلى أبعد مما تذهب إليه مناهج النقاد الغربيين ). وهذا يشبه موقف لينين بعد ثورة أكتوبر حين كان يستقبل عدداً من الأدباء الشباب فسألهم فيما إذا كانوا يقرؤون بوشكين. فقالوا لـه: لا يا رفيق، بوشكين بورجوازي، نحن نقرأ لشاعر الثورة مايكوفسكي. فابتسم لينين ساخراً وقال: أما أنا فأفضل بوشكين.
واليوم ماذا تبقى من سارتر؟. وماذا تخلفت من الوجودية باتجاهاتها كافة في أفكار ورؤى المعاصرين؟. هل من حقنا القول إن فلسفة سارتر مضت معه، كما قال ميشيل فوكو، وأننا لسنا مدينين بشيء لذلك المفكر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في مرحلة حرجة من تاريخ العالم الحديث؟.
يقال أن سارتر في أواخر أيامه كان يشعر أنه وصل إلى طريق مسدود، فيما اعترفت سيمون دي بوفوار بأنها ( كانت مغشوشة ) فأثارت حفيظة الزعيمات والناشطات في حركات تحرير المرأة التي استلهمت مبادئها من كتابها "الجنس الآخر".
والآن؛ هل يمكن العودة إلى سارتر واستعادة فلسفته؟. ما الذي نجنيه من هذه العودة وتلك الاستعادة؟. هل من ضرورة في أن تقرأ الأجيال اللاحقة لجيل سارتر مؤلفات سارتر؟.
سارتر هو الفيلسوف الأخير.. هذا ما قاله فوكو ـ المفكر الفرنسي ـ صاحب "الكلمات والأشياء" و"المراقبة والعقاب" و"أركيولوجيا المعرفة" وغيرها من الكتب، وقال؛ إن فكر سارتر والوجودية آخذان في التحول إلى أشياء متحفية.
ولكن الوجودية، وفي ضمنها فلسفة سارتر هي جزء من تراث فكر الغرب والإنسانية، وأنه لا يمكن أن يجري الحديث عن ثقافة القرن العشرين وأن تهمل الوجودية وأن يهمل فكر سارتر. كما أن سارتر بمنهجه النقدي يعد حلقة في تلك السلسلة العظيمة التي بدأت مع ديكارت وكانط وهيجل وماركس، ولم تنته، لا شك، مع فوكو وهابرماس وإدوارد سعيد وجاك ديريدا وغيرهم، إذ يعيد العقل، ليس الغربي فحسب، النظر بمقولاته ويراجع مسلماته ويجدد رؤيته إلى الإنسان والزمان والعالم. فسارتر كالآخرين خرج من تحت معطف العقلانية الأوروبية، وقيم وتقاليد وأفكار عصر الأنوار الأوروبي‘ فهو سليل أولئك المفكرين الأفذاذ الذين دافعوا عن فكرة الحرية واستقلال الذات الإنسانية، وسلطة العقل، وقيم العدالة والمساواة.

2ـ استعادة سارتر

ليس من السهل تلخيص أفكار سارتر في بضع صفحات، هو الذي جال في ميادين عديدة، وتناول قضايا عصره في مئات المقالات، حتى أنه كان يكتب في حدود العشرين صفحة مطبوعة في اليوم الواحد. لكن من الممكن الإشارة إلى نتف من أفكاره وفلسفته التي وزعها لا في مقالاته وكتبه الفكرية والفلسفية وحدها، وإنما في رواياته وقصصه ومسرحياته. وقد وجد هناك من ينكر أن يكون سارتر فيلسوفاً كما هو شأن كانط وهيجل وهوسرل. فقالوا؛ إنه أديب مهتم بالفلسفة، ويضمِّن نصوصه أفكاراً فلسفية، أكثر من كونه فيلسوفاً يكتب النص الأدبي بين الحين والحين. غير أن فوكو ينعته بالفيلسوف الأخير الذي لمّا مات مضت معه فلسفته. وكما هو شأن معظم الوجوديين فإن سارتر وسيمون دي بوفوار لم يختارا هذه التسمية ـ الوجودية ـ كما تذكر دي بوفوار حين سُألت عمن أطلق كلمة الوجودية على فلسفتهما، فقالت: ( ليس سارتر على كل حال. الكلمة غبية لكنها التصقت بنا ووافقنا عليها، وبعد ذلك فإن دور الأزياء الثقافية الباريسية كفيلة بكل شيء ). وعمّا قيل عن موت الفلسفة بموت سارتر، تحدد دي بوفوار رؤيتها ورفيقها إلى الفلسفة فتقول: ( لم يكن سارتر يعتقد بالفلسفات الجامدة. فالفلسفة هي نوع من الجدل مع العالم، وعندما يتغير العالم يجب أن تتغير الفلسفة، والعكس بالعكس.. لا أعتقد أن الفلسفة ماتت بموت سارتر.. إن الفلسفة الغربية في أزمة، فثمة قلق داخل اللغة وخارجها، وببساطة أننا نشعر كما لو كنا داخل مكوك فضائي ضاع في الفضاء ).
يشير س. م. البيرس إلى أن ( الوحدة الإنسانية، والحرية الإنسانية، والمسؤولية الإنسانية، كل ذلك مدروساً في نظام منهجي على غاية الدقة، والرغبة في حبس الإنسان في الإنسان، وإخضاعه لمسؤولية مستقلة تمام الاستقلال. هذه هي على ما يبدو، المواقف الأساسية لتفكير جان بول سارتر ).
وعلى الرغم من أن هذه النزعات لم تكن طارئة على الفكر الإنساني فإن سارتر أعطاها إطارها المنهجي وعمقها وترسيمتها الفلسفية المتوافقة مع الوضع البشري بين الحربين وما بعدهما مثلما تلمّسه ورآه وخبره هو ـ سارتر ـ وجيله.. يقول البيرس: ( إن سارتر يمكن أن يعتبر الكاتب الذي نقل إلى الحقل الفلسفي القضية الرئيسة للقدر الإنساني كما يواجهها عصرنا، بأن ردها إلى أوضح عناصر وأجفها. وإن ما هو لدى معاصريه نقاش وقضية مفتوحة وغنائية متحمسة، وبحث قلق ولكنه ممزوج بالتخيل، وميثولوجية غالباً، وشعر أحياناً، كل ذلك أخضعه هو لمنهج بعينه ولموضوعات هذا المنهج ).
مع الفلسفة الوجودية نعرف أننا موجودون من دون اختيارنا، وموجودون من دون أن يكون هناك مسوغ لهذا الوجود، وهذا ما يضعنا أمام المسؤولية التي تكتسب طابعاً أخلاقياً والتي نحسها في دخيلتنا إزاء هذا الوجود.. يقول روكانتان في رواية "الغثيان" ( إن فكري هو أنا: من هذا لا أستطيع أن أقف. إنني موجود لأنني أفكر. ولا أستطيع الامتناع عن التفكير. وفي هذه اللحظة، يا للفظاعة، إذا كنت موجوداً، فلأنني أذعر من أن أوجد. أنا، هي التي تجذبني من العدم الذي أنشده ).
كان سارتر يشمئز من أولئك الذين يعيشون حياتهم مطمئنين واثقين من أنفسهم والذين يعتقدون أنهم مسوغون ـ مبررون ـ فيهربون من مسؤوليتهم، وبحسب سارتر فإن حياة الوعي والشعور هي الواقع الوحيد الذي جربه الإنسان، وهو وعي يولد موجهاً إلى كائن ليس هو إياه، والوعي بحاجة إلى ذلك الكائن ـ الأشياء ـ من أجل أن يوجد، على عكس الكائن ـ الأشياء ـ الذي ليس بحاجة إلى شيء لكي يوجد. فهو موجود في ذاته، بينما الإنسان بوساطة وعيه موجود لأجل ذاته. فالإنسان وحده من شأنه، وفي مقدوره أن يختار، لذا فإن وجوده يكون لذاته. أما وجود الأشياء الأخرى فهي وجود في ذاته لأن ليس من شأنها وليس في مقدورها أن تختار.
يتدخل الوعي في عملية الاختيار، ومع الوعي يدرك الإنسان فداحة نقصه فيسعى لأجل تجاوز ذلك النقص فينشد الكمال لوجوده ليكون وجوداً في ذاته، وهذا ما يعد مستحيلاً بالمرة. فمعضلته يكمن في ذاته التي تهرب منه، وهو إذ يحاول اللحاق بها لتدارك النقص في وجوده عليه أن يختـــار، وهنا تبــــرز مسؤوليتــه إزاء ما يختار، ( والمسؤولية تدفع على العمل، والعمل هو الإنسان، والإنسان هو أفعاله، والإنسان يفعل ليستكمل النقص في الوجود، لأن الوجود الخارجي وجود في ذاته لا يعي وجوده، والإنسان يريده وجوداً لذاتــه يعي وجوده، ومحاولتــه غرور الغرور وعبث ).
إن الوجود يسبق الماهية، والإنسان من خلال أفعاله هو من يصنع ماهيته من دون موجِّهات قبلية.. إنه حر في أن يصوغ وجوده على وفق ما يلائمه. فالوجودية تعطي القيمة المركزية للإنسان الذي يتمتع بالإرادة والعقل الحر. وبحسب سارتر لا يمكن لحرية الإنسان أن تكون كلية، فالإنسان محدد بالوراثة وبالطبقة الاجتماعية والمولد والأمة. وهذا ما يشكل وضعه، وهو حر في هذا الوضع، وبالنسبة إليه. ولكي يكون حراً حقاً عليه أن يعترف بوضعه، وأن يختار بين أن يتقبل وضعه أو لا.. أن يغيره أو لا. والإنسان حر على وفق رؤية سارتر لأنه هو الذي يعطي للأشياء معنى. ونقطة انطلاقه الفلسفي هي أولوية الشعور والوعي. فمن خلالهما نواجه وقائع "الحرية والمسؤولية والتضامن" ونمنحها قيماً بأن ننظر إليها مواجهة، ومن خلال العمل ندخل التغييرات والتبديلات على معنى العالم. فالحرية تعد مزيفة إذا ما اقتصر الإنسان على تأمل العالم من دون المشاركة فيه. والحرية تتخذ معناها الصحيح في العمل، والإنسان ( الذي ليس هو شيئاً، والذي هو قريب هذا القرب من العدم، ومتعلق بالأشياء، والذي هو مع ذلك الحامل الوحيد للمعاني في العالم، إنما هو ـ مشروع ـ فليست قيمته في أن يعتبر نفسه قائماً ومثبتاً في الوجود، بل في أن يعطي لهذا الوجود معنى جديداً بمسؤولية لا عون لها ).
وكما يرى سارتر فإن على الإنسان أن يخلق قيمه، وأن يرفض القيم القبلية القائمة، فحياة الإنسان كما يعتقد ويريد مصنوعة من المستقبل، كما هي الأجسام مصنوعة من الفراغ، على حد تعبيره. فوضعنا في العالم يحد من حريتنا، وعلينا أن نقابله بمشروع. ويكون لا أخلاقياً ( أن يرفض الإنسان هذا الخلق المستمر، وأن يسترخي في قيم ماضية جامدة ). فليس هناك جوهر متجمد علينا أن نحترمه، وإنما هناك وجود جديد علينا أن نسوِّغه من دون انقطاع.. يقول البيرس: ( إن سارتر هو كاتب عصر ينفصل عن فكرة التقاليد، ليجعل من الحضارة تجدداً، لا حفظاً للقوانين ومراعاة. ومن الحياة مغامرة، لا نظاماً قائماً ).
أدرك سارتر طبيعة انتمائه البورجوازي، وما علمته إياه هذه الطبقة ( الحريات السياسية، والحصانة الفردية، وسلطة الذات، الخ ) لكنه كان يشعر بضرورة أن يكون إلى جانب البروليتاريا، يقول: ( نحن ما زلنا بورجوازيين بثقافتنا، بطريقتنا في الحياة، وبجمهورنا الحالي، لكن الموقف التاريخي يحثنا في الوقت نفسه على الانضمام إلى البروليتاريا لبناء مجتمع بلا طبقات ).
ها هنا يجد نفسه بين انتمائين. ولأن كل طبقة، كما يرى، تجهل أحد حدي التناقض { حرية التفكير، والحريات المادية } فعليه أن يعانـي هذا التطلب المزدوج ( إن هذا التطلب هو مشكلتنا الشخصية كما أنه مأساة عصرنا ) وهو لا يريد التخلي عن الحريات الشكلية كي ينكر أصله البورجوازي، ولا أن يترفع عن المطالب المادية كي يكتب بضمير مطمئن، يقول؛ ( علينا أن نتجاوز التعارض في أنفسنا ومن أجل أنفسنا. ولنقنع أنفسنا أولاً بأنه قابل لأن يتجاوز.. إن الأدب يقدم لنا الدليل على ذلك من نفسه، لأنه عمل حرية كلية متوجهة إلى حريات مطلقة، ولأنه يظهر بالتالي على طريقته باعتباره نتاجاً حراً لنشاط خلاّق، كلية الشرط الإنساني).
هنا يتحدث سارتر عن اتخاذ موقف في الأدب، وعن الالتزام في الكتابة. وموضوع الأدب عنده دوماً هو الإنسان في العالم ( فلكي ننقذ الأدب، فلا بد أن نأخذ موقفنا ـ في أدبنا ـ لأن الأدب بماهيته هو اتخاذ لموقف ). وقد حاول على الدوام أن يجد نوعاً من التوافق أو التزاوج بين الوجودية والماركسية.. بين الاشتراكية وحرية الذات الإنسانية ( إن علينا أن نرفض في جميع الميادين الحلول التي لا تستوحي بعمق المبادئ الاشتراكية، لكن علينا في الوقت نفسه أن نبتعد عن جميع المذاهب وجميع الحركات التي تعتبر الاشتراكية غاية مطلقة.. إن الاشتراكية في نظرنا ينبغي أن تمثل الغاية الأخيرة، بل غاية البداية، أو إذا فضلنا الوسيلة الأخيرة قبل الغاية التي هي تمليك الشخص الإنساني لحريته ).
تعامل سارتر مع الماركسية باحترام فائق، لا بانقياد أعمى، واستثمر أدواته المنهجية في نقد الفكر الماركسي، ولم يكن هدفه تسفيه ذلك الفكر، وإنما تقويمه لأنه آمن بأن الماركسية هي نظرية الطبقة العاملة وفلسفتها في الفعل الثوري، كما هي فلسفة العصر. وفي كتابه الذائع الصيت " نقد الفكر الجدلي" حاول دحض فكرة ديالكتيك الطبيعة والحتمية التاريخية، وفكرة وجود قوانين موضوعية خارجية تسيّر التاريخ الإنساني، فاسحاً الفرصة للوعي والإرادة الإنسانيين في صنع التاريخ. وانتقد بشدة كل ما يتعلق بمصادرة الحرية الفردية داخل الإطار البيروقراطي للدولة الستالينية، والممارسات الاستبدادية لتلك الدولة في علاقتها مع مواطنيها، ومع الدول التي كانت يومها في ضمن المعسكر الاشتراكي، ولا سيما خلال أحداث المجر وبولونيا وربيع براغ.
لم تكن الوجودية في إطارها الفلسفي سياسية، ولم تكن لها أن تتلاءم مع الأنماط السياسية السائدة. وكذلك ليس بالإمكان عدّها إيديولوجيا. كما أن الفلاسفة الوجوديين لم يحاولوا على اختلاف مشاربهم وأهوائهم تأسيس إيديولوجيا، والترويج لها، على الرغم من اقتراب بعضهم قليلاً أو كثيراً من هذا المذهب والاتجاه أو ذاك ـ هيدجر من النازية، سارتر من الماركسية، في سبيل المثال ـ بيد أن الطابع السياسي للوضع البشري، وتأثير العامل السياسي في تحديد أقدار المجتمعات والأفراد جعل من الوجوديين على تماس مع السياسة، وتجلت وظيفتهم الكبرى في هذا المضمار بالنقد.. نقد المذاهب والإيديولوجيات والأفكار التي تحد من الحريات الإنسانية، وتفتح الذات الإنسانية الخلاّقة. ولعل سارتر هو أكثر الفلاسفة الوجوديين اهتماماً بالشأن السياسي. وهذا الاهتمام هو الذي قاده إلى الماركسية.. يقول: ( إن الماركسية بيننا ليست مجرد فلسفة: بل هي مناخ أفكارنا، الوسط الذي تتغذى منه، الحركة الحقيقية لما يسميه هيجل الفكر الموضوعي. إننا نرى فيها ثروة ثقافية لليسار. بل إنها وحدها الثقافة منذ أن مات الفكر البورجوازي، لأنها هي وحدها التي تسمح بفهم البشر والأعمال والأحداث ).
كان سارتر على وفاق نسبي مع فكر ماركس، لكنه لم يكن كذلك مع الماركسيين، ومع الماركسية بصيغها السائدة، مثلما تجسدت في تجربة الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، وفي التنظيمات الشيوعية في أوروبا الغربية.. كان يؤمن بثراء المنجم الماركسي، وينفر من ضعف قابليات القائمين على ذلك المنجم.. يقول: ( إننا لا نطلب شيئاً من الماركسية سوى أن تعيش، أن تنفض عنها غبار كسلها الفكري المجرم لتعطي الجميع، دونما امتيازات، ما يتوجب عليها أن تعطيه ). ولقد عانى سارتر من سوء فهم الماركسيين والشيوعيين لـه، ولطروحاته.. يقول: ( إن أدعياء الماركسية لا يعيرون الآخرين شيئاً أبداً ـ وعذرهم هو فقرهم ـ وعندما لا يفهمون نصاً من النصوص يتصورون أن مؤلفه غبي على شاكلتهم ).
في ذروة الحرب الباردة كان سارتر قد حسم اختياره، ولكنه ظل على مسافة مما اختار.. كان يبغي سياسة أكثر واقعية وإنسانية، وأشد فعالية من الحزب الشيوعي الفرنسي. فإذا رجعنا إلى المصطلحات الحية لذلك الزمان ( اليسار واليمين.. الاشتراكية والرأسمالية.. التقدمية والرجعية، الخ ) فقد كان سارتر يسارياً اشتراكياً تقدمياً، يجد نفسه إلى جانب الشغيلة ضد الاستغلال الرأسمالي، وضد استبداد البيروقراطية الاشتراكية. فعلى خلفية أحداث المجر 1957 كتب مقالته الشهيرة "شبح ستالين" مندداً بممارسات الجيش الأحمر وقوات الأمن المجرية الذين يفترض أن يكونا جيش وقوات الطبقة العاملة وقد راحا يطلقان النار على الطبقة العاملة المتمردة.. يقول: ( والمصفحات السوفياتية إنما أطلقت النار، في بودابست، باسم الاشتراكية على بروليتاريات العالم كافة ).
تحرى سارتر عن الأسباب الثاوية وراء ما جرى، وحاول أن يضع إصبعه على الجرح مهما كان عمقه وشدة الألم ( إن ما أفقد الجماهير صبرها هو ذلك الخليط المدهش، في قلب الحزب بالذات ـ يقصد الحزب الشيوعي ـ من ستالينية ما تزال عدوانية، ومن أنصار اللاستالينية. إنها الترددات، الرجوع إلى الوراء، المماطلة والتأجيل، والتناقضات ). وإلى حد بعيد استوعب سارتر تلك التناقضات، وعرّاها بتصميم مخلص، بعد أن وجد أن خطأ ستالين الفادح كان ( بدلاً من أن يشد الاتحاد السوفياتي حلفاءه إليه بتضامن فعلي وإيجابي فضل أن يخلق مسوخاً لا تستطيع أن تعيش بدونه ). حقاً، فمع تفكك الاتحاد السوفياتي، فيما بعد، تساقطت حكومات دول الكتلة الشيوعية كأحجار الدومينو الواحدة تلو الأخرى، ففي هذه الدول كما أبصر سارتر بعينه الثاقبة ( كانت الاشتراكية بضاعة مستوردة، وكانت الثورة مصنوعة من فوق، وكان الجيش الأحمر قد فرض زعماءها ).
ليست الوجودية نظرية أو فلسفة متكاملة، متسقة بحيث نستطيع أن نتكلم عن فلاسفة وجوديين، متضامنين في الرؤى والأفكار والقناعات، مثلما هو الحال مع السورياليين والرمزيين مثلاً.. إننا ها هنا لسنا إزاء مدرسة، ولا سيما أن أولئك الفلاسفة والمفكرين يتطيرون من كلمة "مدرسة" وأحياناً حتى من كلمة "الوجودية" نفسها كما هو شأن البنيويين مع "البنيوية". ومنذ ظهورها، وصعود نجمها، ثم خفوت ضوء ذلك النجم، ظلت الوجودية في مرمى سهام النقد الذي كان بعضه موضوعياً، علمياً ومنهجياً، وكان بعضه الآخر متهافتاً، غير علمي، ولا يستند إلى منهج واضح وفعّال.
هناك من اتهم الوجودية بطغيان النزعة الفردية، واللاعقلانية، والتشاؤم، وعدم الاكتراث بالأخلاق، وبأن نظرتها الإنسانية ضيقة، أي ( أن الإنسان في هذه الفلسفة قد أتخذ مقياساً لكل شيء في إطار يدور حول الإنسان.فليس هناك، مثلاً، فلسفة للطبيعة عند الوجوديين، ولا اهتمام بذلك الضرب من الكائنات التي تدرسها العلوم الطبيعية ). ولكن هذه السمات/ العيوب إن وجدت بهذه الدرجة أو تلك، عند هذا المفكر الوجودي، أو ذاك، ينبغي ألاّ يجعلنا نغمط هذه الفلسفة، التي شغلت عقول ملايين الناس في القرن الماضي، حقها.. يقول جون ماكوري في خاتمة كتابه "الوجودية": (أعطتنا الوجودية الكثير من الاستبصارات الجديدة العميقة حول سر وجودنا البشري الخاص، وأسهمت بذلك في حماية إنسانيتنا وتدعيمها في مواجهة كل ما يتهددها في يومنا هذا. ولقد قدمت، بوصفها فلسفة معياراً نستطيع بواسطته أن نفسر أحداث عالمنا المعاصر المحيرة، وأن نقومها.....وسوف أظل أقول إننا نستطيع أن نتعلم من الوجودية حقائق لا غناء عنها لوضعنا الإنساني، حقائق قد لا تستغني عنها أية فلسفة إنسانية سليمة في المستقبل ).
وإذ نستعيد فكر سارتر مثلما طرحه في مؤلفاته، نرى بأنه لم يكن لا عقلانياً بأي حال من الأحوال، ولم يدع إلى التحلل الأخلاقي كما فهمه بعضهم. وأن تأكيده على النزعة الذاتية والإنسانية قد جاء في مواجهة الإيديولوجيات الشمولية ومنها الفاشية والنازية والستالينية، فضلاً عن الرأسمالية. وهذه الإيديولوجيات الشمولية كلها، إنما تقصي الإنسان أو تستبعده، أو تسحقه باسم مبادئ مثالية عليا، زائفة تارة، أو في سبيل الربح المادي والتوسع في الأسواق تارة أخرى. أما سمة التشاؤم في تفكيره فقد قابلها إصراره على فكرتي الحرية والمسؤولية، وبناء الإنسان لماهيته، وإعطاء حياته معنى من خلال العمل.
تركت الوجودية أثرها في الآداب والفنون، وفي رؤية المعاصرين إلى ذواتهم وزمانهم وعالمهم. وإذا استبعدنا تحت طائلة تبدل الشروط التاريخية التي تتحكم بالوضع والفكر البشريين احتمال عودة الوجودية بحلتها القديمة، ومنها ما أضافها سارتر عليها، لتكون موضة لجيل جديد، فإن الوجودية تسربت، لا شك، إلى نسيج ثقافة العصر وخلاياها، مخلِّفة بعضاً من صبغتها وأثرها فيها. وكما نقول إن الثقافة الإنسانية قبل ماركس ليست هي الثقافة ذاتها بعد تسيد الماركسية، على الرغم من إخفاقات التجارب الاشتراكية المستلهمة لماركس. كذلك، في مقدورنا القول، ولو بدرجة أقل، أن ثقافتنا الإنسانية قد أخذت من الوجودية وسارتر ما صيرتها أوسع وأغنى.
أعطانا سارتر، مع الفصيل المتنافر من الفلاسفة والمفكرين الوجوديين، فكرة أعمق عن الحياة والذات والحرية والمسؤولية، وعن فكرتي الاختيار والمعنى الوجوديين. وأيضاً، منهجاً نقدياً نضع معه الحياة والعالم وأنفسنا، على الدوام موضع التساؤل.
إن من شأن التاريخ أن يمحو لحظات الفكر والفعل البشريين، وان يحتفظ بها في الآن ذاته، في ركن من أركان غابته المتشعبة العظيمة. ولا ريب، أن ثمة ركن في تلك الغابة للوجودية والوجوديين، ومنهم جان بول سارتر.

3ـ نحن وسارتر

لعقدين على الأقل شكّل سارتر ظاهرة مثيرة طبعت الحياة الثقافية في فرنسا وأوروبا بطابعها، لتمتد شاغلة المثقفين العرب بعد ترجمة كتبه، حيث تحملت دار الآداب البيروتية وصاحبها الدكتور سهيل إدريس جزءاً هاماً من عبء تلك المهمة. حتى إذا مات الرجل ( سارتر ) في العام 1980 مضت معه فلسفته الوجودية، أو كادت، كما أشار في حينها ميشيل فوكو. وفي الأحوال كلها، وعلى الرغم من أن وجودية سارتر عدّت موضة جذابة للجيل الخارج من مأساة الحرب العالمية الثانية في أوروبا، ومن ثم لجيل من الشباب المثقف في البلدان العربية في ذروة فوران الانفعال القومي بين واقعتي النكبة ( 1948 ) والنكسة ( 1967 )، والحضور المفرط للماركسية في الشارع السياسي والثقافي العربي، فإن من الإجحاف الآن حصر ظاهرة سارتر "الوجودية" في إطار موضة عابرة، ذلك أنه ترك بصماته على قناعات أولئك وهؤلاء، في أوروبا، وفي العواصم والمدن العربية، وخض الركود الثقافي والسياسي، بهذا القدر أو ذاك، هنا وهناك. وقد تبنى أفكاره عديد من المثقفين العرب، وبحسب فهمهم وتأويلهم للأفكار تلك.
وكان المفكر المصري عبدالرحمن بدوي قد بدأ منذ الأربعينيات والخمسينيات بمشروعه الفلسفي، ترجمة وتأليفاً، للتعريف بالفلسفات المعاصرة ومنها الوجودية، وكان لـه الفضل الكبير على المثقفين العرب بهذا الشأن، في تلك الحقبة الموارة من تاريخنا. وراحت المجلات الأدبية والثقافية الصادرة في القاهرة وبيروت تروج للوجودية بمقالات وترجمات مختلفة ساهمت في جذب كثر من المثقفين العرب إلى كعكة الوجودية الطازجة يومها.
وعراقياً كان الناقد والمترجم نهاد التكرلي ( ولد بمنطقة باب الشيخ ببغداد في العام 1922 ) من أوائل من اطلعوا على الوجودية وفكر البير كامي وسارتر وسيمون دي بوفوار. ولأنه تعلم الفرنسية بتأثير خاله أولاً، والذي كان يمتلك مكتبة عامرة تحوي كتباً فرنسية، واختياره الفرنسية للتعلم إلى جانب الإنكليزية في الصف الرابع الإعدادي ثانياً، عمل التكرلي مبكراً على ترجمة رواية "الغريب" لكامو غير أنه لم ينشرها وإنما اقتصر على إطلاع أصدقائه عليها، ومن ثم قرأ كتاب "الوجود والعدم" ولم يفهمها جيداً لتعقيده، لكنه نشر مقالين تحت عنوان " الوجودية لدى سارتر" في مجلة الأديب لخص فيهما كتاب سارتر الآخر "الوجودية مذهب إنساني"..
يعترف التكرلي في شهادة لـه مرسلة إلى الشاعر سامي مهدي، منشورة في كتاب الأخير " نهاد التكرلي رائد النقد الأدبي الحديث في العراق" أنه ـ أي التكرلي ـ كان يجتاز ( أزمة فكرية ونفسية خاصة بعد انهيار القيم التقليدية في نظري وزوال بعض الأوهام التي كنا نؤمن بها بسذاجة في عهد الصبا ) على حد تعبيره، ويضيف؛ ( في تلك الحقبة تأثرت كثيراً بكتابات الدكتور عبد الرحمن بدوي، ثم بدأت بعض المجلات المصرية واللبنانية تتحدث عن فلسفة العبث لألبير كامو... وعن الوجودية وعن جان بول سارتر، وكان من الطبيعي أن يثير هذا الحديث اهتمامي ويدفعني إلى الإطلاع على هذه الفلسفة ). ويقول التكرلي في موضع آخر من شهادته: ( في العام 1950 نشرت مقالاً في مجلة الأديب تحت عنوان "جيل مفقود" لا شك أنه يعبّر تعبيراً صادقاً عن أفكاري وعن حالتي النفسية في تلك المرحلة من حياتي. كانت الوجودية عندئذ تجيبني على أسئلة عديدة من الأسئلة التي أطرحها على نفسي. ولا شك أن هذا هو السبب الأساسي الذي جعل هذه الفلسفة تجتذبني ).
يكاد هذا المثال يلخص حالة شريحة واسعة من المتعلمين والمثقفين في العراق وفي أقطار عربية أخرى ممن تأثروا بالوجودية، ولا سيما بأفكار أحد روادها الكبار وهو جان بول سارتر. وعبر قراءة فكرية وسياسية لواقع ومناخ تلك المرحلة حيث تسيدت الإيديولوجية الماركسية من جهة، والإيديولوجية القومية من جهة أخرى، نرى أن الوجودية قد دخلت خانة الاهتمام الواسع من الثغرات الواسعة التي تركها كل من الإيديولوجيتين المذكورتين.
عربياً، كان ثمة جيل جديد أخذ يشعر بالضياع والفقدان ويحاول أن يتلمس لـه سبيلاً آخر غير سبيل الجيل السابق عليه، ويتحدث عن حساسية جديدة في الأدب والفن وطرائق الحياة. هذا الجيل أسماه غالي شكري بالجيل الضائع على غرار الجيل الضائع في أوروبا: وهو تعبير أطلقته غرترود شتاين على مجموعة من الكتّاب والمفكرين والفنانين تمردوا على قيم العالم الغربي التي وجدوها تنهار أمام أعينهم، بعيد الحرب العالمية الأولى، وراحوا يفكرون ويبدعون بطريقة مغايرة لطرق أسلافهم.. يقول غالي شكري عن الجيل الضائع/ المصري: ( لقد ولد مقطوع الحوار سواء بينه وبين الجيل السابق عليه، أو بينه وبين الواقع المحيط به... إن ضياع جيلنا هو الثمرة الشرعية لسقوط منطق قديم للتطور وعدم قيام منطق جديد يحل مكانه ). فهل وجد بعضهم في الوجودية، وما قال به سارتر أفقاً محتملاً لهذا المنطق الجديد المتطلب؟.
كانت الماركسية، والإيديولوجية القومية، والليبرالية، إطارات نظرية لتوجهات سياسية استقطبت جماعات واسعة انتظمت في ضمن مؤسسات وأحزاب، ولم يكن الأمر كذلك مع الوجودية. ومن مفارقات تلك الحقبة أن صفة الوجودية كانت تطلق على المثقفين غير المنتظمين في المؤسسات والأحزاب المذكورة.. هذا ما يؤكده نهاد التكرلي في شهادته، والشاعر فوزي كريم في كتابه "العودة إلى غاردينيا". وبالمقابل فإن النظام السياسي العربي لم يلمس أدنى خطورة في الفكر الوجودي على استمراره وبقائه، لذا لم يضع عقبات جادة أمام انتشاره في البلدان العربية، وربما رأى أن الوجودية أهون الشرور طالما لا يفضي إلى المأسسة السياسية، وقد يدفع الإنسان العربي إلى التقوقع حول ذاته والعيش في وهم واستكانة، بحسب فهم وتأويل ذلك النظام للوجودية.

استنكر سارتر ما عرف يومها بالعدوان الثلاثي على مصر ( 1955 ) بقوة، وكانت فرنسا إحدى ثلاثة قوى مسلحة اشتركت في الهجوم، إلى جانب إنكلترا وإسرائيل، إثر تأميم عبد الناصر لقناة السويس. وصار في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات في مرمى نقد وتهديدات اليمين الفاشي الفرنسي إبان حرب الجزائر. كانت الحرب تلك مناسبة ليفصح سارتر عن واحد من أكبر المواقف وأروعها في حياته السياسية والفكرية. اتخذ سارتر، وبإصرار شجاع قراره ليكون مع فكرة استقلال الجزائر، وإنهاء الاحتلال الاستيطاني الفرنسي لها، وهذا ما قرّبه من نفوس الانتلجنسيا العربية، وفتح النوافذ لأقباس من أفكاره لتدخل الساحة الثقافية العربية، وقد توج بطلاً في نظر تلك الانتلجنسيا. فبعض المثقفين العرب احتفوا بفكر سارتر، لا بسبب الثقل المعرفي والفلسفي لذلك الفكر، وإنما بسبب الرضا السياسي الذي شعروا به تجاه سارتر ذي الموقف الصريح والإيجابي من الشأن الجزائري. وهؤلاء أنفسهم سيكنون لسارتر العداء، فيما بعد، حين تتكشف طبيعة رؤيته إلى القضية الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي. وسوف لن يكفوا بنقد موقف سارتر السياسي، بل سيطول نقدهم وتهجمهم أسس فلسفته. فمثلما جرى قبوله، من قبل من ذكرنا ـ وهم شريحة من المثقفين العرب، المؤدلجين في الغالب ـ تحت وطأة العاطفة والانفعال، فسيتم نبذه ولفظه تحت وطأة العاطفة والانفعال، أيضاً.
إن سلبية موقف سارتر من القضية الفلسطينية، من منظور تلك الشريحة العربية المثقفة، تفسره سيمون دي بوفوار كالآتي: ( نحن لا ننطلق في هذا الموقف من كره العرب، أو حب اليهود.. إننا ننتمي للغرب بكل ما فيه، وإننا نتاج عصور اضطهدت اليهود منذ القرون الوسطى. إنهم بالنسبة لنا كالطبقة العاملة في أوروبا ). إذ كانا ـ سارتر وسيمون ـ يتبنيان الرؤية الماركسية إلى الطبقة العاملة بعدِّها الطبقة المضطهدة { بفتح الطاء } والثورية التي بيدها مفاتيح المستقبل.
زار سارتر مصر في آذار 1967، أي قبل هزيمة حزيران بأشهر قليلة، ليمكث فيها ستة عشر يوماً، ويستقبل من قبل المثقفين والإعلاميين والسياسيين المصريين بحفاوة قل نظيرها، حيث وصفته مانشيتات وافتتاحيات الصحف والدوريات المصرية بالبطل، والإنسان الحر، وضمير العصر.
جاء سارتر وشرطه أن تتاح لـه فرصة الوقوع على الحقائق بحرية قبل الإعلان عن رأيه، وأن يصطحب معه كلود لانزمان، اليهودي المعجب والمتفاخر بالتجربة النهضوية في إسرائيل.
كانت الدعوة صادرة لـه من مجلة الطليعة التي تصدرها دار الأهرام القاهرية، وبتوقيع توفيق الحكيم. وبين معهد الفنون المسرحية الذي عرض مشاهد من أعماله، إلى الحرانية وهرم سقارة والأقصر، وبعد ذلك إلى السد العالي تنقل سارتر بصحبة لانزمان ـ المتهم مصرياً بإفساد رؤية وانبهار سارتر بتدخلاته وتعليقاته الخبيثة ـ وذهب إلى غزة ففوجئ ببؤس وفقر اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات. وبعد عودته من غزة قابل سارتر أمين عام الاتحاد الاشتراكي "علي صبري" ثم التقى بجمال عبد الناصر فوصفه بأنه رجل سياسة من الطراز الأول. وكانت محطة سارتر الثانية إسرائيل وبعدها أعلن موقفه المؤيد لإسرائيل، ولعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.
وبعد نكسة 1967 بدأ الاهتمام بسارتر يقل عربياً، [ كان الأمر كذلك في أوروبا أيضاً ولكن لأسباب أخرى، منها بروز صرعات فكرية جديدة كالبنيوية ] وراحت المقالات المنشورة هنا وهناك، في العواصم العربية تهاجمه وتسفه آراءه وفلسفته.
والآن ماذا نرى في سارتر؟.
بعد مرور أربعين سنة، لا بد للموقف الذي كان مبنياً على الانفعال والتشنجات السياسية أن يتشذب ويتغير، وأن يكون التقويم مبنياً على أسس علمية وموضوعية. وها هي مصر تستعد للاحتفاء بمئوية سارتر في ديسمبر المقبل، والجهة التي ستتولى هذا الأمر هي لجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة، وستكون هناك ترجمات جديدة لكتبه ومنها " نقد العقل الجدلي" بجزأين. وفي استطلاع أجرته صحيفة الأهرام بهذه المناسبة أدلى بعض المفكرين والمثقفين المصريين بآرائهم حول الوجودية وسارتر.. يقول محمود أمين العالم: علينا أيضاً أن ( لا نغفــــــــــــل التفاعلات التاريخية في لحظة معينة لها تأثيرها فقد كانت هناك محنة الحرب العالمية ومأساة الفاشية والنازية واحتلال فرنسا العظيمة وحالة الفوضى العارمة التي عمت العالم‏، وكان هو ضحية لكل هذه التفاعلات حيث تم تجنيده بل أسره لعدة أشهر مما كان له الأثر في فلسفة سارتر التي تمجد الفرد والحرية وكنا نحن في مصر أيضا نتوق إلى الحرية بعد الحرب العالمية الثانية )‏.‏ ويقول العالم‏:‏ ( لكن الذي أغفله سارتر هو الأسس الاجتماعية للحرية فالجحيم ليس الآخرون كما يقول لكن الإنسان لا غني عنه عن الجماعة باختصار الإنسان الجماعة وليس الإنسان الفرد إذن هو التزام فردي وجماعي‏,‏ وقد ضمنت ذلك في كتاب معارك فكرية ).
ويقول الدكتور عاطف العراقي: ( وقد رأى فيه المثقف العربي الذي يعاني من كثير من القيود في مجالات عديدة منها ما يرتبط بالأسرة والمجتمع، ولعل هذا ما يؤدي بالمثقف إلى أن يتصور ـ إن الخلاص إنما يتمثل في فكر سارتر، وفوق ذلك انتشرت أفكار سارتر في صره لأن المثقفين قد ضاقوا بالمذاهب الفلسفية التي لا تعد معبرة عن قضايا الإنسان، بالإضافة إلى الرغبة في التجديد ولو بنوع من التجربة الجديدة... ).
أما الدكتور عصام عبد الله/ أستاذ الفلسفة المساعد في جامعة عين شمس فيقول: ( لماذا تعلقنا في الشرق بسارتر؟. فالإجابة ليس تأثير سارتر، لكن قد كان بداخل كل منا سارتر معنوي بغض النظر عن الاسم، فقد ظهر في فترة كانت فيها حركات التحرر الوطني والشباب هي وقود الثورات والحرية وقد كانت أفكار سارتر هي الهوية التي يبحث عنها الشباب ).
وفي مجلة جسور عدد 4/ 2005 يكتب فاروق يوسف: ( بعد ربع قرن من وفاته لا يزال جان بول سارتر ضرورياً، بل إن العالم بكل ما شهده من تحولات خلال السنوات القليلة الأخيرة هو في حاجة ماسة إلى ظهور رجل من طينة ذلك الفيلسوف المتمرد والمعارض والصارخ في برية الضمير الإنساني بالحقيقة ).
أما نهاد التكرلي الذي اتخذناه مثالاً للمثقف العربي المتأثر بالفكر الوجودي فيقول في شهادته سالفة الذكر عمّا تبقى لديه من الوجودية بعد مرور نصف قرن أو أكثر على تعرفه عليها: ( كانت الوجودية قد زودتني منذ البداية بنظرة معينة نحو ذاتي ونحو العالم. ولا شك أنها اجتذبتني كفلسفة متماسكة تبحث في وحدة الوجود المطلقة وفي مأساة الوجود، ووقتية المشاريع الإنسانية وضرورة مواجهة الموت لكنها من ناحية أخرى أوضحت لي أن من الضروري أن يعرِّف الإنسان نفسه بمشروع، أو اختيار أصلي لكيانه يصنع في الوقت ذاته قيمة معينة للإنسان والإنسانية كلها. وهذا ما يسمى بالالتزام.
والآن، وبعد مرور نصف قرن، لا أزال أرى حياتي بهذا المنظار ).
طبعت مؤلفات سارتر رؤى كثر من الأدباء العرب ومثقفيه، ولا سيما أولئك الذين لم يكونوا على وفاق مع الماركسية التي كانت يومها، إلى جانب الوجودية موضة رائجة، ومع التيار القومي. وإذا كان الانقياد الأعمى لسارتر، كما لماركس، وكما للفكر القومي، قد خلق أفكاراً مشوهة ووعياً زائفاً عند شريحة من المثقفين فإن شريحة أخرى بنت أسس ثقافتها بوعي من مصادر شتى، كانت الماركسية أو الوجودية، وأحياناً معاً، أهمها.
كان سوء الفهم، وسوء الإطلاع، سبيلاً لهرب بعض من مثقفي أو أشباه مثقفي أو أدعياء الثقافة، خلال الخمسينيات والستينيات إلى سارتر.. صار سارتر ملاذاً افتراضياً.. وهماً آخر في بيئة خصبة وملائمة لاستيراد الأوهام وانتاجها. ومع سارتر، أو بعده جرى استقبال ألبير كامو وسيمون دي بوفوار، ومن ثم، بعد حين، كولن ولسن، الإنكليزي، صاحب صرعة "اللامنتمي". والملاحظ عربياً أن الكتّاب الذين يتعاطون الأدب، ويجعلون من النصوص الأدبية أوعية لتسويق أفكارهم وفلسفاتهم يحظون بتقبل واسع عندنا، أكثر بكثير من أولئك الذين يتعاملون مع الفكر المجرد. وربما كان السبب هو عسر التواصل المعرفي مع الأخيرين، وصعوبة ترجمة مؤلفاتهم. وقد تكون العلة في نمط التربية والتعليم السائد في العالم الناطق بالعربية.
صاحب عندنا الافتتان بسارتر افتتان مماثل بسيمون دي بوفوار، صديقته، وبكامو على الرغم من الاختلافات البينة، والخلافات التي كانت تصل أحياناً حد التخاصم والقطيعة بين الأخير وندّيه ـ سارتر وسيمون ـ ومن ثم بمجمل التراث الفكري الوجودي. وبقدر ما كان هناك هوس عند بعضهم بسارتر والوجودية، تخلّق هوس مضاد عند بعضهم الآخر إذ صاروا ضد سارتر والوجودية، في الوقت الذي نكتشف أن قسماً كبيراً من هؤلاء وأولئك لم يقرؤوا سارتر جيداً، ولم يطلعوا على تراث الفكر الوجودي، ولم يكن غريباً أن تجد من المهووسين ـ على الجبهتين ـ من لم يقرأه على الإطلاق.
تكمن قوة فكر سارتر، على الرغم من تناقضاته وتهافت بعض اطروحاته، في ملامسته للحياة الإنسانية في أكثر مواضعها حساسية وأهمية، وتأكيده على حرية الإنسان ومسؤوليته إزاء ذاته والعالم من خلال وعيه. وهذا ما جعل تلك الجاذبية لسارتر وفكره في هذه البقعة من الأرض التي نعيش عليها، حيث يُمتهن إنسانية الإنسان وكرامته وتُصادر حريته بذرائع شتى. ويجري تشويه ذاته ووعيه في ظل سلطات استبدادية، وفي واقع متخلف تاريخياً.
واليوم بعد أن خذل الواقع أصحاب المشاريع الكليانية من ماركسيين وقوميين وغيرهم، يرى الجيل الحالي أنه أكثر ضياعاً من الجيل الذي سبقه، محاصر بين عولمة عاتية لا يمتلك مقومات ومستلزمات الشراكة الفعالة فيها، ومد أصولي يحاول سحبه إلى قوقعة خانقة. في هذا الواقع هل ستبرز نزعات عدمية ونهلستية جديدة، وهل ستعود الوجودية بحلّة أخرى ملائمة لمتغيرات عصرنا في الألفية الثالثة؟. أم أن الواقع سيوّجه العقل نحو إبداع فكر مختلف خلاّق، ينهض بالجيل وواقعه؟.. يطرح الأسئلة الكبرى بجرأة وموضوعية، ويجيب عليها من دون تردد أو مواربة؟.
المصادر:
1ـ مؤلفات سارتر، ولا سيما " الأدب الملتزم" و" شبح ستالين".
2ـ "سارتر والوجودية" ر. م. البيرس.. ترجمة سهيل إدريس.
3ـ "الوجودية" جون ماكوري.. ترجمة إمام عبد الفتاح إمام.
4ـ "ثقافتنا بين نعم ولا" غالي شكري.
5ـ "حوارات مع مفكري الغرب" حميدة نعنع.. حوار مع سيمون دي بوفوار.
6ـ المعقول واللامعقول في الأدب الحديث" كولن ولسن.. ترجمة: أنيس زكي حسن.
7ـ البير كامو" جرمين بري.. ترجمة؛ جبرا إبراهيم جبرا.
8ـ نهاد التكرلي رائد النقد الدبي الحديث في العراق" سامي مهدي.
9ـ مجلة جسور العدد 4/ 2005.
10ـ جريدة الأهرام العربي 4 يونيو 2005



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المجتمع الاستهلاكي: الأسطورة وصناعة الزائف
- الحوار المتمدن في أفقنا المعرفي
- الإعلام والعولمة: كيف يحولنا الإعلام؟
- حوارمع سعد جاسم أجراه بلاسم الضاحي
- هيرمان الساحر
- أدب الرحلات والشرق المفترض
- السيرة الذاتية: حضور الوثيقة ومناورات الذاكرة
- المثقف وخانق السياسة
- نصف حياة - نيبول - نموذج للرواية ما بعد الكولونيالية
- أدب ما بعد الكولونيالية: إتساع المفهوم وتحديدات السياق
- إخفاق المثقفين
- خطاب السلطة.. خطاب الثقافة
- الفاشية واللغة المغتصبة
- الفكر النهضوي العربي: الذات، العقل، الحرية
- اغتراب المثقفين
- في الثرثرة السياسية
- ماذا نفعل بإرث إدوارد سعيد؟
- أدب ما بعد الكولونيالية؛ الرؤية المختلفة والسرد المضاد
- الأغلبية والأقلية، والفهم القاصر
- قيامة الخوف: قراءة في رواية( الخائف والمخيف ) لزهير الجزائري


المزيد.....




- مذيعة CNN تواجه بايدن: صور الأطفال في غزة مروعة وتكسر القلب. ...
- أردوغان: تركيا تتابع الوضع في أوكرانيا عن كثب
- وزير التجارة التركي يحسم الجدل بعد تصريحات كاتس عن عودة التج ...
- صحة غزة تعلن الحصيلة اليومية لضحايا الحرب في القطاع
- زيلينسكي يعين رسميا قائد قواته السابق سفيرا لدى بريطانيا
- بعد تهديد بايدن.. رسالة من وزير الدفاع الإسرائيلي إلى -الأصد ...
- بوتين يرأس المراسم في الساحة الحمراء بموسكو للاحتفال بيوم ال ...
- طلاب ليبيا يتضامنون مع نظرائهم الغربيين
- أبو ظبي تحتضن قمة AIM للاستثمار
- أغاني الحرب الوطنية تخلد دحر النازي


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - في الذكرى المئوية لولادة سارتر