أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد مضيه - سماء وسبعة بحور -2من3















المزيد.....



سماء وسبعة بحور -2من3


سعيد مضيه

الحوار المتمدن-العدد: 7074 - 2021 / 11 / 11 - 14:44
المحور: الادب والفن
    


...حصار مششد بانتظار العدوان التالي

وفي غزة كانون أول 2008 كان البحرالسابع، ليس البحر الجوار، إنما بحر الدم، اخمدت الصواريخ الهمجية ضكات الأطفال. يطرق المجزرة عبر آليات أدبية .. التخييل وتأثيث النموذج بجوهر إنساني يجلب التعاطف، يسمو بالنص الأدبي فوق التقرير الإعلامي.
مالك هو الأخ الأكبرلعصام ، الطفل الموهوب، ابن السنوات التسع.... يهاتف مسئول تصاريح الخروج: " الأمور هنا صعبة للغاية ، ,يقولون قد تحدث الحرب في أي وقت ، كما تعلم وصلته دعوة لإقامة معرض ّفني في تونس. نتمنى عليك مساعدتنا للخروج الى هناك في أقرب فرصة ." هنا يتخيل الفنان نموذجا يشحنه بصفات وملامح كثيرا ما يؤثث بها صبي او شاب نقول عنه واعد. وربما تكون قصة الصبي عصام حقيقة وواقعية. يسوق الأديب الواقعي ممكن الحدوث في الواقع.
مدرّسة الرسم أهدت عصام في نهاية السنة المدرسية أربعة دفاتر رسم كبيرة وعلبتي ألوان زيتية وعلبة ألوان مائية وعلبة ألوان زجاج وثماني فرش تلوين... يومها لم ينم عصام ليلتين متواصلتين وهويجرب الألوان التي استخدمها للمرة ألأولى ، وبعد أسبوعين كان قد ملأ الدفاتر الأربعة وبدأ تجربة الرسم على الزجاج والخزف.... لامه أخوه.
قدمت المدرّسة عصام الى وفد من الفنانين التشكيليين؛ لم يقتنعوا انها من أعمال الصغير... طلب احدهم من عصام ان يرسم أمامه ففعل. وقف الرجل رافعا حاجبيه حتى تقوسا، بعدها كان كل منهم يزوره في منزله. ... في احد الأيام دُق باب بيتهم بقوة ليجدوا مسلحا أمام البيت ، طلب من عصام أن يأتي ليرسم على الجدران شعارات وتصاميم. رفضت ألآم بحسم وقالت:إنه لن يرسم مرة أخرى."
في أحد الأيام دق باب البيت رجل عجوز ، فتحت الأم لتجد رجلا ستينيا يرتدي قبعة صوفية رمادية تخبئ شعره الأبيض الطويل: اليس هنا الولد الصغير الذي يرسم ؟
ردت الأم بحدة : لم يعد يرسم. وهمت بإغلاق الباب قبل ان يوقفها : انتظري يا ابنتي ، لا أريد منكم شيئا . أنا أقدم فنان هنا ، شاهدت أعمال ابنك ، هذا كنز حقيقي ، أريد الحديث معه لمرة واحدة ولن اثقل عليكم.... جلس الرجل مع عصام ، قلب أعماله... قال الرجل لعصام : أغمض عينيك ، وتخيل كيف تحب أن تعيش، تحب ان تحيا . اصنع الجنة التي تفضل بالشكل الذي تريده مع من تحبهم. زوده بسكين رسم لوّن بها امامه بعض التصاميم ليرى آلية الرسم بها ، ثم ودعه." سأمرغدا لأشاهد اللوحة.
في اليوم التالي، وقبل ان يقرع جرس البيت ، وجد اللوحة معلقة بجوار النافذة، لون برتقالي مشع ينعكس على بحر بأربع درجات من الزرقة ، وعلى الشاطئ الرملي بيتهم ذاته ووجه مالك.." هنا أفضل مكان في الدنا تخيله عصام!..
حدث العدوان، وتقاطر الأهالي يحتمون بمدرسة الأنروا..تهدر الطائرات مجددا ويعلو نحيب الصغار ودعوات الكهول والنساء. يتأخر عصام ، وتسأل الأم ويعود مالك ليجد أخاه يلملم الأوراق والألوان. قال : أخشى ان يهدم البيت !
يهز الصوت بدن عصام ويجعله يرتجف، يمسك راسه بساعديه ويضغط على أذنيه...
يريح رجل ظهره الى الحائط ويضع سلاحه الى جانبه، تنظر الأم الى وجهه الدائري ولحيته غير المكتملة، تهم نحوه:
أنا أعرفك،ألست من جئت طالبا لرسم ابني على الجدران؟ ماذا تفعل هنا الى جانبنا؟ هيا قم من هنا، قم من هنا! يهم بالصراخ فيتدخل رجال كبار ، ويغادر...
عصام يود تخفيف رعب الأطفال ، إلهائهم عن واقع الرعب وهدير الطائرات وقرقعه الانفجارات.
يسحب عصام علبة الألوان ويطلب من أخيه ان يغمض عينيه، يلون وجنتيه وصدغيه وجبينه فيصبح أسدا، يلتهي طفل عن صوت قذيفة بما راى ويضحك، يهرول آخرون نحو عصام...
يتحلق أطفال الملجأ حول عصام تهدر الطائرات والقذائف، يعضّ شفته السفلي ، يتسع بؤبؤ عينيه ، يصنع غزالا وببغاء وقطة وجروا وأرنبا وحصانا وبطريقا. يضحكون ويمرحون، ، تنتقل عدوى الفرح لذويهم ، ينادي كهل عصاما ، يطلب منه رسم حمامة، يخجل فيلح... يتناول اللون الأبيض وبعض الأرجواني، يبدأ الرسم على منخاره الكبير وجبينه الغائر. تهدر طائرة، صوتها أعلى من سابقاتها ، تسقط كورا من لهب ، تصم الآذان ويعلو الغبار ورائحة البارود وتضيق الصدور وتختنق الأنفس.. ركام فوق ركام وأطلال جدران المدرسة وعلم الأنروا الأزرق يطبقون فوق الرقاب. ويغرق اللون الأحمر كل الألوان..
.ينهض مالك ممسكا بساقه التي تهتز دونه، يجول ببصره صائحا : عصاااام...
تنادي امه من أسفل نصف جدار خرجت منه أسياخ معدنية: ماأألك اين أخوك؟!
ينظر حيث اللون الأحمر، يقترب ، يجد عصام ، يشده اليه ، لا ينطق، يشير بسبابته ، يغطي الأحمر الغزال والحصان والحمامة..
رنين هاتف مالك.. مكالمة: رتبنا كل الأمور وستخرجون في أقرب فرصة.. ويرد مالك : لن نخرج ***.
من القتل الجماعي بآلات الموت الى القتل البطيء .. مشاهدات الروائي شواهد على تبييت نوايا مضمرة منذ ما قبل الاحتلال في حزيران 1967. لا يحتاج الروائي الى التخييل؛ فالاحتلال ومستوطنوه كسروا الحدود، واختلط الواقع بالخيال! يتفتق الخيال الإجرامي حين يتفلت الفعل من قوانين البشر .. جريمة حرق محمد ابو خضير بالقدس تظهر كم يشتط الخيال الإجرامي .. ليس فقط لدى القتلة ؛ إنما بين عناصر حفظ وتنفيذ القانون ، محققين وقضاة وامن. فلدى محاولة المرور ببيت أسرة المغدور ، محمد ابو خضير في شعفاط الضاحية الشمالية للقدس، لاحظت سلمى البيت محاصرا، الأسرة الثكلى تخضع للحصار بين الفينة والأخرى . عدلت سلمى عن الزيارة: " كل فترة يحصل هذا لأمر، تعلق العائلة ملصقا كبيرا لمحمد فتأتي الشرطة لمنعهم وتحدث مناوشات مع العائلة والجيران".
محمد أبو خضير فتى كان في السادسة عشرة من العمر حين قبض عليه المستوطنون وهو متوجه فجرا الى الأقصى . هجم عليه مستوطنون ضباع، واقتادوه الى حرش قريب . هناك بدأوا يتقاذفونه بالركل والضرب والصفع ، ثم رشوا عليه مادة مشتعلة ؛ همّ أحدهم إشعال النيران، نهره آخر، في جعبته المزيد من التعذيب! سكب في جوف محمد المادة المشتعلة وأضرم النار." كانت النار تنهش لحمه وأحشاءه، أذاب اللهب حبال حنجرته فلم يقو حتى على الصراخ، كان الجسد يستدير وينثني والضباع تضحك بهيستيريا وهي ترقص وتستنشق رائحة شواء ابن المدينة..!!". القانون تفرغ من الكتاب وتتأمل، تجد انها رواية مكتملة الأركان،مثل رواية الراحل مريد البرغوثي "كنت في رام الله" . رواية الناجي بتنطوي على قصة حياته متضافرة مع محنة شعبه في ليل احتلال إرهابي مغرم بالقتل الهمجي والعقوبات الجماعية.. زخات لا تنتهي من العقوبات الجماعية والمضايقات تستهدف التطفيش والترحيل.
***
الى مخيم جنين والخليل وبيت لحم والقدس ويافا أخذته رحلة التقصي، حسبما سمحت له محدودية الفترة المتاحة. انهمك في ورشة للتعرف على الكتب الصادرة حديثا ، بعضها لسجناء. علم أن عالم بالسجن تنتَج الثقافة ويحصل التعلم والإبداع..." رن هاتفي مجددا ، أجبت فجاء، صوت حماتي لتبلغ ان الذين يحملون ذات تصريحي يستطيعون المرور الى القدس عبر قلنديا....
" كل نصف ساعة قرار او قانون بغرض المناوشة لا التسهيل ، محاولة إثبات انهم من يحكمون كل شيء...يستطيعون ، كما صرح ضابط كبير " منع العمل والكهرباء والماء وحظر استيراد ونقل السلع الاستهلاكية ...!
وقفْتُ في الشارع انتظر سيارة أجرة، اتصلت زوجتي : اين انت؟ - ذاهب الى القدس.
صاحت: أين؟!
"ألقدس انتظر سيارة أجرة وسأتوجه الى قلنديا..
"ما الذي تقوله؟! هل تظنها نزهة؟!!
"علمت ان بإمكاني الدخول اليوم بالتصريح الذي احمله..
"لا بد أن يصطحبك أحد، لن تعلم كيفية الدخول والخروج، هل تعلم أنك إن دخلت بممر خاطئ فأسهل شيء بالنسبة لهم هو إطلاق النار، أسهل من إيقاد شمعة...عد وسنتناقش..
" لن أضيع الفرصة!"
وترتب الزوجة مع سلمى المقدسية، صديقة مشتركة ايام الدراسة الجامعية بالقاهرة ؛ في سيارة الى قلنديا اتصلت سلمى وطلبت منه تسليم الهاتف الى السائق، أفهمته مكان المقهى الذي ستوافيه به، كي تكون دليلته في معبر قلنديا وبالمدينة. شكك السائق في هدف المقابلة وراح يسأل بخبث...
"كنت احتسي القهوة عندما دوى صوتها بالمقهى كماعادتها التي لم تتغير منذ الجامعة." رتبت معه الأمر ، واجتازا بسلام معبر قلنديا الى القدس. في الحافلة من قلنديا "نظرْتُ عبر النافذة غير مدرك إن كان ما يحدث حقيقيا أم سرابا وهلوسة. عدت اتفحص الركاب: كهل يحمل أكياسا، سيدة تحتضن رضيعها ولا تقطع نظرها عنه، فتيات يحملن حقائب وأوراقا ، شباب يقلبون هواتفهم، سالت: جميعهم فلسطينيون ، اليس كذلك؟- نعم جميعهم عرب".
تجوال في شارع صلاح الدين، أطل على "سور القدس المحتضن كيلومترا مربعا شكلت أساس الحياة وأسس الصراع منذ فجر الميلاد على هذه البسيطة..". أطل على باب الساهرة وباب العمود. عبر باب العمود ... نظر الى بائع كعك قدسي قبل باب الحرم، يضحك ، ابادله البسمة ، أدقق لا يضحك لي.. بل يكشف زيف رواية مرشد سياحي مع زبائنه يسهب في الخوض في التاريخ" .
بائع الكعك يقهقه، اساله : أأخطأ في التاريخ؟! -الكل يخطئ في سرد التاريخ!
نصل باب الحرم ، تهمس سلمى: ثمة جندي ، تذكّر ، حدِقْ في عينيه!!! بعيني شاهين جارح تخرج سلمى هويتها... درس وعاه كل من واجه المحتلين الصهاينة.
في نيقوسيا تلقى مشورة التحديق بالعيون. بعد انتهاء "محاججة دخل فيها زياد مع شاب بريطاني بارد تبنى ترهات بلفور".. يمسكه أبو قيس من ساعده ويكز بأسنانه :" لقد أخطأت، قلت لك منذ البداية سيهزمك إن هربت عيناك من ملاقاة عينيه. كنت أفضل منه، لكن كذبه وتّرك؛ ظن الجمع ان توترك نتاج ضعف ؛ لقد كسب الحضور بكذبه وتوترك". مشورة وتحذير من ناجي الناجي ، يسوق قلقه وتوتره في جميع المواقف أثناء رحلة التقصي ولدى المواجهات وعرض البرامج الإذاعية.
يدخل الراوي حكاية في حكاية مثل قصص كليلة ودمنة. "أبو قيس"(عماد)، مناضل قضى خمسة وعشرين عاما في السجون الإسرائيلية، مثّل المساجين لدى إدارات السجون وأدرك ضرورة التحدي لدى المواجهة والتحديق بعين الضابط أحد أشكال التحدي! قاد إضرابات ناجحة .. خرج في صفقة تبادل، ليعقبه في الزنزانة نفسها ابنه قيس محكوما لمدة خمس عشرة سنة إثر عراك مع مستوطن. صدر قرار بإبعاد أبي قيس خارج الوطن؛ و"بقيت زوجته وحدها تحرس البيت وتقف في طوابير زيارة الأسرى التي احترفتها أربعين عاما لحبيب ثم ولد".
تستمر الجولة نصل قبر يسوع... تقف الجموع خاشعة... يأتي دورنا .. أسلم وأنأجي ... من صلبوك صلبونا... كل يوم مذبح فاخر... وكل يوم صلب جديد... حملناه على ظهورنا وسرنا درب آلامك..
نعود أدراجنا الى باب العامود..
تشير بسبابتها الى كهل بعقال وكوفية يسير ببظء محملا بأكياس تثقل حركته. "توجهنا نحوه، أوقفته سلمى. عرفته بنفسها. طلبت منه أن يحدّث زميلها عن أحواله".. واصل المسير! " هذا الذي امامك يدفع ضرائب أكثر من مواطن سويسري، يدفع ست ضرائب ، على مأكله ومشربه، يدفع عن دكانه الذي لا يتعدى ثلاثة امتار، أكثر من متجر في الشانزليه. أتعرف أين يذهب ما يدفعه؟ يذهب لتقديم الخدمات لمستوطن يختطف منزلا في القدس. إن اراد استصلاح مسمار في بيته عليه استصدار تصاريح أكثر من تلك التي تلزم لبناء بيت جديد في أي مكان بالعالم...
"هل تتصور كيف تعلم أبناؤه؟ كيف يعالج ؟ طبعا أنت تعلم أنه ليس مواطنا في أي مكان. الإسرائيليون لا يعتبرونه مواطنا فلسطينيا كي لا يضطروا للاعتراف للفلسطينيين موطئ قدم بالقدس. وليس إسرائيليا كي لا يحصل على حقوق موطنة. هو بالكاد مقيم بالقدس بلا أية جنسية .
"المعضلة ان وجوده هو قرار منه.. لو قرر غدا المغادرة لدفعوا له مائة ضعف ثمن بيته وحصل على فيزا لكندا أو أميركا في نصف ساعة....".
***
في الخليل زيارة لبيت الحاج أمين ، الرجل المجسّ اليومي للمدينة ، الذي سيقول لنا إن كان ثمة إغلاقات جديدة او اشتباكات. .. انطلاقة الى الحرم ، وفي الطريق لفت انتباه الراوي" نوافذ البيوت في تلك المنطقة هي مفتاح حيوات سكانها . اغلق المستوطنون الأبواب هناك وأقاموا منطقة خاصة لهم بحماية الجيش، فأصبح أفراد الأسرة بعد ارتداء ملابسهم يذهبون عبر النافذة الى اعمالهم ومدارسهم...
"هنا بين الأزقة والحارات، كنعانية الهوية مملوكية المعمار، حواجز صهيونية وطواقٍ تعتمر رؤوس مستعمرين جدد يتسلحون بطغاة جدد . كان علينا ان نمر على حاجز تلو حاجز ، ونحاذي قطعانا من مستوطنين تعاليمهم الأولى مسح اي آخر ، هنا البقاء مقاومة بل البقاء شهادة".
تعكر مزاج الجندي على الحاجز الأخير قبل الوصول الى الحرم الإبراهيمي، فمنع المرور ، وعاد الزائران أدراجهما وقصدا بيت ابي سائد. "طلبت الجلوس في فناء المنزل... سال المضيف: ماذا تريد ان تعرف؟
كيف تعيش هنا ؟ كيف تسير حياتك اليومية ؟ ماذا تتوقع غدا ؟
"دعك من الغد ، هذا أمر لا يستطيع أحد الإفتاء حوله... ولكن سأقول لك أمرا واحدا والباقي عندك: منذ عامين كان سائد ابني يبلغ من العمر ستتة أعوام، وكان يلهو أمام البيت ، ركض تسعة مستوطنين وأطلوا من هذا الحاجزوخطفوه... الأمر تحول الى معركة بين الجيش وبيننا ...كل اهالي المدينة وقفوا بوجه الجيش... وجدوا ان العقل الخليلي تنّح، بدأوا التفاوض في الأمر . عاد سائد لكنه حتى هذه اللحظة لم يعد!"
احضر سائد وحدثهم عن نوبة خطف ثانية: "ابقوني على كرسي معصوب العينين سبع ساعات، شتموني وكانوا كل وقت قليل يضربون رجل الكرسي فأسقط من عليه ، المستوطنون والجيش يحبون ان ابكي، لكنني لم أعد أبكي الآن لأنني كبرت".
"دخل ابو سائد الى بيته وجلب أوراقا ناولني إياها كانت مكتوبة بالعبرية والعربية . في إحداها عقد بيع موقع من الطرف الأول بقيمة عشرين مليون دينار أردني ؛ بينما خانة الطرف الثاني فارغة. ناولني أوراقا ممزقة . ‘هذا هو العقد الذي صورته قبل تمزيقه وإلقائه في وجوههم’ ".
سألت: ترى بعدما رآه سائد ، اتعتقد انه قد يوقع خانة الطرف الثاني عندما يكبر؟ تجهم واكفهر وجهه، شدني من يدي الى باب بيته، أغلق الباب ونحآ قميصه، انظر الى ظهري..
كان هناك ثلم لقطع طولي من أسفل رقبته حتى تهاية ظهره . حدق في عيني : لقد خطفت أنا أيضا في صغري.
***
وفي الطريق من رام الله الى بيت لحم "أشرت الى الثعبان الاسمنتي:
"هاهو، ليس مبالغة وصمه بالثعبان، يتلوى بين المدائن والقرى. سبعة وعشرون كيلومترا من جدار اسمنتي يصل ارتفاعه الى ثمانية أمتار في بعض المناطق، أي ضعف ارتفاع جدار برلين، وأسلاك شائكة في مناطق أخرى، أو كلاهما في بعضها ، إضافة الى خندق بعمق أربعة أمتار؛ ويحاذيه طريق عسكري للدوريات الصهيونية، وطريق ترابية مغطاة بالرمال لكشف الآثار وسياج كهربي وطريق معبد مزدوج لتسيير دوريات المراقبة وابراج مراقبة مزودة بكاميرات وأجهزة استشعار.
" أثّر الجدار بشكل مأساوي على حياة ثلاثة ملايين فلسطيني تقريبا يعيشون في الضفة الغربية المحتلة والقدس، حيث يفصل الجدار القرى عن امتدادها الطبيعي ويفصل الفلاح عن أرضه ويقطع طرق العلاج والتعليم ، حيث يضطر الأطفال للقفز فوق أبراج الاسمنت للوصول الى مدارسهم.".
ظهر طابور من السيارات الواقفة... "انتظرنا ثلاث ساعات كاملة ، كدت افقد اعصابي خلالها !!
"الا يمكن ان ننزل ونزيح هذه المسخرة ونعبر؟
"أنأ وأنت وحدنا سننال رصاصتين بالضبط، وبالمناسبة حدثت غير مرة...
سارت السيارة في شوارع سكنية .. "وصلنا الى شارع شديد الضيق، صففنا السيارة وسرنا على أقدامنا بمحاذاة الجدار الذي يحجب السماء بكتلته الصماء. وقف أشرف أمام بيت حجري صغير وطرق بابه الحديدي ليجيب صوت انثوي: من بالخارج؟ - أنا أشرف.
فتحت الباب سيدة عشرينية ببطن منتفخ. قال أشرف : اختنا نسرين زوجة صديقي رامز، كما ترى، أمام بيتهم مباشرة ؛ وفي مناوشة أثناء البناء بعد زفافهم بثلاثة شهور تطور الأمر بينه وبين اثنين من أفراد الجيش، اعتقلوه وقدموه للمحاكمة حكم على إثرها بثمانية أعوام."... وأكملت نسرين: " تم تقديم حزمة من الاتهامات والمحكمة هي الخصم والحكم.... كنت معلمة ، تركت العمل مؤقتا لعدم قدرتي على الالتفاف من خلف الجدار ، الطريق أصبح يأخذ أكثر من ساعتين سيرا على الأقدام ...أفكر ماذا سيفعل ابني غدا عندما يذهب الى المدرسة؛ حتما سيفعل مثل أيمن ، ابن الجيران ، الذي يسيرعلى قدميه نحو ستة كيلومترات للوصول الى مدرسته...إما ان نرحل، أو نبقى في البيت دون حراك أو عمل أو تعليم!!"
أكملأ رحلتهما الى كنيسة المهد في بيت لحم. عبرا داخل المغارة.. "أنا من هنا ، ويسوع من هنا ، يسوع الفلسطيني الذي تؤمون جميعكم بقعة ميلاده، مخلص خطاياكم.. أقبّل مسقط رأسه وأناجيه :
يا أيها الفادي، أي قوة تلك التي سلبت أبناء شعبك الحياة ، يا أيها الثائر ، أما من قيامة جديدة لهذا الزمن الرديء؟!!




ت برسسم التطفيش

وفي غزة كانون أول 2008 كان البحرالسابع، ليس البحر الجوار، إنما بحر الدم، اخمدت الصواريخ الهمجية ضكات الأطفال. يطرق المجزرة عبر آليات أدبية .. التخييل وتأثيث النموذج بجوهر إنساني يجلب التعاطف، يسمو بالنص الأدبي فوق التقرير الإعلامي.
مالك هو الأخ الأكبرلعصام ، الطفل الموهوب، ابن السنوات التسع.... يهاتف مسئول تصاريح الخروج: " الأمور هنا صعبة للغاية ، ,يقولون قد تحدث الحرب في أي وقت ، كما تعلم وصلته دعوة لإقامة معرض ّفني في تونس. نتمنى عليك مساعدتنا للخروج الى هناك في أقرب فرصة ." هنا يتخيل الفنان نموذجا يشحنه بصفات وملامح كثيرا ما يؤثث بها صبي او شاب نقول عنه واعد. وربما تكون قصة الصبي عصام حقيقة وواقعية. يسوق الأديب الواقعي ممكن الحدوث في الواقع.
مدرّسة الرسم أهدت عصام في نهاية السنة المدرسية أربعة دفاتر رسم كبيرة وعلبتي ألوان زيتية وعلبة ألوان مائية وعلبة ألوان زجاج وثماني فرش تلوين... يومها لم ينم عصام ليلتين متواصلتين وهويجرب الألوان التي استخدمها للمرة ألأولى ، وبعد أسبوعين كان قد ملأ الدفاتر الأربعة وبدأ تجربة الرسم على الزجاج والخزف.... لامه أخوه.
قدمت المدرّسة عصام الى وفد من الفنانين التشكيليين؛ لم يقتنعوا انها من أعمال الصغير... طلب احدهم من عصام ان يرسم أمامه ففعل. وقف الرجل رافعا حاجبيه حتى تقوسا، بعدها كان كل منهم يزوره في منزله. ... في احد الأيام دُق باب بيتهم بقوة ليجدوا مسلحا أمام البيت ، طلب من عصام أن يأتي ليرسم على الجدران شعارات وتصاميم. رفضت ألآم بحسم وقالت:إنه لن يرسم مرة أخرى."
في أحد الأيام دق باب البيت رجل عجوز ، فتحت الأم لتجد رجلا ستينيا يرتدي قبعة صوفية رمادية تخبئ شعره الأبيض الطويل: اليس هنا الولد الصغير الذي يرسم ؟
ردت الأم بحدة : لم يعد يرسم. وهمت بإغلاق الباب قبل ان يوقفها : انتظري يا ابنتي ، لا أريد منكم شيئا . أنا أقدم فنان هنا ، شاهدت أعمال ابنك ، هذا كنز حقيقي ، أريد الحديث معه لمرة واحدة ولن اثقل عليكم.... جلس الرجل مع عصام ، قلب أعماله... قال الرجل لعصام : أغمض عينيك ، وتخيل كيف تحب أن تعيش، تحب ان تحيا . اصنع الجنة التي تفضل بالشكل الذي تريده مع من تحبهم. زوده بسكين رسم لوّن بها امامه بعض التصاميم ليرى آلية الرسم بها ، ثم ودعه." سأمرغدا لأشاهد اللوحة.
في اليوم التالي، وقبل ان يقرع جرس البيت ، وجد اللوحة معلقة بجوار النافذة، لون برتقالي مشع ينعكس على بحر بأربع درجات من الزرقة ، وعلى الشاطئ الرملي بيتهم ذاته ووجه مالك.." هنا أفضل مكان في الدنا تخيله عصام!..
حدث العدوان، وتقاطر الأهالي يحتمون بمدرسة الأنروا..تهدر الطائرات مجددا ويعلو نحيب الصغار ودعوات الكهول والنساء. يتأخر عصام ، وتسأل الأم ويعود مالك ليجد أخاه يلملم الأوراق والألوان. قال : أخشى ان يهدم البيت !
يهز الصوت بدن عصام ويجعله يرتجف، يمسك راسه بساعديه ويضغط على أذنيه...
يريح رجل ظهره الى الحائط ويضع سلاحه الى جانبه، تنظر الأم الى وجهه الدائري ولحيته غير المكتملة، تهم نحوه:
أنا أعرفك،ألست من جئت طالبا لرسم ابني على الجدران؟ ماذا تفعل هنا الى جانبنا؟ هيا قم من هنا، قم من هنا! يهم بالصراخ فيتدخل رجال كبار ، ويغادر...
عصام يود تخفيف رعب الأطفال ، إلهائهم عن واقع الرعب وهدير الطائرات وقرقعه الانفجارات.
يسحب عصام علبة الألوان ويطلب من أخيه ان يغمض عينيه، يلون وجنتيه وصدغيه وجبينه فيصبح أسدا، يلتهي طفل عن صوت قذيفة بما راى ويضحك، يهرول آخرون نحو عصام...
يتحلق أطفال الملجأ حول عصام تهدر الطائرات والقذائف، يعضّ شفته السفلي ، يتسع بؤبؤ عينيه ، يصنع غزالا وببغاء وقطة وجروا وأرنبا وحصانا وبطريقا. يضحكون ويمرحون، ، تنتقل عدوى الفرح لذويهم ، ينادي كهل عصاما ، يطلب منه رسم حمامة، يخجل فيلح... يتناول اللون الأبيض وبعض الأرجواني، يبدأ الرسم على منخاره الكبير وجبينه الغائر. تهدر طائرة، صوتها أعلى من سابقاتها ، تسقط كورا من لهب ، تصم الآذان ويعلو الغبار ورائحة البارود وتضيق الصدور وتختنق الأنفس.. ركام فوق ركام وأطلال جدران المدرسة وعلم الأنروا الأزرق يطبقون فوق الرقاب. ويغرق اللون الأحمر كل الألوان..
.ينهض مالك ممسكا بساقه التي تهتز دونه، يجول ببصره صائحا : عصاااام...
تنادي امه من أسفل نصف جدار خرجت منه أسياخ معدنية: ماأألك اين أخوك؟!
ينظر حيث اللون الأحمر، يقترب ، يجد عصام ، يشده اليه ، لا ينطق، يشير بسبابته ، يغطي الأحمر الغزال والحصان والحمامة..
رنين هاتف مالك.. مكالمة: رتبنا كل الأمور وستخرجون في أقرب فرصة.. ويرد مالك : لن نخرج ***.
من القتل الجماعي بآلات الموت الى القتل البطيء .. مشاهدات الروائي شواهد على تبييت نوايا مضمرة منذ ما قبل الاحتلال في حزيران 1967. لا يحتاج الروائي الى التخييل؛ فالاحتلال ومستوطنوه كسروا الحدود، واختلط الواقع بالخيال! يتفتق الخيال الإجرامي حين يتفلت الفعل من قوانين البشر .. جريمة حرق محمد ابو خضير بالقدس تظهر كم يشتط الخيال الإجرامي .. ليس فقط لدى القتلة ؛ إنما بين عناصر حفظ وتنفيذ القانون ، محققين وقضاة وامن. فلدى محاولة المرور ببيت أسرة المغدور ، محمد ابو خضير في شعفاط الضاحية الشمالية للقدس، لاحظت سلمى البيت محاصرا، الأسرة الثكلى تخضع للحصار بين الفينة والأخرى . عدلت سلمى عن الزيارة: " كل فترة يحصل هذا لأمر، تعلق العائلة ملصقا كبيرا لمحمد فتأتي الشرطة لمنعهم وتحدث مناوشات مع العائلة والجيران".
محمد أبو خضير فتى كان في السادسة عشرة من العمر حين قبض عليه المستوطنون وهو متوجه فجرا الى الأقصى . هجم عليه مستوطنون ضباع، واقتادوه الى حرش قريب . هناك بدأوا يتقاذفونه بالركل والضرب والصفع ، ثم رشوا عليه مادة مشتعلة ؛ همّ أحدهم إشعال النيران، نهره آخر، في جعبته المزيد من التعذيب! سكب في جوف محمد المادة المشتعلة وأضرم النار." كانت النار تنهش لحمه وأحشاءه، أذاب اللهب حبال حنجرته فلم يقو حتى على الصراخ، كان الجسد يستدير وينثني والضباع تضحك بهيستيريا وهي ترقص وتستنشق رائحة شواء ابن المدينة..!!". القانون تفرغ من الكتاب وتتأمل، تجد انها رواية مكتملة الأركان،مثل رواية الراحل مريد البرغوثي "كنت في رام الله" . رواية الناجي بتنطوي على قصة حياته متضافرة مع محنة شعبه في ليل احتلال إرهابي مغرم بالقتل الهمجي والعقوبات الجماعية.. زخات لا تنتهي من العقوبات الجماعية والمضايقات تستهدف التطفيش والترحيل.
***
الى مخيم جنين والخليل وبيت لحم والقدس ويافا أخذته رحلة التقصي، حسبما سمحت له محدودية الفترة المتاحة. انهمك في ورشة للتعرف على الكتب الصادرة حديثا ، بعضها لسجناء. علم أن عالم بالسجن تنتَج الثقافة ويحصل التعلم والإبداع..." رن هاتفي مجددا ، أجبت فجاء، صوت حماتي لتبلغ ان الذين يحملون ذات تصريحي يستطيعون المرور الى القدس عبر قلنديا....
" كل نصف ساعة قرار او قانون بغرض المناوشة لا التسهيل ، محاولة إثبات انهم من يحكمون كل شيء...يستطيعون ، كما صرح ضابط كبير " منع العمل والكهرباء والماء وحظر استيراد ونقل السلع الاستهلاكية ...!
وقفْتُ في الشارع انتظر سيارة أجرة، اتصلت زوجتي : اين انت؟ - ذاهب الى القدس.
صاحت: أين؟!
"ألقدس انتظر سيارة أجرة وسأتوجه الى قلنديا..
"ما الذي تقوله؟! هل تظنها نزهة؟!!
"علمت ان بإمكاني الدخول اليوم بالتصريح الذي احمله..
"لا بد أن يصطحبك أحد، لن تعلم كيفية الدخول والخروج، هل تعلم أنك إن دخلت بممر خاطئ فأسهل شيء بالنسبة لهم هو إطلاق النار، أسهل من إيقاد شمعة...عد وسنتناقش..
" لن أضيع الفرصة!"
وترتب الزوجة مع سلمى المقدسية، صديقة مشتركة ايام الدراسة الجامعية بالقاهرة ؛ في سيارة الى قلنديا اتصلت سلمى وطلبت منه تسليم الهاتف الى السائق، أفهمته مكان المقهى الذي ستوافيه به، كي تكون دليلته في معبر قلنديا وبالمدينة. شكك السائق في هدف المقابلة وراح يسأل بخبث...
"كنت احتسي القهوة عندما دوى صوتها بالمقهى كماعادتها التي لم تتغير منذ الجامعة." رتبت معه الأمر ، واجتازا بسلام معبر قلنديا الى القدس. في الحافلة من قلنديا "نظرْتُ عبر النافذة غير مدرك إن كان ما يحدث حقيقيا أم سرابا وهلوسة. عدت اتفحص الركاب: كهل يحمل أكياسا، سيدة تحتضن رضيعها ولا تقطع نظرها عنه، فتيات يحملن حقائب وأوراقا ، شباب يقلبون هواتفهم، سالت: جميعهم فلسطينيون ، اليس كذلك؟- نعم جميعهم عرب".
تجوال في شارع صلاح الدين، أطل على "سور القدس المحتضن كيلومترا مربعا شكلت أساس الحياة وأسس الصراع منذ فجر الميلاد على هذه البسيطة..". أطل على باب الساهرة وباب العمود. عبر باب العمود ... نظر الى بائع كعك قدسي قبل باب الحرم، يضحك ، ابادله البسمة ، أدقق لا يضحك لي.. بل يكشف زيف رواية مرشد سياحي مع زبائنه يسهب في الخوض في التاريخ" .
بائع الكعك يقهقه، اساله : أأخطأ في التاريخ؟! -الكل يخطئ في سرد التاريخ!
نصل باب الحرم ، تهمس سلمى: ثمة جندي ، تذكّر ، حدِقْ في عينيه!!! بعيني شاهين جارح تخرج سلمى هويتها... درس وعاه كل من واجه المحتلين الصهاينة.
في نيقوسيا تلقى مشورة التحديق بالعيون. بعد انتهاء "محاججة دخل فيها زياد مع شاب بريطاني بارد تبنى ترهات بلفور".. يمسكه أبو قيس من ساعده ويكز بأسنانه :" لقد أخطأت، قلت لك منذ البداية سيهزمك إن هربت عيناك من ملاقاة عينيه. كنت أفضل منه، لكن كذبه وتّرك؛ ظن الجمع ان توترك نتاج ضعف ؛ لقد كسب الحضور بكذبه وتوترك". مشورة وتحذير من ناجي الناجي ، يسوق قلقه وتوتره في جميع المواقف أثناء رحلة التقصي ولدى المواجهات وعرض البرامج الإذاعية.
يدخل الراوي حكاية في حكاية مثل قصص كليلة ودمنة. "أبو قيس"(عماد)، مناضل قضى خمسة وعشرين عاما في السجون الإسرائيلية، مثّل المساجين لدى إدارات السجون وأدرك ضرورة التحدي لدى المواجهة والتحديق بعين الضابط أحد أشكال التحدي! قاد إضرابات ناجحة .. خرج في صفقة تبادل، ليعقبه في الزنزانة نفسها ابنه قيس محكوما لمدة خمس عشرة سنة إثر عراك مع مستوطن. صدر قرار بإبعاد أبي قيس خارج الوطن؛ و"بقيت زوجته وحدها تحرس البيت وتقف في طوابير زيارة الأسرى التي احترفتها أربعين عاما لحبيب ثم ولد".
تستمر الجولة نصل قبر يسوع... تقف الجموع خاشعة... يأتي دورنا .. أسلم وأنأجي ... من صلبوك صلبونا... كل يوم مذبح فاخر... وكل يوم صلب جديد... حملناه على ظهورنا وسرنا درب آلامك..
نعود أدراجنا الى باب العامود..
تشير بسبابتها الى كهل بعقال وكوفية يسير ببظء محملا بأكياس تثقل حركته. "توجهنا نحوه، أوقفته سلمى. عرفته بنفسها. طلبت منه أن يحدّث زميلها عن أحواله".. واصل المسير! " هذا الذي امامك يدفع ضرائب أكثر من مواطن سويسري، يدفع ست ضرائب ، على مأكله ومشربه، يدفع عن دكانه الذي لا يتعدى ثلاثة امتار، أكثر من متجر في الشانزليه. أتعرف أين يذهب ما يدفعه؟ يذهب لتقديم الخدمات لمستوطن يختطف منزلا في القدس. إن اراد استصلاح مسمار في بيته عليه استصدار تصاريح أكثر من تلك التي تلزم لبناء بيت جديد في أي مكان بالعالم...
"هل تتصور كيف تعلم أبناؤه؟ كيف يعالج ؟ طبعا أنت تعلم أنه ليس مواطنا في أي مكان. الإسرائيليون لا يعتبرونه مواطنا فلسطينيا كي لا يضطروا للاعتراف للفلسطينيين موطئ قدم بالقدس. وليس إسرائيليا كي لا يحصل على حقوق موطنة. هو بالكاد مقيم بالقدس بلا أية جنسية .
"المعضلة ان وجوده هو قرار منه.. لو قرر غدا المغادرة لدفعوا له مائة ضعف ثمن بيته وحصل على فيزا لكندا أو أميركا في نصف ساعة....".
***
في الخليل زيارة لبيت الحاج أمين ، الرجل المجسّ اليومي للمدينة ، الذي سيقول لنا إن كان ثمة إغلاقات جديدة او اشتباكات. .. انطلاقة الى الحرم ، وفي الطريق لفت انتباه الراوي" نوافذ البيوت في تلك المنطقة هي مفتاح حيوات سكانها . اغلق المستوطنون الأبواب هناك وأقاموا منطقة خاصة لهم بحماية الجيش، فأصبح أفراد الأسرة بعد ارتداء ملابسهم يذهبون عبر النافذة الى اعمالهم ومدارسهم...
"هنا بين الأزقة والحارات، كنعانية الهوية مملوكية المعمار، حواجز صهيونية وطواقٍ تعتمر رؤوس مستعمرين جدد يتسلحون بطغاة جدد . كان علينا ان نمر على حاجز تلو حاجز ، ونحاذي قطعانا من مستوطنين تعاليمهم الأولى مسح اي آخر ، هنا البقاء مقاومة بل البقاء شهادة".
تعكر مزاج الجندي على الحاجز الأخير قبل الوصول الى الحرم الإبراهيمي، فمنع المرور ، وعاد الزائران أدراجهما وقصدا بيت ابي سائد. "طلبت الجلوس في فناء المنزل... سال المضيف: ماذا تريد ان تعرف؟
كيف تعيش هنا ؟ كيف تسير حياتك اليومية ؟ ماذا تتوقع غدا ؟
"دعك من الغد ، هذا أمر لا يستطيع أحد الإفتاء حوله... ولكن سأقول لك أمرا واحدا والباقي عندك: منذ عامين كان سائد ابني يبلغ من العمر ستتة أعوام، وكان يلهو أمام البيت ، ركض تسعة مستوطنين وأطلوا من هذا الحاجزوخطفوه... الأمر تحول الى معركة بين الجيش وبيننا ...كل اهالي المدينة وقفوا بوجه الجيش... وجدوا ان العقل الخليلي تنّح، بدأوا التفاوض في الأمر . عاد سائد لكنه حتى هذه اللحظة لم يعد!"
احضر سائد وحدثهم عن نوبة خطف ثانية: "ابقوني على كرسي معصوب العينين سبع ساعات، شتموني وكانوا كل وقت قليل يضربون رجل الكرسي فأسقط من عليه ، المستوطنون والجيش يحبون ان ابكي، لكنني لم أعد أبكي الآن لأنني كبرت".
"دخل ابو سائد الى بيته وجلب أوراقا ناولني إياها كانت مكتوبة بالعبرية والعربية . في إحداها عقد بيع موقع من الطرف الأول بقيمة عشرين مليون دينار أردني ؛ بينما خانة الطرف الثاني فارغة. ناولني أوراقا ممزقة . ‘هذا هو العقد الذي صورته قبل تمزيقه وإلقائه في وجوههم’ ".
سألت: ترى بعدما رآه سائد ، اتعتقد انه قد يوقع خانة الطرف الثاني عندما يكبر؟ تجهم واكفهر وجهه، شدني من يدي الى باب بيته، أغلق الباب ونحآ قميصه، انظر الى ظهري..
كان هناك ثلم لقطع طولي من أسفل رقبته حتى تهاية ظهره . حدق في عيني : لقد خطفت أنا أيضا في صغري.
***
وفي الطريق من رام الله الى بيت لحم "أشرت الى الثعبان الاسمنتي:
"هاهو، ليس مبالغة وصمه بالثعبان، يتلوى بين المدائن والقرى. سبعة وعشرون كيلومترا من جدار اسمنتي يصل ارتفاعه الى ثمانية أمتار في بعض المناطق، أي ضعف ارتفاع جدار برلين، وأسلاك شائكة في مناطق أخرى، أو كلاهما في بعضها ، إضافة الى خندق بعمق أربعة أمتار؛ ويحاذيه طريق عسكري للدوريات الصهيونية، وطريق ترابية مغطاة بالرمال لكشف الآثار وسياج كهربي وطريق معبد مزدوج لتسيير دوريات المراقبة وابراج مراقبة مزودة بكاميرات وأجهزة استشعار.
" أثّر الجدار بشكل مأساوي على حياة ثلاثة ملايين فلسطيني تقريبا يعيشون في الضفة الغربية المحتلة والقدس، حيث يفصل الجدار القرى عن امتدادها الطبيعي ويفصل الفلاح عن أرضه ويقطع طرق العلاج والتعليم ، حيث يضطر الأطفال للقفز فوق أبراج الاسمنت للوصول الى مدارسهم.".
ظهر طابور من السيارات الواقفة... "انتظرنا ثلاث ساعات كاملة ، كدت افقد اعصابي خلالها !!
"الا يمكن ان ننزل ونزيح هذه المسخرة ونعبر؟
"أنأ وأنت وحدنا سننال رصاصتين بالضبط، وبالمناسبة حدثت غير مرة...
سارت السيارة في شوارع سكنية .. "وصلنا الى شارع شديد الضيق، صففنا السيارة وسرنا على أقدامنا بمحاذاة الجدار الذي يحجب السماء بكتلته الصماء. وقف أشرف أمام بيت حجري صغير وطرق بابه الحديدي ليجيب صوت انثوي: من بالخارج؟ - أنا أشرف.
فتحت الباب سيدة عشرينية ببطن منتفخ. قال أشرف : اختنا نسرين زوجة صديقي رامز، كما ترى، أمام بيتهم مباشرة ؛ وفي مناوشة أثناء البناء بعد زفافهم بثلاثة شهور تطور الأمر بينه وبين اثنين من أفراد الجيش، اعتقلوه وقدموه للمحاكمة حكم على إثرها بثمانية أعوام."... وأكملت نسرين: " تم تقديم حزمة من الاتهامات والمحكمة هي الخصم والحكم.... كنت معلمة ، تركت العمل مؤقتا لعدم قدرتي على الالتفاف من خلف الجدار ، الطريق أصبح يأخذ أكثر من ساعتين سيرا على الأقدام ...أفكر ماذا سيفعل ابني غدا عندما يذهب الى المدرسة؛ حتما سيفعل مثل أيمن ، ابن الجيران ، الذي يسيرعلى قدميه نحو ستة كيلومترات للوصول الى مدرسته...إما ان نرحل، أو نبقى في البيت دون حراك أو عمل أو تعليم!!"
أكملأ رحلتهما الى كنيسة المهد في بيت لحم. عبرا داخل المغارة.. "أنا من هنا ، ويسوع من هنا ، يسوع الفلسطيني الذي تؤمون جميعكم بقعة ميلاده، مخلص خطاياكم.. أقبّل مسقط رأسه وأناجيه :
يا أيها الفادي، أي قوة تلك التي سلبت أبناء شعبك الحياة ، يا أيها الثائر ، أما من قيامة جديدة لهذا الزمن الرديء؟!!
يتبع لطفا



#سعيد_مضيه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سماء وسبعة بحور..رواية ناجي الناجي -1من3
- الانعتاق من استرقاق الأبارتهايد، او كارثة التهجير الجماعي!
- قوة ضاربة للفاشية
- في غياب الحاضنة العربية للمقاومة الفلسطينية
- هل بالإمكان تفكيك السلسة الشيطانية ؟-6
- اليس بالإمكان أبدع مما كان ؟-5
- أليس بالإمكان أبدع مما كان ؟-4
- اليس بالإمكان أبدع مما كان؟_3
- أليس بالإمكان أبدع مما كان ؟-2
- أليس بالإمكان أبدع مما كان ؟-!
- كيف الخروج من المتاهة
- ما نطلع من بلدنا وفينا روح ..قال الشيخ للضابط
- تفجيرات الحادي عشر من أيلول / سبتمبر-4
- تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر / أيلول بعد عشرين عاما(3من4)
- تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر بعد عشرين عاما(2من4)
- تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر / أيلول (1من 4)
- بناء الثقة في زمن التقويض
- الثورة والثورة المضادة في أفغانستان
- ثماني نقاط مفصلية حول هزيمة الولايات المتحدة في افغانستان
- الجذور الاجتماعية التاريخية لأزمة اليسار


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد مضيه - سماء وسبعة بحور -2من3