أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نزار حمود - أنا أتهم















المزيد.....


أنا أتهم


نزار حمود
أستاذ جامعي وكاتب

(Nezar Hammoud)


الحوار المتمدن-العدد: 4878 - 2015 / 7 / 26 - 19:58
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



فلنتفق بداية ً أن هناك جريمة مريعة قد وقعت. وأن هذه الجريمة قد فاقت في وحشيتها وفظاعتها العديد من الجرائم التي ارتكبها الغباء والتوحش والجشع البشري على مر العصور. أتكلم هنا عـن جريمة قتل الشعب السوري وتهديم بنيانه ومنجزاته ومقدراته. هذه الجريمة التي ما زالت رحاها تدور وتطحن الأطفال والنساء والشيوخ كما المقاتلين الشباب الذين كان يفترض بهم أن يكونوا أمل الوطن في غد أفضل. ولنتفق أيضا ً أن كل جريمة قتل ... وراءها قاتل. وأنه لا بد من تحديد هذا القاتل (أو القتلة...) والتعامل معه بمنتهى الحرص والجدية والصرامة كي نمنع وقوع مثل هذه الجريمة مستقبلا ً. فمن هو هذا القاتل الذي قتل مئات الآلاف من السوريين وما زال يُعمِل سيفه فيهم تقطيعا ً وتشويها ً وتهجيرا ً وإذلالا ً؟
من السهل دوما ً إرسال الكلام على عواهنه وتوجيه الاتهامات يمنة ويسرة وتحميل المسؤولية لهذه الجهة أو تلك. إلا أنه من الصعب... لا بل من الصعب للغاية... الابتعاد عن الانفعال و الغوص في عمق السبب كي نصل إلى الاستنتاجات السليمة التي تؤدِّي بنا إلى القاتل الحقيقي. كما و لا بد للباحث "المستقل - الموضوعي" عـن القاتل أن لا يخاف من توجيه أصابع الاتهام لكل ما أو من يعتقد أنه ساهم أو شارك في هذه الجريمة، سواءٌ من حيث فعل القتل نفسه أو التغطية على الفعل أو تبريره أو تسهيل قبوله أو التحريض عليه.

المتهم الأول والأهم والأكبر في قضيتنا هذه اعتباريٌّ. أي أنه ليس إنسانا ً بالمعنى الفيزيائي، وليس جماعة معاصرة أو حزباً سياسياً، بل هو طريقة تفكير وثمرة تطور إجتماعي وسياسي عشنا عليها وتعايشنا معها ومع خدرها ونعاسها السامّ منذ مئات السنين. إنه نوع المجتمع الذي نعيش في كنفه اليوم. هو المجتمع الأبوي "المستحدث"، كما يطيب لهشام شرّابي أن يسميه، وليس "الحديث". هذا المجتمع الذي خرج، ولم يخرج، من العصور ما قبل الحداثية. المجتمع الذي عاش في نهاية القرن الثامن عشر صدمة اللقاء المرعب مع تخلفه الذاتي الداخلي من خلال الالتقاء مع الغرب ومقارنة الواقع العربي المسلم (المؤمن؟!) المتخلف المعاش مع الواقع المتقدم الذي يعيشه هذا الغرب (الكافر؟!)، الآخر، الغريب والمختلف. إنه مجتمع "اللاعقلانية في التدبير والممارسة، والعجز عن التوصل إلى الأهداف التي نرنو إليها. اللاعقلانية في التحليل والتنظير والتنظيم، والعجز عن الوقوف في وجه التحديات والتغلب عليها. إنه التخلف المتمثل في شلل المجتمع العربي ككل: في تراجعاته المستمرة، في انكساراته المستمرة، في انهياره الداخلي"(1). المجتمع المؤلف من تشكيلة إجتماعية غريبة جديدة فريدة خاصة بنا نحن العرب... تشكيلة غير مستقرة تفتقر إلى المقومات المشتركة للجماعة البشرية وتعوزها مظاهر الحداثة التي ينعم بها المجتمع كما تعرفه اليوم دول العالم المتقدم المعاصرة. إنه المجتمع الذي "تعتمد مقولته المعرفية على الأسطورة والمعتقد عوضا ً عن الفكر والعقل. مجتمع يتعامل مع الحقيقة من منظور ديني مجازي عوضا ً عن تعامله معها من خلال العلم والتجربة والنقد. يتعامل مع اللغة بشكل بياني صلب عوضا ً عن التعامل معها بشكل تحليلي مرن بنّاء ومنفتح. ومع السلطة من خلال القبول بالشكل السلطاني الفوقي السلبي المستحدث (قبول سلطة الوالي وأولي الأمر) عوضا ً عن الشكل الديمقراطي المسؤول والفاعل الإيجابي. ومع العلاقات الاجتماعية بشكل أفقي عوضا ً عن الشكل العمودي. الذي ينظر للبنية الاجتماعية من منظور العائلة والعشيرة والطائفة عوضا ً عن مفهوم الطبقة والمصالح المادية العميقة التي تقوم عليها مصالح الناس ومصائرهم"(2). في المجتمع الأبوي المستحدث، العصبيِّ القبَليّ تكون الالتزامات داخل البنية القبلية محددة بدقة، أما خارج هذه البنية فليس هناك من التزامات أخلاقية أو اجتماعية محددة بوضوح، ما عدا تلك الطارئة أو التعاقدية منها. في الأبوية الفطرية ليس هناك ما هو محرم في حال الحرب. الضوابط الوحيدة المفروضة على المسلك تجاه "العدو" أو "الآخر" تتحدد نتيجة الخوف من الانتقام أو خشية قوة خارقة. لقد ثار هذا المجتمع على نظام الطغيان في سوريا... ثار شباب هذا المجتمع الأبوي الهجين المستحدث على الظلم "الوطني" المزمن الذي عاشوا تحت ظله منذ فجر الاستقلال عن الانتداب الفرنسي وحتى اليوم... لكنهم سرعان ما سقطوا تحت الطغيان الديني القبَلي العشائري الذي لم يعرفوا غيره، والذي صنعوه هم بأنفسهم وقبِلوا الدخول تحت لواءه. لم يتوفَّر لهذه الموجة الثائرة الشابة عاليةِ الحرارة والإنتاج أية نخب حقيقية تنير لها الطريق. فالنخب التي عملت وما زالت تعمل في الحراك السوري الثوري... نخب ٌ هجينة ٌ منافقةٌ "يمزقها الحنين والندم والحزن"(3)، كما هو المجتمع الذي أنتجها. لا تؤمن حقيقة ً بالدولة المعاصرة الحديثة الديمقراطية. دولة القانون وحرية المعتقد وتحرر المرأة على الصعيد النفسي والاقتصادي من سطوة المجتمع الذكوري ورجال الدين. أما النخب الوطنية التنويرية الحداثية الصادقة فقد تم إقصاؤها تحت ضربات البترودولار القاسية (ومجتمعاته الظلامية ما قبل الحداثية) التي لم ترحم أيّاً من وجوه التيارات العربية الليبرالية، التقدمية، العلمانية. في الحقيقة لم تكن هذه النتيجة مفاجئة لمن نظر بواقعية متشائمة سوداء إلى الثورة السورية منذ انطلاقها. لكنها تبقى مفاجئة وصادمة ومحزنة للغاية لكل من نظر إلى الثورة بشاعرية وتفاؤل ورغبة، متسرعة - عاشقة، ربما في الانعتاق من نير الظلم السياسي والديني المعتقدي... وأنا أنتمي لهؤلاء. إذاً... المتهم الأول والأهم والأخطر، برأيي المتواضع، هو هذه البنية الاجتماعية المستحدثة التي حاولت الخروج من بيئتها القبلية الطائفية العشائرية ما قبل الرأسمالية... لكنها عجزت عن اللحاق بالحداثة المعاصرة ومفهوم الدولة الديمقراطي المعاصر، فبقيت في منطقة برزخية قاتلة تقاوم وبشدة التقدم نحو الحداثة الحقيقية... وفي نفس الوقت تخاف من العودة إلى النظام الأبوي القديم الذي أكل الدهر عليه وشرب حتى اهترأ وبانت عظام هيكله العظمي المتهتك المتعفن النتن.

المتهم الثاني في هذه المقتلة الإنسانية المريعة هو الإسلام السياسي. وأنا أصنفه ثانياً من حيث المسؤولية، لأن خطره قديم ومعروف منذ القدم... منذ فجر الإسلام. لقد دخل في صلب ثقافتنا الإسلامية أن الإسلام... دين ودولة ! وأن هذه الثنائية يجب أن تكون وتسود في كل مكان يحل فيه المسلم المؤمن! لقد فات "جهابذة" الإسلام السياسي منذ البدايات التاريخية... أن الله عز وجل، لو أراد أن يكون الإسلام ديناً ودولة لـَفـَعـَل ونـَفـَذ وأنـْفـَذَ ما يريد... هو الذي "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون" (4). لو أراد الله أن يكون الإسلام ديناً ودولة لأوضح وفسّر في القرآن الكريم ما هو شكل الدولة التي يريدها، وكيف للمسلمين أن يديروا شؤون دنياهم بالتفصيل الواضح الذي لا لَبْس فيه. هو الذي قال وفصَّل في كل أمور الحياة اليومية وفي كيفية إقامة عقود الزواج وحقوق اليتيم وسوى ذلك الكثير!.. إلا أن الله، عز وجل عما يصفه به تجار الدين، لم يقل شيئاً من هذا... بل قال: "أمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون"(5). هذه الشورى التي لم تطبق يوماً منذ وفاة الرسول محمد. لم تطبق في سقيفة بني ساعدة. ولم تطبق عندما استخلف أبو بكر عمرًا بن الخطاب، ولا عند وفاة عمر وانتقاء عثمان، ولا عند مقتل عثمان وتسلُّمِ عليٍّ أمور الحكم. ومن البدهي أن نقول إنها لم تطبق عند وقوع الفتنة الكبرى وقتل المسلمين بعضهم بعضا ً وكلهم يصيح الله أكبر (العديد منهم كان من المبشرين بالجنة...). وكذلك لم تطبق تحت حكم معاوية الذي أراد توريث ابنه يزيد لإرساء أسس سلالة أموية في الحكم... فقام من قال لينهي النقاش و"الشورى فيما بينهم": "أما أمير المؤمنين فهذا (وأشار بسيفه إلى معاوية، فإن هلك فهذا (وأشار إلى يزيد)، ومن رفض فهذا (رافعاً سيفه في الهواء)"(6). كما أن الرسول محمد عند وفاته لم يشر إلى كيفية الحكم من بعده. ولو أراد محمد أن يوجه المسلمين ويرشدهم في هذا الشأن لكان الأجدر به أن يشير إلى ذلك وبوضوح لا لبس فيه في خطبة الوداع الأخيرة. إلا أنه لم يشر إلى ذلك البتة، بل قال وببساطة متعمدة مقصودة "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا". ولم يقل أتممت لكم كيفية حكمكم على الطريقة الإسلامية! ثم أردف لاحقا ً يقول "واللهِ ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تتنافسوها كما تنافسها الذين من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم". لم يقل الرسول محمد شيئاً عن طريقة الحكم السياسي من بعده. ولو أراد لفعل. سبب اقتتال المسلمين لم يكن الدين "دين الإسلام" بل الإسلام السياسي وأمور الدنيا وتقاسم الأموال وتوزيع المناصب والمكاسب. يومها لم تكن هناك مؤامرة عالمية ولا أمريكا ولا إسرائيل ولا نفط ولا بترو دولار... بل كان أسُّ الفتنة هو إدخال الدين والمال بالسياسة، ما أدّى إلى استشهاد هذه العقيدة الإيمانية لاحقاً على يد فقهاء السلطان الأموي والعباسي والسلجوقي... ومخبريهم وفساد السياسة من خلال إدخال المعتقد الإيماني الماورائي الجامد الصلب إليها ومنع كل محاولات التقويم والإصلاح تحت اسم المحرم والمقدس. الإسلام السياسي قاتل شرس. لقد قتل الناس والمسلمين في الفتنة الكبرى قبل نحو ما يزيد عن ألف وأربعمائة عام، وما زال يفتك بنا حتى اليوم. آخر ضحاياه كان الشعب السوري... الذي قام يريد حريته وعدالته الاجتماعية ودولته المعاصرة الحديثة (وليس المستحدثة) القوية القادرة السيدة المستقلة. يريد استرداد ما سلبه منه مدّعو المقاومة والممانعة وتحرير المقدس (المقدس مرة أخرى!) فما كان منه، أي من الإسلام السياسي، إلا أن انقضّ على هذا الشعب في لحظة الضعف والتحول هذه وأنشب أنيابه السامة في عنقه... ما أدّى إلى ظهور داعش وسواها... أكرر مرة أخرى وأخرى: الإسلام السياسي قاتِل... وقد آن لنا أن نعرف ونفهم ذلك ونتعظ كي ننهي مجازر اليوم ونتجنب ونمنع مجازر المستقبل ! داعش والنصرة وآل سعود والقاعدة وملالي طهران وحزب الله وحماس وبوكو حرام والحوثيون وشباب الصومال وسواهم... كلهم أولاد شرعيون تماماً للإسلام السياسي...

المتهم الثالث في جريمة العصر هذه هو الحكم "الوطني" الذي استلم أمور حكم البلاد والعباد من المُنتـَدَب الأجنبي الفرنسي. استلم بلاداً بحاجة لكل شيء... وبخاصة لإرساء مفاهيم العصر في حكم المجتمعات وترسيخ العدالة الاجتماعية منعا ً لوقوع الانفجارات الكبرى في منطقة تعج بكل مقومات الانفجار الكارثية الخطيرة للغاية. بدءاً من الانقلاب الأول الذي قاده الضابط المغامر الفاسد المتأمرك حسني الزعيم، وانتهاء بآل الأسد! كانت كرة النار تكبر وتنذر بالانفجار. لم تفهم تلك "النخب الوطنية" أن الهدف الوطني الأول كان ويجب أن يكون العملَ على الإنسان السوري وعلى بلورة الشخصية الوطنية السورية وتمكين مؤسسات المجتمع المدني أو الأهلي من لعب دورها، ونزع فتيل الطائفية المتفجرة، وتقوية اقتصاد الطبقة الوسطى من خلال دعم ونجاح رأس المال الوطني وجعله يتجذر في الأرض السورية. باختصار، بإرساء مفهوم العقد الاجتماعي الذي عرفه الغرب (الناجح اليوم علميا ً وإنسانيا ً وحضارياً) ومارسه منذ مئات السنين. لقد استلم العسكر الحكم منذ البدايات الأولى للاستقلال، ولم يكن متوقعاً منهم أن يفعلوا خيراً مما فعلوا. كان الغرب وأجهزة مخابرات العالم كلها تعرف ماذا سيفعل العسكر في بلد مثل سوريا وبمجتمع مثل المجتمع السوري. لقد فعل هؤلاء العسكر، غير المؤهلين جيداً حتى لحكم ثكناتهم العسكرية، كل ما كان بإمكانهم كي يبقوا في السلطة، مضحين في طموحهم قصير النظر هذا بأهم مقومات الدولة الحديثة المتوازنة، أي باستقلال وفصل الهيئات الثلاث وتداول السلطة. ثم أتت موجة إيديولوجيا القومية العربية العاتية التي ترأسها ضابط مغمور كاريزماتي حسن النية هو جمال عبد الناصر، المتحمس، سطحي المعرفة وكارثي الممارسة. فقضت هذه الموجة على كل أمل في إحياء الروح الوطنية السورية لصالح وحدةٍ اعتباطية ٍ حماسية ٍ كان من المحال أن تنجح. عوضاً عن السعي لتحقيق كل ذلك قامت النخب العسكرية بتدمير المجتمع المدني رويداً رويداً، عبر الترويج للفساد كي تبقى. وقضت على حرية الرأي ومؤسسات المجتمع المدني الواحدة تلو الأخرى. لقد تعامل رجالات الحكم الوطني مع المجتمع السوري بنفس العقلية الأبوية المستحدثة التي تحدث عنها شرابي في كتابه الوارد ذكره أعلاه. من جهة أخرى، قدَّمت القضية الفلسطينية وقيام دولة إسرائيل المغتصبة الظالمة لهذه النخب خشبة الخلاص كي تعوِّم بواسطتها فشلها المزمن وعلى كل الأصعدة. ثم جاء شعار الصمود والتصدّي والتحرير "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". كان من السهل عليهم كي يحرروا (وهم لم ولن يحرروا...) الأرض المقدسة (تدنيس المقدس مرة أخرى !) أن يسحقوا كل من يقول بحرية الرأي وكرامة الشعب السوري. حكموا البلاد بالحديد والنار وعقلية الوالي العثماني المستبد فكان لهم أن يجْنوا ونجني معهم جميعاً ما نراه اليوم من خراب ودمار وقتل. كان الأجدر بهذا الحكم الوطني أن يلتفت إلى موضوع الإسلام السياسي القاتل من خلال العمل على تحقيق المساواة في توزيع الثروات، وإرساء مفاهيم الديمقراطية والتعددية واحترام الفرد منذ نعومة أظفار أجياله الطالعة. إلا أنه، عوضاً عن ذلك، تلاعب بمكونات المجتمع كلها جاعلاً السلطة هدفه الأسمى الوحيد. لم يكن حافظ الأسد من اخترع الاستبداد في سوريا. فقد سبقه إلى ذلك كثير من الضباط اللاوطنيين الحمقى. لكن هذا الضابط الريفي المغمور، "العصمليَّ" المنطق والممارسة، كان "قرف" الختام ... عندما وصل إلى عرش دمشق العريقة فأبدع بما بدأه أسلافه وكان إطلاق رصاصة الرحمة على سوريا والمجتمع السوري الوليد على يديه! غنيٌّ عن القول أن نفس القصة تكررت في باقي الدول العربية تحت أسماء ومسميات أخرى، من العراق إلى مصر وليبيا والجزائر. في النتيجة أدى فشل المشروع أو الحكم الوطني في سوريا إلى فراغ نفسي - اجتماعي هائل ترتـَّب عليه صعود حركات الإسلام السياسي القاتل وانتشارها السرطاني الذي نحصد نتائجه اليوم. نقطة التحول في ذلك كانت حرب الـ 67.

المتهم الرابع هو كل من شجع على العنف وحَمْـل ِالسلاح وتدمير هياكل، أو ما تبقى منها، ومؤسسات الدولة السورية! كل من نشرَ الطائفية من خلال تبنيه عباراتٍ من نوع "النظام أجبرنا على ذلك"، "لم يترك لنا النظام سبيلاً آخر"، "أنا طائفي لأن الآخر كذلك"... وصولاً إلى الدفاع عن الأكثرية السنية، والدفاع عن المقدسات والمراقد الشيعية (المقدس مرة أخرى!)، وضرورة إبادة الآخر المختلف دينياً أو إثنيّاً. وكأن الثائر السوري على النظام السوري كان يتوقع من هذا النظام نفسه أن يوجهه ويعلمه كيف العمل لإسقاطه! كان النظام يعرف ومنذ البداية، من خلال خبرته المخابراتية العريقة، كيف ستكون ردة فعل المجتمع السوري (بكافة أطيافه، وبخاصة الأقليات السورية الدينية والإثنية) والدولي إذا ما تحول الصراع إلى صراع طائفي دموي بحت. كان يعرف أن السلاح الأكثر ضراوة لديه هو تفتيت المجتمع السوري عرقيا ً وطائفياً، ومنع أية حركات أو شعارات وطنية جامعة من الانتشار والهيمنة على الحراك. من منا نسي أفلام العنف الدموي الطائفي القصيرة التي كان يسربها من أقبية مخابراته (كان يقول ويصرح بوضوح أنها مسربة!) كي يحرض على الفرز الطائفي. من منا نسي جملة "بـَدكـِنْ حرية"؟! كان واضحاً أن النظام يريد أن تتحول المعركة إلى معركة بينه وبين التطرف الديني العنفي كي يحصل على صك براءتة أمام الشعب السوري والعالم الخارجي بأجمعه. وهذا المتهم الرابع ساعده على ذلك.
لقد كانت هذه الحقيقة واضحة للغاية. والجميع كان يدعي أنه يعرف ذلك. وبالرغم من كل هذا انحرف "الثوار" ومشجعوهم من جماعة "عن بعد" - "تويتر وفيس بوك" إلى حيث أشار ووجّه النظام تماماً . تراهم يتباكون على قصف المدنيين العزل... فقط لأنهم ينتمون إلى نفس القبيلة التي ينتمون هم إليها... إما إذا كان القتلى المدنيين من القبيلة الأخرى فإلى جهنم وبئس المصير (تم َّ الدعس!). وإذا كان النظام طائفياً هنا، كانوا هم أكثر طائفية منه هناك! وإذا كان النظام مجرماً لا يعرف الرحمة هنا، كانوا هم كذلك هناك ! يهللون للنصرة ويدافعون عنها على منابر التواصل الاجتماعي ... وهم يعرفون جيداً أنها من "القاعدة" التي يقف العالم كله ضدها، ثم يتباكون لأن العالم لم يساعدهم! يرون جرائم داعش المريعة ويتسترون عليها أو يصمتون، لأن داعش من قبيلتهم ولأن مشكلة داعش هي الغلو في الدين ليس إلا !!! أما الفئة الأكثر إجراماً وخطورة َمن بين هؤلاء فهي فئة السوريين الذين كانوا قد تركوا البلاد منذ عشرات السنين ليستقروا في بلاد الغرب وأمريكا، وبالأخص "اليساريين التائبين" منهم، ثم أخذوا يحرضون على العنف والدم والقتل "النظيف" دون أي وازع من ضمير أو رادع من أخلاق ودين. إنهم في بيوتهم الدافئة الآمنة في باريس ومونتريال وسواها، يشجعون الشباب السوري على القتل الطائفي! هؤلاء ساهموا وبفعالية كبيرة أحياناً في إذكاء نار القتل وسفك الدم السوري. لم يخيب هؤلاء السوريون "الثوار" أمل النظام فيهم، بل كانوا "خيرَ" وأقوى وأهم نصير له !

المتهم الخامس هو القوى الإقليمية والعالمية التي لعبت وما زالت تلعب دوراً في الأزمة السورية. لقد حقق المجتمع البشري تقدما ً كبيرا ً على صعيد حقوق الإنسان. فإذا قارنا حال البشر في الدول والحضارات القديمة مع حالهم اليوم لوجدنا تقدماً كبيراً على الصعيد الإنساني الفردي والمجتمعي. لقد اختفت عقوبات المجتمعات القديمة المتمثلة بالرجم والقتل وقطع الأيدي والأرجل والصلب والصلم والعقوبات الجماعية، وحلّت محل كل ذلك أنظمة قضائية متطورة(7) تعاقب وفقاً للجرم المرتكب. كما توصل العديد من الدول إلى تحريم ومنع عقوبة الإعدام، بغض النظر عن الجرم المرتكب! أما على الصعيد الإجتماعي فقد توصلت المجتمعات، بعد أن شاهدت وذاقت ويلات الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلى ما يدعى بهيئة الأمم المتحدة التي يفترض بها أن تحمي حقوق الدول الضعيفة وأن تدفع بها على طرق التنمية والتطور. لقد توصل عقلاء المجتمع البشري إلى إنشاء مجلس الأمن الذي يفترض به أن يقوم بمهمة الحفاظ على الأمن والسلام في العالم من خلال الوسائل السلمية والإغاثية أو حتى العنف العسكري المقنن ضمن قوانين ونظم صارمة. طبعا، لم نبلغ الكمال بعد. ولا أدري إن كنا سنبلغه في يوم من الأيام. فما زالت العقبات كبيرة والثغرات واضحة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر مأساة الشعب الفلسطيني وانكسار ميزان العدل عند حدودها. كما أن مجلس الأمن ما زال معطلاً باحتكار الدول العظمى الخمس، النووية الكبرى والأقوى، حقَّ النقض. ومن الواضح أن هذا المجلس لن يصل لهدفه الذي أنشئ من أجله إلا إذا سقط حق النقض الظالم هذا. لكن كل ما ذكرت كان خطوات إيجابية نحو الأمام، نحو مجتمعات بشرية أكثر عدلا ً وأمنا ً وأمانا ً واستقرارا ً. العدل عماد السلام وأسّه، سواء كان ذلك على صعيد الأسرة أم القرية أم المدينة أم الدولة أم الأمم المتحدة وأجهزتها! إلا أن كل ما ذكرت لا يتنافى أبداً مع كون الدول تحركها مصالحها، وكونها مستعدة للتدمير والقتل والتشريد من أجل تحقيق هذه المصالح (ولهذا السبب بالذات أوجِدت هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن). طبيعي أن يكون للدول مشاريعها على الصعيد الإقليمي والعالمي. تركيا لها مصالحها وهي تدافع عنها. إيران لها مصالحها وهي تدافع عنها. إسرائيل لها مصالحها وهي تدافع عنها. والسعودية وقطر كذلك! كل هذه الدول أجرمت في حق الشعب السوري وأنا أوجه إليها أصابع الإتهام. كما أوجه أصابع الاتهام أيضا ً للقوى العالمية العملاقة التي وجدت في الأرض السورية ضالتها المنشودة لتصفية الحسابات وحلحلة العقد الصعبة. لقد ساهمت كل هذه الدول، بشكل أو بآخر، في ولادة داعش وكل الديناصورات الإسلاموية اللاحمة التي تقتل وتشرد السوريين تحت صيحات التكبير الإيمانية المقدسة (المقدس مرة أخرى!). لقد وضعتُ هذا المتهم، أي الدول الإقليمية والعالمية، في المرتبة الخامسة لأني مقتنع تماماً أنه وعلى الرغم من أهميته البالغة ما كان له أن ينجح بفعل ما فعل لولا ضعف المناعة المجتمعية الذاتية لمجتمعنا السوري ومجتمعاتنا العربية الإسلامية بشكل عام.

تـُرى هل أغفلتُ أحداً؟ هل كان ترتيبي للمتهمين وفقاً لأهمية الجرم المرتكب عادلاً؟ ربما. لكني أحب أن أؤكد هنا أنني من خلال توجيهي أصابع الاتهام على طريقة إميل زولا(8) إنما قصدت التأكيد على أن وراء المجزرة السورية مجرمين عتاة لا بد لنا من تحديد هويتهم كي نعرف كيف نتعامل معهم. لا بد لنا من أن نعرف أن المتهم الأهم الأول والأشرس في كل ما حصل هو نحن أنفسنا. نحن الذين لم نرقَ بعد إلى مستوى الوطن الذي نبكي عليه صبح مساء، والذي نراه جاثياً، مرتبكاً، خائفا،ً بانتظار سكين الجلاد...
هناك حاجة ماسة اليوم لوعي وطني حقيقي. لإقصاء الإسلام السياسي من ساحة العمل العام. علّنا نكون بذلك قد بدأنا درب الخلاص...
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (9)...
فلنغيِّر ما بأنفسنا كي نكون جديرين بمحبة وخلاص أمِّنا جميعاً: سوريا.
=====
1- هشام شرابي. النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي. ترجمة محمود شريتح. منشورات دار نيلسون. ص.23. نشر بالإنكليزية في العام 1988. طبع في بيروت للمرة الرابعة في العام 2000
2- هشام شرابي. نفس المرجع السابق. الجدول في الصفحة 52 ، بتصرف.
3- علي زيعور. التحليل النفسي للذات العربية: أنماطها السلوكية والأسطورية. بيروت: دار الطليعة، 1977.
4- القرآن الكريم. سورة الشورى 38
5- القرآن الكريم. سورة يس 82
6- العقد الفريد لابن عبد ربه. الجزء الثالث. وقد ورد هذا الأمر في العديد من كتب التاريخ المعروفة.
7- في دول العالم الأول على الأقل...
8- تيمناً بإميل زولا الكاتب الفرنسي المعروف الذي كتب مقالته - رسالته الشهيرة " أنا أتهم " في 13 كانون الثاني للعام 1898على صفحات جريدة "أورور" الباريسية ووجهها إلى قيادات الجيش والمجتمع الفرنسي دفاعاً عن قضية النقيب دريفوس العادلة غير آبه بتبعات ذلك على نفسه ومستقبله المهني، وربما على حياته نفسها. لم يعارض زولا قيادات الجيش فقط من خلال رسالته هذه، بل عارض الرأي العام الفرنسي السائد في تلك الأيام.
9- القرآن الكريم. سورة الرعد 11



#نزار_حمود (هاشتاغ)       Nezar_Hammoud#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هكذا تكلم فيكتور هيجو ... (في الشأن السوري)
- إنهم يقتلون الشارلي !
- رسالة مفتوحة إلى العالم الإسلامي
- لماذا يخافون منا ؟ البتروإسلاموفوبيا !
- محاكمة السلاح !
- في رثاء أنسي الحاج ...
- رسالة إلى أخي الثائر السوري ... 5
- رسالة إلى أخي الثائر السوري ... 4
- رسالة إلى أخي الثائر السوري ... 3 - الجزء الثاني
- رسالة إلى أخي الثائر السوري ... 3 - الجزء الأول
- رسالة إلى أخي الثائر السوري ... 2
- رسالة إلى أخي الثائر السوري ...
- أن جنيف أو أن لا جنيف. هل هذا هو السؤال ؟
- الأقلية والأكثريات
- أما زال النصر ممكنا ً ؟
- سوريا بين مطرقة الظلم وسندان الظلام
- القبيلة ...
- الطائفية بين العَرَض ِ والمرض !
- صديقي الذكي !
- الضرب والتقسيم على الوتر السوري


المزيد.....




- جملة قالها أبو عبيدة متحدث القسام تشعل تفاعلا والجيش الإسرائ ...
- الإمارات.. صور فضائية من فيضانات دبي وأبوظبي قبل وبعد
- وحدة SLIM القمرية تخرج من وضعية السكون
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /25.04.2024/ ...
- غالانت: إسرائيل تنفذ -عملية هجومية- على جنوب لبنان
- رئيس وزراء إسبانيا يدرس -الاستقالة- بعد التحقيق مع زوجته
- أكسيوس: قطر سلمت تسجيل الأسير غولدبيرغ لواشنطن قبل بثه
- شهيد برصاص الاحتلال في رام الله واقتحامات بنابلس وقلقيلية
- ما هو -الدوكسنغ-؟ وكيف تحمي نفسك من مخاطره؟
- بلومبرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث وجهة النظر الأوكرانية لإنها ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نزار حمود - أنا أتهم