أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نزار حمود - الأوهام القاتلة ! الوهم الثالث : الديكتاتور العادل















المزيد.....



الأوهام القاتلة ! الوهم الثالث : الديكتاتور العادل


نزار حمود
أستاذ جامعي وكاتب

(Nezar Hammoud)


الحوار المتمدن-العدد: 7131 - 2022 / 1 / 9 - 21:20
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الديكتاتور العادل
الأوهام القاتلة
الوهم الثالث : الديكتاتور العادل *

للوهم تعاريف مختلفة ومتنوعة. بعضها يحمل أبعاداً فلسفية وبعضها الآخر يميل للتوصيف العلمي الفيزيولوجي الحسي. ويبدو صحيحاً تماماً بالنسبة لي أن نقول إن الوهم هو الحكم المغلوط أو المشوه على شيء ما أو حالة معينة. ويمكن أيضاً القول إنه التصديق والإيمان بمظهر مخادع غير واقعي وغير معبر عن حقيقة الأشياء. كما يقدم قاموس اللغة الفرنسية المعروف لاروس تعريفاً بسيطاً آخر يبدو مطابقاً للمعنى الذي سيجري عنه الحديث في هذه المقالة. فالوهم وفقاً للتعريف اللاروسي هذا هو وببساطة عبارة عن رأي أو حكمٍ متناسبٍ مع ما يرغب به المرء ويشتهيه لكنه غير مطابق للواقع والحقيقة.
طبعاً وفقاً لهذه التعاريف يبدو واضحاً أن الوهم قد يكون بسيطاً ساذجاً غير ذي نتائج خطيرة مؤذية للنفس أو للغير كما أنه وبنفس الوقت قد يكون خطيراً ومدمراً للغاية. والأمثلة على ذلك كثيرة أدع لقارئ هذه السطور أن يقدح زناد خياله ليجدها حوله في كل مكان وزمان فهي موجودة بالفعل حوله في كل زمان ومكان.
الوهم الذي أرغب بالحديث عنه هنا هو الوهم الجمعي أو المجتمعي. الوهم أو الأفكار الخاطئة البعيدة للغاية عن الواقع والمنطق السليم القويم ونتائج تجارب البشر، التي تحولت بسبب القراءات المغلوطة والمقصودة للتاريخ إلى شعارات كبيرة وأهداف لامعة جرت على الاطمئنان لها والإيمان بها أجيالٌ من شعوبنا المغلوبة على أمرها والمغيبة عن اتخاذ قراراتها المصيرية بنفسها مع ما تبع ذلك من دمار وضياع وهدر دماء! عند هذا الحد تتحول الأوهام شكلاً وتتحد مع اللغة لتغدو جملاً قاتلة. ولا أعتقد أن أحداً منا قادرٌ على الاستهانة بقدرة الكلمة على الفعل والتأثير على مصائر الشعوب والأمم. ألم يقل الله في كتابه الكريم "كُـنْ" فكان له الأمر كما يبغي ويشتهي. أو لم يرد في الكتاب المقدس أن "في الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ". من منا يستطيع أن ينكر فعل الكلمة والفكرة في الفعل والتغيير وصناعة التاريخ والمستقبل. إن الأحرف والكلمات والشعارات قادرة على القتل وصنع الموت كما هي قادرة على بعث الحياة في الأجساد والناس والمجتمعات.
تقول المعاجم العربية في فعل استبد إنه يعني أن يتعسف الإنسان بالأمر ويتفرد به دون أن يأخذ رأي الآخرين بعين الاعتبار. كما يُقال عن الحاكم إنه مستبدٌ إذا تفرد باتخاذ قراراته وعن السلطة إنها مستبدةٌ حين تتعسف وتتفرد باتخاذ قراراتها دون أي استفتاء لرأي الناس في ما يخص الشأن العام الذي يمس حياتهم ومصالحهم ومصائرهم. يتطابق هذا التعريف بشكل شبه كامل مع تعريف الديكتاتور الذي يقول إنه الشخص الذي يصل لرأس الدولة ويقوم بتجميع كل السلطات في يده ليمارسها دون أية رقابة وبشكل استبدادي. أي أنه الشخص الذي يفرض رأيه ورؤيته للأمور على الناس غصباً دون أخذ رأيهم بعين الاعتبار. المستبد إذاً هو نفسه الديكتاتور من حيث التعريف والوصف. أما صفة العدل فلا أعتقد أننا بحاجة لمراجعة المعاجم اللغوية كي نعرف ماهيتها. يكفي أن تستفتي عقلك وقلبك كي تعرف أن العدل يعني معاملة الناس جميعاً بشكلٍ متساوٍ والابتعاد عن كل أشكال الانحياز والظلم والعنصرية على أساس العرق أو الدين أو الجنس. التناقض اللغوي واضحٌ جليٌ بين صفة الاستبداد وصفة العدل. لا تستطيع أن تكون عادلاً ومستبداً في آن معاً!
بعد كل ما حصل من أحداث جسام في البلدان الناطقة باللغة العربية وكل الدماء التي سقطت والخراب الذي انتشر، ما زال هناك من يرى أن الحل لابد أن يكون عن طريق القوة. أي أنه لا بد لنا، نحن الرعايا في هذه الدول المتهالكة، من وجود حاكمٍ عادلٍ صارمٍ قاسٍ ذو ألقٍ وحنكة ومعرفة و بأس وقوة يقودنا عبر المخاطر والمآزق والمؤامرات كي نصل إلى بر الأمان بأقل الخسائر الممكنة. ما زال هناك من يترحم على أيام حافظ الأسد و صدام حسين و القذافي وجمال عبد الناصر، وسواهم من نفس الفصيلة، بذريعة أن هؤلاء الحكام وإن استبدوا بآرائهم وأجحفوا بحقوق الناس وقتلوا وعذبوا وارتكبوا إلا أن الناس في زمنهم كانوا ينعمون بالحد الأدنى من مقومات العيش "الكريم". تعليم مجاني وخبز مدعم و"أمان" عام في الشوارع والبيوت.
لقد قام الحكام المستبدون "العرب"، كلهم وبدون أي استثناء، بإلغاء الأحزاب السياسية ومصادرة الحريات العامة وإنهاء حرية التعبير وتفريغ المؤسسات الحكومية المدنية الحداثية من محتواها كالنقابات ومجلس الشعب كما قاموا بتجميع السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية في أيديهم وتدجين الجيش وتحويله إلى جيش كرنفالات مؤدلج لحماية العرش والقائد الملهم. كل ذلك جعلهم يتحولون إلى سلاطين مستبدين وحكام مطلقي الصلاحية لهم القول الفصل في حياة وموت "الرعايا" من حولهم. قاموا بقتل وتعذيب وإهانة كل صوت معارض، أو حتى مختلف، بذريعة حماية الثورة ومكتسباتها أو استقرار الأمة وازدهارها. أكثر من ذلك، لقد كانوا السبب المباشر في حدوث كوارث كبرى عانى ويعاني وسيعاني مواطنوهم منها لعقود طوال بعد رحيلهم القسري، فهم لا يرحلون طواعية أبداً بل لا بد لهم من ثورة دامية أو اجتياح أجنبي أو تشظي البلد كي يرحلوا. كوارث من نوع الهزيمة النكبة 1967 واحتلال الجولان وسيناء والقدس الشرقية أو اجتياح الكويت أو الحرب العراقية الإيرانية أو الحرب "الكونية" والعزلة التامة عن العالم الخارجي والوقوع تحت براثن الجوع والفقر والبرد كما هو الحال السوري اليوم.
لكن كل ذلك يبقى في حيز المقبول والمغفور له لا بل والمرغوب به في أعين الكثيرين! ما زالت شريحة هامة من المجتمع تترحم على أيام هؤلاء المستبدين وتتمنى عودتهم أو عودة أنظمتهم تحت الظن بإمكانية الجمع بين الاستبداد والعدل معاً أي تحت وهم العيش تحت حكم المستبد "العادل"! إنه وهمٌ قاتلٌ هائل القوة التدميرية ذلك الإيمان بمقولة وجوب الرضوخ والقبول بالمستبد "العادل" أو المخلص المستبد. وهمٌ يستطيع أن يدمر مقدرات بلاد هائلة الغنى وافرة الثروة والمقدرات البشرية مثل العراق وسوريا وليبيا ومصر التي نأخذها هنا كأمثلة فقط معبرة عن الحالة ليس الهدف منها الحصر.
ترى من أين يأتي مثل هذا الإيمان القهري بالمستبد أو الديكتاتور "العادل" والرغبة بعودته؟ من أين يأتي ذلك الوهم القاتل القائل بإمكانية الخلاص على يد مثل هذا النوع من الحكم الاستبدادي القاتل والمُخَلّـِصْ في آن معاً؟ يقول الفيلسوف الفرنسي إيتيين دولا بويسي في كتابه "خطاب العبودية الإختيارية" إن الحيوانات تولد حرة تدافع بغريزتها وبكل ما تستطيع من قوة عن حريتها وإن البشر كما الحيوانات تماماً يولدون أحراراً لكنهم يقبلون أحياناً طواعية أن يتخلوا عن حريتهم لصالح العيش تحت حكم الديكتاتور الذي تعريفاً، لا بد من أن يكون ظالماً مستبداً. مثلهم في ذلك كمثل الفَـرَس الجموح التي ترفض الترويض في بادئ الأمر ثم ترضخ له، لا بل تستسيغه لدرجة أن تغدو فخورة بحمل سرجها واللجام. إلا أن هذا الحاكم المستبد مهما كان قوياً متجبراً، هو في نهاية الأمر مجرد فردٍ واحدٍ لا يستطيع وحده أن يتحكم بمصير الشعب بأكمله دون أن يكون هناك قبول واقتناع من قبل هذا الشعب بهذه العلاقة المَرَضية. إنها في نهاية الأمر علاقة إنسانية تحتاج إلى طرفين : المستبد الذي يسعى لفرض الخضوع والشعب الذي يرضى بهذا الخضوع. في اللحظة التي يتخلى بها الناس عن بعض حقوقهم وحرياتهم جراء الخوف أو الترهيب لصالح الفرد الحاكم يتحول هذا الحاكم إلى ديكتاتور لا محالة.
هل هذه العلاقة طبيعية غريزية المنشأ أم أنها عادة مكتسبة جراء الخضوع طويل الأمد للحكم الاستبدادي؟ بمعنى آخر هل هناك شعوبٌ بطبيعتها أكثر قابلية من غيرها لقبول الاستبداد أم أن الأمر يتعلق بالعادة والتعود على الخضوع للاستبداد؟ يعتقد إيتيين دولا بويسي أن العادة المكتسبة هي السبب الرئيس في قبول حكم الطاغية بخاصة في حال ما لم يعرف الشعب حُـكماً آخر سواه. فأجيال الشعوب التي لم تعرف شيئاً آخر سوى الخضوع للديكتاتور لا تستطيع أن تعرف معنى ومدى الخسارة الهائلة التي أصابتها جراء فقدها لحريتها. طبعاً ولحسن الحظ يبقى هناك بعض الأفراد الذين اختاروا الصراع من أجل حريتهم التي وإن لم يعيشوها لكنهم يستطيعون تخيلها والنضال من أجلها!
هناك عاملٌ آخر يساعد على قبول الاستبداد هو العامل الديني حيث نجد أن الشعوب الواقعة تحت سطوة حكم وفكر رجال الدين هم أكثر قبولاً للحكم المطلق الاستبدادي. لقد ثار الشعب الإيراني وانتفض على حكم الشاه محمد رضا بهلوي العنفي المستبد لكنهم وبعد أن أطاحوا به رضخوا وأذعنوا بسهولة مدهشة لاستبداد رجال الدين - الملالي وعلى رأسهم آية الله الخميني الذي صرح فور وصوله للسلطة في العام 1979 أن حكومته هي حكومة الله، لأن الإسلام دين ودولة كما يدعي ويتوهم دعاة الإٍسلام السياسي بكافة فروعه وأشكاله، وأن كل من يعارض هذه الحكومة يعارض تلقائياً حكم الله! طبعاً سيعاني الشعب الإيراني الأمرين قبل أن يستطيع التخلص من هذا الاستبداد وهذا الحكم باسم الله.
أمرٌ آخر لا بد من أخذه بعين الاعتبار هو الطبيعة القبلية للمجتمع إذ من الطبيعي للغاية أن تكون الشعوب قبلية أو عشائرية الانتماء ذات البنية ما قبل الحداثية التي لم تعرف يوماً المفهوم المعاصر للدولة، أكثر قابلية للخضوع للاستبداد والديكتاتورية. مثالٌ على ذلك؟ شعوب الخليج العربي/الفارسي هي حُكماً أكثر قبولاً للخضوع والاستسلام للاستبداد بسببٍ من طبيعتها المجتمعية القبلية العشائرية كونها لم تعرف سلطةً سواها على مدى العقود أو القرون الأخيرة. طبعاً يُسهّل هذا الأمر ارتفاع مدخول الفرد السنوي جراء ارتفاع أسعار النفط والغاز لكن العامل الرئيس يبقى دائماً علو الانتماءات القبلية المشايخية العشائرية على الانتماء لمفهوم الدولة المعاصرة الحداثية القائمة على مبدأ الوطن والمواطن وحقوق الإنسان. مواطنوا هذه "الدول" لا يعتبروا حكامهم رؤوساء دول ديمقراطية دستورية بالمعنى المتعارف عليه في العالم بل يرونهم شيوخ ووجهاء أكبر وأقوى القبائل. شيخ القبيلة هو الأب الأكبر والأهم لهذه القبيلة ومن واجب الجميع طاعته واحترامه. طبعاً لا يشعر هذا الزعيم القبلي أو الشيخ - الزعيم بأي واجب أو حاجة لأن يقدم تفسيراً لكيفية إدارته للبلاد ومقدراتها. الشيخ هو الدولة والدولة هي الشيخ. هو مالك الأرض. أما الشعب فهو أبناءه وبناته. إنه المسؤول الأبوي "البطركي" المطلق عنهم، بعيداً عن أي اعتبار آخر. يحق له اتخاذ القرارات المصيرية نيابة عنهم والتصرف بأموالهم ومصائرهم كيفما يشاء وطاعته واجبة على الجميع.
إذاً في البلاد اللاديمقراطية يستطيع الديكتاتور أن يبقى طويلاً في السلطة لكن ما هو الحال في الدول الديمقراطية؟ هل تكفي الديمقراطية كترياقٍ واقٍ مضاد للإصابة بمرض الديكتاتورية؟ الجواب هو نعم بشكل عام ولكن ليس دائماً! قد تصاب الشعوب، حتى في الدول عريقة الممارسة الديمقراطية بداء الديكتاتورية. يحدث ذلك عندما تجتاز الأمة مراحل فقدان ثقة وهزائم واضطرابات وفوضى عامة. في هذه الحالة يكون الشعور الغالب هو شعور الخوف من القادم المجهول والإحساس بالمذلة ما يدفع هذه الشعوب للبحث عن رجلٍ قويٍ يستطيع إعادة الكرامة المفقودة والأمن والأمان والرفاهية مقابل الطاعة والخضوع. حدث ذلك في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى وتوقيع اتفاقية فرساي المذلة في العام 1919. الشروط المهينة للأمة الألمانية وفقدان الثقة بالإحساس القومي إلى جانب الأزمة الاقتصادية الخانقة، أدت كلها بألمانيا للوقوع في أحضان حزب العمال القومي الإشتراكي والرضوخ الأعمى لقيادة هتلر الاستبدادية الكاريزماتية. حدث نفس الشيء في إيطاليا أيضاً حيث أدت الأزمة الاقتصادية الكبرى والإذلال والفقر المدقع الذي أصاب الأمة الطليانية إلى شعور عام بالهلع وعدم الثقة بالقادم ومن ثم صعود نجم بينيتو موسوليني قائد الحركة الفاشية، الرجل القوي "القادر" على إعادة النظام والقانون إلى ما كانا عليه. طبعاً غني عن الذكر والوصف نتائج الإنقياد والخضوع الأعمى لاستبداد هتلر وموسوليني على الأمتين الطليانية والألمانية لا بل وعلى العالم بأسره!
يضاف إلى كل ما ذكر أعلاه أن غالبية الناس وللأسف لا تقاوم الديكتاتور من حيث المبدأ بل تفعل ذلك عندما تمس مصالحها المباشرة فقط. فإذا استطاع الديكتاتور تحسين الشروط الحياتية للناس من خفضٍ لمعدلات البطالة وتحسين للأجور ودعم للتعليم المجاني، قنع الناس بهذه الإنجازات وتغاضوا عن ممارساته الاستبدادية وانتهاكاته لحقوقهم وحرياتهم. لقد وصل خوسيه دولاكروز بوفيريو ديازموري إلى رأس السلطة في المكسيك في العام 1884 ثم وفي جلسة استثنائية لمجلس الوزراء بدا وقد أمسك شريحة خبز في يده اليسرى وعصا غولف غليظة في يده اليمنى وقال "هذا هو مشروعي في الحكم. سأعطي الخبز لكل المواطنين، لكن إذا طالب أي كان بشئ آخر غير الخبز ضربته على أم رأسه بهذه العصا". نفس هذا المنطق تكرر على يد هتلر وصدام حسين وأنتونيو سالازار وجمال عبد الناصر والقذافي والعديد من الديكتاتوريين عبرالعالم الذين عملوا على تحسين ظروف معيشة الناس وسحق الأصوات المعارضة بقسوة دون أي اعتبار لحقوقهم وحرياتهم.
فلنتفق إذاً على أن العلاقة الإنسانية مزدوجة الاتجاه بين المستَبِدْ الحاكم والمستَبَدْ بهم أي الشعب، هي علاقة مرضية واضحة المعالم. لكن ما هي أعراض هذا المرض؟ كيف يؤثر هذ المرض على مفاصل المجتمع؟ ماهي أضرار الاستبداد على المدى القريب والمدى البعيد؟ ثم ما هي آثار الاستبداد على الحاكم المستبد نفسه ولماذا نقول إن الاستبداد لا بد وأن يؤدي في نهاية الأمر وبشكل حتمي قدري لا مناص منه إلى كارثة تصيبه وكامل أعضاء المجتمع المستَبَد به؟
العلامة الأولى من علامات إصابة المجتمع بداء الاستبداد هي انتشار النفاق فيه. يستطيع الأهل في بيوتهم تعليم أولادهم على حب الفضيلة واحترام قواعد الأخلاق العامة. يستطيعون إقناعهم بأن طريق النجاح لا بد وأن يمر عبر العمل المخلص والتفاني بالدراسة. لكن ما أن يدخل الطفل إلى المدرسة حتى يبدأ بتعلم النفاق ومعرفة معنى الكذب والخضوع. مواضيع الإنشاء وقصائد الشعر تكتب في تمجيد الأب القائد وإنجازاته الخارقة وصموده في وجه المؤامرات الداخلية والخارجية. منذ أعمارهم الغضة الصغيرة يتعلم الأطفال أن ما يرونه في الواقع شيئ وما يكتبون عنه ويدرسونه شيء مختلف تماماً. ثم عندما يتخرج هذا الشاب أو هذه الشابة من الجامعة ويدخل في خضم الحياة العملية يجد أن كل ما تعلمه في البيت غير قابل للتطبيق. في سوريا مثلاً، مؤهلات الحصول على الوظيفة المحترمة اللائقة بالشهادة العليا التي تحملها هي أن تكون، أولاً وقبل كل شيئ، مرضياً عليك من الجهات الأمنية التي تصنف المواطنين أو الرعايا وفقاً لموالاتهم أو عدم موالاتهم للنظام الاستبدادي القائم. فإذا كنت موالياً أو مدعوماً من قبل موالي معروف أو مقرب من دوائر السلطة العليا حصلت على المنصب المذكور وإلا فلا! الوزراء في هذا النظام لا يعينون بناء على كفاءاتهم بل بناءً على موالاتهم للنظام وبالتالي يصبح همهم الأول هو إظهار الولاء في كل المناسبات للمحافظة على مراكزهم. إذا تجرأ أحدهم أن يقدم رأياً مخالفاً لرأي "السيد" الرئيس أو وضع رأي هذا الأخير موضع شك كانت النتيجة الإقالة على أقل تقدير لذا نراهم يقولون ما لا يقتنعون به ويفعلون ما لا يريدون. يظهر هذا النفاق جلياً عند المناسبات "الوطنية" من خلال الاحتفالات وحلقات الرقص الشعبي "التطبيلية التزميرية" التي يُجبَر على المشاركة بها الشعب بأكمله. يصبح الأمر أكثر وضوحاً وجلاءً عند الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية. الجميع يعرف، بمن فيهم الزعيم المستبد، أن النتائج مبرمجة ومزورة، لكن الجميع يهلل ويبتهج ويهنئ الأب القائد بفوزه الهائل المعبر عن رغبة الشعب! إنها مواسم النفاق بامتياز. في مثل هذا المجتمع، إذا كنت طبيباً ستجد من حولك زملاء يرفضون العناية بمرضاهم في المستشفيات العامة المجانية بهدف إجبارهم على التوجه نحو عياداتهم ومستشفياتهم الخاصة. إذا كنت مهندساً ستجد أن الجميع بمن فيهم لجان الاستلام يغضون الطرف عن مشاكل التنفيذ لقاء الرشوة المالية أو المنافعية. إذا كنت ضابط شرطة ستفهم سريعاً جداً أن القانون يطبق على رجل الشارع البسيط ويستثنى منه الغني ذو العلاقات العامة المهمة. إذا كنت طالب حقوق ستفهم فوراً أن القانون يُخترق وسيُخترق كل يوم في المحاكم لصالح أصحاب السعادة والنيافة. إذا كنتِ امرأة ستفهمين سريعاً أن المجتمع سيحترمك لمظهرك الخارجي فقط بغض النظر عن الحياة الحقيقية التي تعيشينها. في المجتمع الاستبدادي يحدث طلاق واضح بين الشكل والمضمون أو بين المصطلح والمعنى. الغش في الامتحان يصبح "مساعدة". الجبن يتحول إلى "حكمة". والرشوة تصبح "شطارة". ضابط الجمارك الشريف يصبح "غبياً" والقاضي المتمسك باستقلاليته ونزاهته يصبح "دون كيشوت" إلخ...
العلامة الثانية أو العـَرَضْ الثاني من أعراض الإصابة بداء أو متلازمة الاستبداد هي ظهور وانتشار ما يعرف بظاهرة "المواطن الصالح".
- في الخامس والعشرين من حزيران للعام 1992 أمر صدام حسين باعتقال 38 تاجراً من أسواق بغداد بتهمة بيعهم لبضاعتهم بأسعار أعلى من السعر المحدد من قبل الحكومة. لقد تمت محاكمتهم وإعدامهم جميعاً في اليوم نفسه كما كان صدام حسين يأمر بتكسير أذرع وأرجل وقطع ألسنة المعارضين.
- في سجون عبد الناصر كان معتقلوا الرأي يعذبون بالكهرباء ثم يجبرون على الغناء لتمجيد القائد والثورة. نفس هذه الممارسة كانت تتم في سجون بشار الأسد حيث كان المعتقلين الإسلاميين يجبرون على استبدال اسم الله في صلواتهم باسم بشار الأسد.
- قام فرانشيسكو ماسياس نغويما، ديكتاتور غينيا الاستوائية، بجمع 150 من معارضيه في يوم عيد الميلاد ونقلهم إلى ملعب مالابو حيث قام جنودٌ متنكرون بزي بابا نويل بفتح النار عليهم وقتلهم جميعاً بينما كانت مكبرات الصوت تصدح بأغنية ماري هوبكينز "كانت أياماً جميلة". تـُذكّر حفلة الإعدام الجماعي هذه بحفلة إعدام الإسلاميين التي تمت في سجن تدمر السوري في العام 1980.
بالإمكان استحضار عشرات الأمثلة على العنف الرهيب الذي مارسه الديكتاتوريون عبر العالم. إنهم يفعلون ذلك لسببين رئيسيين. الأول لأنهم لا يطيقون مجرد فكرة وجود معارضين لهم أو حتى محايدين والثاني لأنهم يريدون رفع حاجز الخوف عالياً كي لا تسول نفس أي كان أن يقوم بأي فعل معارض مهما صغر حجمه. ثم ما أن يرتفع حاجز الخوف عالياً ويستتب "الذعر" من عواقب الاختلاف والمعارضة حتى تبدأ ظاهرة "المواطن الصالح" بالظهور والتمدد. المواطن الصالح تعريفاً هو ذلك المواطن الذي يعيش في الخوف وانعدام الأمل بأي تغيير. يعيش هذا المواطن ويترعرع في ظلمات الحكم الديكتاتوري. لقد فهم المواطن الصالح هذا أن كل ما يحدث في البلد إنما يـُقَرُ من قبل الزعيم وحاشيته وأن أية محاولة من طرفه للتغيير ستبوء بالفشل ولن تجلب له سوى السجن والتعذيب والموت. ينسحب المواطن الصالح من الحياة العامة اللهم إلا من مهرجانات النفاق السياسية التي يجد نفسه مجبراً على المشاركة بها لتأكيد ولاءه المطلق للزعيم كي لا يفقد عمله أو يصاب بأي وشاية مؤذية. هَـمُّ هذا المواطن الصالح الأول والأخير هو أسرته الصغيرة ومصالحه الشخصية المباشرة. نظرة المواطن الصالح إلى من يحاول القيام بأي عمل ثوري سلبية للغاية وهو أول من سيؤمن بمقولات النظام وزبانيته المتعلقة بنظريات المؤامرة والخيانة والإساءة للوطن كونه فقد الإيمان بتحقيق العدالة المجتمعية ولو بعد حين ولأن أعمال هؤلاء الثوريين البطولية تفضح جبنه وتقاعسه وذله. هو يكره الثورة لأنها تهدد عالمه الصغير القائم على ربح قوت يومه بما يكفي لتربية أطفاله. نتيجة كل ذلك يفقد المواطن الصالح أي قدرة على العمل الجماعي الهادف لتحسين الحال العام أو المصلحة العامة. كل من يعيش في دمشق سيلاحظ دون شك أن أهلها شديدوا النظافة في بيوتهم لكنهم لا يهتمون للنظافة العامة في الطرقات. تراهم يدفعون الكثير من دخلهم لتحسين بيوتهم من الداخل لكن كل ما هو خارج البيوت لا شأن لهم به. نفس الحال ينطبق على القاهرة وبغداد وسواها من عواصم عالم الاستبداد. علاقة المواطن الصالح بالدين وممارسة شعائره الدينية هي علاقة تجارية بحتة يحاول من خلالها تأمين وثيقة ضمان اجتماعي أو "بوليصة" تأمين يقبضها "كاش" عند انتقاله للعالم الآخر. إن المواطن الصالح والحاكم المستبد هما وجهان لعملة واحدة. الحاكم المستبد لا يستطيع احتواء والسيطرة على الشعب بأكمله ما لم يتعاون هذا المواطن الصالح معه لتحقيق هذا الهدف. يعتبر ظهور وتمدد ظاهرة "المواطن الصالح" واحداً من أهم أعراض متلازمة الديكتاتورية. المواطن الصالح هو المسؤول الأهم والأكبر عن طول فترة حكم الحاكم المستبد وعن إحباط أي محاولة ثورية تجري لتغيير الوضع المستنقعي الاستبدادي.
العلامة الثالثة أو العَرَضْ الثالث من أعراض الإصابة بمتلازمة الديكتاتورية هي الإيمان بنظرية المؤامرة وانتشارها بشكل واسع. لقد استخدم كل المستبدين عبر العالم نظرية المؤامرة التي تقضي بأن نؤمن بأن ما نشاهده ونلمسه ونعيشه ما هو إلا نتاج عملية مؤامرة خططت سراً بعيداً عن أعين الجميع. المستبد يؤمن بنظرية المؤامرة كونها ترضي تضخم الأنا لديه. هو يعتبر نفسه الرجل القوي المؤمن المبارك المعصوم الوحيد القادر على إنقاذ الأمة. من جهة أخرى يُعتبر الإيمان بهذه النظرية ونشر هذا الإيمان بين الناس أمرٌ مثاليٌ بالنسبة للديكتاتور وذلك لأسباب عدة. أولاً- لأنها تحول معارضيه إلى مجرد متآمرين خونة مما يمهد الطريق لاغتيالهم معنوياً تمهيداً لاغتيالهم جسدياً وتصفيتهم. في المظاهرات المعارضة لبشار الأسد في سوريا أو للرئيس السيسي في مصر أو للرئيس بوتين في روسيا رُفعت لافتات تنعت المعارضين بالخونة وتدعو للقضاء عليهم ! ثانياً- نظرية المؤامرة تؤدي لانتشار حالة من الخوف والهلع بين الناس. الخوف من أن تنجح هذه القوى المتآمرة في تنفيذ مخططاتها الشيطانية التي ستؤدي لوقوع البلاد في الفوضى والحرب الأهلية ما يدفعهم لتناسي واقعهم المعاش، القريب للغاية ربما من الحرب الأهلية كما يحدث حالياً في سوريا مثلاً، والالتفاف خلف القائد المفدى صفاً صلباً ضد المؤامرة والمتآمرين. ثالثاً- نظرية المؤامرة تسمح للزعيم المفدى بأن يهرب من أية مسؤولية عن الكوارث والمجازر التي تلم بالبلاد في حال وقوعها جراء تفرده وتهوره الحتمي في اتخاذ قراراته. المذنب الغائب دائماً موجود وهو المتآمرون ومن خلفهم أجهزة المؤامرة المتمرسة والمدربة على إنزال الأذى بالشعب الصامد. لقد قالها جمال عبد الناصر بعد الخسارة النكبة في العام 1967 وحمل المسؤولية كاملة للمؤامرة الأمريكية ضد بلاده متفادياً أي تحليل واقعي وعلمي لأسباب الهزيمة ومحاسبة المسؤولين عنها، الأمر الذي لم يحصل حتى الآن للأسف رغم فداحة الأمر! رابعاً- نظرية المؤامرة تسمح للمستبد "العادل" أن يؤجل إلى أمدٍ غير محدد مسألة التحول الديمقراطي فهو يدعي أنه يريد هذا التحول ويعمل من أجله لكن الظروف الاستثنائية الناجمة عن التآمر والمتآمرين لا تسمح بذلك. الجنرال البرهان في السودان اليوم لا يرفض التحول الديمقراطي بل يقول إنه يعمل من أجله لكن لا بد من الانتظار حتى الانتهاء من الأزمة المستعصية الحالية، الأمر الذي قد يطول عشرات السنين كما كان الحال عليه أيام عمر البشير. خامساً- نظرية المؤامرة تسمح بالتعذيب وتحلل انتهاك حقوق وكرامات الناس الأكثر بداهة وعلى رأسها الحق في الحياة. فكلما علا صوت المؤامرة وازداد خطرها كلما كان من المطلوب "وطنياً" القبول بالإجراءات الاستثنائية الواجب اتخاذها لمقاومتها والقضاء عليها وعلى منفذيها "المجرمين". سادساً- نظرية المؤامرة تسمح بشيطنة ونزع الصفة الآدمية من المعارضين "المتآمرين الخونة". أثناء الحرب الأمريكية في فييتنام كانت القيادة تطلب رسمياً من الضباط والعناصر أن لا ينظروا مباشرة في أعين من يطلقون الرصاص عليهم. سبب ذلك ؟ لأنهم لو نظروا في عيون من يقتلوهم لوجدوا فيهم بشراً مثلهم لهم أهل وأمهات وأبناء وحياة أخرى خارج إطار الحرب والقتل المتبادل. طبعاً يسهل هذا الأمر على جنود النظام الاسبدادي عمليات القتل والتعذيب التي يقومون بها ضد المتآمرين و"خونة الوطن". خلاصة القول، إن نظرية المؤامرة هي عرض خطير من أعراض متلازمة الديكتاتورية وواحد من أشد أسلحة الديكتاتور فتكاً كونها تسمح له بالتخلص السريع و"النظيف" من أية معارضة ولأنها تدفع الشعب إلى تقبل التجاوزات مهما بلغت قسوتها وفداحتها.
العَرَضْ الرابع من أعراض متلازمة الديكتاتورية هو انتشار الفكر المتطرف الفاشي في المجتمع. لقد قام جمال عبد الناصر في العام 1960 بتأميم الجرائد والصحف في مصر إثر نشر تفاصيل قضية عارضة الأزياء الجميلة الثرية الأرستقراطية تاتا زكي. يقول جمال عبد الناصر في تفسير ذلك ما يلي " قرار التأميم هذا لا يهدف للسيطرة على وسائل الإعلام ... هدفنا هو إقامة المجتمع الاشتراكي الحر بعيداً عن الاستغلال. نحن لا نريد مجتمعاً مكوناً من نوادي وعلب ليل الأغنياء ... الصحافة يجب أن تكون في خدمة الشعب ... يجب أن تساعد الصحافة على خلق المجتمع الاشتراكي ... على الصحفي غير المقتنع بالمجتمع التعاوني الاشتراكي أن يلزم بيته ويترك الصحافة". لقد وافق على إعلان التأميم هذا وبشكل فوري كل أصحاب المجلات والجرائد الخاصة ما يعني أنهم وافقوا على أن تنتزع ملكية جرائدهم ومجلاتهم منهم وتعطى للدولة تديرها كما تريد وترغب. في الحقيقة ينتفي العجب من هذه الموافقة الفورية على التأميم عندما نعرف ما جرى بين الكاتب المصري الكبير إحسان عبد القدوس وجمال عبد الناصر علماً بأن علاقة من الصداقة العميقة كانت تجمع بين المذكورين. لقد قام الكاتب الصحفي والمحلل السياسي إحسان عبد القدوس، وهو رئيس تحرير ومالك روز اليوسف في العام 1954 أي قبل التأميم ببضعة سنوات فقط بكتابة مقال، على صفحات روز اليوسف، عنوانه "الجمعية السرية التي تحكم مصر" طالب به مجموعة الضباط الأحرار السرية بالإستقالة من الجيش وبأن يشكلوا أحزاباً سياسية مدنية تصلح لخوض انتخابات نزيهة بهدف العودة للديمقراطية. تم اعتقال قدوس فوراً من قبل الشرطة العسكرية وحول إلى السجن حيث خضع للتعذيب لمدة مائة يوم كاملة. بعيد إطلاق سراحه تلقى عبد القدوس هاتفاً من عبد الناصر قال له فيه "هل تعلمت كيفية التصرف القويم أم أنت بحاجة لوقت أطول؟". بعد ذلك دعا عبد الناصر عبد القدوس للعشاء في بيته واعتذر له عن فترة السجن معللاً ذلك بأنه "لا يمكن للوطن أن يسمح للصحفيين بأن يكونوا السبب في غرق السفينة". في أيامنا هذه قام السيسي بنفس الفعل عندما صرح وبشكل واضح لا لبس فيه أن "دور وسائل الإعلام الوطنية تسليط الضوء على إنجازات الدولة وإشاعة الأمل والثقة لدى المواطنين فإذا قامت الوسائل الإعلامية بغير ذلك تحولت لأداة تخريب للدولة ونحن لن نسمح بذلك". الإعلام بالنسبة للديكتاتور عبارة عن وسيلة أو سلاح يهدف للحفاظ على دعم الشعب للزعيم وليس قول الحقيقة أو التعبير عن وجهات نظر أخرى مختلفة.
في العام 1930 قام اتحاد الطلاب النازيين بحرق نحواً من 25000 كتاب لمؤلفين غير مرغوب بهم من نوع هامينغواي وداستايـِفسكي وفكيتور هيغو. في الاتحاد السوفييتي السابق حصل نفس الشيء حيث تحولت كل وسائل الإعلام إلى أبواق للسلطة بهدف خلق "الإنسان السوفييتي الجديد". قامت ناديجدا كروبسكايا زوجة لينين في العام 1923 بكتابة قائمة من الكتب المحظورة المعادية للسوفييتية برأيها والتي لا يجب أن يقرأها الشعب السوفييتي. من ضمن هذه الكتب نجد القرآن والإنجيل - العهد القديم وإيمانويل كانط وسوى ذلك الكثير. في إيطاليا العهد الفاشي حصل نفس الشيء أيضاً مع أن موسوليني بدأ حياته المهنية كصحفي. صدام حسين وحافظ الأسد قاما بنفس الممارسة وحولا وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية لأبواق تصدح بتمجيد الزعيم وإنجازاته العظيمة. الأمر ليس بأفضل حال في بلاد الديكتاتوريات الدينية كالسعودية وإيران مثلاً حيث يطال الحظر أي رأي مخالف دينياً أوسياسياً. الهدف من هذه الممارسات هو السيطرة التامة على الوعي الجمعي للناس. يقوم الديكتاتور بذلك على مرحلتين: الأولى إزالة كل مصادر المعلومات المستقلة ووضع كل وسائل الإعلام تحت الرقابة اللصيقة للدولة وأجهزة الأمن. والثانية تحريض الشعب على المتآمرين والأعداء كما ورد أعلاه. ثم بعد أن يستتب له الأمر يقوم هو بخلق "الحقيقة البديلة" أي الحقيقة التي تناسبه وتتماشى مع ممارساته مهما كانت وكيفما أتت.
كل ذلك يؤدي للإصابة بعَرَضِ الفاشية المرعب وتصلب الرأي ورفض الآخر إلى حد نفيه أو "تكفيره" سياسياً. يتحول "المواطن الصالح" آنف الذكر والوصف إلى ديكتاتور صغير لا يستطيع أن يستمع للآخر المختلف. يرفع صوته عالياً، عفوياً، في النقاش مع الآخر لمنع هذا الأخير من القدرة على التعبير. حتى الموظف البسيط في دائرته الحكومية يقوم بإذلال المراجعين. الضابط في الجيش يسيء معاملة مرؤوسيه. أستاذ الجامعة يتحول إلى ديكتاتور صغير لا يقبل أية إجابة إمتحانية مغايرة حرفياً لما قاله في المحاضرة. رجل الدين يتصلب ويتطرف في تفسيره للنص الديني. العلاقات الأسروية تصبح أكثر تشنجاً ويتحول الأب إلى مستبد بزوجته وأطفاله. تظهر وتتعمق النزعات الطائفية والعرقية لانغلاق الطوائف على بعضها وانعدام أية قابلية للنقاش المتمدن بين أفراد المجتمع. يتحول المجتمع بأكمله إلى مجتمع منغلق متصلب متوتر قابل للاشتعال والتطرف والانفجار.
على خلاف نماذج التفكير الفاشية السائدة في أيامنا هذه، كان هناك في السنوات الماضية انفتاحٌ ملحوظ على الآخر ومساحات مهمة لحرية الرأي في العديد من الدول الناطقة باللغة العربية. في دستور العام 1923 المصري ذُكر أن " حرية الأديان محفوظة ومصانة لكل المصريين" لكن بعد مناقشة هذا النص في البرلمان تم تعديله ليصبح "حرية المعتقد مصانة ومحفوظة لكل المصريين". سبب هذا التغيير واضح وهو أن كلمة الأديان تتوجه فقط للمصريين المؤمنين بدين محدد وتحرم المصريين غير المؤمنين بأي دين، ولأن من حق المصريين أن يعتقدوا أو أن لا يعتقدوا "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". في العام 1926 قام طه حسين بتأليف كتابه الشهير "في الشعر الجاهلي" الذي قال فيه إن بعض الأشعار المكتوبة في العصر الإسلامي إنما تعود في حقيقة الأمر لشعراء عاشوا وقضوا في العصر الجاهلي ما قبل الإسلام. اعترض على هذا الكتاب عدد من رجال الدين الأزهريين واعتبروا أن به إساءة للإسلام إلا أن محمد نور، القاضي الذي نظر في القضية، قال في حكمه النهائي إن طه حسين قام ببحث أكاديمي جامعي وأن ليس في هذا البحث ما يسيء للإسلام من قريب أو بعيد. لنقارن كل ذلك مع شاهدين اثنين فقط من حياتنا المعاصرة لنرى مدى الانغماس في الفاشية الفكرية التي نعاني منها اليوم بعد إحكام القبضة الديكتاتورية على المشهد السياسي والاجتماعي. لقد قام فرج فودة، الكاتب المصري المعروف، بكتابة ونشر كتابه المشهور "الحقيقة الغائبة" ثم وبعد جلسة مناقشة علنية جمعته مع بعض من شيوخ الأزهر وفقهاءه قام هؤلاء بتكفيره علناً ما أدى لمقتله على يد واحد من الديناصورات الفاشية الإسلاموية المدعو عبد الشافي رمضان علماً بأن القاتل كان لا يعرف القراءة والكتابة كما صرح هو بنفسه فيما بعد. رواية سلمان رشدي الشهيرة "آيات شيطانية" جرى اغتيالها فكرياً ومنعها من المكتبات في سوريا كما تم إهدار دم سلمان رشدي نفسه من قبل نظام الملالي في إيران لأنهم رأوا أن بها إساءة واضحة للإسلام. لقد وقعت نسخة من هذه الرواية في يدي بعد عشرات السنين من حادثة منعها وتكفير كاتبها وقرأتها بلهفة المحروم من قراءة الممنوع فوجدتُ فيها عملاً أدبياً ضعيفاً لم يكن لينشهر ويُعرف وينتشر عالمياً لولا فتوى التكفير الإيرانية والمنع الذي تعرض له بتهمة الإساءة للإٍسلام.
العَرَضْ الخامس من أعراض الإصابة بمتلازمة الديكتاتورية هو تفكيك أو إفساد وتخريب الوسط المثقف. إن علاقة الديكتاتور مع المثقفين علاقة تقع في مكان ما بين الازدراء والحذر. يرى الديكتاتور نفسه منقذاً للأمة وصانعاً لتاريخها بينما تتلخص نظرته للمثقفين بأنهم مجرد متحذلقين لا يصلحون لشيء يعيشون في عوالمهم الافتراضية المنسلخة عن الواقع. المثقفون بالنسبة للديكتاتور مُدَّعوا معرفة، يتكلموا حيث يجب أن يصمتوا ولا يتوانوا عن طرح الأسئلة المزعجة والمحرجة حول مواضيع هم بها جهلة تماماً. لكن وفي الوقت نفسه يبقى المثقفون مصدر خطر بالنسبة للديكتاتور لأن بإمكانهم التأثير على الرأي العام للجماهير مما قد يؤثر على صورة الديكتاتور لديها. لن يسمح الديكتاتور، بعد كل الجهود التي قام بها للسيطرة على الرأي العام وخلق "الحقيقة البديلة" المناسبة له، لأي مثقف مهما علا شأنه وقيمته الإنسانية أن يهدد ما بناه ويخربه. في المقابل يعيش المثقف حالة صعبة للغاية عندما يلمس أن القيم الإنسانية التي يدافع عنها تـُسحق تحت أقدام زبانية الديكتاتور وعملاءه. إن الخيارات المتاحة أمام المثقف في مواجهة الديكتاتور قليلة وصعبة للغاية. فمن المثقفين من يقاوم ومنهم من يدعم ويهادن ومنهم من هو قابل للشراء كأي سلعة استهلاكية مطروحة للبيع.
المثقف المقاوم : وصل أدولف هتلر للسلطة في العام 1933. في ذلك الوقت كان الكاتب الألماني الكبير توماس مان في إجازة خارج ألمانيا مع زوجته. حينها نصحه أصدقاءه بعدم العودة لألمانيا لدواعي تتعلق بأمنه الشخصي. بقي توماس مان محافظاً على صمته اتجاه هتلر والنازيين لسنوات ثلاث طوال. لكن في العام 1936 وفي الثالث من شهر شباط تحديداً خرج توماس مان عن صمته وكتب ما ملخصه "قناعتي العميقة بأن ما من شيء جيد لألمانيا أو للعالم قد يخرج من هذا النظام جعلتني أتفادى العودة للبلد الذي تمتد جذوري عميقة به أكثر بكثير من هؤلاء الذين تجرأوا ونفوا عني صفة الانتماء لألمانيا. أنا أشعر في أعماق قلبي أني قمت بما يجب أن أقوم به بنظر المواطنين الألمان الحاليين والأجيال الألمانية القادمة". لقد دفع توماس مان غالياً ثمن موقفه هذا فقد صادرت السلطات النازية أملاكه في ألمانيا وتراجعت جامعة بون عن منحه لقب الأستاذ الفخري الذي كانت قد أعطته إياه قبل 17 سنة من تاريخه ثم أخيراً قررت السلطات نزع الجنسية الألمانية عنه !
لم يكن الكاتب الألماني إيريك ماريا أوفر حظاً من توماس مان فالعديد من كتبه منع وأحرق علناً بأمر مباشر من غوبلز في العام 1933. ماريا كان خارج البلاد لكن بقيت له إبنة هناك مع زوجها وطفلين. في العام 1943 أي في غمرة الحرب العالمية الثانية حوكمت إبنته هذه وحُكِمَت أمام محكمة الشعب بتهمة إضعاف الشعور القومي لأنها صرحت بأن الحرب التي تخوضها ألمانيا خاسرة لا محالة وأعدمت في السادس عشر من كانون الأول من العام 1943 كما أجبرت أسرتها على دفع تكاليف المحكمة والإعدام.
في مصر قام الكاتب وطبيب الأسنان المعروف علاء الأسواني، مؤلف رواية عمارة يعقوبيان الشهيرة وشيكاغو والحائز على عشرات الجوائز العربية والعالمية بانتقاد كل أنظمة الحكم التي عاش تحتها في مصر بدءاً من جمال عبد الناصر مروراً بالسادات ومبارك وصولا إلى محمد مرسي وعبد الفتاح السيسي متهماً إياها إما بالفاشية العسكرية أو الدينية وفاضحاً التحالف التاريخي المتين غير المعلن القائم ما بين السلطة الديكتاتورية العسكرية والسلطة الدينية ممثلة بالأخوان المسلمين وفقهاء التيار الوهابي الذي غزا مصر والعالم العربي مدعوماً بأموال النفط الخليجي. مُنع علاء الأسواني من الكتابة والظهور في وسائل الإعلام وضيق عليه في لقمة عيشه وحياته اليومية مع أسرته ما اضطره إلى مغادرة مصر والعمل خارجها. علاء الأسواني اليوم لا يستطيع العودة لمصر نظراً للدعوى المرفوعة ضده أمام القضاء العسكري في العام 2019 والتي يعرف مسبقاً الحكم الذي سيصدر بحقه أمامها نظراً لسيطرة السلطة العسكرية التامة على منظومة القضاء في مصر.
في سوريا قام الشاعر محمد سليمان الأحمد المعروف باسم بدوي الجبل بانتقاد المسؤولين عن هزيمة 1967، وعلى رأسهم حافظ الأسد الذي كان وزير الدفاع حينها، من خلال قصيدة حزينة بعنوان "من وحي الهزيمة" كشفت جبن وتواطؤ من كان قد ساهم في هذه الكارثة النكبة الجديدة التي أدت كما هو معلوم لخسارة هضبة الجولان السوري. بدوي الجبل من الشعراء الأدباء الوطنيين المقاومين لكل أشكال الظلم بغض النظر عن الجهة التي يأتي منها هذا الظلم. قال في هذه القصيدة :
وتطير النسور من زحمة النجم *** وفي عشـــه البغاث تطيرُ
جَبـُــن القــــادة الكبــــار وفـــروا *** وبكى للفرار جيشٌ جسورُ
أراد حافظ الأسد تأديبه فأرسل من اعتدى عليه بالضرب المبرح ما أدى إلى معاناة دائمة من الشلل الجزئي وصعوبات في النطق حتى مات في العام 1981.
شاعرٌ سوري آخر قاوم الديكتاتور حافظ الأسد وممارساته الاستبدادية اسمه حسن الخير. لقد قام حسن الخير إثر اغتيال صديق له في العام 1979 بكتابة وإلقاء قصيدة يتهم فيها قوى الأمن باغتيال هذا الصديق قال فيها :
ماذا أقــول وقــول الحق يعقبه *** جـلد الســياط وسـجنٌ مظلمٌ رطبُ
عصابتان أيا شعبي فكن حذراً *** جميعهم من معين السوء قد شربـوا
العصابتان بنظر الشاعر هما طبعاً عصابة البعث الحاكمة وعصابة الأخوان المسلمين اللتين كانتا، ومازالتا، تتبادلان القتل والتخريب والإرهاب في سوريا. اعتـُقِل الشاعر من أمام منزله ولم يره أحد بعد ذلك. إلا أن بعض سجناء الرأي قالوا إنهم شهدوا إعدامه في السجن وأن عناصر الأمن قاموا بقطع لسانه قبل الإعدام.
المثقف الداعم : كان بابلو نيرودا من الداعمين الهامين لستالين وقد تلقى بسرور جائزة ستالين لـ "السلام بين الشعوب" في العام 1953. لم ينتقد نيرودا "التقدمي" بكلمة واحدة أي من المجازر التي ارتكبها ستالين. لاحقاً كتب الشاعر المكسيكي اوكتافيو باس في ذلك يقول " تصيبني القشعريرة كلما فكرت بنيرودا وسواه من الكتاب والشعراء الستالينيين الكبار ... إنهم لم يقوموا فقط بدعم ستالين بملء إرادتهم بل وجدوا أنفسهم مرة بعد أخرى مضطرين لتبرير مجموعة كبيرة من الأكاذيب و الأخطاء و"الفبركات" والخدع والخيانات لدرجة أنهم فقدوا ضمائرهم تماماً". أما الكاتب الكولومبي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز فقد كان من الداعمين المخلصين لفيدل كاسترو حتى بعد أن تكشفت وسائل القمع الهائل التي كان يستعملها ضد الشعب الكوبي.
المثقف المهادن : من هؤلاء يمكن ذكر الكاتب الروسي الكبير بوريس باسترناك. لقد عاش هذا الكاتب المبدع تحت الحكم السوفييتي لكنه لم يتعرض لسوء المعاملة والقمع حتى انتهاءه من كتابة روايته العالمية "دكتور جيفاغو" عندما قام بإخراج مخطوطتها سراً من البلاد إلى إيطاليا في العام 1957. تدورمجريات الرواية عن أحداث الثورة البلشفية ما بين العام 1903 و 1929 ويصف فيها الكاتب التغير الكبير الذي حصل على المجتمع إبان الثورة وتأثير ذلك على حياة الطبيب بطل الرواية. حصلت الرواية على جائزة نوبل للآداب لكن الأمر لم يعجب السلطات السوفييتية التي اعتبرت أن منح هذه الجائزة إنما هو إهانة للمجتمع السوفييتي. نظمت السلطات السوفييتية حملة مضادة للكاتب الذي وجد نفسه أمام احتمالية أن لا يتمكن من العودة للبلاد إذا ذهب لاستلام الجائزة. في العام 1958 قام باسترناك بإرسال تلغراف للجنة المحكمة المانحة لجائزة نوبل قال فيه إنه "مضطر لرفض الجائزة نظراً للأثر الذي تركته في المجتمع الذي أنتمي له". ثم وفي رسالة موجهة من الكاتب إلى سكرتير الحزب الشيوعي في حينه نيكيتا خروتشوف قال "إن مغادرتي أو نفيي من البلاد أمرٌ يعادل الموت بالنسبة لي. أنا أنتمي لروسيا بالولادة ومن حيث عملي وحياتي كلها". مات باسترناك بعد ذلك بسنتين لكن ابنه استلم الجائزة نيابة عنه في العام 1988 قبيل انهيار الاتحاد السوفييتي.
في مصر عاش الكاتب نجيب محفوظ لمدة خمسين عاماً دون أن ينتقد الحكم العسكري بكلمة واحدة ما سمح له بتبوأ المناصب العليا : مدير مكتب الرقابة ومستشار المكتب الوطني للسينما والتلفزيون إلخ .. يقول نجيب محفوظ في ذلك " أستطيع القول بثقة تامة أني قلت في رواياتي كل ما أريد قوله وأني عبرت عن كل آرائي تحت حكم جمال عبد الناصر.أما عن الآراء التي شعرت أني لا أستطيع التعبير صراحة فقد كتبتها بشكل رمزي". رغم ذلك وقع نجيب محفوظ في المحظور عند نشر روايته الشهيرة "ثرثرة فوق النيل" التي ينتقد فيها على لسان أبطاله "الحشاشين" السلطة العسكرية التي تقمع الشعب وتمنعه من المشاركة في القرار السياسي ثم تدعي أنها تمثله. لقد أزعجت هذه الرواية السلطات لدرجة أن المشير عامر كان على وشك اعتقاله وتلقينه "الدرس اللازم" إلا أن عبد الناصر طلب تقييم الموقف من قبل ثروت عكاشة وزير الثقافة الذي أتى رأيه لصالح نجيب محفوظ ما أنقذه من السجن والإهانة.
المثقف "دوام جزئي" : هنا نجد المثقف متمزقاً ما بين الخوف من القمع والسجن وبين الأمل بالوصول إلى المزايا و المناصب العليا التي يمنحها الديكتاتور فيقوم باختيار دعم الديكتاتور ومدحه مقابل حصوله على المزايا والمناصب وبعضاً من الحرية في أن يكتب و يعمل في مجال القضايا الإنسانية العامة التي لا تمس "الديكتاتور العادل" ومنظومته السياسية مباشرة. القضايا العامة من نوع تحسين المناهج الدراسية بغرض نزع فتيل التطرف أو منع عمالة الأطفال والعنف الأسروي. إن هذه المعارك بـ "دوام جزئي" وعلى الرغم من أهميتها البالغة إلا أنها خاسرة بالضرورة في ظل الحكم الاستبدادي. كيف لنا أن نأمل بمحاربة العنف الأسروي في ظل حكم عسكري يقمع ويعذب النساء والرجال في السجون كل يوم. كيف لنا أن نضع حداً لعمالة الأطفال إذا لم نضع حلاً لمشكلة الفقر والجهل التي تغرق بها أسر هؤلاء الأطفال. لا بد للتغيير المجتمعي والثقافي الحقيقي من أن يمر حكماً عبر التغيير الديمقراطي والمثقف "الجزئي" يعرف ذلك تماماً ويتعامى عنه. إنه كمن يحاول معالجة العَرَض دون أن يعالج المرض العميق الذي نجم عنه هذا العَرَضْ. علماً بأن الديكتاتور "العادل" يحب ويشجع هذا النوع من المثقفين لأنه يعطيه الفرصة أن يدعي أنه ديمقراطي و أنه يفسح المجال للنقد "البناء" الهادف!
المثقف المرتزق : كتب الروائي المصري فؤاد قنديل في مديح المجموعة القصصية التي كتبها معمر القذافي "الهروب إلى جهنم" ما يلي : "لقد سحرني هذا العمل تماماً وآمل أن يتاح لهذا المؤلف الوقت اللازم وصفاء الذهن الكافي كي يمنحنا المزيد من القصص ويوقظنا من السبات العميق الذي نغط به". من الصعب لأي كان أن يصف مجموعة القذافي القصصية هذه باسم "عمل أدبي". إنها مجرد هلوسات وتزاحم أفكار ضبابية غامضة ليس فيها من الأدب شيء وهي إن دلت فإنما تدل على أن كاتبها بحاجة لعلاج نفسي فوري. رغم ذلك قام فؤاد قنديل بكتابة هذا المديح النقدي الهائل ولنا أن نتخيل المقابل المادي الذي حصل عليه. لم يقتصر الأمر طبعاً على قنديل. في العام 2009 قام رئيس اتحاد الكتاب العرب الروائي المصري محمد سلماوي بكتابة نقد أدبي إيجابي للغاية للكاتب "المبدع" معمر القذافي وقال في مؤتمر أدبي أقيم في سرت إن كل واحدة من الأفكار المطروحة في أعمال القذافي تستحق الدراسة بمؤتمر خاص بها ثم منح سلماوي معمرَ القذافي الوسام الأعلى الذي يمكن أن يمنحه اتحاد الكتاب العرب. في العام 1988 قام القذافي باستحداث جائزة القذافي لحقوق الإنسان الأمر الذي لم يمنعه في العام 1996 من القيام بمجزرة سجن أبو سليم التي راح ضحيتها 1500 من معارضيه في حفلة إعدام واحدة. في العام 2009 قام القذافي مرة أخرى باستحداث جائزة القذافي للآداب التي وصلت قيمتها إلى 250000 دولار أمريكي. لقد فاز بهذه الجائزة الكبرى الكاتب الإسباني خوان غويتيزولو الذي رفضها لأنها صادرة عن نظام عسكري ديكتاتوري مجرم. ثم تقرر منحها للكاتب النيجيري شينوا آشيبيه الذي رفضها هو الآخر لنفس الأسباب. أخيراً وصلت الجائزة لجابر عصفور الذي قبلها بكل سرور وقال " لقد ربحت اليوم هذه الجائزة ثلاث مرات. الأولى لكوني مصري والثانية باسم الكتاب العرب والثالثة للقومية التي أمثلها والتي أعتز بانتمائي لها". هذا النوع من المثقفين موجود بوفرة مدهشة في كل مكان وتحت أي نظام قمعي ديكتاتوري "عادل" من سوريا إلى العراق والأردن فالجزائر والمغرب وغيرها !
خلاصة القول ... عند وصول الديكتاتور للسلطة يتم منع المثقف من ممارسة دوره التنويري الطبيعي المتمثل بنشر الوعي وممارسة النشاط الثقافي المتنوع الحر. لا مكان في المجتمع الديكتاتوري القمعي للمثقفين الملتزمين المستقلين لأن النشاط الثقافي الحقيقي بحاجة للحرية كي يتنفس ويبدع ويثمر. إن وضع المثقف الإشكالي الصعب للغاية تحت ظل الديكتاتورية هو واحدٌ من أكثر أعراض متلازمة الديكتاتورية انتشاراً.
كانت هذه وبشكل موجز سريع أعراض متلازمة الديكتاتورية التي تظهر على المجتمع الذي يصاب بها. إنه مرضٌ خطيرٌ يصيب المجتمع بالشلل ويجعله غير قادر على الإبداع، يعاني من الفساد والنفاق والمحسوبيات والفشل على كل الأصعدة. لكن ماذا بالنسبة للمستبد نفسه؟ كيف تتطور شخصيته وماهي المراحل التي يمر بها حكمه ؟ لماذا ينتهي حكم الديكتاتور دائماً بثورة أو بكارثة تقضي على البشر والحجر لسنوات طويلة من بعده؟ هل هي حتمية تاريخية أم مجرد مصادفة؟
تقول الباحثة في علم النفس أليس ميللر التي قامت بنشر ورقة بحث مخصصة لدراسة طفولة المستبد - الديكتاتور عرضتها وناقشت نتائجها في مؤتمر علمي أقيم في نيويورك في العام 1998 ما يلي "لم أكن أدهش أن أجد دائماً في طفولة من سيصبح لاحقاً ديكتاتوراً مستبداً الكثير من الفظاعات والرعب، سلسلة مخيفة من الكذب والإهانات التي ستدفعهم لاحقاً إلى الانتقام بطريقة وحشية من المجتمع ... لقد اكتشفت في حياة كل الطغاة الذين درستهم، وبدون أي استثناء، حالة من جنون العظمة الارتيابي أو الذهان الهذياني / بارانويا ذات علاقة بالطفولة والأحداث التي عاشوها في طفولتهم". صدام حسين مثلاً عاش طفولة صعبة للغاية. مات أبوه قبل ولادته ثم تزوجت أمه من رجل آخر أساء معاملته لدرجة أنه هرب من البيت ليواصل دراسته بعيداً عن أهله. جمال عبد الناصر عانى في طفولته فقدَ الأم في الثامنة من عمره وكتب هو شخصياً عن ذلك فيما بعد ما يلي "كان موت أمي حدثاً مأساوياً بحد ذاته لكن أن أفقدها بهذا الشكل كان صدمة قوية لم يستطع الزمن أن يمحوها أبداً". حافظ الأسد عاش طفولة صعبة أيضاً وتعرض للعديد من المواقف الاجتماعية الصعبة القاسية أثناء دراسته في التجهيز الأهم في مدينة اللاذقية "جول جمال" جراء فقره وتواضع منشأه الريفي. أما عن طفولة عبد الفتاح السيسي فقد قال هو نفسه في أحد المؤتمرات الصحفية ما يلي " عندما كنت طفلاً كان الناس يضربوني. ماذا كان علي أن أفعل؟ هل كان يجب أن أقول لهم أني سأصبح رجلاً قوياً وأني سأقوم بضربهم".
حياة الديكتاتور الحقيقية تبدأ عندما يصل للسلطة ثم واعتباراً من هذه اللحظة يمر بالمراحل الحتمية التالية : احتكار السلطة وتجميع خيوطها في يديه تأتي بعد ذلك مرحلة البحث عن المجد ثم الوقوع بالعزلة الكلية والسقوط المدوي.
المرحلة الأولى أو احتكار السلطة : أعلن أحمد حسن البكر عن رغبته بالتنازل "طوعياً" عن السلطة في العراق لصدام حسين في العام 1979. إلا أن هذا التنازل أوالاستقالة لم ترق لبعض قيادات حزب البعث العراقي الذين قالوا إن الأسباب الموجبة لها غير كافية وأن بإمكان أحمد حسن البكر أن يستمر في قيادة الحزب والثورة. هذه الاحتجاجات ذهبت أدراج الرياح واستلم صدام حسين السلطة في السادس عشر من تموز لنفس العام. لم ينس صدام حسين أسماء من حاولوا منعه من الوصول للرئاسة. بعد أيام قلائل من ذلك، أي في الثاني والعشرين من تموز، دعا المستبد "العادل" صدام حسين لمؤتمرٍ عامٍ للحزب قال فيه إنه اكتشف مؤامرة كبيرة ضد الحزب والدولة لصالح حافظ الأسد في سوريا ثم بدأ يعدد أسماء من سولت له نفسه بالاشتراك في هذه المؤامرة. طبعاً من ضمن هؤلاء كان كل من اعترض على استقالة أحمد حسن البكر. عقوبة هؤلاء تراوحت بين السجن الطويل والإعدام.علماً بأن الإعدام تم بطريقة مبتكرة للغاية جعلت من أعضاء الحزب الآخرين مشاركين في حفلات الإعدام ومسؤولين عنها. الهدف الأول من هذه المجزرة هو الإعلان الواضح للجميع أن صدام حسين هو الحاكم الأوحد في العراق وأنه سيتخلص ليس فقط من كل منافسيه ومعارضيه بل من كل من لا يظهر له الطاعة العمياء.
كل الديكتاتوريين وبدون استثناء قاموا بنفس العمل عند وصولهم للسلطة.
في أواخر الأربعينات من القرن الماضي تشكلت مجموعة الضباط الأحرار السرية بقيادة جمال عد الناصر وبدأت بالتخطيط للانقلاب على الملك. التحق بهذه المجموعة العميد محمد نجيب ذو السمعة الوطنية الحسنة والكفاءة العسكرية المعروفة ومعه عدد من الضباط الآخرين الموالين له. نـُفذ الإنقلاب بنجاح في 23 تموز من العام 1952 ثم أسقطت الملكية وتم ترسيم محمد نجيب أول رئيس للجمهورية في 18 حزيران 1953. إلا أن عبد الناصر لم يكن مرتاحاً لشعبية محمد نجيب الكبيرة. في العام 1954 قرر عبد الناصر إقالة نجيب ووضعه تحت الإقامة الجبرية التي بقي فيها طيلة فترة الحكم الناصري أي 16 عاماً كاملة. كما تابع عبد الناصر نفس المنهج من خلال اعتقال وطرد زملاءه الذين شاركوا معه في الحركة.
لقد قام حافظ الأسد في سوريا بنفس الفعل من خلال ما يعرف بالحركة التصحيحية في العام 1970 والتي لم تكن في واقع الأمر سوى انقلاب عسكري جديد. حيث قام بتصفية وسجن ونفي كل زملاءه القدامى من أمثال صلاح جديد الذي بقي في السجن حتى موته في العام 1993 وكامل حسين ويوسف زعين وإبراهيم ماخوس. ثم ومن خلال استعمال سلاح "المؤامرة" وارد الذكر أعلاه، قام تدريجياً بتصفية كل من يـُشَك بموالاته ما أدى في خاتمة المطاف إلى إحكم سيطرته على كل مفاصل الدولة وبالأخص العسكرية والأمنية منها.
عند الوصول لهذه المرحلة يحصل لدى الديكتاتور اندماج نفسي كامل بينه، أي بين شخصه هو وبين الوطن. العراق هو صدام حسين وصدام حسين هو العراق. سوريا هي حافظ الأسد و حافظ الأسد هو سوريا ومن هنا أتى شعار أو سُعار سوريا الأسد. أرض الجزيرة العربية تحولت إلى المملكة السعودية لأن مالكيها هم آل سعود. إن إشهار هذه الحالة من الاندماج بين شخص الديكتاتور وبين الوطن - الأمة إنما يعني وبوضوح أن لا مكان لأي تشارك في السلطة لأن الرجل القوي هو الدولة وسقوطه يعني سقوط الدولة. يذكر هنا أن مبارك كان قد صرح في آخر مؤتمر صحفي له قبل السقوط المدوي "يجب على المصريين أن يختاروا، إما أنا أو الخراب والفوضى". كما يعني أيضاً أن أي انتقاد للرجل القوي هو انتقاد لشرف الأمة وكرامتها لذا فأي معارضة إنما هي مؤامرة خارجية على الأمة. أخيراً يعتبر هذا الاندماج المعلن بين الديكتاتور والوطن رخصة شرعية لقتل وتصفية المعارضين لا علاقة لها بالصراع على السلطة بل هي إجراءات حتمية يقوم بها الرجل القوي، مجبراً مضطراً وبكل حزن وأسف للحفاظ على الدولة والوطن.
المرحلة الثانية أو البحث عن المجد والخلود : ما أن يستتب الأمر للديكتاتور ويحتكر السلطة كاملة غير منقوصة ويطمئن لوجود كل الخيوط الأمنية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية والقضائية في يده تبدأ آلـة الحفاظ على السلطة بالعمل. لا تحتاج هذه الآلة للكثير من الجهد كي تكون فاعلة كونها تعمل بشكل تلقائي ذاتي. هي آلة هائلة الحجم تتألف من عدد كبير للغاية من الأشخاص. ضباط شرطة ذوو مزايا ورواتب محترمة يعتقلون ويعذبون الناس بمنأى عن المحاسبة والعقاب. ضباط جيش بامتيازات جيدة للغاية مستعدون لتنفيذ أوامر القتل للحفاظ على مكاسبهم ومكانتهم. قضاة فاسدون ينفذون ما يطلبه منهم رجال الأمن كي لا يفقدوا وظائفهم ومراتبهم الاجتماعية. أعضاء في الحزب الحاكم مستعدون للنفاق والتزلف لقاء سلامتهم وملء حساباتهم المصرفية. حشود من الصحفيين والكتاب المستعدين لتمجيد الزعيم القوي العادل الوطني منقذ الأمة ثم وعلى رأس هذا الهرم العظيم يقبع المستبد أو الديكتاتور "العادل". بما أن السلطة المطلقة تعتبر المسبب الأهم للفساد والانحراف يقوم الديكتاتور بتحويل المبالغ الهائلة لحسابه الشخصي وحساب أفراد أسرته. إلا أن المال لوحده لا يكفي بل لا بد للديكتاتور مدمن السلطة والمال من أن يدخل التاريخ من واسع أبوابه. لا بد له من القيام يما يخلد اسمه. عملٌ عظيمٌ وصفاتٌ مهمة تشبع رغبة الحصول على المجد والخلود لديه.
في العام 1976 قرر الجنرال بوكاسا، الذي كان من المعجبين بشدة بنابوليون بونابارت، أن يعطي نفسه لقب إمبراطور فاستقدم الخبراء من فرنسا وأقام حفلة تتويج يقال إنها استنزفت ثلث ميزانية الدولة بينما كان الشعب يعاني من المجاعة ويتضور فعلياً من الجوع. جشع المجد ذهب بمعمر القذافي أيضاً لأن يعطي نفسه العديد من الألقاب من نوع قائد الثورة الليبية، حامي الأمة العربية، زعيم القادة العرب، قائد الاتحاد الإفريقي، ملك ملوك إفريقيا وإمام المسلمين إلخ.. عيدي أمين دادا الزعيم الأوغندي قام كذلك بمنح نفسه العديد من الألقاب من نوع الرئيس إلى الأبد وحامل الصليب العسكري و ملك حيوانات البر وأسماك المحيطات وقاهر الإمبراطورية البريطانية في إفريقيا عامة وأوغندا بخاصة ! في كل أنظمة الاستبداد نجد صور وتماثيل للحاكم في كل مكان يمكن أن نتخيله. في الساحات والمكاتب العامة والخاصة والمكتبات والجامعات والمدارس وثكنات الجيش ومواقف الباصات والمطارات وسواها. كما قام كل الحكام المصابين بمرض الدكتاتورية بمشاريع ضخمة تضمن لهم المجد والخلود. معمر القذافي قام بمشروع النهر الاصطناعي العظيم. حسني مبارك قام بتنفيذ مشروع توشكى. السيسي نفذ مشروع توسيع قناة السويس. حافظ الأسد قام بتنفيذ سد الفرات. صدام حسين حاول إنشاء أول مفاعل نووي عربي. نفس شعور الشهوة للمجد والخلود دفع بالجنرال رافائيل تروخيو رئيس جمهورية الدومينيكان إلى إجبار الكنائس على وضع لافتات كتب عليها "أبانا في السماء و تروخيو على الأرض". وهو لم يكتفي بذلك بل منح إبنه ذو الأربع سنوات رتبة كولونيل في الجيش ! في تركمانستان قام نيازوف الزعيم القوي والمستبد "العادل" بالبحث عن المجد الديني فقام بكتابة كتاب "الروحناما" أو كتاب الروح وأمر بأن يدرس في كل المدارس جنباً إلى جنب مع القرآن!
تعتبر مرحلة الوصول للمجد وتخليد الإسم والفعل مرحلةً حتميةً من مراحل حياة الديكتاتور وهي التي ستودي به إلى المرحلة اللاحقة ألا وهي مرحلة العزلة التامة.
المرحلة الثالثة أو العزلة الحتمية : نهاية الديكتاتور الحتمية تتلخص بسقوطه فيما يمكن أن نقول عنه حالة من العزلة التامة حيث يجد نفسه بعيداً عن العالم الواقعي ومحاطاً بعالمٍ موازٍ افتراضي. هو عالمٌ يستطيع الديكتاتور فيه تخيل ما يريد وأن يسمع ما يريد وأن يتنعم بأخبار انتصاراته الوهمية المنفصلة بشكل كاملٍ عن الحقيقة التي يعيشها هو والشعب بأكمله. تقوم الآلة القمعية الرهيبة التي تعب واجتهد في إنشاءها بإخفاء الحقائق عنه وطحن كل من يجرؤ على قول الحقيقة ولا بأس هنا من تذكر تفاصيل مسرحية "الفيل يا ملك الزمان" للكاتب السوري المبدع سعد الله ونوس ودلالاتها الهامة المعبرة عن حالة العزلة والهلوسة الحتمية التي لا بد من أن يصل لها كل حاكم مستبد مهما عظمت قوته واشتد بأسه. إن غضب الديكتاتور وحقده على كل من يحاول قول الحقيقة مماثلٌ بقوته وعنفه للسُعار الذي يصيب المتطرف الديني عندما تشكك بدينه وحقائقه الماورائية. إنه خليطٌ من العداء الهستيري والخوف من زعزعة الإيمان المطلق.
للأسف لن تنتهي هذه العزلة وهذا العالم الافتراضي إلا بقيام الثورة على الحاكم المستبد. عندها فقط سيصطدم الحاكم بالحقيقة ويستفيق من هلوسته الجميلة وسباته الافتراضي الطويل. إن الثورة هي لحظة الحقيقة بالنسبة لهؤلاء الحكام. عند القبض على القذافي قال " أنا من صنع ليبيا التي تعرفونها اليوم. من أنتم ؟؟" في هذه اللحظة أيضاً قال مبارك "أنا أو الفوضى". أما زين العابدين بن علي فقال "الآن فقط فهمتكم" قبل أن يهرب بطائرته الخاصة. تشاوتشسكو الروماني صرح في لحظة الحقيقة "أنا لا أعترف بمحكمتكم هذه ولن أتعاون إلا مع اللجنة المركزية للحزب" ثم وعندما اقتادوه لجدار الإعدام مع زوجته صرخ "هل نسيتم ما صنعته للرومان؟ كي تعاملوا أباكم بهذا الشكل؟".
إلا أن الثورة وللأسف ليست متاحة في الكثير من الحالات نظراً للظروف المجتمعية والتاريخية والجيوسياسية الخاصة بكل بلد يحكم فيه الديكتاتور. في هذه الحالة تكون النهاية عبارة عن اتخاذ القرار الخاطئ الخطير والأخير الذي سيؤدي إلى نهاية المستبد الحتمية الكارثية. في حالة موسوليني مثلاً كان القرار عبارة عن غزو اليونان. قرار هتلر كان الهجوم على الإتحاد السوفييتي بالرغم من تحذير كل أجهزة الأمن من الوبال الذي يمكن أن ينجم عن هذا الغزو. غلطة صدام حسين كانت غزو الكويت. غلطة بوكاسا كانت فتح النار على تلاميذ المدارس الذين خرجوا للاحتجاج على غلاء سعر بدلاتهم المدرسية التي كانت تبيعها زوجة الإمبراطور المفدى. غلطة القذافي كانت دعم المنظمات الإرهابية ما أدى إلى الوقوع تحت العقوبات الاقتصادية والعزلة التامة عن العالم.
يشبه الديكتاتور في عالمه الافتراضي المنسلخ عن الواقع من يقود سيارة قوية مسرعة دون كوابح ودون مرايا جانبية وخلفية. المرايا هي المعارضة والكوابح هي النظام الديمقراطي والمؤسسات الديمقراطية المستقلة. هو يقود البلاد دون أية فكرة عما يجري حوله ذات اليمين وذات الشمال ومن جهة الخلف ودون أن يستطيع إيقاف عربته المسرعة عند الحاجة. في هذه الحالة يصبح الحادث محتماً مهما كان القائد "ملهماً" و"عبقرياً" و"ذكياً" وملك الملوك وقاهر الجبال والمحيطات والأسماك البحرية. وإذا لم يحصل هذا الحادث اليوم فهو سيحصل غداً حتماً. وإذا حصل ومات القائد المفدى قبل النهاية الحتمية ستحصل الكارثة حتماً بعد مماته ولنا في سوريا مثال واضح عن ذلك.
تبدأ متلازمة الديكتاتورية عندما يتهيأ للناس أنهم بحاجة للمستبد "العادل" أو عندما يكونوا مستعدين لقبول ظلم وتعسف هذا الحاكم لسبب أو لآخر. يصل هذا الحاكم لقمة السلطة ويعمل على تجميع كل خيوطها في يده. ثم يمر بمراحل المجد والعزلة ليصل أخيراً إلى المرحلة الأخيرة أو السقوط المدوي عندما يتخذ القرار القدري الخاطئ الذي يؤدي للكارثة التي سيدفع هو وكل "رعاياه" ثمنها لسنوات طويلة بعد موته.
إن اللجوء لفكرة حل المشاكل المجتمعية بالقوة والعنف والاستبداد فكرة خاطئة للغاية وقاتلة وغير مجدية. إنها وهمٌ حقيقي دفعت ثمنه الباهظ الشعوب الناطقة باللغة العربية والعديد من الشعوب الأخرى عبر العالم. ربما بدت هذه الفكرة نافعة وفعالة وسريعة على المدى القريب أي المدى الملتصق بأنوف من يؤمنون بها لكنها كارثية بكل ما للكلمة من معنى على المدى البعيد الاستراتيجي.
يكمن الحل الحقيقي الصعب بإرساء الديمقراطية ومؤسساتها المستقلة والدخول في عالم الانتماء للوطن والمواطن وحقوق الإنسان وفصل الدين عن الدولة.
الديمقراطية هي الحل !
= = = = = = =
* هذا المقال مستوحى بخطوطه العريضة والعديد من تفاصيله من كتاب الروائي المصري الكبير علاء الأسواني "متلازمة الديكتاتورية". هذا الكتاب صدر باللغة الإنجليزية والفرنسية واليونانية والإسبانية ولم يصدر بالعربية حتى الآن.



#نزار_حمود (هاشتاغ)       Nezar_Hammoud#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأوهام القاتلة ! الوهم الثاني : الخلافة الإسلامية
- نترات، نتريت، نتراتات !
- الأوهام القاتلة ! الوهم الأول : أمة عربية واحدة
- كابوس
- عتَه الإسلام السياسي
- الإسلاموفوبيا في العيون الكيبيكية ...
- نقاط على خارطة الخلاص
- المعركة ... بالألف واللام
- في فقه المعصية
- أن نعترف ...
- إيلان لن يستيقظ ...
- أن تكون طائفيا ً !
- أنا أتهم
- هكذا تكلم فيكتور هيجو ... (في الشأن السوري)
- إنهم يقتلون الشارلي !
- رسالة مفتوحة إلى العالم الإسلامي
- لماذا يخافون منا ؟ البتروإسلاموفوبيا !
- محاكمة السلاح !
- في رثاء أنسي الحاج ...
- رسالة إلى أخي الثائر السوري ... 5


المزيد.....




- تمساح ضخم يقتحم قاعدة قوات جوية وينام تحت طائرة.. شاهد ما حد ...
- وزير خارجية إيران -قلق- من تعامل الشرطة الأمريكية مع المحتجي ...
- -رخصة ذهبية وميناء ومنطقة حرة-.. قرارات حكومية لتسهيل مشروع ...
- هل تحمي الملاجئ في إسرائيل من إصابات الصواريخ؟
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- البرلمان اللبناني يؤجل الانتخابات البلدية على وقع التصعيد جن ...
- بوتين: الناتج الإجمالي الروسي يسجّل معدلات جيدة
- صحة غزة تحذر من توقف مولدات الكهرباء بالمستشفيات
- عبد اللهيان يوجه رسالة إلى البيت الأبيض ويرفقها بفيديو للشرط ...
- 8 عادات سيئة عليك التخلص منها لإبطاء الشيخوخة


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نزار حمود - الأوهام القاتلة ! الوهم الثالث : الديكتاتور العادل