أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - شهادة: هكذا تكتبني المحطات















المزيد.....

شهادة: هكذا تكتبني المحطات


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 1475 - 2006 / 2 / 28 - 10:33
المحور: الادب والفن
    


منذ نعومة دهشتي اكتشفت كيف تتنكر المحطات لفجاجة الجغرافيا مانحة قيادها لهوس الزمان. والزمان مسافة مموّهة بين لعبة ابتكرت قواعدها ورؤيا ابتكرتني.
الدار التي ولدت فيها في العام 1957 بجلولاء كانت تهتز كلما دخل المحطة قطار أو غادرها.. كانت المحطة لصق طفولتي.. أنفاس قطاراتها تتداخل بانسجام موّقع مع دورة شهيقي وزفيري. وفي الخامسة من عمري حين وجدتني في مدينة أخرى - هي السعدية - صار شريط السكة الحديد في أفق شغفي.. أصعد على سطح البيت، أترقب مجيء القطارات. غير أن المحطة كانت قد نأت، وصارت خلف مدّ بهيج من ضباب أخضر يسبح فوق بساتين النخيل.
وكان عليَّ أن أكبر ليسمح لي بالاقتراب من مسار القطارات.. كنت وأصدقائي نحمل كتبنا المدرسية بحجة الاستعداد لامتحانات لا تنتهي، تأخذنا ربوة السكة الحديد إلى ( تل سليمة ) حينا، وحيناً إلى المحطة التي أيقظت فينا هاجس المغامرة.
باتت الثلاثة كيلومترات بين تل سليمة والمحطة رئة الحرية التي أعطتنا ضمانة الكلام في الممنوع للمرة الأولى، وأقصد: الثرثرة اللذيذة عن البنات.
كان واحدٌ منا متخماً بنكات كسرت قشرة براءتنا. وكان ثان حرفته الأكاذيب. وكان ثالث يسرف في الأحلام. وكان رابع ينقل حكايات جدته عن الجن والفرسان. وكان خامس وقع على الطريقة السحرية في مزج الكلام عن البنات بالنكتة بالأكاذيب بالأحلام بحكايات الجن والفرسان في وعاء واحد ليركّب منها، في ما بعد، قصصا مكتوبة. هذا الخامس.. كان أنا.
* * *
المحطات سلّة وعود، ومبتدأ عوالم، ورهان حتى على المستحيل.. في الطريق إليها أتقنت فن الحلم، وأدركت أنني لن أكون مؤهلا للتوافق مع الأشياء، أو للتضاد معها، أو لإثبات المعنى - معنى أي شي وكل شي - إلا بالاستحواذ على سر اللعبة التي نسميها الكتابة. ذلك أن المحطات تنبئ عن الغياب، وتقول بالرحيل، وتهيئ للغربة والمنفى، وتذكِّر بالموت. وهي أيضا تنبئ عن اللقاء، وتقول بالعودة، وتمنح الطمأنينة والحب، وتجهر بالحياة. فالمحطات تطوي في هدير قطاراتها مفارقة الوجود، لا في كمال الدخول والخروج، أو الحضور والغياب، أو الابتداء والانتهاء فحسب. بل في سلطة السؤال المقلق: أن تكون.. أو… لا.
كان عقلي الغض يتساءل أبداً عن المحطة الأولى التي منها ينطلق القطار، والمحطة الأخيرة التي فيها يتوقف نشداناً للراحة. ولم يستطع قط أن يتصورهما.. كانتا أبداً تختفيان في سديم مربك وغامض. وفي حقبة ما، تالية، توصل عقلي هذا إلى شكل الدائرة، ثم إلى شكل دوائر تتداخل. واستحوذ الشكل الأخير على مخيلتي فصار الفضاء الذي منه سأستقي، بعد سنوات مضنية شخصياتي، والأحداث التي تخبرها داخل قصصي ورواياتي. ولكن فقط عندما يغدو العالم أطلس محطات.. محطات لا تلبث أن تتمرد على حقيقتها المكانية لتضم بين خارطتها لغز الزمان، فلا تبقى المحطة محض نقطة توضع على خارطة ما، بل تصبح مداراً نفسيا، وحالة وجودية، ومتغيرا معرفياً، ولعبة مستمرة تتبدل خلالها الأدوار والقواعد، وحاضنة تتناسل في جوفها المسرودات .
كانت المحطة استهلالاً عصياً لما لا أراه. وحجاباً مغرياً ومضللاً أمام ولهِ يفاعتي، وأول البشير لحرية مداها جنوني بالمغامرة التي وسيلتها الكلمات. في ذلك العمر، كانت المغامرة في أن تبتعد أكثر مع خط السكة الحديد، وأن تخرج منها ضارباً في الحقول والأحراش.. ربما كان الأمر محاولة لولوج المتاه.. أن تمضي وحيداً، أو مع صديق وجل يحذرك في كل خطوة فتنهره على خوفه على الرغم من خوفك.
هناك كنت أتشبع بالضوء والهواء.. بالأشكال والألوان.. أختبر الوعورة والبُعد وأترقب المفاجأة.. مفاجأة ما، لابد على الطريق.
وبدل أن تنزلق أفعى فزعة بين قدميك، أو يمرق أمامك حيوان مستفز، تجدك على شرفة سماوية، تحجبك أعواد الحلفاء، وتنفرش الأرض على مدى بصرك، ويستغرقك لغط صبايا قرويات يدخلن الماء ويخرجن منه بمرح مسكر.. تشتعل سيقانهن تحت وهج الشمس، وتصرخ ثيابهن المبللة، الملتصقة على أجسادهن، بالفتنة.
تلبث قليلاً قبل أن تنسحب بفائض الغبطة والدوار على أثر هدير القطار المنذر باقتراب الغروب.
* * *

المحطات راسخة في بعدها الفيزياوي ومستقرة ، لكنها أبداً لا تمنح شعوراً بالثبات والرسوخ، ومن هنا التناقض والإبهام اللذان تنطوي عليهما كينونتها. فلا شيء يلبث هناك على حاله.. الزحام واللغط.. الوجوه والحقائب، والعويل البعيد.. ثم القطار بلهاثه الآسر وهو يدخل المحطة. فالقطارات هي الحقيقة العابرة المكررة التي تفصح عن الاضمحلال والتلاشي، ولهذا ربما ـ كما أرى ـ تضع المحطة الواحدة بين يديك ممكنات عدد هائل من القصص القصيرة، ولا تستطيع أن تبذل لك ممكنات رواية واحدة.
فالرواية لكي تكون، هي بحاجة إلى محطتين أو أكثر. أو هي بحاجة إلى مغادرة المحطة الواحدة هذهِ.
ومع علامتي التكرار والتلاشي تهيمن علامة أخرى في مشهد المحطات هي التنوع. ومن خلال فعل هذهِ العلامات يمكنك أن تبرهن، وأن تشكك، وأن تتساءل، وأن ترى وتتنبأ.. أي أن تبدع. وفي قصصي ورواياتي سعيت لاستعادة ممتلكاتي الأثيرة التي ضاعت مني.. ممتلكاتي التي هي وجوه أناس مروا في حياتي، وحبيبات غادرنني ومغامرات لم أحقق منها إلا القليل، وذلك الخليط المدوخ المنعش من الروائح التي تلتم عليها نفسي.. رائحة النعناع البري وهو يصعد من الساقية التي تخرق قلب ربوة السكة الحديد ممزوجة برائحة العشب والماء، بالرائحة الثقيلة الرطبة الآتية من البساتين، برائحة الزيت الذي دهن بهِ عمال المحطة فواصل القضبان، برائحة البخار الأبيض تنفثه ماكنة القطار المارق في حقول مراهقتي. والمراهقة قصيدة كانت تمتد بدءاً من كف صبية تلوح لك من نافذة عربة في قطار يداهم أساك وحتى اهتياج الفرح في الشرايين.. تخط تميمة بين اسم سري لحبيبة لا يعرف عنها أصدقاؤك شيئاً، واحتفالك بابتسامتها التي أهدتك إياها نظير نجاحك في الثالث المتوسط، فأبقتك نشوتها صاحياً لتشهد للمرة الأولى، من فوق سطح البيت استيقاظ غابات النخيل ساعة السحر.
وتبقى المعضلة في اللغة.. هذه اللغة المراوغة المحتالة الملتبسة الغاوية والمتمنعة، وفي النص الذي يتوسل تلك اللغة ليكون دوماً شيئاً آخر غير ذاك الذي تريد.. وإلاّ ؛ أي نص يمكنه أن يأتيني اليوم باختلاجة أصابع تلك الصبية التي سرقت مع رائحة برتقالة تقاسمتها وإياها على طريق المحطة شهد مراهقتي وخبل روحي لتمنحني مقابلها، من دون أن تدري، نسغ الشعر، والولع المبارك بالرواية والقصة القصيرة.
ذات يوم توقفت القطارات عن المرور في بلدتي/ السعدية. فلم نعد نسمع عويلها بعد أذان الفجر ولم نعد نرى راياتها البيض تخفق في سماوات الحقول، ولا تلك الأيدي الراحلة تلوح من النوافذ الحميمة. فجأة قررت الحكومة محو خط القطار الصاعد إلى كركوك، فأُهملت المحطات وتهدمت، وبيعت قضبان السكك الحديد في المزاد العلني، وإذ ذاك أحسست أن جزءاً حياً من البلدة قد شُـلّت وماتت. لكنني أبداً لم أستطع أن أخوض في السرد من دون أن تحضر المحطات وتكون هناك.. المحطات بسككها المتداخلة، وأعلامها، وبنايتها ذات الأبواب والشبابيك الخشبية الخضر، وأراجيح حديقتها، بموظفيها وعمالها وشرطتها، والبائعة الجوالين في ساحاتها، والمسافرين والمودعين والمنتظرين على أرصفتها، أي كل أولئك الذين يدخلونها أو يغادرونها في خضم حركة حياتهم وحرارتها.
واليوم، أعود إلى أطلال محطتي أتقصى عن بقايا طفولتي العالقة بين عشب الأرض وتيجان النخيل، وعلى الحصى المغسولة بالمطر القديم، وفي شبق الفاختات الوقحات على أسلاك التلغراف.. في رفيف الزرازير، تتمروح فوق حقول القمح، وفي مسامات الطريق التي أظنها، ما تزال تتعرف على خطواتي الصاعدة إلى مناها.. أبحث عن تلك الأشياء التي كانت بعضاً من نزق لعبتنا.. من سرورها العاري ونبلها وكمالها الرهيف.. أتحرى عن أحلامي التي بعثرتها ثمّةَ، وعن كلماتي الأولى وقد اختبأَت في دفاتر فقدتها، بالرغم مني، في مفازات السنين.
* * *
في المحطات يتلبس المكان بالزمان، ويتلبس المكان والزمان بحالات الوجود الإنساني وصوره. وتتلخص على مسارات المحطات إشكالية ومعنى رحلة الإنسان، في هذا العالم، مجازاً. لا أفقياً بين لحظة الولادة ولحظة الموت فحسب، بل على محور آخر أكثر التباساً وتعقيداً، حيث تتصل الذات الإنسانية، عبر الوعي، وعبر الحدس، وعبر المجسات الحسية بالمعنى العميق لكينونتها وصيرورتها، وعلاقاتها بنفسها وبالآخرين وبالعالم.. تغدو المحطة افتراضاً أولياً لسلسلة من التحولات، وعداً باحتمالات شتى. ترهص المحطة للمغامرة التي لا تكون هوية الإنسان إلاّ عبرها، الهوية التي هي مركب متبدل لا يورث بل يُصنع ويزدهر.
كنت أرى في المحطات الخلاصة المجسدة لثنائية الحرية والضرورة.. الضرورة؛ حيث ترتبط بأمكنة واتجاهات وأوقات محددة، معلومة. والحرية؛ حيث تختار البقاء أو الرحيل، وحيث تكون المسافات في متناول اليد، وفي مرمى البصر، فالمحطة تنتزعك من سجنك لتسلمك لأفق آخر. أنت حر، ولست حراً في الوقت عينه، لكنك في الأحوال كلها تصنع تاريخك الذي هو حرية بالضرورة.

لن تكون للمحطة وجود من غير وجود المحطات الأخرى، إنك في محطتك التي أنت فيها تعرف أن ثمة محطات أخرى تمنح نسغ الحياة لمحطتك.. المحطة دال لا على نفسها فحسب، بل على المحطات الأخرى.. دال باهر يختزل الوجود كله، إن أردت أن يكون الأمر هكذا.
في سنوات الحرب "الثمانينيات" كنت أفضل السفر بالقطارات إلى جبهة الجنوب حيث تتخندق وحدتي العسكرية. كانت السيارات تملؤني بالكآبة، فيما القطارات تمنحني شعوراً صافياً بالأسى، في القطار كنت أجد تميمتي وعزائي.. إيماني بأنني سأعود، كنت ببساطة أستطيع التحكم بوعيي. أما في السيارة فلم يكن ذلك بالإمكان.. لماذا؟. لست أدري قطعاً، فتلك حالة تتصل بما وراء الأشياء، بما وراء الوعي، وبما وراء وجودنا السطحي المباشر، العابر.
* * *
كلما أرسلت النظر عميقاً لأرتد إلى سنوات الطفولة أرى القطارات تلوح لي بمناديلها البيض العالية، فطفولتي استيقظت على عواء القطارات، وقعقعة عجلاتها المعدنية، وهديرها المتفاقم/ المتلاشي حتى لتبدو وكأنها سكنت المحطات القديمة تلك تاركة أنفاسها اللطيفة هناك.
هناك راحت أخيلتي تتفتق.. تحوم فوق قضبان السكك اللاصفة.. تلم بين جنحيها صوراً هاربة، وشظايا من وجودنا الذي يتسرب منا، من دون أن نتمكن من الإمساك به.
كانت القطارات تعبر بي المسافات.. المسافات التي لا تلبث على حال.. تتبدل وتتبدل خالعة أثوابها في كل لحظة كما لو أنها تبغي عرياً كاملاً لن تبلغه أبداً.
هكذا كنت متورطاً في حلم ساحر طويل.. حلم يرهف الحواس، ويبذر الدهشة، ويلون الروح، ويهذب الدم ونبض القلب والأعصاب، ويمنحك مفاتيح الرؤيا.. رؤيا الشعر. حينها كانت ولائم أيامي وجوهاً ووجوهاً ووجوهاً وحقائب وعربات، وباعة وأطعمة، وعصائر بروائح منعشة، وأعلام حمر وخضر وصفر، وفوانيس ترتعش في البرد.
نألف القطارات من ساعة اجتيازها عتبة طفولتنا، والقطار هو أكثر وسائل التقنية الحديثة شبهاً بكائنات عالمنا، وكلما انبجس من بين التلال أو البساتين، أو مر بين الحقول، يخيل إليك أنه جزء عضوي من الطبيعة.
كم هو محبب وأليف وصاف ضجيج القطارات؟. كم هو رائق ورائع وشفيف ذلك الهدير المتصادي في البرية؟. كم هو روحاني ذلك الزعيق البعيد الذي ينبئ عن وصول القطار؟. ذلك الوعد اللذيذ بقرب الرحيل في المجاهيل السعيدة. فالقطار هو المعادل الوجودي لرحلة الحياة، والمحطات هي قرينة هذا السفر الحلمي للإنسان إذ يولد ويعيش ويموت. وكل لحظة هي نقطة اعتباطية وقدرية في آن. والمحطات/ النقاط هي التي تؤسس أطلس الذاكرة، وتؤشر للروح أفقها. وبين المحطات تمنح القطارات الراحلة والآيبة إحساساً بأنها ماضية في الزمان أكثر من كونها قاطعة، وعابرة للأمكنة.
أذكرها تلك الليلة كما لو أن روحي انفصلت عن جسدي وشرعت تراقبني.. أبي يمسك بي من يدي ويحثني على المشي، وقد تمكن مني النعاس، وأمي تحمل أختي الصغيرة، ووجهتنا المحطة، والمحطة بعيدة. وتتناهى أصوات بنات آوى من ظلمة البساتين، وفجأة أجدني جالساً في العربة، وأختي تبكي والقطار يبدأ حركته الأولى الثقيلة والرتيبة.. أغمض عيني فيستدرجني النوم، حتى إذا أيقظوني تكون مسافة الساعات الست ( حسبتها دقائق قليلة ) قد انتهت، ونحن الآن في محطة شرقي بغداد، والوقت نهار. ألا ما أقصرها من رحلة؟.
* * *
وفقط حين تسير القطارات عكس ما نروم يكون هناك حكي، ومع وجود الاستعداد ترانا متورطين بالكتابة.. يغدو الحكي فعلاً إشكالياً بطبيعته الداخلية، وفي علاقاته بالذات الكاتبة والعالم. فالمحطات وحركة القطارات فيما بينها، وقاعات الانتظار المزدحمة، أو شبه الخالية بمقاعدها الخشبية الطويلة، ونوافذها الخضر تضعنا خلسة أمام معضلة المعنى.. إنها تسحبنا بلا إرادتنا إلى شرك الأسئلة الكبيرة التي بقيت منذ الأزل من غير إجابات قارة ونهائية، وستبقى اشد قدرة على احتواء نفوسنا وعقولنا وأرواحنا من الأجوبة كلها. فالمحطات دالة العمر، وبمجموعها تمثل تلك الخطوط المتعرجة والمتداخلة التي تناظر جغرافية الوجود. فكم هما غاطستان بالغموض والرهبة تلكما المحطتان اللتان تؤشران حديّ مسيرة حياتنا، وأعني بهما ( محطة الولادة ومحطة الموت ). فهل نحن مقيدون إلى سكة تحدد وجهتنا من البدء إلى النهاية من غير أن ندري؟. هل للحياة معنى؟. هل الحرية وهم؟. وهل باستطاعتنا أن ننحرف بعيداً عن القضبان القدرية ونهيم في البراري؟. وإن فعلنا هل سنجد الخلاص، وهل ننال الفردوس؟.
في قصتي "محطة الشروق" يدخل صبي المحطة للمرة الأولى، فيتوقف أمام ساعة الحائط الكبيرة ذات العقارب الأبنوسية من دون أن يستطيع أن يعرف الوقت فيقول في سره؛ عندما أكبر سأتعلم قراءة الساعة. وفي قصتي "محطة الغياب" يهبط الشخص نفسه من القطار، وهو هنا شيخ هرم، في محطة غريبة مهدمة قصفتها الطائرات فيرغب أن يتأكد من الوقت.. يرفع رأسه فإذا بساعة الحائط الكبيرة بلا عقارب.. إنها الفجوة الضائعة بين الطفولة والهرم.. ذلك الزمن الذي تسلل خفية من غير أن يقدر على القبض عليه، فهو زمن الغياب أولاً وأخيراً.
استيهامات المحطات هي استيهامات الإنسان المتوحد، المستوحش في برد الانتظار الذي، يبدو أحياناً، وكأن لا جدوى منه، وهو يشعر بالأسى والفقدان.
في قصتي "محطة لحلم بعيد" المنشورة من ضمن مجموعة ( ظل التوت الأحمر ) هناك رجل يأتي كل يوم إلى المحطة التي ودع فيها حبيبته ( واسمها مريم ) للمرة الأخيرة وفقدها إلى الأبد.
في نهاية القصة تدلف إلى قاعة الانتظار، وهو جالس وحده منذ ساعات طويلة، امرأة تسأله عن القطار القادم فيقول أنه سيأتي بعد أربع أو خمس ساعات، فتقول له؛ هل ستنتظر كل هذا الوقت، فيقول؛ انتظرت طويلاً.. بعد ذلك يسألها هو؛
ـ هل تنتظرين أنت؟.
ـ ربما.
ـ هل التقينا قبل اليوم؟.
ـ ربما.
وحين يسألها عن اسمها تقول أن اسمها "مريم" وتغادر بغتة، ولمّا يهم باللحاق بها تختفي فيسأل حارس المحطة عنها فينفي الحارس دخول أية امرأة وخروجها من وإلى قاعة الانتظار، ثم يخاطبه بهدوء؛ أيها الشيخ، كان الأفضل لك أن تكون نائماً الآن في مكان آخر.
* * *
هكذا تكتبني القطارات ومحطاتها.. هكذا تحدد أقدار شخصيات قصصي، وهذه الشخصيات تسافر دوماً يملؤها قلق المجهول، فهناك محطة قابلة يترصدها فيها مصير ما، أو مفاجأة تضعها على مفترق لم يسبق لها أن توقعتها.
تصير المحطة مركزاً في القص، لا بحضورها المكاني فحسب. لا بدلالتها الزمانية فحسب. لا برمزيتها الوجودية فحسب، وإنما بعدِّها بؤرة استقطاب نفسية تستوعب في طياتها/ فضائها التجليات الحسية، وتهويمات اللاشعور، وانفلاق الأخيلة والرؤى واشتعال الرغبات.
إن الخط الذي يربط المحطات يعطي انطباعاً بكونه دائري في تكوينه الكلي. فمحطة الانطلاق التي تعكس وظيفتها لتكون محطة وصول أيضاً تفضح ذلك الجانب المموه من انفتاحها على الجهات لتؤكد صفة الانغلاق على الذات. وهذا هو شرط أية بنية. فخريطة المحطات تكافئ وتناظر ترسيمة القص لـ "قصة الحياة" وتتوازى مع خطوط السكك، حيث تذهب القطارات وتعود، وتتغير اتجاهات السرد والحكي.
لكن، نكاية بقواعد السرد تغير القطارات مساراتها، ونكاية بالقطارات تتبدل قواعد السرد، لنبقى، بطرق شتى، نحكي.. فنكاية بالحياة نحكي عن الموت، ونكاية بالموت نحكي، ونحكي، ونحكي.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شقاء المثقفين
- فضاء مكتبة.. فضاء الكون*
- سحر ماركيز
- الرواية وسيرة الروائي
- المثقف: إشكالية المفهوم والوظيفة
- كالفينو: الوصايا والإبداع
- مكر كونديرا
- في رواية -الإرهابي- لديفيد معلوف: هل حدثت الجريمة حقاً؟.
- حياة أوفيد المتخيلة
- المثقف والفاشي وهاجس الأرشيف
- في رواية ( كل الأسماء ) لساراماغو: البحث عن الذات عبر البحث ...
- بين كاداريه وساراماغو: أضاليل التاريخ ومناورات الروائي
- في الذكرى المئوية لولادة سارتر
- المجتمع الاستهلاكي: الأسطورة وصناعة الزائف
- الحوار المتمدن في أفقنا المعرفي
- الإعلام والعولمة: كيف يحولنا الإعلام؟
- حوارمع سعد جاسم أجراه بلاسم الضاحي
- هيرمان الساحر
- أدب الرحلات والشرق المفترض
- السيرة الذاتية: حضور الوثيقة ومناورات الذاكرة


المزيد.....




- اصدار جديد لجميل السلحوت
- من الكوميديا إلى كوكب تحكمه القردة، قائمة بأفضل الأفلام التي ...
- انهيار فنانة مصرية على الهواء بسبب عالم أزهري
- الزنداني.. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان
- الضحكة كلها على قناة واحدة.. استقبل الان قناة سبيس تون الجدي ...
- مازال هناك غد: الفيلم الذي قهر باربي في صالات إيطاليا
- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - شهادة: هكذا تكتبني المحطات