أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رواء محمود حسين - نقد الاركونية / الحلقة الثالثة















المزيد.....


نقد الاركونية / الحلقة الثالثة


رواء محمود حسين

الحوار المتمدن-العدد: 6692 - 2020 / 10 / 1 - 22:31
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


نقد الاركونية
الحلقة الثالثة

الفصل الثالث
تاريخية بلا تاريخ
التاريخ الإسلامي من القطيعة إلى التواصل


المبحث الأول
نظرة آركون إلى التاريخ الإسلامي


(1): نشأة الفكر العربي:
يعتقد آركون أن من العسير أن نحدد تاريخاً معيناً لنشأة الفكر العربي، خصوصاً وأن هذا الفكر يؤكد ذاته سلفاً في القرآن في صورة دفقات قوية، وحدوس خصيبة. وربما تتوافر معايير محددة وملائمة تتيح إعادة النظر في التقسيم المألوف لمراحل الفكر العربي، فيوافق آركون على جعل التشكل قد بدأ في حدود سنة (632 م) واستمر حتى حوالي سنة (950 م). وفي ظل هذا التحديد يعرض آركون تناول النقاط الآتية:
- الرؤية الإسلامية التقليدية.
- نشأة الحادث العربي – الإسلامي.
- التأطير التاريخي للمنازعات الأولى (632 – 750 م).
- المناقشات المذهبية الأولى.
- صدمة الفكر اليوناني (750 – 900).
- التوتر الطائفي (ينظر: محمد آركون: " الفكر العربي"، ص 45 – 47).

يعتقد آركون أن القراءة الإيمانية قد ولدت نصوصاً اعتقادية عديدة، متنوعة، ذات مضامين تاريخية غنية. وينبغي أن نؤرخ لموقعها اللاهوتي في مجرياته، وخياراته، وآفاقه المحدودة تاريخياً. كما، وينبغي أن نؤرخ له في أعماله الثقافية والحضارية. وعندما نريد أن نؤرخ له لغوياً أو سياسياً وأنتروبولوجياً فإن حقوق القراءة النقدية ومسؤوليتها الفكرية تفرض نفسها. إن ما تدعوه بالقراءة الإيمانية بالله، والوظيفة النبوية، والكلام الموحى والكاشف، والثواب، والمقدس، والصلاة، وتسليم النفس إلى الله، كل ذلك ينبغي أن يتخذ مادة للفحص التاريخي النقدي. وينبغي على المؤمنين أن يقبلوا بذلك. لا ريب في أن المؤرخين كانوا قد استخدموا كل هذه المفردات الدينية (أو المعجم الديني). ولكنهم استخدموها من خلال ثقافة علمية قائمة أو مؤسسة على الحكم المسبق للعقلانية، أو على العقلانية كحكم مسبق (ينظر: محمد آركون: " الفكر الأصولي واستحالة التأصيل "، ص 104).
(2) مفهوم القطيعة عند محمد آركون:
يعتقد آركون أن ليس من السهل التحدث عن الإسلام أمام تراثه ضمن المنعطف التاريخي الصعب الذي تعيشه المجتمعات العربية والإسلامية منذ سني الخمسينات. ويتحمل آركون مسؤولية المفكر فيه واللامفكر فيه من أجل بلورة مفهوم الإسلام والتراث. ويرى آركون أن الرسالة القرآنية تقدم نفسها وتمارس دورها على شكل حداثة تقلب كل شيء بالقياس إلى العقائد والعادات التقليدية التي خلفها الاباء أو الأولون. إن التراث، بالنسبة لآركون، بالمعنى الكبير، والمثالي للكلمة، هو تراث إلهي لا يمكن للبشر أن يغيروا فيه، إنه تعبير عن الحقيقة الأبدية المطلقة. وقد حاول هذا التراث طيلة عشرين عاماً من النضال في مكة والمدينة أن يرسخ نفسه داخل ساحة اجتماعية وثقافية معايدة ومضادة، ثم أصبح بعدئذ التراث الإسلامي (ينظر: محمد آركون: " الفكر الإسلامي: قراءة علمية"، ترجمة هاشم صالح، ط1، مركز الإنماء القومي، بيروت، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1996 م، ص 17 – 19).

ويعتقد آركون أن الفكر الإٍسلامي بحاجة ماسة إلى أن يدرك معنى القطيعة المعرفية لينتقل من مرحلة الإنتاج الميثولوجي (أي الأسطوري) والاستهلاك المخيالي للمعاني إلى مرحلة الربط بين المعاني التاريخية في كل ما يطرحه من مشاكل دينية أو فلسفية أو لاهوتية أو ثقافية أو سياسية. ولذلك اختار آركون كما يشير الغزالي وابن رشد مثالاً واضحاً على مفهوم القطيعة المذكور (ينظر: محمد آركون: " من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإٍسلامي المعاصر؟ "، ص iv).

ويطرح آركون تساؤلاً مهماً في سياق بحث التراث الإسلامي، هو ينبغي مقاربة بالمعنى المثالي والمتعالي استناداً على مفهوم الإسلام بالمعنى المتعالي أيضاً لأنه أي هذا الإسلام يمثل التعبير المستقيم (الأرثوذكسي) الوحيد عن التراث الوحيد الذي تلقته الأمة المثالية؟ أم ينبغي علينا إعادة تحديد الإسلام بصفته العملية أو السيرورة الاجتماعية والتاريخية من جملة عمليات وسيرورات أخرى؟ صحيح إن هذه العملية بالذات قد أدت في نهاية المطاف إلى تشكيل تراث موصوف بأنه إسلامي، ولكن ينبغي إلا ننسى أنها كانت واقعة في تنافس دائم مع عمليات أخرى وخطوط أخرى، وإنها قد عدلت وغيرت عن طريق البدع المستجدة وأشكال الحداثة المتتالية؟ (ينظر: محمد آركون: " الفكر الإسلامي: قراءة علمية"، ص 19).

يرى آركون أن المقاربة الأولى مقاربة مثالية وثيولوجية تتوافق مع الخطاب الإسلامي الراهن الخاص بالحركات المدعوة إسلامية، وتتوافق بشكل أعم مع الخطاب الإصلاحي أو السلفي. يرى هؤلاء أن الإسلام متضمن كلياً في القرآن بالهيئة التي وضحها الحديث النبوي وفسره. أن يكون هذا التراث تعرض لعملية النقل الشفهي وكل مشاكلها ثم عملية النقل الكتابي طيلة القرون الثلاثة الهجرية الأولى، وأن يكون بالتالي متولداً من سيرورة تاريخية اجتماعية معقدة قابلة للنقد، فإن كل ذلك لا يؤثر في نظرهم على المعادلة التالية: الإسلام = التراث الصحيح المنقول. ويرون أيضاً أن مجمل العقائد والممارسات والمؤسسات والمعايير الأخلاقية والقانونية والنصوص الناتجة المعترف بها من قبل الأمة بصفتها التراث الأكبر، يرون أن كل ذلك يمثل الإسلام الذي أراده الله وحده. إن التراث المتعالي الأكبر إذن ليس إلا تجسيداً لدين الحق في التاريخ. إنه قوة لتقديس الزمان وتنزيهه، هذا الزمكان الذي تتجلى فيه وحدة الأمة. وهذا التصور يعطي الأولوية للدينامو الروحي الخاص بالتراث، هذا الدينامو الذي يغذي الشعور بوحدة الأمة ويحرك آمال المؤمنين ويخلع غاية أخروية وأنطولوجية على التصرفات التاريخية لهم في الوقت الذي يرفض فيه أن يأخذ بعين الاعتبار تاريخية كل هذه المعطيات (ينظر: محمد آركون: " الفكر الإسلامي: قراءة علمية"، ص 19 – 20).

في إطار نظريته عن تحديد شكل العلاقة بين الإسلام وأوربا والغرب، يطالب آركون بتحليل عميق للموضوعات التي تتعلق بهذه الجدلية، مثل: الحداثة، الديمقراطية، إيديولوجيا الكفاح، وغيرها على أساس منهج فتح فضاء جديد للتواصل والعمل التاريخي، لكن هذا التواصل يقوم على إساس الزحزحة والتجاوز، بمعنى أن علينا أن نتجاوز كل الأجهزة المفهومية والمقولات القطعية والتحديدات الراسخة الموروثة عن الماضي، سواء كان هذا الماضي ينتمي إلى جهة التراث الإسلامي أم إلى جهة التراث الأوربي – الغربي. فهذه الرواسب والتصورات الماضوية شائعة جداً لدى كلا الطرفين وتشكل أحكاماً سابقة تمنعنا من رؤية الأمور بوضوح، أي من تشكيل نظرة تاريخية حقيقية كما وتمنع أي لقاء حقيقي بين الطرفين (ينظر: محمد آركون: " الإسلام، أوربا، الغرب: رهانات المعنى وإرادة الهيمنة"، ص 9 – 10. وانظر:
Arkoun Mohammed, « Penser l’espace méditerranéen aujourd’hui. », Diogène 2/2004 (n° 206), p. 122-150. URL: https://www.cairn.info/revue-diogene-2004-2-page-122.htm. DOI: 10.3917/dio.206.0122)

لكن مفهوم القطيعة عند آركون مع التاريخ الإسلامي يأخذ شكلاً في التواصل مع ساحة ثقافية مختلفة، أي (مع العلوم الإنسانية) في صياغتها الغربية من أجل نقد الخطاب الإسلامي ذاته. فقد أشار ركون في كتابه: " نافذة على الإسلام " أن النقد الفقهي للمصادر، أو النقل الخالص للخطاب الإسلامي لا بد أن يأخذ بالحسبان التساؤلات والاستطلاعات المأخوذة من علوم الإنسان والمجتمع. ويعتقد آركون أن بقاء الإسلام بمنأى عن هذه التجديدات، يعزز النقص والتأخر العلمي الذي يحلو للبعض ازدراء المسلمين المعاصرين به. إن ضبط المنظورات التاريخية وتصحيحها، والدعوات المتكررة لنقل المشكلات، والتحليلات نحو فسحة جديدة للمعقولية وفرضيات العمل، والتفسيرات وجهود التنظير التي يجدها القارئ لدى آركون، تهدف، من وراء المثال الإسلامي، إلى تنقيح مفهوم الغرب ذاته، منى حيث هو فسحة ثقافية وتاريخية (ينظر: محمد آركون: " نافذة على الإسلام"، ترجمة صياح الجهيم، دار عطية، 1997م، ص 13).

(3) الامتدادات الفلسفية لمفهوم القطيعة التاريخية عند آركون:
ومفهوم آركون عن القطيعة التاريخية مقتبس بالضرورة من مفاهيم ميشيل فوكو حول الموضوع ذاته.
يقارن هاليبر بين مفهوم القطيعة عند آركون وميشيل فوكو، فيشير أن دراسات آركون حول الفكر العربي، وحول كل تعبير فكروي يستخدم اللغة العربية. ويبين أن آركون على غرار فوكو، يلاحظ آركون وجود قطيعة معرفية بين المعرفة الحديثة والمعرفة التي سبقت العصر الحديث، ولا سيما المعرفة القروسطية. ويحلل فوكو سلسلة من القطيعات المعرفية في التاريخ المعاصر، فيحلل مثلاً التحول الذي طرأ على المعرفة البشرية من بداية القرن التاسع عشر. ويرى آركون أن هذا التحول شبيه بذاك الذي حصل في العالم العربي عندما تم الانتفال من المعرفة القديمة إلى المعرفة الحديثة (ينظر: رون هاليبر: " العقل الإسلامي أمام تراث عصر الأنوار في الغرب: الجهود الفلسفية عند محمد آركون"، ط1، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، سوريا، 2001 م، ص 45).
يقول ميشيل فوكو في أول عمله المسمى:" حفريات المعرفة" أن هنالك إلزاماً للقيام بعملية إبعاد يتم من خلالها التخلص من مجموعة من المفاهيم، يردد كل منها، على شاكلته، وبأنغام متباينة ومتنوعة فكرة الاتصال. ورغم أنها مفاهيم، ليس لها بنية تصورية محددة بأحكام، فإنها تؤدي وظيفة محددة. فهىم التقليد يهدف إلى منح مجموعة من الظواهر المتعاقبة والمتماثلة (أو على الأقل المتشابهة) وضعاً زمنياً واحداً وفريداً، يسمح هذا المفهوم إلى تبعثر التاريخ من منظور الوحدة، ويبيح اختزال الاختلاف الخاص بكل بداية، من أجل ردها وبكيفية متصلة إلى أصل سابق عليها. بفضل مفهوم التقليد، يمكن تجاهل التجديدات، واعتبارها من منظار الاستمرارية، مع إرجاع جدارتها إلى الجدة والطرافة والنبوغ، أي إلى مسألة تخص الأفراد. ثمة أيضاً مفهوم التأثير، وهو مفهوم سحري، إلى حد يصعب معه تحليله، وهو بمثابة السند والأساس لظواهر الإيصال والتواصل، كما يحيل ظواهر التشابه والتكرار، إلى تطور تدريجي متلاحق ذي مظهر ارتباطي سببي، دونما حصرها حصراً دقيقاً ولا تحديدها تحديداً نظرياً، كما يخترق الزمان والمسافات، ليربط بين وحدات في شكل أفراد ومفاهيم ومؤلفات، داخل وسط ممتد وشاسع (ينظر: ميشال فوكو: "حفريات المعرفة"، ترجمة سالم يفوت، ط 2، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، المغرب، 1987 م، ص 21).

ولا بد من الإشارة إلى أن ميشيل فوكو لم يكن مخلصاً لمفهوم القطيعة الإبستيمولوجية مع (التاريخ الغربي: اليوناني تحديداً) كما كان اركون مخلصاً لها في مجال تعامله مع التاريخ الإسلامي (أي إن اركون في فهمه وتطبيقه لمفهوم القطيعة الابستيمولوجية كان فوكوياً أكثر من فوكو نفسه).
وتتجلى هذه الحقيقة في محاولة ميشيل فوكو إيجاد أصل يوناني لنظريته الفلسفية في تاريخ الجنسانية، أي أن فوكو هنا كان يسعى إلى التواصل مع التاريخ اليوناني باعتباره وريثاً له وليس منقطعاً عنه.

يشير فوكو أنه من الصعب أن نجد عند اليونان كما عند اللاتين أيضاً مفهوماً شبيهاً بمفهوم الشهوة والجنسانية. أي مفهوماً يحل على وحدة فريدة ويسمح بتجميع ظواهرها متنوعة وظاهرياً متباعدة عن يعضها البعض على أنها من الطبيعة نفسها ومشتقة من الأصل نفسه، أو على أنها تشغل نمط العلية نفسه، مثل: السلوكيات، ولكن أيضاً الجنسية بصفة خاصة الإحساسات والصور، والرغبات والغرائز والأهواء. كان اليونان يتوفرون على سلسلة كاملة من الكلمات للإشارة إلى ممارسات محددة، ولكن لديهم ألفاظ أكثر التباساً تحيل بصفة عامة على ما يدعى علاقة ارتباط أو علاقات جنسية، إلا أن المقولة العامة التي تدخل تحتها كل هذه الأفعال والحركات والأفعال والممارسات هي أصعب على الإدراك بكثير فاليونان يستعملون عن طيب خاطر صفة موصوفة ta aphrodisia يترجمها اللاتين venerea، أي أشياء أو متع الحب أو علاقات جنسية أو علاقات شهوية أو علاقات جسدية، يحاول فوكو قدر الإمكان أن يضع لها مرادفاً فرنسياً. ولكنه يشير أن اختلاف المجموعات المفهومية يجعل من الصعب وضع ترجمة دقيقة للفظ (ينظر: ميشيل فوكو: " تاريخ الجنسانية: 2: استعمال المتع"، ترجمة محمد هشام، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2004 م، ص 34).

ويؤكد فوكو أنه لا يزعم تقديم عرض شامل عن مختلف المذاهب الفلسفية أو الطبية التي انشغلت، من القرن الخامس إلى القرن الثالث قبل الميلاد بالمتعة بصفة عامة والمتع الجنسية بصفة خاصة. لكن يمكن التسليم بأن يونانيي هذا العصر كانوا يقبلون ببعض هذه السلوكيات الجنسية بسهولة أكبر من مسيحيي العصر الوسيط أو أوربيي العصر الحديث، ويمكننا أن نسلم أيضاً بأن الأخطاء وسوء التدبير في هذا الميدان كانت لا تثير إلا قليلاْ من الفضح ولا تعرض إلا للقليل من الضرر، سيما وأنه لم تكن هناك أي مؤسسة طبية أو رعوية تستهم في تحديد ما هو في هذا النظام من الأشياء، مباح أو محرم، طبيعي أو غير طبيعي، ويمكننا أن نسلم كذلك بأن اليونان كانوا يولون لكل هذه المسائل أهمية أقل بكثير مما نوليه نحن لها نحن. وكان هناك أطباء ومفكرون أخلاقيون وفلاسفة لتقدير ما تنص عليه قوانين المدينة أو تمنعه، وما يقبله العرف أو يرفضه، لم يكن يكفي لتنظيم الواجب للتصرف الجنسي عند رجل تهمه نفسه، فقد كانوا يعترفون في كيفية الحصول على هذا النوع من المتعة، على مشكلة أخلاقية (ينظر: ميشيل فوكو: " تاريخ الجنسانية: 2: استعمال المتع"، ص 35).

يمكن أن نطبق مثل هذا التصور على فلسفة فوكو في: " تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، فهو يذكر أن الجذام قد اختفى من العالم الغربي قي نهاية القرون الوسطى، وامتدت على أطراف المدن والتجمعات السكانية ما يشبه السواحل التي كف المرض عن تهديدها، ولكنه حولها إلى ميانات غير مأهولة، وعقيمة، وظلت هذه المساحات لقرون عدة خارج مدار الوجود الإنساني. فمن القرن 14 حتى القرن 17 راحت تنتظر وتتوسل بواسطة ممارسات سحرية غريبة انبعاثاً جديداً للشر، ووجهاً جديداً للخوف، وطقوساً متجددة للتطهر والإقصاء. فما بين القرون الوسطى إلى نهاية الحرب الصليبية تضاعفت المستشفيات الخاصة بالجذام، وامتدت مبانيها المعلومة. وبحسب ما أورده ماتيو بريز فقد وصل عددها إلى 19000 في كل بقاع العالم المسيحي. وفي جميع الحالات فقد وصل عددها سنة 1266 أي في المدة التي أقام فيها لويس الثامن قوانين خاصة بالمستشفيات الجذامية إلى 2000. ففي أسقفية باريس وحدها كان هنالك 43 مستشفى، بورغ لاربن وسان فاليري وكورباي، وسيء الذكر سان بوري، وكان هناك أيضاً شارونتون. أما أهم هذه المستشفيات فهما مستشفيان بنيا في سان. جيرمان وسان لازار في ضواحي باريس، وقد ارتبطا بتاريخ مرض اخر. ويعود ذلك إلى أنه ابتداء من القرن الخامس عشر سيلتهم الفراغ كل شيء. فقد تحولت سان جيرمان ابتداءً من القرن التالي إلى دار للإصلاح، وقبل سان فانسان، خلت سان لازار من كل نزلائها عدا واحداً مصابا بالجذام هو لوسيور لانغلو وكان ممارساً في الدروس العلمانية. ولم يبق في مستشفى نانسي، الذي كان يعد من أكبر المستشفيات الجذامية في أوربا، سوى أربعة مرضى تكفلت بهم ماري ميسيديس (ينظر: ميشيل فوكو: " تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، ترجمة سعيد بن كراد، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت، 2006 م، ص 23).

ويقول فوكو أنه قد توقف عن الإيمان بالمعنى يوم أظهر ليفي شتراوس بأنسبة للمجتمعات، ولاكان بالنسبة للاوعي أن المعنى لم يكن على وجه الاحتمال سوى نتيجة سطحية أو لمعان أو زبد، وأن ما يخترقنا في العمق، ما يوجد قبلنا، وما يسندنا في الزمان والمكان، هو النسق. ويعني فوكو بالنسق: " مجموعة من العلاقات التي تثبت وتتغير في استقلال الأشياء التي تربط بينها" (ينظر: ميشيل فوكو: " هم الحقيقة"، ترجمة مصطفى المسناوي، مصطفى كنال، محمد بولعيش، ط1، منشورات الاختلاف، الجزائر، 1427ه- 2006، ص 8).


المبحث الثاني
منهجية التفسير الإسلامي للتاريخ


فيما يأتي مقارنة مركزية مع أطروحة آركون في التفسير (الاجتماعي الجدلي الانقطاعي للتاريخ الإسلامي) مبنية على أطروحة د. عماد الدين خليل في (التفسير الإسلامي للتاريخ).
يؤكد د. عماد الدين خليل في كتابه: " التفسير الإسلامي للتاريخ" أن ثمة حقيقة تبرز واضحة في القرآن الكريم وهي أن مساحة واسعة من سوره وآياته قد خصصت للمسألة التاريخية والسرد القصصي (الواقعي) لتجارب عدد من الجماعات البشرية، وتبلغ هذه الرؤية التاريخية في القرآن الكريم من السعة بحيث لا تخلوا آية من (الثقل) و (الاتساع) في القرآن الكريم بحيث أن جل سوره وآياته لا تكاد تخلو من عرض لواقعة تاريخية، أو إشارة سريعة لحدث ما أو لتأكيد قانون أو سنة تتشكل بموجبها حركة التاريخ. إن الرؤية التاريخية ترتبط بالقرآن الكريم ارتباطاً وثيقاً، ففي مساحة واسعة من القرآن الكريم تطالعنا العروض والإشارات المسهبة أو الموجزة إلى مواقف تاريخية، والتي تشكل نسقاً رائعاً ومتكاملاً للتفسير الإسلامي للتاريخ. فكتاب الله سبحانه يضرب دوماً على هذا الوتر الحساس، ويدعو المتأملين والدارسين إلى الخروج، في أعقاب مطالعاتهم التاريخية بنتيجة نهائية عن مصير الحركة البشرية في الزمان والمكان، ودور الإنسان والقوى الاجتماعية في حركة التاريخ (ينظر: د. عماد الدين خليل: " التفسير الإسلامي للتاريخ"، ط5، دار العلم للملايين، بيروت، 1991 م، ص 5 – 7).

وتتجلى الرؤية القرآنية للتاريخ في قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].

يقول الطبري في تفسير الآية الكريمة: " لقد كان في قصص يوسف وإخوته عبرة لأهل الحجا والعقول يعتبرون بها، وموعظة يتّعظون بها. وذلك أن الله جل ثناؤه بعد أن ألقي يوسف في الجبّ ليهلك، ثم بِيع العبيد بالخسيس من الثمن، وبعد الإسار والحبس الطويل، ملّكه مصر، ومكّن له في الأرض، وأعلاه على من بغاه سوءًا من إخوته، وجمع بينه وبين والديه وإخوته بقدرته، بعد المدة الطويلة، وجاء بهم إليه من الشُّقّة النائية البعيدة، فقال جل ثناؤه للمشركين من قريش من قوم نبيّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: لقد كان لكم، أيها القوم، في قصصهم عبرةٌ لو اعتبرتم به، أن الذي فعل ذلك بيوسف وإخوته، لا يتعذَّر عليه فعلُ مثله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيخرجه من بين أظهُرِكم، ثم يظهره عليكم، ويمكن له في البلاد، ويؤيده بالجند والرجال من الأتباع والأصحاب، وإن مرَّت به شدائد، وأتت دونه الأيام والليالي والدهور والأزمان" (ينظر: تفسير الطبري، 16 / 313).

إن القرآن الكريم، يوضح د. عماد الدين خليل، يجيء بمعطياته التاريخية من أجل أن يحرك الإنسان صوب الأهداف التي رسمها الإسلام، ومن أجل أن يبين الفارق الهائل بين المجتمعات الوضعية والمتدينة. إن القرآن الكريم يقدم أصول منهج متكامل في التعامل مع التاريخ البشري، والانتقال بهذا التعامل من مرحلة العرض والتجميع فحسب، إلى محاولة استخلاص القوانين التي تحكم الظواهر الاجتماعية – التاريخية، وهذا ما يتمثل في تأكيد القران المستمر على قصص الأنبياء وتواريخ الجماعات والأمم السابقة على وجود (سنن) و (نواميس) تخضع لها الحركة التاريخية في سيرها وتطورها وانتقالها من حال إلى حال. إن التفسير الإسلامي للتاريخ يستمد رؤيته من القضايا التي عرضها الله سبحانه في كتابه العزيز، والتي تعلو على الزمان والمكان، وتتجاوز مواضعات العصر النسبية، فهو ينظر بانفتاح إلى الأحداث، ويسلط الضوء على مساحاتها جميعاً، دون أن يقتصر على رؤية جزيئة للأحداث، فالرؤية القرآنية للتاريخ رؤية واقعية شاملة في امتداداتها الزمانية والحاضرة والمستقبلية (ينظر: د. عماد الدين خليل: " التفسير الإسلامي للتاريخ"، ص 7 – 11).

إن التفسير القرآني للتاريخ ليس مجرد مسلمات بعدية تسعى إلى أن تقولب حوادث التاريخ القبلية في إطارها المتعسف وإنما هو مذهب ينبثق في أسلوب موضوعي (عما حدث فعلاً) وعن طبيعة التصميم التاريخي للبشرية، فهو إذن تبلور للخطوط الأساسية لحركة التاريخ يصوغها القرآن الكريم في مبادئ عامة يسميها (سنناً) ويعتمدها المفسرون الإسلاميون منطلقاً لا لتزييف التاريخ وإنما هو لتفسيره وفهمه وإدراك عناصر حركته ومصائر وقائعه ومسالكها المعقدة المتشعبة. فهو إذن تفسير شامل محيط، يعطي أصدق صورة للسنن التي تسير هذا التاريخ، وبالتالي فهو يأخذ صفة الكمال (ينظر: د. عماد الدين خليل: " التفسير الإسلامي للتاريخ"، ص 11 – 13. وانظر: فرانز روزنتال: " علم التاريخ عند المسلمين"، ترجمة د. صالح أحمد العلي، ط2، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1403 ه – 1983 م).

يقول ابن خلدون في ( مقدمته ): " إن فنّ التّاريخ من الفنون الّتي تتداوله الأمم والأجيال وتشدّ إليه الرّكائب والرّحال، وتسمو إلى معرفته السّوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، وتتساوى في فهمه العلماء والجهّال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيّام والدّول، والسّوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصّها الاحتفال، وتؤدّي لنا شأن الخليقة كيف تقلّبت بها الأحوال، واتّسع للدّول فيها النّطاق والمجال، وعمّروا الأرض حتّى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزّوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيّات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعدّ في علومها وخليق" (ينظر: عبد الرحمن بن محمد بن محمد، ابن خلدون أبو زيد، ولي الدين الحضرمي الإشبيلي (المتوفى: 808هـ): " ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر"، تحقيق خليل شحادة، ط2، دار الفكر، بيروت، 1408 هـ - 1988 م، ص 6).

ويضيف ابن خلدون: " وإنّ فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيّام وجمعوها، وسطّروها في صفحات الدّفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفّلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوها، وزخارف من الرّوايات المضعفة لفّقوها ووضعوها، واقتفى تلك الآثار الكثير ممّن بعدهم واتّبعوها، وأدّوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترّهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتّحقيق قليل، وطرف التّنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل، والتّقليد عريق في الآدميّين وسليل، والتّطفّل على الفنون عريض طويل، ومرعى الجهل بين الأنام وخيم وبيل، والحقّ لا يقاوم سلطانه، والباطل يقذف بشهاب النّظر شيطانه، والنّاقل إنّما هو يملي وينقل، والبصيرة تنقد الصّحيح إذا تمقّل، والعلم يجلو لها صفحات القلوب ويصقل" (ينظر: ابن خلدون: " ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر"، ص 6).



#رواء_محمود_حسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد الاركونية / الحلقة الثانية
- نقد الاركونية / الحلقة الأولى
- في اللعب
- خاطرة في الأدب (2)
- خاطرة في الأدب (1)
- خاطرة في الطوفان
- خاطرة في صبر أيوب
- خاطرة حول ابن خلدون
- خاطرة جوزية
- خاطرة في الحنين إلى الوطن
- خاطرة في الفرح
- خاطرة في معرفة النفس
- خاطرة في الهجرة
- حنة آرندت ونقد التوتاليتارية
- خاطرة في التاريخ (2)
- خاطرة في التاريخ (1)
- خاطرة في الفلسفة (4)
- خاطرة في الفلسفة (3)
- خاطرة في الفلسفة (2)
- خاطرة في الفلسفة (1)


المزيد.....




- إزالة واتساب وثريدز من متجر التطبيقات في الصين.. وأبل توضح ل ...
- -التصعيد الإسرائيلي الإيراني يُظهر أن البلدين لا يقرآن بعضهم ...
- أسطول الحرية يستعد لاختراق الحصار الإسرائيلي على غزة
- ما مصير الحج السنوي لكنيس الغريبة في تونس في ظل حرب غزة؟
- -حزب الله- يكشف تفاصيل جديدة حول العملية المزدوجة في عرب الع ...
- زاخاروفا: عسكرة الاتحاد الأوروبي ستضعف موقعه في عالم متعدد ا ...
- تفكيك شبكة إجرامية ومصادرة كميات من المخدرات غرب الجزائر
- ماكرون يؤكد سعيه -لتجنب التصعيد بين لبنان واسرائيل-
- زيلينسكي يلوم أعضاء حلف -الناتو- ويوجز تذمره بخمس نقاط
- -بلومبيرغ-: برلين تقدم شكوى بعد تسريب تقرير الخلاف بين رئيس ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رواء محمود حسين - نقد الاركونية / الحلقة الثالثة