أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رواء محمود حسين - سؤال المنهج: الحلقة الثانية















المزيد.....


سؤال المنهج: الحلقة الثانية


رواء محمود حسين

الحوار المتمدن-العدد: 7152 - 2022 / 2 / 3 - 23:19
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


علم الروح الديني:
ايديولوجيا الماهية، ومقاربات الفعل

من لحظة القراءة الاولى للكتاب الحكيم، أو (اوليات التأمل)، يبدأ حوار المتدين، مع الدين، أو تبدو ماهيته وتتركز، إذ تبرز بوصفها مدركات للتأمل الاول المنظور والحاس في كتاب الحكيم، ماهيات كلية لعلم الروح الديني، و(لباقي المناهج الدينية عموماً)، حين يكشفها لتأمل أو يكتشف مناهج فكر وفعل أو خصائص تصور فاعل، أو لحظة المبدع من التأمل المجرد إلى التأمل الفاعل، الرمز إلى المحسوس إلى المشهود أو الكائن، من الذات إلى الجمع إلى الذات، من الأنا إلى الكل، إلى الموجود الأول ثم الثاني، وعلاقة الثاني بالأول أو العكس. اتصال المادي باللامحسوس، (خصائص الميتافيزيقيا)، يقين الكائن الموجود باللاوجود المادي وموجوداته، (الغيب)، أو حلقة الوصل بين الموجود والوجود، التركيز هناعن الغيبي، اذ العلاقة ايمانية، تستوجب رؤية لما بعد البعد، (خلف ظواهر البعد)، او (لافينومينولوجيا الفينولوموجيا)، أو خروج من وجود إلى لا وجود كالأول، مع بقاء في وجود الأول، ولاامكانيات للخروج كنتيجة لفقدان الات الخروج أو وسائله، إلا بقوة فعل نفسي (سيكولوجي) داخلي، يشرك عناصر الفاعل (الخارج) كلها: العقل، الحس، الإرادة، العاطفة. وغيرها، كلها. وقوة من خارج، (لافعل سيكولوجي داخلي)، لتمكين الفاعل، (انجازية تزويد إلهي أو امداد)، بالتالي لتحقيق انجازية الفعل، وهي الخروج من المادي إلى اللاكائن اللامادي (اللامُتَصوَّر)، الغيب، وايمان به.
يقول الاسفرايني: " اعلموا اسعدكم الله: أن الله تبارك وتعالى أمر عبده بمعرفته في ذاته وصفاته، وعدله وحكمته وكماله في صفته، ونفوذ مشيئته، وكمال مملكته، وعموم قدرته، ولا تتكامل المعرفة بذلك كله الا بنفي النقائص عنه. وبإثبات أوصاف الكمال له من غير أن يشوبه شيء من بدع المبتدعين، والحـاد الملحدين وكان أمره تعالى متضمناً لأمرين، المعرفة بما أوجب معرفته، والاحاطة بما أوجب عليه مجانبته حتى إذا اجتمع له الوصفان تحقق له وصف الإيمان على سبيل الإتقان والإيقان، والمفارقة لما يوسوس لكثير منهم من الشبه وحبائل الشيطان..." [1]
ويقول الغزالي: " إنه لا مستند للشرع إلا قول سيد البشر صلى الله عليه وسلم، وبرهان العقل هو الذي عرف به صدقه فيما أخبر، وكيف يهتدي للصواب من اقتفى محض العقل واقتصر، وما استضاء بنور الشرع ولا استبصر؟ فليت شعري كيف يفزع إلى العقل من حيث يعتريه العي والحصر؟ أو لا يعلم ان العقل قاصر وأن مجاله ضيق منحصر؟ هيهات قد خاب على القطع والبتات وتعثر بأذيال الضلالات من لم يجمع بتأليف الشرع والعقل هذا الشتات. فمثال العقل البصر السليم عن الآفات والاذاء". [2]
ويضيف الغزالي: "ومثال القرآن الشمس المنتشرة الضياء. فاخلق بأن يكون طالب الاهتداء. المستغني إذا استغني بأحدهما عن الآخر في غمار الأغبياء، فالمعرض عن العقل مكتفياً بنور القرآن، مثاله المتعرض لنور الشمس مغمضاً للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان. فالعقل مع الشرع نور على نور، والملاحظ بالعين العور لأحدهما على الخصوص متدل بحبل غرور. وسيتضح لك أيها المشوق إلى الاطلاع على قواعد عقائد أهل السنة، المقترح تحقيقها بقواطع الأدلة، أنه لم يستأثر بالتوفيق للجمع بين الشرع والتحقيق فريق سوى هذا الفريق. فاشكر الله تعالى على إقتفائك لآثارهم وانخراطك في سلك نظامهم وعيارهم واختلاطك بفرقتهم؛ فعساك أن تحشر يوم القيامة في زمرتهم. نسأل الله تعالى أن يصفي أسرارنا عن كدورات الضلال، ويغمرها بنور الحقيقة، وأن يخرس ألسنتنا عن النطق بالباطل، وينطقها بالحق والحكمة إنه الكريم الفائض المنة الواسع الرحمة". [3]
الغيب: موقع انجازية الفعل أو تحقيقها، أو محل شهود الإيمان الديني وحضوره، وجود مالامادي الوجود، والوجود اللامادي. الإيمان الديني يقتضي شهوداً في الغيب كله، بتفصيلاته، إذ لاتنصيصات تجزيئية لفعل الايمان. والغيب عوالم، يستدعي الايمان بالغيب في الدين انجازية فعل، كالمشارة، ونقلة نوعية، كما تقدم، من محسوس إلى لامادي، ولامادية الغيب اللامادي توجب (قوة)، أو فعل بالقوة لإنجاز الفعل، أو تحقيق الفعل موضوع الإنجاز، هذا من جهة، ومن أخرى، إمكانيات المنجز المحدودة، ووسائله القاصرة، تزيد الفعل قوة، ممايتطلب قوة إضافية لتحقيق انجازاته. ولا مادية الغيب تؤكد شهودها في مادية المادي أو المحسوس، وتفرض حضورها أو تؤكده، لتركز علاقة اللامادي بالمحسوس المادي، أو الروحي بالمادي اللاروحي. ولتضع حداً نهائياً للفصلة التمييزية بين المادي والروحي، المحسوس واللامشاهد. تفصيلات المادي المشاهد تؤكد فعل ماورائي للمادة، (لافينومينولوجيا المادة)، لتشكيل المادي بتفصيلاته المشارة.
يبين الغزالي أن الموجود إما أن يكون واجب الوجود أو ممكن الوجود، وممكن الوجود لا بد وأن يتعلق بغيره وجوداً ودواما، والعالم بشموله ممكن الوجود فيتعلق بواجب الوجود، والنفس جوهر والباري ليس بجوهر لأن الجوهر هو الموجود لا في موضوع أي إذا وجد يكون وجوده لا في موضوع وهذا ينذر بالحدوث، والجوهر عبارة عن حقيقة وجود وواجب الوجود حقيقته وجوده ووجوده حقيقته، ووجود النفس وأنه جوهر ببرهان خاصي وبرهان تقريبي المقدمات والبرهان الخاصي أن النفس لا يعزب ذاته عن ذاته، وإذا كان في الوجود من مبدعاته ما يكون بهذه الصفة فالقول في موجود ينال به كل حق وجوده فإن كل حق من حيث حقيقته الذاتية التي بها هو حق متفق واحد غير مشار اليه، فكيف القيوم على الملكوت وإذا كانت النفس لا تعزب ذاته عن ذاته مع أنه ليس بواحد صرف، فالواحد الحق الذي لا يجوز في وحدانيته التكثر والتجزي والتثني أولى بأن لا يعزب ذاته عن ذاته فيكون عالماً بنفسه وعالماً بجميع ما أبدعه واخترعه وأوجده وكونه لا تأخذه سنة ولا نوم، وهذا هو معنى الحي فإن الحي هو الواحد العالم بذاته. [4]
والإيمان بالغيب حضور اللامحسوس في الوجود المادي للمحسوس، وعلاقته غير منقطعة بالوجود المادي وموجوداته، ذو علاقة تفاعلية مع المحسوس، او اتصال يومي بلحظاته، وأجزائها إلى المتناهي. إذن يتشكل لدينا عالمان: المادي واللامادي (الغيبي)، وخصائص الثاني بالتأكيد لامادية، اذ هو ببساطة لاذو جزئيات مادية، تؤكد ذلك بنيته اللغوية قبل كل شيء. وبين العالمين علاقة ترابط واتصال، لاعلاقة متفككة او منفصلة.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا: إن "لله تعالى سننا فى نظام ذلك العالم غير سننه الخاصة بعالم المادة، وأن الإنسان هو حلقة الاتصال بين العالمين، فجسده ووظائفه الحيوية من عالم الشهادة، وروحه من عالم الغيب، وهو ما دام فى عالم الجسد المادى فإن جميع مداركه تكون مشغولة بعالم المادة وسننها، وحاجاته الشخصية والنوعية منها، فيحجبه ذلك عن عالم الروح الغيبى حتى روحه وهى الفصل المقوم لحقيقته، وإنما يكون الظهور والسلطان للروح على الجسد فى الحياة الآخرة، إلا من اصطفى الله تعالى من رسله وأنبيائه فأعدّهم بفضله ورحمته للاتصال بملائكته والتلقى عنهم، وأظهرهم على ما شاء من غيبه ليبلغوا عباده عنه ما أمرهم به، وقد يشرف غيرهم من الأصفياء وأصحاب الرياضات النفسية على بعض الخواص الروحية دون ما يطلع عليه الله أنبياءه ورسله عليهم السلام". [5]
يبين الغزالي أن القوى تتجزأ إلى محركة ومدركة، والمدركة تتجزأ إلى ظاهرة كالحواس الخمس وباطنة كالمشاعر الباطنة كالتخيل والوهم وغير ذلك، ثم ما يتخصص بالإنسان العقل وهو ينقسم إلى العقل النظري والعملي، وهكذا إن جميع أفعال الله تعالى تنقسم إلى عقول مجردة عن المواد مشاهدة لجلال الله تعالى، ولهم رموق الجلال الأعلى ولهم الوصول بلا انفصال، وإلى نفوس محركة للسماوات وإلى أجسام وكما أن الجسم الذي هو البدن يتأثر من القوى المركبة فيه ولا يؤثر والعقل العملي يؤثر في القوى الحيوانية ويتأثر من العقل النظري والقوى الحيوانية تتأثر من العقل العملي وتؤثر في الجسم وأعضاء البدن. [6]
إن جميع أفعال الله تعالى تنقسم إلى هذه الأقسام متأثر لا يؤثر ومؤثر لا يتأثر فالمتأثر الذي لا يؤثر هو أجسام العالم والمتأثر الذي يؤثر هي النفوس فتتأثر من العقول وتؤثر في اجسام السماوات بالتحريك وبواسطة تحريك السماوات في عالم العناصر والعقول تؤثر ولا تتاثر بل كمالاتها حاضرة معها ليس لها استكمال وان كانت تلك الكمالات من ربها وخالقها ومبدعها تعالى وتقدس فالطبيعة في عالم الأجسام مسخرة للنفس تفعل فعلا سواء علمت ما تفعل أو لم تعلم كما أن النفس مدبرة للعقل تعلما سواء طلبت العلوم أو لم تطلب فانتهجت الطبيعة بالتسخير منهاج ما فوقها بالتدبير. [7]
على أساس ذلك، يكون للغيب موقف حضوري أو شهودي، قائم على ركيزة وجودية، لا منفصلة عن حياة الموجود وتفصيلاتها في الوجود المشاهد او المنظور (الموجود المتدين)، بتعبير أكثر تخصيصاً، وحلقة الوصل بين المشاهد واللامنظور قائمة على الوصل بين العالمين (العقل المؤمن) بينهما (الوجود وما بعد الوجود)، على اساس الإيمان، ليعبر بها عن فعل، عن فكر فاعل، لاعن مجرد موقف من متعين لاموجود سلبي، أو حتى ايجابي بالمعنى السلبي، بل حضور أو شهود من قبل اللاموجود المتعين (اللامادي) في الوجود المادي، وصلة عالم ما ورائي لامادي، وارتباط الاخير (بالوجود المادي)، عن طريق وصلة شفافة تحكم الارتباط ، (قوانين ارتباط اللامادي بالطبيعي).
يبين الشيخ محمد رشيد رضا أن الغيب قسمان حقيقى وإضافي، فالغيب: "ما غاب علمه عن الناس"، وهو قسمان: غيب حقيقىّ لا يعلمه إلا الله، وغيب إضافىّ يعلمه بعض الخلق دون بعض لأسباب تتباين بتباين القابلية الفطرية والعمل الكسبي، ومن أظهره الله على بعض الغيب الحقيقى من رسله فليس لهم فى ذلك كسب لأنه من خصائص النبوة غير المكتسبة. [8]
ومن هنا نتبين الفرق الهائل بين مفهوم الغيب في الحكمة الإسلامية ومفهوم (الميتافيزيقا) في الفلسفات الحديثة (ومنها ميتافيزيقا التاريخ)، يتم استبدال الميتافيزيقيا الدينية وهي من أصول الإيمان، بميتافيزيقيا من نوع ثانٍ، أسميها (ميتافيزيقيا افتراضية)، إذ يتم ذبح (الإيمان اليقيني) على مذبح (الاعتقاد الافتراضي)، كما تقدم، اسميه الان (دوكماتيقي).
يواجه الفيلسوف الوضعي المنطقي كارل بوبر التاريخية الماركسية في كتابه: " بؤس التاريخية"، فيقول: " ولايمكن أن يكون هناك تنبوء بمسيرة التاريخ البشري بطرق علمية أو بطرق عقلانية أخرى".
يقدم كارل بوبر أطروحاته حول استحالة امكانية التنبوء بالمسار التاريخي للتاريخ، رداً على ماحول ماركس ان يقدم افتراضات تصنيفية حول حركة التاريخ (في المستقبل) قياساً على دراسة حركته (في الماضٍ)، حيث يبدأ بوبر نقده (لميتافيزيقا التاريخ)، التسمية من عندنا، عند مذهب التاريخية، بقوله: " لقد حاولت ان اظهر في " بؤس مذهب التاريخية "، ان مذهب التاريخية منهج بائس-منهج لايقدم اي ثمار.. ولقد أفلحت في تقديم.. دحض لمذهب التاريخية: لقد أظهرت لاسباب منطقية صرفة، أنه يستحيل علينا التنبوء بمسيرة التاريخ المستقبلية".
لييس من حيز الدراسة او امتدادها ما يمكّن استعراض كل الحجج التي يسوقها بوبر في نقده لمذهب التاريخية، لكن في الوسع استعراض تلخيص بوبر في مجادلته للتاريخية بالعبارات الخمس المنطقية في تسلسلها، والتي تكاد تشكل خلاصة مركزة لافكاره:
1- تأثر مسيرة التاريخ الانساني تأثراً قوياً بنمو المعرفة الإنسانية.
2- لايمكننا أن نتنبأ بالطرق العقلانية أو بالطرق العلمية، بالنمو المستقبلي لمعرفتنا العلمية..
3- من أجل هذا لايمكننا أن نتنبأ بالمسيرة المستقبلية لتاريخ البشرية.
4- هذا يعني أنه يجب علينا رفض امكانية التاريخ النظري، أي رفض إمكان وجود علم اجتماعي تاريخي يماثل الفيزياء النظرية. ولايمكن أن تكون هناك نظرية علمية للتطور التاريخي تكون اساساً للتنبوء التاريخي.
5- من أجل هذا، اسيء فهم الهدف الجوهري لطرق أنصار مذهب التاريخية.. وبهذا ينهار مذهب التاريخي. [9]
على أساس ماتقدم، يبدو الان لامبرر، وكما قدمنا لإنهاء (الإيمان اليقيني)، الذي تسنده علوم كثيرة: سيكولوجية، كونية، باراسيكولوجية، وغيرها من أجل (الاعتقاد الفلسفي)، المستند بفرضية القياس التاريخي وحسب، كما تقدم.
أما البعد الثاني من أبعاد حياة الإنسان المتدين فهو الصلاة، وهو فعل حضاري، مبني على اتصال روحي، قائم على صلة فعلية (جوانية وبرانية) من قبل الموجود المادي، (المحدود الوجودي: الإنسان المسلم)، تجاه الله، وهي حركة وفعل، وأساس لكل حركة فاضلة، وفعل نبيل، أو فكر ديني فاعل ومغير. التغيير، أو الفعل الديني المغير من واقع الى آخر ـفضل، يبدأ من الصلاة. وإذا كان الفعل الإيجابي المتدين (الصلاة) ينهى عن الفعل اللايجابي (السلبي: الفحشاء والمنكر)، فطبيعي أن يتصور العقل المتدين على أساس ذلك، نقيض السلبي الوارد في الآية، أي طبيعة الفعل الديني المغير المذكور، الفعل الإيجابي المسلم، على نقيض الفحشاء والمنكر بتعبير كلي آخير.
(المحدود الوجودي: الإنسان المتدين)، إذ يؤدي العبادة المشارة(الصلاة) ينطلق من فعل، التركيز هنا على حركة المحدود الوجودي، لا من مجرد تأمل، أو فكر مجرد، أو تجريد، والعبادة في الدين: الصلاة مثلاً تجريد فاعل ومتأمل، يحرك المسلم المصلي من المجرد إلى الواقع، ويعمل على تغييره، مبتدأ بالمحدود الوجودي نفسه. إذ لم تكن الصلاة في الدين، مجردة من واقع، بل كانت تجرد في واقع، والتجرد هنا يقصد تحريك الواقع، أي تغييره، من خلال الإبتداء بالحركة الموجودة في التجرد المحرك نفسه، أي الصلاة. ولا أقصد التجريد الفلسفي، إذ أشير إلى الصلاة، أعني البعد الماورائي لصلاة المتدين. إذا سلمنا أن الصلاة لامجرد حركة أو حركة مجردة في الإسلام، بل إنها حركة المجرد قبل المحسوس، تغيير اللامشاهَد قبل المنظور، أقصد حركة الروح، أو المثالي الماورائي للواقع المادي. من المادة، إذن بالنسبة للمحدود الوجودي: الإنسان المتدين هنا، من اللامرئي أو المشاهد، من روح ماقبل المادة، تبدأ حركة المادة، ولتبدأ بعد ذلك حركتها كلاً وحركة كل المواد. عن طريق فعل خلاق أو مبدع، وسيلة الصلاة، يبدأ في المحدود الوجودي: الإنسان المتدين، خلاق أو مبدع، تبدأ، وسيلته الصلاة، يبدأ في المحدود الوجودي: الانسان المتدين، حركة من داخل، من حيث جانبه (اللامنظور) فيه (الروح)، ليحرك مادته. اذن من خلف الصلاة، او ماقبلها، (ماوراء الصلاة)، فيها، أي البعد اللامشاهد، أو أسرارها، يكمن غرض الصلاة، أي هدفها، تحريك المحدود الوجودي من واقع إلى آخر، بقصد تغييره، أي إلى واقع أفضل، أو أكثر خيراً. على أساس ذلك، فصلب النظرية التغيرية في الدين (الفعل المنتج المتدين)، يبدأ بالصلاة، العبادة اليومية، على اساس ما تقدم.
إذن النظام الروحي الخاص بالصلاة في الدين، يجاوز نظام هيجل (العقلاني):
يقول هيجل: " إن الفكرة الوحيدة التي تجلبها الفلسفة معها وهي تتأمل التاريخ؛ هي الفكرة البسيطة عن العقل، التي تقول: إن العقل يسيطر على العالم، وأن تاريخ العالم، بالتالي، يتمثل أمامنا بوصفه مساراً عقلياً. هذا الحدس والاقناع هو مجرد فرض في مجال التاريخ بما هو تاريخ، لكنه ليس فرضا في مجال الفلسفة. ففي الفلسفة تم البرهنة بواسطة المعرفة النظرية على أن العقل ـ وربما كان هذا اللفظ كاف لنا هنا دون أن نبحث في العلاقة التي يفترضها بين الكون وبين الله قوة لا متناهية سواء بسواء؛ ويكمن مضمونه اللامتناهي خلف كل حياة طبيعية وروحية ينشئوها كما تكمن صورته اللامتناهية التي تحرك هذا المضمون". [10]
ويضيف هيجل: "فالعقل من ناحية جوهر الكون أعني ما يكون به وفيه وجود كل واقع حقيفي وبقاؤه. وهو من ناحية أخرى الطاقة اللامتناهية للكون، ما دام العقل ليس من بحيث يعجز عن إنتاج أي شيء سوى مجرد مثل أعلى أو مجرد نية، وبحيث يتخذ مكانه خارج الواقع، في موضع لا يعلمه أحد، ويكون شيئاً منفصلا مجرداً، بوجد في رؤوس بعض البشر؛ ولكنه المركب اللامتناهي للأشياء، وهو ماهيتها وحقيقتها الكاملة، إنه مادته الخاصة التي يتعامل معها في نشاطه الايجابي الخاص، ما دام لا يحتاج، كالأفعال المتناقضة، إلى شروط مادة خارجة ذات وسائل معينة يستمد منها دعامة له وموضوعات لنشاطه. فهو [أي العقل] يزود نفسه بغذائه الخاص، وهو نفسه موضوع عملياته؛ وعلى حين وحده اساس وجوده وغايته النهائية المطلقة، فإنه أيضاً القوة المنشطة التي تحقق هذه الغاية وتطورها: ليس فقط في ظواهر العالم الطبيعي بل أيضاً في العالم الروحي، أعني في التاريخ الكلي". [11]
ويقول هيجل أخيراً: "أما أن هذه الفكرة، أو هذا والعقل، هو والحق، والخالد، وهو الماهية ذات القوة المطلقة، وأنه يكشف عن نفسه في العالم، وأنه في هذا العالم لا يتكشف شيء سواء، أعني سوى هذا العقل ومجده، وعظمته فتلك الدعوى التي برهنت عليها الفلسفة كا قلنا، والتي نعدها هنا دعوى تم إثباتها". [12]
الصلاة إذا فسّرناها على أساس كونها حركة، في داخل المحدود الوجودي: الانسان المتدين، فهي حركة واقع مادي كائن منظور، من قبل او بواسطة اللامادي الواقعي (الروح)، اذ تعبر الصلاة عن حركة محسوس بواسطة مجرد، فهي تعبر عن واقع فاعل او محرك، اذ يتم فيها الأداء الفعلي لفعل المحدود الوجودي: الإنسان المتدين، من مجرد إيمان أو ايمان تجريدي، إلى فعل مشاهَد، او واقع فاعل (إقامة الصلاة). على أساس ذلك، يفعل الإيمان بالغيب اللامنظور الحسي، أو يؤدي دوره من مجرد تجريدي، إلى تجريد فاعل أو مؤثر، حين يؤدي بالمحدود الوجودي إلى إقامة الصلاة. من (المؤمنين) إذن الفعل الفاعل (المقيمين)، ليعبر الفعل (يقيمون) عن علاقة لامجردة، مع(المؤمنين)، بل عن علاقة فاعلة، مؤثرة وخلاقة. على أساس ذلك يقوم اللامشاهد الموجود (الغيب)، او يؤكد حضوره، بتعبير آخر، ما أشرناه قبلاً، الواقعي ، من خلال المحدود الوجودي : الإنسان المتدين (الصلاة)، والمحدود الوجودي المذكور كائن واقعي واقع بين الفعلين (الإيمان بالغيب) و (إقامة الصلاة)، إذ يعبر موقعه وموقفه أو تعبر كينونته عن تجريد، وعن حركة (اللامنظور الوجودي): الروح في (المشاهَد الحسي): الوجود المادي للمحدود الوجودي، أي مادته، وعن فعل لامجرد كذلك، من الايمان باللاوجود المادي: الغيب، إلى حضوره أو شهوده في المادي، أي الموجودات المادية كلها، وفي ذات المحدود الوجودي: الإنسان المتدين نفسه، حين ينتقل من كل هذه الممارسات اللاتجريدية التأملية الخالصة من فعل إلى آخر افضل، أو حضور فعل بتعبير آخر، يؤكد الثاني الأول، ويعبر عن ممارسة عملية (سلوكية) له، أو عن فكر فاعل، وليؤسس صلب النظرية الدينية الجديدة والمعاصرة في التغيير (من المثالي إلى الواقعي).
على أساس ماتقدم، فالصلاة حركة أو فعل من مجرد ايمان غيبي (تجريدي) في داخل المحدود الوجودي: الإنسان المسلم، نحو فعل، أو نقلة نوعية من فكر إلى فعل، يؤكد حضور الايمان اللاتجريدي (الإيمان الفاعل) على أساس حركة خارج المحدود الوجودي المسلم، من الإيمان الغيبي المشار، نحو فعل يمثله أداء الصلاة. إذ يقوم بتحريك داخل المحدود الوجودي المتدين اولاً، جانبه اللامنظور أو اللامشاهد (الروح)، ليحرك أخيراً، المحدود الوجودي المتدين من خارج، نحو فعل الصلاة بوصفه فعلاً مجرداً اولاً، ولمقتضاها، وهو الجانب المهم، الفعل أو التغيير نحو واقع فاضل، يبدأ من المحدود الوجودي: الإنسان المتدين، تجاه الوجود كله، والعالم بقسميه الطبيعي والميتافيزيقي، ولتبدأ العلاقة الجدلية من جديد، الغيبي إلى الوجودي إلى الغيبي، على أساس حركة متوازنة تجاه كل من الغيبي والوجودي، المثالي والواقعي، أو الروحي والمادي، بتعبير آخير. (الوجودي) في حركة العلاقة الجدلية المشارة (الغيبي الى الوجودي الى الغيبي) وهوفردي وجمعي في ذات الوقت. فعل المحدود الوجودي المتدين الفردي، على أساس أدائه الصلاة وحركاتها في داخله من المثالي الى الواقعي، من اللامنظور إلى المشاهد (حركة الروح إلى حركة الجسد).
حركة الفعل العبادي المذكور، حركة فرد ثم حركة مجموع على أساس الواقعي في مفهوم الصلاة بوصفها عبادة في الدين. أداء المحدود الوجودي المتدين الفردي مع المحدود الوجودي المتدين الجمعي، حركة فرد تجاه مجموع، إذ يقف الكل في صف واحد وجودي، حركة تشد الفرد (المحدود الوجودي الواحد المتدين) تجاه (المحدود الوجودي الجمعي المتدين)، إذ يؤكد الفعل نفسه، وحدة الحركة الفردية – الجمعية. وبالتالي يقيم علاقة (وحدة الفعل الفردي – الجمعي)، وأواصر القربى الفردية – الجمعية في الاسلام. على ذلك ف(وحدة الفعل المنتج في الدين) تنطلق نظريتها من خلال فعل العبادة فيه (الصلاة)، لتؤكد وحدة الفعل الفردي – الجمعي فيه، فلا فعل فردي على حساب فعل جمعي، ولاحركة جمعية على حساب الفرد، مما يؤكد أو يركز أخيراً وحدة الممارسة الفاعلة بين الفردي والجمعي في الدين .

الهوامش:

________________________________________



[1] الإسفرايني: "التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن فرق الهالكين"، تحقيق كمال يوسف الحوت، عالم الكتب، ص 13.
[2] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ): " الاقتصاد في الاعتقاد"، وضع حواشيه: عبد الله محمد الخليلي الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1424 هـ - 2004 م، ص 10.
[3] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ): " الاقتصاد في الاعتقاد"، ص 10.
[4] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ): " معارج القدس في مدراج معرفة النفس"، الناشر: دار الآفاق الجديدة - بيروت الطبعة: الثانية، 1975، ص 165.
[5] محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني (المتوفى: 1354هـ): " الوحي المحمدي"، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى، 1426 هـ - 2005 م، ص 150.
[6] الغزالي الطوسي: " معارج القدس في مدراج معرفة النفس"، ص 172.
[7] الغزالي الطوسي: " معارج القدس في مدراج معرفة النفس"، ص 172.
[8] محمد رشيد بن علي رضا: " الوحي المحمدي"، ص 150.
[9] كارل بوبر: "بؤس الأيديولوجيا: نقد مبدأ الأنماط في التطور التاريخي"، ترجمة عبد الحميد صبره، ط1، دار الساقي، بيروت، 1992م، ص 7 – 8.
[10] هيجل: "العقل في التاريخ"، المجلد الأول من "محاضرات في فلسفة التاريخ"، ترجمة وتعليق د. إمام عبد الفتاح إمام، ط3، دار التنوير، بيروت، 2007م، ص 78.
[11] هيجل: "العقل في التاريخ"، المجلد الأول من "محاضرات في فلسفة التاريخ"، ص 207.
[12] هيجل: "العقل في التاريخ"، المجلد الأول من "محاضرات في فلسفة التاريخ"، ص 207.



#رواء_محمود_حسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حنة ارندت ومفهوم حداثة الثورة: نقد موجز
- سبينوزا ومنهج اصلاح العقل: قراءة ناقدة ومقارنة
- نقد الاركونية / الحلقة الخامسة
- نقد الاركونية / الحلقة الرابعة
- نقد الاركونية / الحلقة الثالثة
- نقد الاركونية / الحلقة الثانية
- نقد الاركونية / الحلقة الأولى
- في اللعب
- خاطرة في الأدب (2)
- خاطرة في الأدب (1)
- خاطرة في الطوفان
- خاطرة في صبر أيوب
- خاطرة حول ابن خلدون
- خاطرة جوزية
- خاطرة في الحنين إلى الوطن
- خاطرة في الفرح
- خاطرة في معرفة النفس
- خاطرة في الهجرة
- حنة آرندت ونقد التوتاليتارية
- خاطرة في التاريخ (2)


المزيد.....




- جعلها تركض داخل الطائرة.. شاهد كيف فاجأ طيار مضيفة أمام الرك ...
- احتجاجات مع بدء مدينة البندقية في فرض رسوم دخول على زوار الي ...
- هذا ما قاله أطفال غزة دعمًا لطلاب الجامعات الأمريكية المتضام ...
- الخارجية الأمريكية: تصريحات نتنياهو عن مظاهرات الجامعات ليست ...
- استخدمتها في الهجوم على إسرائيل.. إيران تعرض عددًا من صواريخ ...
- -رص- - مبادرة مجتمع يمني يقاسي لرصف طريق جبلية من ركام الحرب ...
- بلينكن: الولايات المتحدة لا تسعى إلى حرب باردة جديدة
- روسيا تطور رادارات لاكتشاف المسيرات على ارتفاعات منخفضة
- رافائيل كوريا يُدعِم نشاطَ لجنة تدقيق الدِّيون الأكوادورية
- هل يتجه العراق لانتخابات تشريعية مبكرة؟


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رواء محمود حسين - سؤال المنهج: الحلقة الثانية