|
أنا أكره قاطع التذاكر
سامي البدري
روائي وكاتب
(Sami Al-badri)
الحوار المتمدن-العدد: 7163 - 2022 / 2 / 15 - 14:54
المحور:
الادب والفن
كان أبي آخر من مات من عائلتي، وبموته وجدتني وحيدة بطريقة خانقة وأعاني من وقت فراغ لا أعرف كيف أملأه، رغم أني واصلت ذات الحياة في مزرعة أبي، (بموته آلت ملكيتها إليّ)، مع قطيع الماعز وقبيلة الدجاج (لم أحسن إحصاء دجاجاتي بسبب حركتهن الدائبة) التي كنا نعتاش من بيع حليبها وسلال البيض الكثيرة في سوق المدينة القريبة من مزرعتنا. هل كان أبي يملأ حياتي بشيء لأشعر بالفراغ من بعد موته؟ أبداً، فقد كان يملأ وقته بزراعة ورعاية بعض الخضار في الصباح، أما وقت ما بعد الغداء وحتى منتصف الليل، فكان يمضيه في صحبة أصدقائه في السمر والشراب، كما أظن (كنت اشم رائحة الشراب تملأ البيت عند عودته كل ليلة) وحتى الصباح الذي وجدته فيه ميتاً في سريره، قبل ما يقرب من عام. لم أفهم كيف كان يفكر أبي ولم أعرف ماذا كان يريد من حياته، فهو كان قليل الكلام ويتعامل مع الجميع بحيادية، وخاصة بعد موت أمي. أذكر كيف تلقى قرار أخي الوحيد، عندما أخبره بعزمه على السفر، فكل ما فعله هو إنه قال له ببرود: خذ ما تحتاج من مال من الصندوق كي لا تذلك الحاجة للآخرين وخرج لموعده مع أصدقائه، ولم يذكره بعد ذلك اليوم أبداً وكأنه نسيه فجأة أو لم يعد له وجود في الحياة بعد تلك اللحظة. الصندوق الذي ذكرته هو صندوق خشبي قديم بارتفاع ساق الإنسان المتوسط الطول، وبعرض وطول ساعده، كان يدخر أبي فيه المال.. لحظة، فالأصح أن أقول الذي كان أبي يضع فيه المال، لأن الصندوق لم يكن له قفل، بل لم أر أبي يعد ما فيه من مال يوماً، فمع كل عودة له من المدينة كان يعطيني ثمن ما باع من حليب وبيض ويقول: ضعيها في الصندوق ويخرج. لم يكن أبي بخيلاً، فبعد وفاة أمي (كانت تشتري لي كل احتياجاتي) داوم على أخذي معه للمدينة، كل بضعة أشهر، وهناك كان يعطيني رزمة كبيرة من المال ويقول لي برتابته المعهودة: خذي كل ما تحتاجين إليه ويتركني لثلاث أو أربع ساعات في السوق، قبل أن يعود ليساعدني بحمل مشترياتي، من دون أن يسألني عما اشتريت أو ينظر إليه. بعد وفاته ببضعة أشهر، ومن أجل أن أقتل وقت إحدى الأمسيات فقط، نثرت ما في الصندوق من أموال على الأرض فوجدتها كثيرة جداً، بل وأكثر مما سمح مزاجي بعدها أصلاً. ولأني لم أجد ما أفعله بها، أعدتها إلى الصندوق وأغلقته وفكرت في أني سأحتاج لصندوق جديد أضعه إلى جانبه، لأنه كان قد شارف على الامتلاء برزم المال ولأني واصلت بعده بيع الحليب والبيض بذات الوتيرة. ****** ******* لم يطلبني رجل للزواج أبداً، رغم أني الآن في الثانية والثلاثين. صحيح أني لا أتمتع بذلك الجمال الذي يلفت نظر الرجال، لكني أيضاً لست دميمة تلك الدمامة التي تنفر الرجال. حولي، في بيوت المزارع التي تجاور مزرعتي، بل وحتى في أسواق المدينة التي أبيع فيها الحليب والبيض، أرى الكثير من النساء غير الجميلات متزوجات ولديهن أطفال، فلم أهملني الرجال يا ترى؟ هل سعيت أنا للفت انتباه الرجال إليّ أو تحرشت ببعضهم؟ نعم، ولكن ابتساماتي لم تقابل بغير التواءات سخرية شفاه الرجال. لماذا؟ هل أبدو لهم قروية ساذجة وبلهاء؟ كيف وأنا لا أرتدي غير سراويل الديجينز وأحدث الكنزات؟ لماذا تسلل اليأس إلى نفسي سريعاً ولم أعد أبتسم لرجل إذاً؟ في إحدى الظهيرات الدافئة اشتقت لأخي وتخيلت أنه سيعود في قطار ذلك المساء، فذهبت إلى محطة القطار لأستقبله. رصيف المحطة كان مزدحماً، بالمسافرين والمستقبلين، إلى حد أني لم أجد مقعداً أجلس عليه سوى المقعد المقابل لشباك مكتب قاطع تذاكر المحطة الزجاجي. كان المكتب ناتئاً عن بناء المحطة بنصف دائرة واسع، الأمر الذي كان يسمح لقاطع التذاكر بمراقبة رصيف المحطة بكامله، بل وبإحصاء كامل رواده لو شاء. أبهجني دفء شمس الشتاء وضجيج المسافرين فاسترخيت مستمتعة بسماع أصوات الناس وما كان يصلني من نتف أحاديثهم، ربما لساعة وأكثر، قبل أن أتنبه إلى أن عينيّ قاطع التذاكر كانت تنغرز بي وتراقبني نظراته بعدائية لم أفهم لها سبباً. تجاهلت نظرات قاطع التذاكر وشغلت نفسي بمراقبة رواد المحطة وحتى ساعة وصول القطار، الذي تحول إلى عازل يحميني من سوط نظراته لأكثر من نصف ساعة، ولكن بعد نزول من وصل وصعود من سافر من أهل المدينة ومضي القطار في طريقه باتجاه العاصمة، عدت لمواجهة نظرات قاطع التذاكر، بطريقة أكثر حدة وأعمق أثراً، بسبب فراغ رصيف المحطة وهدوئها الموحش، بعد ذهاب الجميع. ولأن شعوري بتلك النظرات قد تعمق مع فراغ المحطة ولم يعد فيها ما ترصده غيري، تركت المحطة وعدت إلى البيت، من دون أن أنبه قاطع التذاكر إلى أني قد تنبهت لنظراته. ولكن وبسبب الوحدة وتراكماتها عليّ، داومت على التردد على رصيف المحطة عصر كل يوم، حتى ألفتني عينا قاطع التذاكر أو نسيتني ربما، أو هكذا بدا لي. بل ومع توالي الأيام، وربما بسبب تزايد عدد المسافرين، في فصليّ الربيع والصيف، اقتنعت فعلاً أني انتظر عودة أخي المسافر وأنه لابد سينزل، ذات يوم، مع من ينزل من الواصلين في القطار المسائي، وإلى أن نزل شخص له هيئة وملامح أخي فعلاً، ذات مساء ساخن، فهببت دون تفكير لاحتضانه وتقبيله في أكثر من مكان من وجهه وجبينه، دون أن أنتبه إلى إنه كان يقف أمامي مذهولاً وعلامات الدهشة والاستغراب تملأ وجهه، إلى اللحظة التي تقدم فيها قاطع التذاكر، من وراء ظهري، ليرفع كفي عن خد ذلك الشاب ويبعدني عنه وليقول، وهو يومئ برأسه له بما يشبه الاعتذار: عندما تفكرين باصطياد رجل فأذهبي بعيداً عن محطتي، فالمحطة مؤسسة حكومية ورصيفها يجب ان يبقى نظيفاً وبكامل هيبته. لهول ما سمعت من قاطع التذاكر والطريقة التي فكر بها في نواياي، لم أستطع الرد عليه بأي كلمة، بل أسرعت للهروب من أمامه وأنا أتعثر بخطواتي من الخجل الممزوج بالغضب. في الجهة الثانية من بناية محطة القطار، وهي الجهة التي تطل على المدينة، كان الشاب الذي عانقت يصطف بين العشرات ممن وصلوا في قطار ذلك المساء، في انتظار الحصول على سيارة أجرة تقله إلى بيته أو المكان الذي يقصده.. كان وجهه خالياً من أي تعبير ونظرته لا تدلل على إنه كان يفكر بشيء فتساءلت: هل أنا قبيحة ومنفرة إلى حد أنه لم يتعاطف معي، كما يفعل معظم الرجال في مثل هذه المواقف عادة؟ أما كان بمقدوره أن يختلق عذراً لي ويصرف عني قسوة قاطع التذاكر؟ هل كانت مصادفة أن يتفق الاثنان على النظر إليّ بازدراء وشك في نواياي؟ هل يعقل أن تفعل الوحدة كل هذا بالإنسان؟ بعد عودتي إلى البيت، وفي مطبخي الواسع فتحت الثلاجة عدت مرات وأعدت اغلاقها. حاولت غسل الزجاجات التي أوزع بها حليب الماعز في السوق، دون أن أتمكن من التقدم من حوض الغسيل خطوة واحدة. كنت بحاجة لفعل شيء.. ما هو؟ أخذت مصباحي اليدوي وخرجت باتجاه حظيرة دجاجاتي، هل سأتمكن من عدهن وهن تحت سلطان العتمة؟ هل يساعد عد الدجاج في شيء، كالركض حد الانهاك مثلاً؟
#سامي_البدري (هاشتاغ)
Sami_Al-badri#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
برلمان لمحاسبة البرلمان على فساده!
-
عندما تربح الديمقراطية وتخسر الوطن
-
لو نجح كوفيد 19
-
عقبة القصور (وجودية كولن ولسن الجديدة)
-
انتخابات جديدة بخلافات قديمة
-
كعادتها، بغداد تصلني متأخرة
-
تفاح أحمر يزاحم المارة
-
طرق حب لم تخترع بعد
-
عندما تكونين شاعرة
-
أمريكا وميزان الإرهاب الإيراني الأفغاني
-
طالبان، عقدة السياسة أم عقدة الأيديولوجيا؟
-
للوطن جيش واحد وللأحزاب جيوش
-
صباح عادي مع رولان بارت، رغم تأخره
-
ليست مرثية يا سعدي، بل هو وجعنا... إذ يتصبب على أسوار الوطن
-
قراءة في مقال السيد الرئيس
-
التشرذم السياسي العراقي
-
إذ يكون الشعب عاقاً!
-
صاحب القوة هو الذي يحدد ما هو الصواب
-
حماس وقرار الحرب الفلسطيني
-
طبقة سياسية هرمة
المزيد.....
-
-شظايا رسومات- معرض جماعي لـ9 فنانين تشكيليين بطنجة
-
تراجع الإيرادات السينمائية بأميركا.. هل فقدت دور العرض بريقه
...
-
“نزلها الآن” تحديث تردد كراميش 2024 على النايل سات وعرب سات
...
-
“الحلقـة كاملـه HD” مسلسل قيامة عثمان الحلقة 174 مترجمة للعر
...
-
من الستينيات إلى اليوم.. كيف جسدت السينما الفلسطينية شخصياته
...
-
سنجاب عالق يفوز بجائزة التصوير الكوميدي للحياة البرية لعام 2
...
-
أول رد للمخرج عمر زهران بعد اتهامه بسرقة مجوهرات شاليمار شرب
...
-
رجل أعمال مصري يدعو منتجي الأفلام إلى تصوير أعمالهم في موسكو
...
-
لأول مرة.. فاليري غيرغييف يتولى قيادة أوركسترا باليه -كسارة
...
-
الشاعر السوري أدونيس بعد سقوط بشار الأسد: -المسألة ليست تغيي
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|