أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رواء محمود حسين - نقد الاركونية / الحلقة الرابعة















المزيد.....



نقد الاركونية / الحلقة الرابعة


رواء محمود حسين

الحوار المتمدن-العدد: 6693 - 2020 / 10 / 3 - 00:31
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الفصل الرابع
نقد العقل الإسلامي في إطار الفلسفة الجدلية الاجتماعية
إشكال منهجي صارم عند محمد آركون

المبحث الأول
مقدمة موجزة في الفلسفة الجدلية الاجتماعية

قبل توضيح الإشكال المنهجي الصارم الناتج عن تطبيق آركون لإطروحات الفلسفة الجدلية الاجتماعية على العقل الإٍسلامي لابد أولاً من توضيح هذا المنهج الفلسفي أولاً، وبالتأكيد فإن الفلسفة الجدلية الاجتماعية هي العمود الفقري الذي تستند إليه الفلسفة الماركسية.
يؤكد ماركس أن الإنسان هو مباشرة كائن طبيعي، وهو ككائن طبيعي حي، مزود من ناحية بالقوى الطبيعية للحياة، إنه كائن طبيعي نشط، وتوجد هذه القوى فيه كاتجاهات وقدرات، كدوافع. ومن ناحية أخرى، فإنه ككائن طبيعي جسدي موضوعي هو مخلوق محدود مشروط يعاني كالحيوانات والنباتات. وبعبارة أخرى، فإن موضوعات دوافعه توجد خارجه، كموضوعات مستقلة عنه، غير أن هذه الموضوعات هي موضوعات لاحتياجه، موضوعات أساسية لا غنى عنها لتجلي القوى الجوهرية، وتأكدها. فالقول بأن الإنسان كائن جسدي حي حقيقي حسي موضوعي مليء بالقوة الطبيعية يعني القول بأن لديه موضوعات حقيقية حسية كموضوعات لوجوده أو لحياته، أو بأنه لا يستطيع أن يعبر عن حياته إلا بموضوعات حقيقية حسية موضوعية. فأن تكون موضوعياً وحسياً وطبيعياً، وفي الوقت نفسه أن يكون لك موضوع وطبيعة حس خارجك، أو أن تكون أنت ذاتك موضوعاً وطبيعة وحساً لطرف ثالث هو الشيء نفسه. فالجوع حاجة طبيعية، ولهذا فإنه يحتاج إلى طبيعة خارجه، موضوع خارجه، لكي يشبع ذاته، لكي يهدأ. الجوع حاجة معترف بها لجسدي إلى موضوع يوجد خارجه، لا غنى عنه لتكامله، وللتعبير عن وجوده الجوهري. والشمس موضوع للنبات، موضوع لا غنى عنه بالنسبة له، يؤكد حياته، تماماً كما أن النبات موضوع للشمس، باعتباره تعبيراً عن قوة الشمس كموقظة للحياة، عن قوة الشمس الجوهرية الموضوعية (ينظر: كارل ماركس: " مخطوطات كارل ماركس"، ترجمة محمد مستجير مصطفى، دار الثقافة الجديدة، مصر، بدون تاريخ، ص 144).

وفي سياق نقد (رأس المال) يؤكد ماركس أن عملية تبادل البضائع تتضمن علاقات متناقضة وتنفي البعض. وأن تطور البضاعة لا يزيل هذه التناقضات، بل يخلق شكلاً لحركتها، وذلك، بوجه عام، الأسلوب الذي تحل بواسطة التناقضات الفعلية. فإن واقع أن جسماً يقع بصورة متواصلة على جسم آخر، ويبتعد عنه بصورة متواصلة أيضاً يمثل تناقضاً. وبما أن عملية التبادل تنقل البضائع من أيد حيث تعد قيمة غير آلية إلى أيد حيث تعتبر قيماً استعمالية، فإن هذه العملية هي التمثيل الغذائي الاجتماعي. ويحل ناتج نوع نافع من العمل محل نوع نافع آخر. وما أن تبلغ البضاعة نقطة تعد فيها استعمالية حتى تخرج من مجال التبادل البضاعي وتنتقل إلى مجال الاستهلاك (ينظر: كارل ماركس: " رأس المال: نقد الاقتصاد السياسي"، الكتاب الأول: " عملية إنتاج رأس المال"، الجزء 1، الفصول 1 -13، ترجمة الدكتور فهد كم نقش، دار التقدم، موسكو، 1985 م، ص 152).

ويعتقد أنجلز أنه، وبحسب المفهوم المادي، يشكل إنتاج وتجديد إنتاج الحياة المباشرة في آخر تحليل، العامل الحاسم في التاريخ. ولكنه ذو طبيعة مزدوجة، فمن جهة: إنتاج وسائل الحياة: الألبسة، الأغذية، المسكن، والأدوات الضرورية لهذا، ومن جهة ثانية، إنتاج الإنسان نفسه، مواصلة النوع. وإن النظم الاجتماعية التي يعيش في ظلها أهل عهد تاريخي معين وبلد معين يشترطا إظهار الإنتاج: درجة تطور العمل من جهة، ودرجة تطور العائلة من جهة أخرى (ينظر: إنجلس: " أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة"، ترجمة إلياس شاهين، دار التقدم، موسكو، بدون تاريخ، ص 4).

ويؤكد أنجلس أن لظروف الوجود المادية تأثير كبير على الميادين الإيديولوجية، ومن ثم يتعين دراسة التاريخ من جديد، طبقاً لوجود التشكيلات الاجتماعية المختلفة، قبل أن نحاول أن نستخلص مفاهيم حقوقية وسياسية وجمالية وفلسفية ودينية، وما إلى ذلك (ينظر: إنجلس: " رسائل حول المادية التاريخية: 1890 – 1894"، ترجمة إلياس شاهين، دار التقدم، موسكو، بدون تاريخ، ص 4).


المبحث الثاني
إشكالية الفلسفة الجدلية الاجتماعية
عند محمد آركون


يمكن توضيح الإشكال المنهجي في نظرية آركون لتفسير الفكر الإسلامي على أساس المنهج الجدلي الاجتماعي بالمثال الذي يقدمه آركون بأن ليس المطلوب الحديث عن الصدام بين نوعين من العصبية، كما فعل علماء الأنساب العرب، أي العصبية إما لبني هاشم أو بني سفيان [الواقع أنهم بنو أمية، وليس بنو سفيان]، إننا نريد زحزحة (ينظر: مصطلح الزحزحة يستعيره آركون هنا من الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو. ينظر عن منهج الزحزحة عند ميشيل فوكو كتابه: " حفريات المعرفة "، ترجمة سالم يفوت، ط2، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1987م). النقاش، ونقله من الإطار الضيق المحصور بكلا العشيرتين وبمجتمع الحجاز بشكل عام نحو الجدلية الاجتماعية التي تثيرها وتنشطها كل جماعة بشرية عندما تريد استبدال نظام من التسويغ والشرعية لاحق بنظام سابق. تتمثل هذه الفائدة العظيمة، بحسب آركون، في تعرية الآليات السوسيولوجية الحقيقية والتناقض بين المجتمعات المتوحشة والفكر المتوحش (ينظر: يستعير آركون هنا مصطلح الفكر المتوحش في الفيلسوف البنيوي الفرنسي كلورد ليفي شتراوس، ينظر مؤلف شتراوس: " الفكر البري "، ترجمة د. نظير جاهل، ط3، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1428 – ه – 2007 م). من جهة، وبين المجتمعات المدجنة أو المجتمعات الإسلامية التي أرادها الله وحماها وقادها (جاهلية / إسلام). إن هذا المنهج الجدلي الاجتماعي، بحسب آركون، سيفيد بأن يجعلنا نتوقف عن تقنيع وحجب أحد المعطيات الأساسية للأنثروبولوجيا السياسية ونتوقف عن تلبيسه بشعارات دينية تؤدي إلى انقسام الوعي الإٍسلامي لا محالة. إن تعرية الحوافر الحقيقية للناس المتنافسين على السلطة في مجتمع ما يعني رفع الستارة عن الأصول الخادعة التي تختبئ وراء الشعارات الدينية المستبطنة على هيثة حقائق منزلة (ينظر: محمد آركون: " تاريخية الفكر العربي الإسلامي"، ص 19).

ومثالاً آخر يمكن أن يقدم في تفسير آركون الجدلي الاجتماعي للفكر الإسلامي ب(القرآن وتجربة المدينة):
يرى آركون أن ضغوطاً تاريخية على توجه الفكر الفردي وصياغته في قوالب فردية قد نشأت من اتخاذ القرآن وتجربة المدينة نوعاً من الأقدمية أو الأسبقية التي لا مجال للشك فيها. لقد أدخلا (أي القرآن والحديث) كما يرى أركون أشكالاً من الحساسية والتعبير ومقولات فكرية ونماذج للعمل التاريخي ومبادئ لتوجيه السلوك الفردي أصبحت توجه فكر وأعمال المؤمنين منذ ذلك التاريخ. يمثل العصر الافتتاحي، بحسب مصطلح آركون، أو عصر النبوة، كما اصطلح المسلمون على تسميته قديماً وحديثاً، لحظة ممتازة ومناسبة من أجل دراسة تجربة فردية (= تجربة محمد) [كذا يورد آركون الاسم النبوي]، على قاعدتها اللغوية وإنتاج تاريخ واقعي محسوس. وقد نتج عن هذه الضغوط بسبب المرحلة الأولى من تاريخ الإسلام، أي نزول القرآن وعصر النبوة، النتائج الآتية، كما يراها آركون، أنتجت علاقة ثلاثية جدلية تتضح في الفروق التعبيرية بين السور المكية والمدنية، بين نص تشريعي ونص تمجيدي لله والتسبيح باسمه، بين حكاية أسطورية واستطراد إرشادي. تداخل الظرف الآني الراهن مع الأبدية، وتداخل الظرف العابر مع الثابت الذي لا يتغير، وتداخل الزائل مع الكائن المطلق وتداخل الدنيوي مع المقدس وتداخل المادي مع المتعالي. ويصل آركون إلى لحظة يناقض فيها نفسه، لأنه يرى أن اللغة والفكر في لحظة (انبثاق القرآن) [يستخدم هنا مصطلح انبثاق بدلاً من تنزيل، وسنعالج الفرق أدناه، إن شاء الله]، مرتبطان بشكل ووثيق مع الواقع. أما الفترة الكلاسيكية، أما ما بعد مرحلة القرآن، ففيها يتجه المفسرون إلى معالجة مقولات ومبادئ وتشكيلات وتصورات ذات أصول متنوعة ومختلفة، رابطين هذه المقولات والمبادئ والتشكيلات والتصورات ذات الأصول المتنوعة والمختلفة بربطها بزمان نزول القرآن بما يحول هذا الربط إلى ذريعة يمرر منها المفسرون ما يريدون (ينظر: محمد آركون: " تاريخية الفكر العربي الإسلامي"، ص 16 – 17).

وبهذه النظرة الجدلية الاجتماعية سينظر إلى أديان الوحي والأديان الوثنية بنظرة جدلية اجتماعية واحدة، مشيراً أن الدين، أو الأديان، في مجتمع ما هي عبارة عن جذور، ولا ينبغي هنا أن نفرق بين الأديان الوثنية وأديان الوحي، يقول آركون، لأن هذا التفريق عبارة عن مقولة تعسفية تيولوجية تفرض شبكتها الإدراكية علينا بشكل ثنوي دائماً. والحل، بالنسبة لآركون، يكمن في النظرة العلمانية التي تذهب إلى أعماق الأشياء، أو الجذور من أجل تشكيل رؤيا أكثر صحة واعتدالاً ودقة. أما الأديان فقد قدمت للإنسان الأجوبة والإيضاحات والأجوبة العملية القابلة للتطبيق والاستخدام مباشرة فيما يخص علاقتنا بالوجود والآخرين والمحيط الفيزيائي الذي يحيط بنا، بل وحتى الكون كله، وفيما وراءه بالأشياء المدعوة (ما فوق الطبيعية) أو الخارقة للطبيعة، أي تلك التي تتجاوز الطبيعة المحسوسة والقابلة للملاحظة والعيان. فالأديان تذهب بعيداً حتى تصل إلى العالم الفوق – طبيعي. وقد عدت هذه الأجوبة بمثابة المتعالية والصحيحة التي لا تقبل النقاش. ومن ثم لا بد من إعادة هذه الأديان إلى المستوى الطبيعي المحسوس عن طريق اللغة، وعن طريق العبادات والشعائر، أي عن طريق تدريب معين لجسدنا مثل الصلاة (ينظر: محمد آركون: " العلمنة والدين: الإٍسلام، المسيحية، الغرب"، ص 23 – 24).

أرى أن آركون يسقط في سياق فكره المتقدم في عدم وجود فرق بين الأديان التوحيدية والأديان الوثنية في تناقض منشأه التعميم، فهو لم يبين إذا كانت الأديان كلها في السياق ذاته فيما يتعلق بالمعرفة ما فوق الطبيعية، أو أنه يقصد ديناً معيناً بذاته.

الإشكال الرئيسي في منهج الإسلاميات التطبيقية لمحمد آركون أنه يمارس ما يمكن أن نسميه (التوحيد الإبستيمي) في القطاعات المنتقدة: الإسلام والفكر الإسلامي، المسلمون والتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، في حين تتجه إلى (الإقطاع الإبستيمي) في القطاعات المنتخبة: العلوم الإنسانية والاجتماعية والفلسفة في علاقتها بالفكر الإسلامي. بمعنى أن محمد آركون يطالب العقل الإسلامي من جهة بالقطيعة المعرفية مع التاريخ الإٍسلامي ذاته، لكنه من جهة أخرى يعتمد (الاتصال المعرفي) بين العلوم الاجتماعية والإنسانية في صياغتها الغربية خلال الثلاثين سنة الماضية، كما ذكر مسبقاً، وبين مادة معرفية لا تتصل بهذه العلوم من الناحية المنهجية والنظرية والمعرفية، أي العقل الإسلامي ذاته، وهذا مشكل رئيس في المنهج النقدي الذي يستند إليه مشروع الإسلاميات التطبيقية لأركون.

ومن أجل توضيح هذه النقطة بشكل أكبر يمكن القول ما يأتي: إن آركون يعتقد من جهة أن هنالك تلازماً وثيقاً ومصلحياً بين الإسلام والفكر الإسلامي أو بين الإسلام والمسلمين أو بين الإسلام والحضارة الإسلامية، ولكنه من جهة أخرى لا يرى أن هذه المركزية الارتباطية موجودة في العلوم الإنسانية والاجتماعية التي يوظفها، بمعنى أن هذه العلوم تنتمي إلى دائرة مركزية بعيدة جداً عن النظام الإبستيمي الذي تأسست عليه العلوم الإسلامية والفكر الإسلامي والتاريخ الإسلامي.

يطالب آركون بمسار ثان غير الذي سار فيه الفكر الإسلامي عبر تاريخه الطويل أي مسار ترك مفهومي الإسلام والتراث مفتوحين (أي غير محددين بشكل نهائي ومغلق) لأنهما خاضعان للتغيير المستمر الذي يفرضه التاريخ المستمر. يمكن عندها الجمع في التحليل، كما هو الحال في الممارسة العملية المحسوسة الدينامو الروحي للإسلام – التراث وندمج تاريخيته أيضاً. إن مثل هذا الدمج يعد جديداً كلياً في الفكر الإسلامي، ذلك أنه يتجاوز مسألة نقد سلاسل الحديث النبوي بالطريقة التي كانت رسخت عليها لدى المحدثين الأكثر شهرة [هنا آركون يعترف أن عملية الفصل والتمييز بين ما هو وحيوي وتاريخي موجودة أصلاً في الفكر الإسلامي وبالأخص لدى نقاد الحديث الكبار]. وفي هذا السياق يعتقد آركون أن الإسلام لا يكتمل أبداً [لكن القرآن يكذب هذا الاعتقاد: قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. ولأن الإسلام لا يكتمل أبداً، حسب رؤية آركون، فلا بد من إعادة تحديده وتعريفه داخل كل سياق اجتماعي – ثقافي وفي كل مرحلة تاريخية معينة، ولكن الإسلام يتضمن العناصر التكوينية الآتية:
1- النص القرآني (المصحف).
2- مجموعات نصوص الحديث والتشريع العديدة المختلفة.
3- الفرائض القانونية الخمس والشعائر اللازمة لتأديتها.
4- الدينامو الروحي المشترك لدى كل المؤمنين والذي يشكل ميزة خاصة للتراث (ينظر: محمد آركون: " الفكر الإسلامي: قراءة علمية"، ص 20 – 21).

يرى آركون أن تثبيت هذه الأشياء وترسيخها تطلب وقتاً طويلاً إلى حد ما من أجل تثبيت ما يسميه بالسيرورة الاجتماعية التاريخية لتشكيل التراث. إن التثبيت السيمانتي للقران والحديث، بحسب آركون، مستحيل لأنهما يشكلان تراثاً حياً أو نصوصاً يعيش عليها المؤمنون وتنتج تاريخاً معيناً ويعاد إنتاجها باستمرار من قبل التاريخ جيلاً بعد جيل. ومن ثم فإن إحدى وظائف التراث تكمن في تقديم المرجعية اللازمة لتثبيت الإجماع حول بعض قراءات النصوص المقدسة. يمكن للمؤمنين أن يعارضوا هذا الكلام من الناحية الثيولوجية عن طريق الاستشهاد بالآية التالية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة:3). لكن قراءة هذ الآية والقران بشكل عام تعتمد على المكانة التي نوليها للتاريخية من أجل تفسير كل فترة الوحي والممارسة النبوية. وهنا يطالب آركون بعدم الخلط بين التاريخية المقصودة وبين الظروف العرضية المحضة أو المناسبات الخاصة بالوحي كما كان المفسرون الكلاسيكيون قد استخدموها تحت اسم أسباب النزول، فإذا كان الوحي قد أغلق نهائياً بموت النبي لكن تفسيره وترجمته إلى معايير أخلاقية وشعائرية وقانونية لا يزال مستمراً إلى اليوم. وبهذه الطريقة نجد أن الأمة تولد الإسلام وتنتجه كتراث حي (ينظر: اركون: " الفكر الإسلامي: قراءة علمية"، ص 21).
من أجل نقد رأي اركون المتقدم في أن التثبيت السيمانتي للقران والحديث مستحيل سأناقشه بالعودة إلى تفسير قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة:3).
1- جاء في تفسير الطبري في تفسير الآية الكريمة: يقول الله تعالى: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ}، أيها المؤمنون، فرائضي عليكم وحدودي، وحلالي وحرامي، وأمري إياكم ونهيي، وتنزيلي من ذلك ما أنزلت منه في كتابي، وتبياني ما بيَّنت لكم منه بوحيي على لسان رسولي، والأدلة التي نصبتُها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم، فأتممت لكم جميع ذلك، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم. وقيل: وكان ذلك في يوم عرفة، عام حجَّ النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوَدَاع. وقالوا: لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من الفرائض، ولا تحليل شيء ولا تحريمه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة (ينظر: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ): " جامع البيان في تأويل القرآن"، تحقيق أحمد محمد شاكر، ط1، مؤسسة الرسالة، 1420 هـ - 2000 م، 9 / 518).
2- ويقول ابن كثير في تفسير الآية:
هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} أكبر نعم الله، عز وجل، على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف، أي: فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبه وبعث به أفضل رسله الكرام، وأنزل به أشرف كتبه.
قال أسباط عن السدي: نزلت هذه الآية يوم عرفة، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات. قالت أسماء بنت عميس: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة، فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبريل، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة، فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن، فبركت فأتيته فسجيت عليه بردا كان علي.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وهو الإسلام، أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبدا، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا.
قال ابن جريج وغير واحد: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما (ينظر: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ): " تفسير القرآن العظيم"، تحقيق سامي بن محمد سلامة، ط ٢، دار طيبة للنشر والتوزيع، 1420هـ - 1999 م، 3 / 26. وانظر: صحيح البخاري، 1 / 18. وطبعة أخرى: محمد بن إسماعيل البخاري: " الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله وسننه وأيامه"، تحقيق محب الدين الخطيب، ط 1، المكتبة السلفية - القاهرة، 1400ه، رقم الحديث 7268. محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279هـ): " سنن الترمذي"، تحقيق وتعليق أحمد محمد شاكر (جـ 1، 2)، ومحمد فؤاد عبد الباقي (جـ 3)، وإبراهيم عطوة عوض المدرس في الأزهر الشريف (جـ 4، 5)، ط 2، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر، 1395 هـ - 1975 م، 5/ 250).


المبحث الثالث
الفكر والوحي

وفي سياق الفلسفة الجدلية الاجتماعية يرى آركون أن الفكر الذي نما في أحضان الوحي من توراة وأناجيل وقرآن فكر يتميز بأنه ذو قوام متماسك، وأنه ذو دلالات ومعان فوق تاريخية، ومن ثم هي بمثابة كائنات عقلية مستقلة عن الإكراهات الاجتماعية واللغوية والسياسية والاقتصادية. إن هذا التصور مرتبط بالفلسفة الجوهرانية والماهياتية للأنظمة الثيولوجية والميتافيزيك الكلاسيكي الذي نما في أحضان الوحي. إن هذا اللقاء بين الوحي التوحيدي والفلسفة الأفلاطونية قد سهل عملية الخلط لدى العرب والمسلمين بين أفلوطين في كتاب: "إلهيات أرسطو"، وتلفيقية الفارابي لرأيي الحكيمين. إن هذا البرنامج الضخم من التفحص والبحث المتمثل في فهم المنتجات الثقافية من الناحية الأنثروبولوجية والسوسيولوجية والفلسفية هو الذي يحاول آركون تنفيذه (ينظر: محمد آركون: " تاريخية الفكر العربي الإسلامي"، ص 11، 12، 13).

إن العقل الدوغمائي، كما يرى آركون، أغلق ما كان مفتوحاً ومنفتحاً. وحوّل ما كان يمكن التفكير فيه بل ويجب التفكير به إلى ما لا يمكن التفكير فيه. ونتج عن ذلك تغلب ما لا يمكن التفكير فيه والإبداع فيه. وبعبارة أخرى، فإن نزعة التقليد للمذاهب الارثوذكسية وتكرارها قد تغلبت على إعادة التقييم لجميع المذاهب الموروثة والمسلمات التعسفية التي انبنت عليها. إن هذه المسلمات المعرفية أصبحت بمثابة المنظومة المعرفية التي اصبحت مرجعية مشتركة وضرورية لما يسمى بالسياسة الشرعية او اللاهوت السياسي وهذا اللاهوت هو المنافس المعارض للفلسفة السياسية (أي مرحلة الممتدة من القرن الثالث إلى القرن الخامس الهجري) (ينظر: محمد آركون: " قضايا في نقد العقل الديني "، ص 7).

يرى آركون أن الفرق بين العقل الإٍسلامي والعقل العربي أن الأول يتقيد بالوحي أو المعطى المنزل، ويؤكد أن دور العقل ينحصر في خدمة الوحي أي في فهم وتفهيم ما ورد فيه من أحكام وإرشاد وتعاليم، ثم الاستنتاج والاستنباط منه، فالعقل تابع وليس بمبتبوع. أما العقل العربي فهو الذي يعبر باللغة العربية أياً تكن نوعية المعطى الفكري الخارج عنه والذي يتقيد به. إن اللغة تتأثر بتاريخ القوم والجماعة أو الأمة الناطقين بها ولكن التعامل بين العقل واللغة أوسع وأعمق وأكثر مرونة وتعدد وإنتاجاً من العلاقات بين قوم محدود ولغة. ولذلك يفضل آركون استخدام مفهوم العقل الإٍسلامي على استخدام مفهوم العقل العربي، ويؤكد عدم قبوله لاستخدام محمد عابد الجابري مفهوم العقل العربي، لأن الجابري لم يتحرر في شروحه وتأويلاته من تلبسات الذهنوية والقومومية والعنصرية (ينظر: محمد آركون: " من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإٍسلامي المعاصر؟ "، ص xvi).

والمتتبع لفكر آركون النقدي في سياق ثنائية الوحي / الفكر يكتشف بسهولة أن آركون يعتمد على التوحيد بينهما، بمعنى أنه يعتقد أنه هنالك علاقة جدلية واحدة بين الوحي والفكر، بدون أن يكون هنالك سبيل للفصل بينهما.
فآركون يعتقد أننا نجسد الحقائق فينا بالمعنى الحرفي لكلمة التجسيد، أي عندما نصهرها في أجسادنا، فأنها تصبح مرتبطة كلياً ونهائياً بكينونتنا العميقة. وتصبح بالتالي مرتبطة بشبكة الإدراك التي سوف تتحكم من الآن فصاعداً بكل وجودنا وسلوكنا. على هذا المستوى العميق والجذري، كما يتصور آركون، ينبغي أن نحاول فهم الساحة الدينية والطريقة التي تمارس عليها دورها هذه الساحة في المجتمعات البشرية المختلفة. وبهذا المعنى فإن الأديان جميعاً بدون استثناء ليست إلا عبارة عن أنماط للصياغات الطقسية والشعائرية التي تساعد على دمج الحقائق الأساسية وصهرها في أجسادنا. وقد أنشئت المباني المعمارية الدينية المطابقة لكل من هذه الشعائر والطقوس. ثم تشكلت الأنظمة التيولوجية التي راحت تكمن مهمتها في تفسير هذه الأنماط الشعائرية وتوضحيها. ولكن من المهم أن نميز بين هذه الأنماط الشعائرية التي تشكل في الواقع أشياء ثقافية احتمالية أو صدفوية (أي خاضعة في منشئها للصدفة والاحتمال)، وبين البنى العميقة التي تؤثر علينا فعلياً. يقصد آركون أنها تشكل حقيقتنا ككائنات إنسانية مرتبطة باللغة وبشبكة التحسس والإدراك التي تتضمنها (ينظر: محمد آركون: " العلمنة والدين "، ص 24 – 25).

ويختزل آركون مسارات العقل الإسلامي بالمحاور الآتية:
- القرآن وتجربة المدينة.
- جيل الصحابة.
- رهانات الصراع من أجل الخلافة / أو الإمامة.
- السنة والتسنن.
- أصول الدين، والفقه، والشريعة.
- مكانة الفلسفة أو الحكمة المعرفية.
- العقل في العلوم العقلية.
- العقل والمخيال في السرديات التاريخية والأدبية.
- الأسطورة، والعقل والمخيال في الآداب الشفهية.
- المعرفة السكولاستيكية (المدرسية والمذهبية) والمعارف التجريبية والتطبيقية (الحس العملي).
- العقل الوضعي والنهضة.
- العقل والمخيال الاجتماعي والثورات.
- رهانات العقلانية وتحولات المعنى (ينظر: محمد آركون: " تاريخية الفكر العربي الإسلامي"، ص 15).

منهج آركون النقدي حول العقل يرتكز على علاقة العقل بالوحي، وعلى رضا العقل أن يبقى بالدرجة الثانية، أي في حدود الخادم للوحي دون أن يجرأ على السؤال والمبادرة، أو التأويل إلا في حدود ما يسمح به الوحي. إن العقل، كما يراه آركون، هو المصدر والعامل في كل ما يعبر عنه الإنسان ويبلغه بلغة من اللغات، وهو المسؤول عن عملية تركيب المعاني وإنتاج جميع المنظومات، أو الأنساق السيميائية (ينظر: محمد آركون: " من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإٍسلامي المعاصر؟ "، xvi - xv).

ويعتقد آركون أن صعوبة تحرير العقل النقدي تكمن في كيفية تحريره من القيود الأبستيمية والأبستيمولوجية التي فرضها العقل الدوغمائي على جميع الممارسات الثقافية والفكرية التي قام بها الفكر البشري منذ انتقاله من المرحلة البدائية أو الوحشية (بحسب مصطلح كلود ليفي شتراوس) إلى المرحلة الزراعية المدنية. وتعتمد هذه الأخيرة على التضامن الإيديولوجي بين الدولة والكتابة والثقافة المكتوبة العالمية الفصحى والشفرة الأرثوذكسية لتدبير العقول والجماعات والأفراد. إن العقل الدوغمائي ليس ظاهرة خاصة بتاريخ الفكر الاسلامي، بل إنه قوة بنيوية تكوينية من قوى عديدة (ينظر: محمد آركون: " قضايا في نقد العقل الديني "، ص 6 – 7).

ومما أنجز في تاريخ الفكر الإسلامي لمعالجة إشكالية العلاقة بين الفكر والوحي ما أنجزه ابن تيمية في كتابه: " در تعارض العقل والنقل " فاستدل، على سبيل المثال، بقوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) } [ الشورى : 52 – 53 ]. وبقوله تعالى: { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) } [ الرعد : 17 ]، ويستدل ابن تيمية أيضاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن زيد بن وهب، حدثنا حذيفة، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا: «أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة». ويبين ابن تيمية أن هذا مثل ضربه الله لما أنزله في القلوب من الإيمان والقرآن، وشبه القلوب بالأودية، وشبه ما يخالط القلوب من الشهوات والشبهات بالزبد الذي ذهب جفاء، يجفوه القلب ويدفعه، وشبه ما يبقى في الأرض من الماء النافع بما يبقى في القلوب من الإيمان النافع (ينظر: ابن تيمية: " درء تعارض العقل والنقل "، 8 / 104. وينظر الحديث في " صحيح البخاري "، 8 / 4، حديث رقم (6497)).

ويستدل ابن تيمية بحديث آخر: عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» قال أبو عبد الله: قال إسحاق: وكان منها طائفة قيلت الماء، قاع يعلوه الماء، والصفصف المستوي من الأرض. ويقول ابن تيمية: " قسم صلى الله عليه وسلم الناس فيما بعث به من الهدى والعلم، الذي شبهه بالغيث، إلى ثلاثة أقسام: فقسم قبلوه فانتفعوا به في نفوسهم علما وعملا. وقسم حفظوه وأوده إلى غيرهم. وقسم ثالث لا هذا ولا هذا" (ينظر: ابن تيمية: " درء تعارض العقل والنقل "، 7 / 456، وينظر الحديث في: " صحيح البخاري "، 1 / 27، حديث رقم (79)).

ولو عاد آركون إلى المؤلفات في علم أصول الفقه عند المسلمين لوجد أنهم قد قدموا معالجات مطولة للإشكاليات التي يثيرها في أفكاره السابقة. بين الشاطبي إن الله تعالى أنزل الشريعة على رسوله صلى الله عليه وسلم فيها تبيان كل شيء يحتاج إليه الخلق في تكاليفهم التي أمروا بها، وتعبداتهم التي طوقوها في أعناقهم، ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كمل الدين بشهادة الله تعالى بذلك؛ حيث قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] فكل من زعم أنه بقي في الدين شيء لم يكمل فقد كذب بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]. نعم يبقى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكولا إلى نظر المجتهد، وإذا ثبت في الشريعة أشعرت بأن ثم مجالا لذلك، ولا يوجد ذلك إلا فيما لا نص فيه. ولو كان المراد بالآية الكمال بحسب تحصيل الجزئيات بالفعل، فالجزئيات لا نهاية لها، فلا تنحصر بمرسوم، وقد نص العلماء على هذا المعنى، فإنما المراد الكمال بحسب ما يحتاج إليه من القواعد التي يجري عليها ما لا نهاية له من النوازل (ينظر: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (المتوفى: 790هـ): " الاعتصام" ، تحقيق: سليم بن عيد الهلالي، الطبعة: الأولى، دار ابن عفان، السعودية، ، 1412هـ - 1992م، 2 / 816 – 817).

وبين الدبوسي أنه قد انعقد إجماع العقلاء على إصابة المطلوبات الغائبة عن الحواس بدلائل العقول، كإجماعهم على إصابة الحاضر بالحواس، حتى إنك لا تكاد تجد أحداً خالياً عن الاستدلال لمصالحه برأيه عن عقله، وحتى لم تكن الحجج السمعية حججاً إلا باستدلال عقلي، ولا يقع الفرق بين المعجزة وبين المخرقة، والنبي والمتنبئ إلا بنظر عن العقل، وكذلك تعرف النار مرة ببصرك ومرة بدخانها مستدلاً عليها بعقلك، لا طريق للعلم إلا طريق الحواس أو الاستدلال بنظر عقلي في المحسوس ليدرك لما غاب عنها (ينظر: أبو زيد عبد الله بن عمر بن عيسى الدّبوسيّ الحنفي (المتوفى: 430هـ): "تقويم الأدلة في أصول الفقه"، المحقق: خليل محيي الدين الميس، دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1421هـ - 2001م، ص 442. وللتوسع حول العقل والوحي، ينظر كتابنا: " مشكلة النص والعقل في الفلسفة الإسلامية: دراسات منتخبة"، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1427 هـــ - 2006م).



المبحث الرابع
مفهوم السيادة العليا في الإسلام
عند محمد آركون


وفي سياق قريب من الفلسفة الاجتماعية الجدلية يرى آركون أن الفكر الإسلامي يدعي الانتساب إلى نظام العقول التي تحيل إلى الوظيفة التسويغية والتشريعية للعقل الكلاسيكي. من المهم أن نتساءل عن المشروعية أو الصحة الدينية والتاريخية والفلسفية لمزاعم كهذه. إن إنجاز ذلك يتطلب قطع ثلاث مسارات:
1- ما هي مكانة العقل الإسلامي الكلاسيكي من الناحية الأبستيمولوجية؟
2- هل هناك استمرارية تاريخية حقيقية ومحسوسة بين العقل الإسلامي الكلاسيكي ونوعية العقول التي تدعي الانتساب إليها خطابات الإسلامية المعاصرة؟ أم هناك بينهما قطيعة بالقوة أو بالفعل محجوبة ومغطاة بواسطة سلسلة من الإسقاطات الثقافية على الماضي؟
3- ما رأي الفكر الإسلامي الحالي بتاريخية العقل بشكل عام وتاريخية العقل الإسلامي بشكل خاص (ينظر: محمد آركون: " تاريخية الفكر العربي الإسلامي"، ص 66).

ذهب القفال الشاشي في مجال مرجعية القرآن الكريم إلى أن: " حكم الظاهر والنص وجوب العمل بهما عامين كانا أو خاصين مع احتمال إرادة الغير وذلك بمنزلة المجاز مع الحقيقة ". وفي مجال السنة النبوية قال في سياق ذكر وجوب العمل بالحديث المتواتر: " فالمتواتر ما نقله جماعة عن جماعة لا يتصور توافقهم على الكذب لكثرتهم واتصل بك هكذا أمثاله نقل القرآن وإعداد الركعات ومقادير الزكاة. والمشهور ما كان أوله كالآحاد ثم اشتهر في العصر الثاني والثالث وتلقته الأمة بالقبول فصار كالمتواتر ... ثم المتواتر يوجب العلم القطعي ويكون رده كفرا، والمشهور يوجب علم الطمأنينة ويكون رده بدعة، لا خلاف بين العلماء في لزوم العمل بهما وإنما الكلام في الآحاد" (ينظر: نظام الدين أبو علي أحمد بن محمد بن إسحاق الشاشي (المتوفى: 344هـ): " أصول الشاشي"، دار الكتاب العربي – بيروت، بدون تاريخ، 1 / 72).

وبيّن ابن حزم: " أن القرآن هو عهد الله إلينا والذي ألزمنا الإقرار به والعمل بما فيه وصح بنقل الكافة الذي لا مجال للشك فيه أن هذا القرآن هو المكتوب في المصاحف المشهورة في الآفاق كلها وجب الانقياد لما فيه فكان هو الأصل المرجوع إليه لأننا وجدنا فيه {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} فما في القرآن من أمر أو نهي فواجب الوقوف عنده" (ينظر: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى: 456هـ): " الإحكام في أصول الأحكام"، تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر، قدم له: الأستاذ الدكتور إحسان عباس، دار الآفاق الجديدة، بيروت، بدون تاريخ، 1 / 95).

بل وذهب ابن حزم إلى أوسع من هذا أنه لا بد من الأخذ بظاهر النصوص وحملها على الوجوب والفور، وبطلان قول من صرف شيئاً من ذلك إلى التأويل أو التراخي أو الندب أو الوقف بلا برهان ولا دليل. وذكر ابن حزم أن الآمر أراد أن يكون ما أمر وألزم المأمور ذلك الأمر. ونقل عن بعض الأحناف والمالكية والشافعية أن أوامر القرآن والسنن ونواهيهما على الوقف حتى يقوم دليل على حملها إما على وجوب في العمل أو في التحريم وإما على ندب وإما على إباحة وإما على كراهة. وذهب بعض من المذاهب الإسلامية المذكورة كما يشير ابن حزم وجميع أصحاب الظاهر إلى القول بأن كل ذلك على الوجوب في التحريم أو الفعل حتى يقوم دليل على صرف شيء من ذلك إلى ندب أو كراهة أو إباحة فتصير إليه. وتشدد ابن حزم في هذا الباب عاداً إياه بأنه الذي لا يجوز غيره (ينظر: ابن حزم: " الإحكام في أصول الأحكام"، 3 / 2).

وبين ابن تيمية أن العبادة هي " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة". وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له التي خلق الخلق لها كما قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [56 الذاريات]. وضرب لذلك أمثلة مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة. كذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله (ينظر: ابن تيمية: " العبودية "، المحقق: محمد زهير الشاويش، الطبعة السابعة المجددة، المكتب الإسلامي – بيروت، 1426هـ - 2005م، ص 44).
يعتقد المسلمون أن الله تعالى هو الذي يحب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، وهو المعين على المطلوب وما سواه هو المكروه، وهو المعين على دفع المكروه؛ فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قوله: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]. إن العبودية تتضمن المقصود المطلوب؛ لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب؛ فالأول من معنى الألوهية. والثاني من معنى الربوبية؛ إذ الإله: هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالا وإكراما والرب: هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها؛ وكذلك قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]. وَقَوْلُهُ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30]، وَقَوْلُهُ: {وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]، {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 9]. وَقَوْلُهُ: {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4]. وقَوْله تَعَالَى {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58] (ينظر: ابن تيمية: "مجموع الفتاوى"، 1 / 22).

وأكد ابن القيم: " أن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته"، ويضيف: " أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان؛ ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر" (ينظر: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ): " إعلام الموقعين عن رب العالمين"، تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم، ط1، دار الكتب العلمية - بيروت، 1411هـ - 1991م، 4 / 40).
المبحث الخامس
معنى كلمة " إسلام " و " مسلم "


يرى آركون أن المستشرقين الفرنسيين اعتادوا ترجمة كلمة " إسلام " بمعنى الخضوع، أو الاستسلام، أي الاستسلام لله. ويرى آركون أن هذا المعنى خاطئ جداً، فالمؤمن ليس مستسلماً لله، بل هو يشعر بلهفة الحب نحو الله، وبحركة الانتماء إلى ما يقترحه الله [كذا]، وبحركة الانتماء إلى ما يقترحه الله عليه، لأن الله يرفع الإنسان إليه بواسطة الوحي. وهذه الرفعة والترقية لدى الإنسان شعور بالاعتراف بالجميل تجاه الخالق الذي غمر المخلوق بأنعامه وأفضاله. وبالتالي، فهنالك علاقة طاعة وعشق واعتراف بالجميل بين الخالق الأعظم والمخلوق (ينظر: محمد آركون: " الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد"، ترجمة وتعليق هاشم صالح، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، بدون تاريخ، ص 49).

يحاول الأستاذ آركون في التعرف السابق للإسلام أن يجعل الإسلام علاقة بين المخلوق والخالق مبنية على أساس الحب والعبادة الطوعية غير متقبل لكون الإسلام استسلاماً طوعياً من قبل المسلم تجاه خالقه العظيم.
لكن الإسلام يعني أيضاً الخضوع والاستسلام لله سبحانه. جاء في " لسان العرب " لابن منظور:
" فالإسلام إظهار الخضوع والقبول لما أتى به سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبه يحقن الدم، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الإيمان الذي هذه صفته، فأما من أظهر قبول الشريعة واستسلم لدفع المكروه فهو في الظاهر مسلم وباطنه غير مصدق، فذلك الذي يقول أسلمت، لأن الإيمان لا بد من أن يكون صاحبه صديقا، لأن الإيمان التصديق: فالمؤمن مبطن من التصديق مثل ما يظهر، والمسلم التام الإسلام مظهر للطاعة مؤمن بها" (ينظر: محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (المتوفى: 711هـ): " لسان العرب"، ط3 ، دار صادر – بيروت، 1414 هـ، 12 / 294).

وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام بين مسمى " الإسلام " ومسمى " الإيمان " ومسمى " الإحسان {. فقال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. وقال: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره}. وكذلك فسر " الإسلام " في حديث ابن عمر المشهور قال: {بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان}. وحديث جبرائيل يبين أن " الإسلام المبني على خمس " هو الإسلام نفسه. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم بأنه جعل الأعمال الظاهرة من الإيمان كقوله: {الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق}. {وقوله لوفد عبد القيس: آمركم بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تؤدوا خمس ما غنمتم}. ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيمانا بالله بدون إيمان القلب؛ لما قد أخبر في غير موضع أنه لا بد من إيمان القلب فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان وفي " المسند " عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الإسلام علانية والإيمان في القلب}. {وقال صلى الله عليه وسلم إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب}. فمن صلح قلبه صلح جسده قطعا بخلاف العكس (ينظر: ابن تيمية: " مجموع الفتاوى "، 7 / 7 – 9).

ويرى آركون أن في الرسالة عقلاً معيناً ومحدداً بشكل صارم وموجّه. إنه ينمو ويترعرع داخل إطار مجموعة نصية ناجزة ومغلقة على ذاتها، نقصد بذلك القرآن والحديث، وهو موجه نحو القبض على المشروعية العليا المطلقة التي تتجاوز كل إجراءاته وعملياته وتضيئها وتقودها (ينظر: محمد آركون: " تاريخية الفكر العربي الإسلامي"، ص 68 – 69).

" والإيمان " أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أصحابه من الإسلام. فالإحسان يدخل فيه الإيمان والإيمان يدخل فيه الإسلام والمحسنون أخص من المؤمنين والمؤمنون أخص من المسلمين؛ وهذا كما يقال: في " الرسالة والنبوة " فالنبوة داخلة في الرسالة والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها؛ فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا؛ فالأنبياء أعم والنبوة نفسها جزء من الرسالة فالرسالة تتناول النبوة وغيرها بخلاف النبوة؛ فإنها لا تتناول الرسالة. فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل " الدين " هو الإسلام والإيمان والإحسان. فتبين أن الإسلام يجمع الثلاثة لكن هو درجات ثلاث: " مسلم " ثم " مؤمن " ثم " محسن " كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32 ]، والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة بخلاف الظالم لنفسه. وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع تصديق القلب؛ لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن؛ فإنه معرض للوعيد كما سيأتي بيانه إن شاء الله. وأما " الإحسان " فهو أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أصحابه من الإيمان (ينظر: ابن تيمية: " مجموع الفتاوى "، 7 / 10).


المبحث السادس
إشكالية العقلانية النقدية
عند محمد آركون


يوجه محمد آركون الأنظار إلى أن العقلانية المنطقية المركزية الأرسطية كانت قد شهدت توسعاً في الفكر الأوربي حتى يومنا هذا. هذا على الرغم من توصل الفكر الأوربي إلى منطق جديد غير منطق أرسطو هو المنطق العددي، وعلى الرغم من تليين العقلانيات، والإكثار من المنهجيات، وانفتاح العقل على استكشاف أنظمة أخرى للفكر. والواقع أن مبادئ منطق أرسطو المتمثلة بمبدأ الهوية، وعدم التناقض، والثالث المرفوع، هي التي توجه المحاجة العقلانية، الاستنباطية والبرهانية، انطلاقاً من مقدمات محددة. ولا تزال هذه المبادئ الأرسطية تطبع لغة الحس العام المشترك بطابعها، معلنة سيادتها المستمرة في الحياة اليومية المعاصرة. أما فيما يخص الفكر الإسلامي فقد غذت الفلسفة الأرسطية التوترات المتضادة الجدلية الثنائية بين الظاهريين والباطنيين، وغذت التضاد بين الفلسفة العقلانية المركزية على طريقة ابن رشد والفلسفة الإشراقية. كما غذت الفلسفة الأرسطية التضاد الحاصل بين التفسير الحرفي للقرآن والتأويل المجازي الذي يترك للخيال الخلاق الحرية في الحركة على مصراعيها (ينظر: محمد آركون: " نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية "، ترجمة وتعليق هاشم صالح، ط1، دار الساقي، بيروت، 2011 م، ص 285 – 286).

يرى ابن تيمية أن لفظ " العقل " - وإن كان هو في الأصل: مصدر عقل يعقل عقلا وكثير من النظار جعله من جنس العلوم - فلا بد أن يعتبر مع ذلك أنه علم يعمل بموجبه فلا يسمى " عاقلا " إلا من عرف الخير فطلبه والشر فتركه؛ ولهذا قال أصحاب النار: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ ﴿٩﴾ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ ﴿١٠﴾ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ﴿١١﴾ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَىٰ} [الأعلى: 9 – 12 [. فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ يَخْشَاهُ يَتَذَكَّرُ، وَالتَّذَكُّرُ هُنَا مُسْتَلْزِمٌ لِعِبَادَتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13]. وَقَالَ: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8]. ومن فعل ما يعلم أنه يضره؛ فمثل هذا ما له عقل. فكما أن الخوف من الله يستلزم العلم به؛ فالعلم به يستلزم خشيته وخشيته تستلزم طاعته. فالخائف من الله ممتثل لأوامره مجتنب لنواهيه وهذا هو الذي قصدنا بيانه أولاً (ينظر: ابن تيمية: " مجموع الفتاوى "، 7 / 25).



#رواء_محمود_حسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد الاركونية / الحلقة الثالثة
- نقد الاركونية / الحلقة الثانية
- نقد الاركونية / الحلقة الأولى
- في اللعب
- خاطرة في الأدب (2)
- خاطرة في الأدب (1)
- خاطرة في الطوفان
- خاطرة في صبر أيوب
- خاطرة حول ابن خلدون
- خاطرة جوزية
- خاطرة في الحنين إلى الوطن
- خاطرة في الفرح
- خاطرة في معرفة النفس
- خاطرة في الهجرة
- حنة آرندت ونقد التوتاليتارية
- خاطرة في التاريخ (2)
- خاطرة في التاريخ (1)
- خاطرة في الفلسفة (4)
- خاطرة في الفلسفة (3)
- خاطرة في الفلسفة (2)


المزيد.....




- السعودية.. 28 شخصا بالعناية المركزة بعد تسمم غذائي والسلطات ...
- مصادر توضح لـCNN ما يبحثه الوفد المصري في إسرائيل بشأن وقف إ ...
- صحيفة: بلينكن يزور إسرائيل لمناقشة اتفاق الرهائن وهجوم رفح
- بخطوات بسيطة.. كيف تحسن صحة قلبك؟
- زرقاء اليمامة: قصة عرّافة جسدتها أول أوبرا سعودية
- دعوات لمسيرة في باريس للإفراج عن مغني راب إيراني يواجه حكما ...
- الصين تستضيف محادثات مصالحة بين حماس وفتح
- شهيدان برصاص الاحتلال في جنين واستمرار الاقتحامات بالضفة
- اليمين الألماني وخطة تهجير ملايين المجنّسين.. التحضيرات بلسا ...
- بعد الجامعات الأميركية.. كيف اتسعت احتجاجات أوروبا ضد حرب إس ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رواء محمود حسين - نقد الاركونية / الحلقة الرابعة