أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غانم عمران المعموري - الدراما والمكان المتخيَّل في رواية ( ثغيب ) للروائي العراقي شوقي كريم حسن .















المزيد.....


الدراما والمكان المتخيَّل في رواية ( ثغيب ) للروائي العراقي شوقي كريم حسن .


غانم عمران المعموري

الحوار المتمدن-العدد: 7145 - 2022 / 1 / 25 - 22:16
المحور: الادب والفن
    


الدراما والمكان المتخيَّل في رواية ( ثغيب ) للروائي العراقي شوقي كريم حسن .

تمتزج الموهبة البراقة بالتجارب الحياتية والفنية والأدبية والقدرات الإبداعية لتكشف لنا عن شخصيةٍ لها جذور سومرية ارتوت من مياهِ دجلةٍ والفراتِ, تكحلت عينيه بالطينِ الحُرّي يقتنص كلُ ما يقع نظره عليه فتكدست في ذاكرته والتصقت بها صور وحكايات واحداث عاشها بنفسه وأخرى شاهدها .. يصيغ السمع صوت بوجعٍ وألمٍ وحسرةٍ يتعالى من الأعماق بوجه الواقع المُزيّف والظلم والطغيان يثغب كلما تكالبت عليه الدنيا دون أن يستطيع الرد دفاعاً عن نفسه المسلوبة الحرية هذا حال ( جبر الواضح ) بطل رواية " ثغيب " للروائي والسيناريست شوقي كريم حسن ضمن اصدارات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ب 200 صفحة لعام 2021 تُمثّل صرخة وجدان حيّ ضد كل مظاهر الفساد والرذيلة والقمع والظلم المجتمعي والتهميش للطبقات الفقيرة الكادحة فكانت ( ثغيب ) ضربة موجعة لكل من يظن بأنه سوف يترك الدنيا بمعاصيه وذنوبه وسفك الدماء وزجّ الأبرياء في قعر السجون المظلمة دون حساب دنيوي أو آخروي ..
ثغيب عنونة نُسجَت بحرفيّةٍ وابداع واختيار لهجة عراقية معروفة جذورها الأصيلة ليصل بتلك العنونة إلى عمق شعور القارئ وكأنه صيّاد ماهر لا تفلت السمكة من صنارته أبداً يأخذ بيد القارئ إلى صور دراميّة حقيقية تجعله يسمع صوت الثغيب بنفسه وبذلك تكون العنونة قد حقق قوة دلاليّة عميقة لما تحمله تلك المفردة من معنى خفيّ أي ما وراء المعنى فإن الكاتب لم يُردْ من تلك المفردة معناها المُعجمي القاموسي وإنما معنى يتجاوز كل أُطر الكلمة ومعناها .. معنى عام وليس خاص ينطلق من الأنا الفردية المتشظيّة إلى الأنا الجمعية ..
عنونة " ثغيب " هي الوهّج البصري الأول الّذي يستثير مُخيلة القارئ ويوقظ شعوره من السبات إلى الحيّوية المفعمة بالتفكير والتأمل والتحليل ليّكون انطباعه الأولي على ما يُّمكن أن ترد عليه تفاصيل الرواية وما تتضمنه من دلالات ومعانٍ وأهداف..

جاءت العنونة " ثغيب " متطابقة ومنسجمة مع لوحة الغلاف لسعاد العطار لشخصية تصرخ بألم وحرقة من الأعماق بألوان تشير إلى الحزن والعذاب وتأنيب الضمير ..


العرض الدرامي في السرّد :

اتبع شوقي كريم تقنية كسر الأُطر الضيقة والانطلاق إلى فضاءاتٍ مفتوحةٍ تُمكنه من خلقِ عجينةٍ سرّديةٍ خاصة به عن طريقِ استخدم الحوارات الداخلية المباشرة وغير المباشرة وبث الروح في شخصياته التي ترك لها حريّة الحركة والبوح وطرح أيدولوجياتها المختلفة والنزول إلى أدقِ التفاصيل مما يحقق كشف واضح وبارز للأحداث المشحونة بالطاقة وكأن القارئ يحس بأنه يرى عرضاً مسرحياً تتحرك فيه الأشخاص وتتحاور وتتصارع بكل مشاعرها الحقيقية وفق دراما مرسومة بدقةِ مؤلفٍ عارفٍ بأدواته السرّدية وابداعه الفني من خلال إثارة مشاهد واقعية يكون لها الأثر الكبير في تنشيط حركة الأحداث وتسارعها أو التوقف أو الابطاء في حركة السرّد من خلال حوارات مُنتقاة بدرايّة وتخطيط تكشف عن لحظة التأزم النفسي والاجتماعي وعمق المأساة التي ترافق الشخصية من خلال لعبة التقاذف وتجاذب والتنافر والتقلب في المزاج والرأي المخالف والمتوافق أثناء الحوارات مما تسهم تلك التقنية الابداعية التي أدار بها الكاتب المشاهد الدراميّة بنقله نوعية لقيمة النصّ الأدبي من الركود والجمود إلى كائنٍ حيٍّ يتحرك ويتجول ويبكي ويصرخ وكأن القارئ كلما مرّت عليه كلمة " ثغيب " يقف يتأمل و يتساءل كيف يكون الثغيب ؟ وكيف يكون حال الثاغب ؟ وما يُردْ من يثغب ؟ واذا سكت ماذا يحدث ؟ وإذا خرج صوته عالياً ماذا يكون ؟ أسئلة بأبعادٍ فلسفيةٍ و اجتماعيةٍ وسياسيةٍ تحيط كل العوالم التي ترتبط بالإنسان العراقي خلال حقبة زمنية طويلة يمكن للقارئ أن يتتبع خيوط الزمن الدرامي لأحداث الرواية من خلال الالفاظ والعبارات التي يتبادلها أطراف الحوارات الساخنة و المباشرة وعليه فإن الزمن " .. حلقة الوصل بين اللغة والحكاية من جهة وبين تصاعد الفعل الدرامي والشخصيات من جهةٍ أخرى .. ولذا فإنه يدخل في عمليات تحريك الملذات التي يلجأ إليها النصّ من أجل الوصول إلى الغاية الإدهاش التي يحاول النصّ الوصول إليها شأنه شأن الأزمان الأخرى .. "1.
استطاع الكاتب أن يُحْدث ضجة كبيرة من الأسئلة وعلامات الاستفهام في مخيلة القارئ ويجعله يعيش مع الشخصيات التي اتخذت أدوار مختلفة, مرةً يتعاطف مع " جبر الواضح " ومرة ينقم عليه ومرة يجعل نفسه " على اليمين " ومرة أخرى يكون مع " على اليسار " في عرضٍ دراميٍّ شيقٍّ ..
بدأ الكاتب بنسجٍ سرديٍّ مكثفٍ و نصب فخ للقارئ كمن وضع حفرة كبيرة ووضع العِصابة على عيني شخص ويفتحها لحظة وقوعه فيها .. هكذا فعل شوقي كريم بقارئه أخذه مباشرة وقذفه بقلب الحدث فلا يستطيع الخروج من لجة الأحداث حتى تنتهي أحداثها لأنه أدخل القارئ في قاعة محاكمة بتنويم مغناطيسي سحبه بأسلوبٍ بلاغيٍّ ذكيٍّ ..

أدرج أسماء شخصيات روايته قبل البدء بسردِ أحداثها بحكمةٍ ودرايّة وببصمةٍ تفرّدَ بها عن غيره من الروائيين من خلال الاستفادة من تقنيات المسرح والعرض الدرامي وتوظيفها في أعماله الروائية دون الاخلال بالسياقات العامة للعمل الروائي أو الشروط الفنية المتفق عليها لكنه أراد من ذلك استثمار تلك الخصيصة بإعطاء الحيّوية في حركة الشخوص ووصف تحركاتها وبيان حالتها النفسية والانطباعات والأفكار التي تتحلى بها من خلال تحويّل الصور الجامدة إلى صور حسيّة مرئية وكأن القارئ يقرا وينظر في شاشةِ التلفاز لعرض فيلم بكل أبعاده وبذلك فإنه يكون قد حقق مُتعتين متعة القراء ة ومتعة الغوص في خيال واسع يجعله يُجسد أدوار وحركات الشخوص ..
يبدأ شوقي بنسجٍ سرّديٍّ بتقنيةٍ ومهارةٍ من خلال تطعيم العمل الروائي بصبغاتٍ ولمسات درامية ومشهديه وبمسرحها كما يليق بها دون الإخلال بالشروط الفنية والسياقات المُعتمدة في الأعمال الروائية لخبرته الطويلة في تأليف المسرحيات ومراقبته عن قرب تحرك الشخصيات فيها ..
قسم روايته إلى سجلات ( السجل الأول محفوظات وادي السلام ) أطلق عليها أسماء تأخذ القارئ إلى العالم الثاني ما بعد الموت في لعبة صراع الروح والخوف والقلق من المجهول الذي يخشاه الناس, عالم ينكشف فيه المستور وتشهد عليه جوارحه إذا كذب, عالم يشبه عالم الحساب الدقيق, عالم الملكوت, وعوالم مختلفة تتوافق وتتضارب وأزمنة تختفي وتطل من جديد تتشابك وتتعانق الرؤى ويندمج المكان في الزمان في الخيال والواقع الاجتماعي والتأزم النفسي .. ينطلق السارد من حديث الأنا المونولوج الداخلي المباشر وبأسلوب النفير والصرخة العالية وبذلك فإنه تمرد على المألوف والأُطر الضيقة في السرّد التقليدي ( أعلن رسمياً ومن خلال ثغيب شكرية التي شقت زيق نفنوفها المليء برائحة الباذنجان وزفرة السمك البائت .. مات جبر الواضح.. مات الذي ما بخل عليَّ .. ) ص9..
ينتقل الكاتب مباشرة من الضمير المتكلم إلى الضمير الغائب في بث نوعي تقني مشهدي ( صوتت شكرية شكر لمه كما كان يحلو له تسميتها دون أن يترك خلفه وصيه أو قول .. )
كما استطاع من خلال صور شعريّة ضمَّنها حواراته عبر لغة فنية بلاغية تسهم في إثراء البنية السرّدية وتأطيرها بجماليات الحوار المباشرة عبر الأسئلة والدهشة في الطرح والمباغتة ودمجّ الزمان في المكان المُحدد الذي اتخذه الكاتب العالم المتحرك بشخوصه بين الخيال والواقع بحواراتٍ فلسفيةٍ هادفةٍ, مازجاً بين الحزن والفرح المصطنع والسخرية والوجع والألم فيحاول الكاتب من خلال المكان المتخيل وضع برمجة وصياغة حديثة للواقع ..
يصف الكاتب المكان ( باب الحجرة الاعتق كان عرسي تحت هذا السقف ) من خلال حديث شكرية شكر لمه وعودتها إلى الماضي عن طريق حوار مونولوج قائم على المودة والحب بعباراتٍ تُذكّر بالموت والآخر والحساب وباللهجة العراقية:

- جبر صدك أنموت وما أشوفك بعد ؟
- كفي عن هذه السخافات .. الموت حياة ثانية أكثر مودة من هذه !!
- شكر لمه ,,,أنت حور عيني وعين أهلي .. يا حور عين أحلى منك.. أنت وحدك جنة لا أقبل بغيرها ...
ويستمر الحوار حتى تعود شكرية إلى الواقع واللحظة التي هي فيها تنادي من الأعماق تثغب ( مات جبر الواضح من يساعدني على تغسيله وحمله إلى المدافن الذي لا أدري أين ...)ص12.

لتستمر في ذكرياتها وأحداثها وحوارها مع جبر الواضح في بيت الطين العتيق ولا يوجد من يُساعدها في دفنه ..
استطاع شوقي تحريك شخصياته بتقنيةِ الاسترجاع عن طريق المرور بالزمان من الحاضر إلى الماضي ومن الماضي إلى اللحظة التي تكون عليها الشخصية في مكانٍ صغيرٍ وصفه بدقةٍ متناهيةٍ ليخلق هزّة وإثارة للمتلقي في مخيلته من خلال الانتقال النوعي في المكان بين الموقع الحقيقي الموجود فعلاً وهو محط رحال وعيش الشخصية وبين مكان متخيل ينتقل إليه خيال المتلقي مباشرة وهذا ما حصل عندما فتح ( المدون السجل الثاني بعض صفحات هذا السجل مزقت عن عمد وسبق قصد ) حيث وضع لنا مفاتيح نستطيع من خلالها الوصول إلى زمن الحدث بتقنيةِ الاسترجاع ( ظل جثمان جبر الواضح حبيس الحجرة الطينية لثلاثة أيام وأربعة ليال, كانت شكرية تجوب الأمكنة التي ما رأتها من قبل بحثاً عمن يساعدها في اداء مراسيم الدفن لكن حواسم التنك سدت بأقفال مقهورة ) ص15. بعد الانتهاء من دفن جبر الواضح في أرضيةِ الغرفة وبمساعدةِ جارهم معوق حرب ( شراد ) رغم أنه من خلال هذه المفارقة ودخول الشخصية الثانية ( شراد ) إلى حياة شكرية فإن الكاتب كذلك كشف لنا من خلال وصف حالة شراد معوق الحرب عن فترة زمنية مليئة بالمآسي والآلام ماسكاً بيد المتلقي ثانيةً إلى الحروب الطاحنة التي زّجَ فيها رجال العراق وخلفت أرامل ومعوقين ومحروقين وأموات ومفقودين وبذلك يكون قد ساهم في خلقِ صورٍ ارتدادية تقحم المتلقي في ماضٍ ربما يكون قد عاش ويلاته أو سمعها من كبار السن لما يتصف به الزمان من طبيعة تجعله يدمج بين الواقع والعدم والغياب والحضور ومروره يُنبه الإنسان عن قرب موته وزواله من الوجود ..
أسهم شوقي في خلق أجواء من التأزم النفسي والصراع الداخلي وحديث النفس في صورٍ ومشاهدٍ دراميّةٍ متنوعةٍ وصولاً إلى حالة من التوافق والتوازن في قالب زمكاني أختاره لتحريك شخوصه ضمن بقعة مُحددة أي موقع موجود بالفعل وآخر متخيَّل ..
وصف لنا الكاتب الصراع النفسي والحيّرة والارتباك لدى شكرية شكر لمه وشراد حول كيفية دفن الجثة وهي لا تملك ثمن مراسيم الدفن ( شكرية شكر لمه لا تملك غير دجاجة واحدة وثمان بيضات ونصف كيس طحين ..) وفكرة قدحت لدى شراد عندما تذكر مقولة أحد رجال الدين وهو يتحدث للجنود ( قال بصوت ناعم تعلمه قبل سنوات وهو ينصت إلى رجل دين يعض الجنود قبل موتهم – أينما مات أقبروه .. وخير القبور الدوارس ! )..
اختار لنا شوقي كريم المكان ( الغرفة ) والتي عادة ما كانت ترمز إلى الحياة الزوجية السعيدة والحميمة وصلة التقارب والانصهار بين الزوجين ولكن سرعان ما تحول المكان الرحمي والأليف إلى مكان عدائي يثير إلى الخوف والقلق من وجود جثة يظن ( شراد ) بأنها سوف تُبعث من جديد وتنتقم منه لزواجه من شكرية شكر لمه التي اضطرتها الظروف على الزواج منه من خلال مشهديات الواقع الاجتماعي والتأزم النفسي والصراع الداخلي للشخصيات التي تتأرجح بين التراجيديا والكوميديا الساخرة محاولةً منه فك تشابكات الواقع المُزيّف إلى مفارقةٍ ودهشَّةِ الماضي البعيد الذي لا زالت أسواطه كالكرباج على ظهر الفقراء والمساكين عبر رؤية وفلسفة تستفيد من تعالقات الواقع الحالي أو الفنتازيا ليضع جملة من الأسئلة وعلامات الاستفهام التي يُريد توجيهها لانتقاد كل المظاهر السلبية في البلد والواقع العراقي الذي ينتمي إليه باعتباره فرد مسؤول عن رصدِ الرذيلة ومحاربتها بالفكرِ وقوةِ العقيدة والانتماء الحر للوطن وبذلك فإنه يحيلنا ويكشف بكل تقنية فنية ومهارة عن أنساقٍ مضمرةٍ مخفيّةٍ مسكوت عنها بأسلوب سرّدي يتلاعب بالصور وخلع الأقنعة المُزيّفة من خلال أسلوب حواري دراميّ يُسهل للمتلقي سرعة تفهم الحدث وكأنه يرى ويسمع شخوصاً تتناقش وتتحاور ..
كما أنه يجعل المتلقي وجهاً لوجه أمام الشخصيات المتحركة فهو وصف " يشمل المظهر الخارجي للشخصية, ملامحها, وعمرها ووسامتها وذمامة شكلها وقوتها الجسمانية وضعفها " 2..

يَقلبُ الكاتب الطاولة من خلال السجل الثالث ( الوجه الآخر للصمت ) لينتقل بنا بأسلوب ابداعي إلى المكان المتخيل مما يسهم في صنع أجواء من الصراع والاشتباك والتداخل والمتضادات والتوافقات والتجاوب والرفض من خلال صياغة جديدة للواقع الاجتماعي والسياسي فيمنح المكان الذهني المتخيل اسم حقيقي له وجود في العالم الخارجي ومعروف لكونه من العناصر المهمة في بناء الشخصية ومساهمتها الفعال في تحريك الاحداث وتطورها .. ( القاعة بتكوينها الغريب كانت تضج بالأنين الدافع إلى الهلع كل ما فيها يشير إلى الخوف المصحوب بالسكينة والخمول , فتح جبر الواضح باصريته على اتساعهما كان محاطاً بمئات الصحف والسجلات والاوراق .. ) ص23..

المكان المتخيل

ببصمةٍ خاصةٍ استطاع شوقي كريم مُقاربة النص الروائي في المكان المتخيل إلى نصّ بصريّ دراميّ تتحرك فيه الشخوص وبيان الحياة الخاصة بكل تفاصيلها ونقل ايدولوجياتها والصراع النفسي المتأزم واختلاف وجهات النظر وسيل من الأسئلة وعلامات الاستفهام وطرح رؤى جديدة وتذكير بأحداث مضت وحلول مستقبلية من خلال مكان متخيل ( قاعة محاكمة ) ادخل القارئ واجلسه في تلك القاعة ليستمع ويشارك محاكمة مزجها بين الواقعية والخيالية الذهنية وبمفارقة وذكاء أخذ بالمتلقي إلى عمق العالم الثاني عالم الموت والحساب وكأنه في يوم الحساب من خلال محاكمة تصويره مقربة لذهن المتلقي حيث أنه أجرى مرافعات في قاعة محكمة واقعية لكن الاحداث والنقاشات والسجلات والصحف التي يواجه بها المتهم جبر الواضح بصورة تشبه ما نُقل عن يوم القيامة والحساب لكن بأسلوب الواقع وبنسج السرد بدقة المزّج بين الدراما وبث صور حسيّة إلى سرّدٍ مسرحيٍّ عبر تشابكات الأحداث المتدفقة التي تمكن فيها الكاتب خلط الخاص بالعام والتوجه من الأنا الفردية إلى الجمعية من خلال تشظي الصورة إلى صور تحمل دلالات ومعاني بأبعادٍ فلسفيةٍ ونفسيةٍ واجتماعيةٍ من خلال التجاذب والتنافر والتضاد والتوافق في أطراف الحوار ..
استطاع الكاتب من خلال سلسلة المحاكمات أن يُمرر رسائله وأهدافه التي يُريد توجيهها عِبْر لغة تندمغ في البنية السرّدية بالدهشةِ والمباغتةِ وكثرة الأسئلة وعلامات التعجب والسخرية الموجعة وتقنية الاسترجاع معتمدا على تقنيات المسرح وبالحوار المونولوج ليقدم لنا فلسفة مختلفة ومندمجة لمجموعة من الفنون الأدبية وصهرها في بوتقة العمل الروائي وادخال القارئ إلى عمق الحدث وإغواءه عبر المخاتلات والفر والكر ليأخذنا إلى ما هو وراء النص السردي..
كما أنه استثمر الأمثال الشعبية والأهازيج والأناشيد والأغاني التراثية والفلكلورية وهتافات الحرب على لسان شخصياته ليرجع بالقارئ إلى الزمن الماضي المأساوي الذي كان يعيشه العراقيين البسطاء بتقنية الحوار والجواب والرد لتكون ادانة للوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المتدني والمُزيّف للواقع العراقي قبل عام 2003 واستمرار الحال إلى الأسواء وسط فوضى لبس الأقنعة وصبغ الوجوه والطيش والفساد ..
يعرض لنا الكاتب محاكمة يقودها الكاهن والجالس على اليمين والجالس على اليسار من خلال سجلات كبيرة يستعرضها على المتهم الذي لا يستطيع الكلام سوى الثغيب وسط قاعة كبيرة وحشد من الناس ومن خلال تلك المحاكمة يعود بنا السارد إلى الماضي بتقنية الاسترجاع إلى حياة جبر الواضح والمسؤوليات والمهام التي تم تكليفه بها في أيام الحزب المقبور واطاعته للأوامر والتي راح ضحيتها الكثير من الناس الأبرياء ..
( ضحك الواقف عند اليمين فارتجت أرجاء القاعة وتعالت صيحات مبهمة ( جبر يا جبر من ك .... للقبر ..)
من خلال هذه العبارة المعروفة لدى العراقيين يستطيع القارئ الحكم عليه قبل انتهاء المحاكمة بأن جبر الواضح لم يفهم من الحياة التي عاشها وسط الذلة والخنوع والاستعباد أي شيء سوى كونه آلة تتحرك بناءً على الأوامر والتعليمات وليس له أي دور يقوم به بمحض إرادته وكانت حياته صعبة ..
استثمر اللهجة العراقية في كثير من الحوارات ( ظل المعلم يناديه ( جبير الأملح ) وظلت ( جاسبية صابر ) تناديه – جبير يا مصايب الله ) وظلت شكرية شكر لمه تناديه – جبر الملهوك !!
وظل العريف ( صيوان خشيت ) يناديه – جبر الخواطر !! ..
وظلت موجه الفياض وهي أشهر بائعة لبن تناديه .
- جبر يدوخ ما يفوخ !! ..

تحفل تجربة شوقي بتقنية الاسترجاع التي تبث في مقاطع وحوارات متعددة وتشكل حيزاً مهماً في التجاذب الحاصل بين سلسلة الاحداث والمتلقي كما ويقوم الاسترجاع بالإضافة إلى تخليص السرّد في الأحداث من الرتابة والملل والفتور إلى الحركة والحيّوية والكشف عن تطورات الاحداث ورؤية الشخصية وأيدولوجيتها بين الماضي والحاضر لدفع المتلقي دخول مهمة رؤية الآتي في ظل حاضر الواقع الاجتماعي واسترجاع الماضي لتتكون لدية فكرة ورؤية واضحة ..
استعرض لنا الكاتب محاكمة واسعة احتدمت فيها النقاشات والاستجوابات وطرحت فيها فلسفات وايديولوجيات مختلفة تكشف عن تعدد الأصوات من خلال سجلات متعددة ( السجل الخامس دهور الخطايا !! والسجل السادس ملحق خاص بمعارف اللاشيء تدوين لواقعة العري والسجل السابع عند حافة الكشف والسجل الثامن شهوة الضياع والسجل التاسع أطياف جنائزية والسجل العاشر : تؤكد الحقائق التي اكتشفت فيما بعد ان ما ورد بين طيات هذا السجل دست عن عمد وبقصديات لا يعرف أحد لم وكيف ولماذا ؟ حاويات الأسماء والرعد !! والسجل الحادي عشر: ذبول المعنى ( يارب لماذا تقف بعيداً لماذا تختفي في أزمنة الضيق في كبرياء الشرير يحترق المسكين .. لان الشرير يفتخر بشهوات نفسه / المزمور العاشر والسجل الثاني عشر: أصوات الغبار/ وقال ... صحيح إنكم شعب ومعكم تموت الحكمة أفليست الأذن تمتحن الأقوال ... الشيب حكمة وطول الأيام فهم !! ( أيوب الإصحاح الثاني عشر ) ..
تضمنت تلك السجلات حوارات ومساجلات ونقاشات تحمل معاني ودلالات كثيرة ولم تكن حوارات عادية حيث أن كل حوار يمكن البحث فيه بصورة واسعة جداً حيث وجدت بأن تلك الحوارات المباشرة وغير المباشرة قد شملت وتناولت قواعد اجتماعية وشرعية وحتى قانونية .. حيث ذكر موضوع كون الإنسان مخير أم مُسير وهذه مسألة فقهية توجد فيها آراء ونقاشات فقهية عديدة لكن الكاتب ناقشها بأسلوب فني ابداعي لغرض وضع القارئ في مقارنة بين ذلك الطرح الذي ورد في حوارات جلسة المحاكمة للمتهم جبر الواضح الذي فرح عندما قالوا بأنه مسير بأعماله وليس مخير وإن تلك المقارنة تجعل القارئ دون شعور الوقوف على نقطة مهمة والتفكير عميقاً لغرض تحديد وبيان تلك العبارة ( مسير أم مخير ) ..
وإن الموضوع قد وردت إجابته على لسان ( جبر الواضح )
( رد جبر الواضح – سيدي الكاهن ... لا أعرف ما ورد في تلك السجلات من حقائق لا أدري أن كانت آثام لا .. كنت أفعل ما يقال لي .. حياتي هكذا سارت حتى إني أصبحت مثلاً شائعاً ... جبر من ك ... للقبر ..
استثمر الكاتب الأمثال الشعبية في الحوارات التي دارت بين الكاهن وعلى اليمين وعلى اليسار وأطراف الحديث ( معلمي في الصف الأول ألف كان يقول : الشهر الي ماالك بيه خبزه لا تعد أيامه !! والنائب ضابط عليوي فضاله كان يقول : الحكومة الرب الثاني اطاعتها واجبة !! )ص 196.. وغيرها لغرض إيصال الفكرة لكل إنسان بسيط وهذا هو هدف شوقي كريم الذي استطاع بكل براعة استرجاع الواقع العراقي الأليم الذي يعيشه الكثير من الناس البسطاء تحت الظلم والقهر المجتمعي في بيوت طين وأخرى ضمن دور تجاوز عشوائية دون تخطيط أو خدمات وإنما وسط بركة من مياه آسنة وتحيط بهم الأمراض والنفايات ..

يستمر شوقي في كشف كل خفايا المحاكمة التي كان يقودها الكاهن ممثل السلطة الحاكمة ولجأ الكاتب إلى اختيار هذا الاسم ( الكاهن ) ليبين مدى قوة السلطة وهيمنتها على الناس وكأن الحاكم إله يتصرف بسلطة باعتباره ولي الأمر المطاع يقتل ويعدم من يشاء دون حساب وبذلك عقد لنا مقارنة رائعة بين الاسم وبين السلطة الحاكمة التي تُحاكم الابرياء دون وجه حق حتى خلص الكاتب إلى نتيجة المحاكمة التي طالت حوارات ومناقشات طويلة إلى احتجاج المتهم جبر الواضح وصراخه ( - أيها الكاهن أنت من يتحمل المسؤولية ... أرجوك تعال مكاني لا أبدأ محاكمتك !! ارتجت القاعة بالتصفيق والهتافات ..) الكاهن – جبر بن جاسبية بن خزامة ... أنت بريء من كل التهم المسندة إليك – رد جبر بعنف ليس قبل أن تقف مكاني أيها الكاهن ) 198..
وجدت الرواية مفعمة بالحيّوية والديمومة تنوعت الأزمنة فيها وتداخلت بين الماضي والحاضر معتمداً أنماطاً من السرد والغوص عمقاً في خفايا وخبايا النفس الإنسانية ضمن سلسلة من الحوارات الفلسفية والاجتماعية والسياسية وطرح أسئلة وآراء فقهية وقانونية تتداخل مع الواقع اليومي الاجتماعي ولصيقة بالفرد العراقي وماضية وطبيعة علاقته بالسلطة الحاكمة ومعالجات نفسية وخطاب الروح وصرخة لوجدان كل فقير مظلوم ..
استثمر الكاتب تقنية المسرح والدراما والمشاهد ليقدم لنا رؤية خاصة ومختلطة التي يتضمنها السرّد الحكائي الدرامي المسرحي لإبهار المتلقي واخذه إلى جوهر وعمق البناء الفني لترتيب وجريان الأحداث ليقدم لنا كشفاً رائعاً عن مفارقات الماضي عبر رؤية فلسفية واجتماعية يُريد من خلالها تمرير رسائله الحيّوية والمبنية على تجارب واسعة خاضها بنفسه أو اطلع عليها من خلال المامه بمختلف الفنون الأدبية والثقافية مكنته من مزّج الواقع بالخيال ضمن لعبة السرّد المفعم بالمفاجآت لانتقاد كل مظاهر الفساد العقائدي والمجتمعي والسياسي بكل مهارة وبيان أنساق مضمرة خفية مسكوت عنها وكشفها على طاولة القارئ ليقارن بين الظاهر والخفي ..



#غانم_عمران_المعموري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الزمن في البنية السرّدية في - المصابيح العمياء - للأديب حميد ...
- المونولوج الداخلي في المجموعة القصصية - تيه الورد - للكاتبة ...
- الابتعاد عن المألوف في - لَا لَحْدَ لِي - للشاعرة اللبنانية ...
- الصور البلاغية وتجلياتها السردية في ( الرقص بلا رياح ) للروا ...
- السِّمَات الجَمالّية للصورةِ الشعرّية في - مرافئ ضبابية - لل ...
- الفعلُ الزمنيُّ ولحظة القبض على السياق في رواية - البدلة الب ...
- تقنية اندماج الذّات مع الآخر في القصة الصيرة جداً - معادن - ...
- تماهي الذّات والاندماج مع الآخر في قصيدة - مانعٌ لشهيّةِ الح ...
- جماليات الصورة الشعريّة في ديوان (مكابدات الحافي) للشاعر عبد ...
- الألم واللذة في مجموعة - وأُقَشِّرُ قصائدي فيك - للشاعرة رند ...
- الاحتجاج و الحُلم في - كنا عراة إلا من أحلامنا - للشاعر هلال ...
- أنسنة الأشياء في - مفكرة خوذة مثقوبة - للشاعر أحمد الحلي.
- الأنا وعمق المأساة في - صورة شمسية لولدٍ عنيد - للشاعر محمد ...
- بين الخيال والواقع حقيقة في رواية - أوتو - للروائي خلدون الس ...
- الرؤية التأملية وأداة التفكير في - أختفي في الضوء - للأديب ع ...
- تقنية الإثارة والصدم في - لا ضوء في قناديل الحروب - نصوص وجي ...
- النسق المضمر ودلالة الانكسار في مجموعة - خُردَة ذكْرَيات - ل ...
- جمالية الانزياح الشعري في - زارني الشعر- للشاعر العراقي البا ...
- تجليات الحس الوطني والقومي في قصيدة - متى يسمع النائمون ؟ - ...
- المسافة الجمالية في قصيدة - لا ليس لك رسالة إلى الله - للشاع ...


المزيد.....




- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...
- -يونيسكو-ضيفة شرف المعرض  الدولي للنشر والكتاب بالرباط


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غانم عمران المعموري - الدراما والمكان المتخيَّل في رواية ( ثغيب ) للروائي العراقي شوقي كريم حسن .