أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد جدعان الشايب - دموع حمراء... قصة















المزيد.....

دموع حمراء... قصة


أحمد جدعان الشايب

الحوار المتمدن-العدد: 7054 - 2021 / 10 / 22 - 00:46
المحور: الادب والفن
    


ما يزال الخريف يشحذ القليل من الدفء الصيفي، والنسمات المتلاحقة الهادئة تلفح أنفه وعينيه، وهو مستلق على فراشه تحت الغطاء، ما من شيء يشغل ذهنه هذا الصباح، فهو في حالة من الرضى بعد أن استتبت أموره، واطمأن على مستقبل أولاده الذكور، فقد استطاع كل واحد منهم أن يجد عملا يناسبه، ليؤمن له معيشة تتوافق مع مستواه التعليمي والاجتماعي.
جميعهم فشلوا في المدارس، فاتجهوا إلى الأعمال والوظائف المتدنية في مستواها قياسا لأصحاب الشهادات الجامعية من أقرانهم، لكن أباهم كان سعيدا بهذا رغم ذلك، وكثيرا ما يتباها أمام الناس بأولاده الذين وجدوا أعمالا يتقاضون عنها أجورا تكفيهم مد اليد لأحد حتى لأبيهم.
تذكّر ابنته الوحيدة نعمة، التي أودعها العاصمة لتكمل دراستها الجامعية، رغم أنه يمقت تعليم البنات بعد الابتدائية، وفي رأيه، البنت خلقت لتكون زوجة وأماً فقط ولتنفّذ كل ما يُملى عليها منذ ولادتها حتى لحدها. لم يستطع مقاومة عناد زوجته وإصرارها، وهي تقف في وجهه طالبة منه كل يوم أن يوافق على أن تكمل نعمة دراستها الجامعية، أسوة ببعض رفيقاتها وقريباتهم، رضخ أمام إلحاحها، ووافق أخيرا، رغم خوفه عليها من ذلك الوسط الجديد والمختلف كليا عن طبيعة ووسط المجتمع الذي يعيشون فيه.
تؤرقه بعض التلميحات والتعليقات الجاهزة من الجيران والأقارب والأصدقاء،
ويبدأ بلوم نفسه، فهو الذي قبل فكرة زوجته وعمل بها، وهو الذي سافر مع نعمة إلى العاصمة ليتدبر جميع الترتيبات الأولية من تسجيل واستئجار غرفة مع إحدى رفيقاتها، وأمّن لهما كل حاجياتهما، وعاد إلى بلدته بشيء من الاطمئنان المشوب بالقلق المفاجئ في كثير من الأوقات، فتهاجمه حالة من التبكيت والندم، إذا شاهد أي فتاة في سن ابنته، وهي تمشي بثقة يرافقها أحد الشباب على رصيف الشارع، أو في سوق المدينة، أو في حديقة، أوفي أماكن انطلاق الحافلات، فيتشبث في صدره رعب يجعله متوترا لا يستقر على حالة نفسية واحدة، ويحسب حسابات يتصورها، كأن يتصور ابنته بين أحضان رجل غريب.
ما يزال مستلق، تشاغله هذه الأفكار والتصورات، لكنه يحاول أن يطمئن نفسه بقصر المدة التي غابت فيها عنهم نعمة، يغمض عينيه، يحاول إضفاء إحساس بأنها في أمان.
حين يتذكر اتهام بعض الناس له بإبعاد ابنته عن مراقبته، يفتح عينيه بقلق، يضغطهما بشدة ليبعد صور ذهنه، لكنها تستمر تلح عليه، تَوَهّمُه صار بالنسبة إليه حقيقة، التفت نحو زوجته التي تغط في نوم لذيذ، قفز فجأة قفزة واحدة، وصار أمام خزانة الألبسة، أفزع زوجته فاستيقظت بلهفة وتساؤل:
ــ خيرا .. خيرا .. إلى أين تستعجل؟..
قال بانفعال منهمكا دون التفات:
ــ نعمة.. نعمة.. نعمة.. يشغلني غيابها كثيرا.. لم أستطع النوم هذه الليلة.. كيف نتركها بعيدة عن أعيننا؟.. هل يجوز هذا؟..
فوجئت، فأسرعت إليه مرعوبة:
ــ أرجوك قل لي.. ماذا جرى لها؟.. هل علمت بشيء يؤذيها؟..
قال بعصبية معبأة بالاتهام:
ــ لا أدري.. لا أدري.. سأذهب الآن إليها.. قد تنفلت وتنشئ علاقة مع زميل لها.. حب.. حب.. أعوذ بالله.
ــ لا تستعجل.. اطمئن.. ابنتنا واعية.. لن يحدث لها شيء.. ارجع .. ارجع .. لكي لا تندم.
ــ الندم يأكل أحشائي ورأسي الآن.. لا أعرف كيف أطعتك ووافقت على دراستها في الجامعة.
ــ هي مثل كل البنات.. دعها.. هذه رغبتها..
ــ اسكتي .. اسكتي.. لا تتكلمي.. ماذا نستفيد من جامعتها؟.. أولادنا الأربعة لم يأخذوا شهادة جامعية.. وهاهم جميعهم موظفون.. أما نعمة.. فيكفيها ما وصلت إليه.
ــ وإذا حرمتها الجامعة الآن.. ماذا ستفعل؟..
ــ تبقى هنا تحت أنظارنا.. حتى يأتيها النصيب وتتزوج.. وهل للبنت غير بيت زوجها؟.
ــ يا رجل،، من أي شيء تخاف عليها؟.. ليست وحدها،، نعمة واحدة من آلاف البنات.. وأهلهن سعداء ببناتهم ويتمنون لهن النجاح.
ــ ابنتنا قد تحب أحد الطلاب في الجامعة.. أو تقيم علاقة مع أستاذها.. آ آ آ آ آ آ آ آخ كله منك أنت.. أنت سبب عذابي.. لا أستطيع أن أتصورها تحب أحدا أو يحبها أحد.. فهمت؟.. يا لك من حمقاء.. ويا لي من مغفل وغبي.. ما الذي يجري لي إذا وقعت البنت في حب رجل لا أعرفه؟.. رجل ما.. أي رجل.. وهكذا بكل بساطة تميل لشاب وتحبه... آ آ آ آخ.. ما هذه المصائب؟.
كانت نعمة قد انتظمت في دراستها، فرع علم الاجتماع كان بالنسبة لها أمنية، وصار حقيقة وأملا في تأمين مركز وظيفي محترم في وزارة التربية، كانت مجتهدة وجدية في كل ما تفعله، حين تقرأ كتابها تستغرق فيه، وإذا طهت طعاما تتقنه، وتنشئ علاقاتها بعد دراسة جميع جوانبها ثم تقرر، حذرة وحريصة، إن أحبت تحب بكل ما تملك من أحاسيس وعواطف صادقة، هي سعيدة بحياتها مع زميلتها، التي تتفق في كثير من المواقف مع رؤيتها، قد تختلفان في بعض الأفكار والقضايا العامة، لكنهما تتحاوران بلباقة ومودة، إلى أن تتفاهما، رغم احتفاظ كل منهما بوجهة نظرها.
كثيرا ما كانت تترك أي شيء من يدها، حين تسمع الأذان، لتهرع إلى زاوية خصصتها للصلاة والتأمل، وصقل روحها وتثقيفها، تعيش لحظاتها مع ربها، تناجيه، تسأله، تدعوه، ترجوه أن يبسط لها الخلاص النفسي الدائم من شوائب الدنيا في كل أوقاتها، ولكل ما تنوي فعله، فهي لا تضمر إلا الخير والسلام لجميع المخلوقات.
شيء ما يؤرقها في لحظات التأمل، يمد برأسه من بين ثنايا النفس المتعبة، كان راقدا مستريحا وهامدا، يفاجئها، ينكش ذكريات طواها الزمن، الرقابة المقيتة منذ الولادة، والكبت الشديد، تناجي ربها والحرية: ( أين أنت أيتها الحرية المهداة إلينا ساعة الخلق؟.. كيف عمّدوك بالأوامر والنواهي الصارمة المحددة بزمن يرفضه زماننا ويرفضها؟.. يا رب.. يا رب.. أنت ترى ما يجري لنا.. تراقبنا من فوق عرشك.. وترى ضعفنا.. هل لنا إلا أنت نلجأ إليه لخلاصنا؟.. يا رب هل من معين سواك؟.. يا رب.. مازلنا ننتظر الخلاص).
زميلتها لم تأت من الجامعة بعد، وهي اليوم وحدها في الغرفة، تقرأ في محاضرة طويلة، منشغلة في أفكار الدكتورة المحاضرة، سمعت صوت الأذان، توقفت عن القراءة، رفعت رأسها ووضعت القلم فوق الكتاب وأجّلت كل شيء.
حين انتهى الأذان، نهضت إلى زاويتها المخصصة للصلاة والتأمل.
وصل أبوها قبل أن تنهي صلاتها، وهو في حالة قلق وتوتر، فتح الباب، توقعت مجيء زميلتها، ظلت في مكانها تكمل صلاتها، تتواصل مع ربها، تخاطبه، تهمس، تناجيه أن يمد يده القادرة لتخليص الدنيا من العذابات والشرور، لو أراد أن تسود الدنيا قوانين عادلة.
دخل أبوها لكنها لم تره، ولم تتوقع حضوره اليوم، فهي لم تغب عنهم زمنا طويلا، وبقيت هكذا في حالة من الهيام والتوجد الروحي، فوجئ بها تصلي، ولوهلة، اطمأن، لكنه صُعق حين شاهدها حاسرة الرأس وقد قاربت أن تنتهي من صلاتها، هي شقراء، ناعمة، يتموج شعرها كحقل قمح قبل حصاده، تداعبه المروحة التي تلطف الجو من بقايا حر يشحذه الخريف، ومن أنفاس المصانع والسيارات في المدينة المكتظة.
صار صراخ أبيها كحد السكين، رافضا مستنكرا، صار يبرطم بتعابير استغاثة مخفية.
ــ أعوذ بالله.. أعوذ بالله.. يا لطيف.. يا لطيف.. يا ساتر استر أعراضنا.. ما هذا.. صلاة بدون غطاء؟!.. أعوذ بالله.
بحث بعينيه سريعا في كل أنحاء الغرفة مد يده إلى يمينه، التقط لحافا مرتبا ومطويا بالقرب منه، فتحه بكامله وألقاه عليها، بينما كانت تهمُّ بإنهاء الصلاة، لتقف وتستقبل أباها بغبطة.
لكنها بقيت تحت الغطاء، ولم يبق شيء منها ظاهر، بدت كتمثال ثلج يخلو من حرارة الإيمان، وصدق النجوى.
قعد على كرسي، التقطت أصابعه قلما وراح يعبث به على صفحات كتاب مفتوح فوق الطاولة، كان متوترا، خطوط القلم وخربشاته بلا معنى.
انتظر مدة، كان يراقب حركة ابنته تحت الغطاء، لم تتحرك أو تنهض، طال مكوثها حتى غزت الخشية قلبه، وهمس لنفسه: ( ماذا حدث للبنت؟).
انتظر أيضا، فهو لا يستطيع إزاحة الغطاء ليراها، لأنه وضعه بيديه فوقها، فماذا يفعل؟.
صارت تهبط شيئا فشيئا حتى وصل رأسها الأرض، كأنها في وضع السجود، قررت ألا تتحرك أو تنهض أبدا، إلا إذا أزاح أبوها أو أحد آخر عنها الغطاء حتى لو بقيت تحته مدى حياتها.
ثبت نظره إليها، دقق في شكل الكتلة ليحدد اتجاه الرأس، دهش، وصار يرتعد من هلع مفاجئ، رمى من يده القلم، وقف يهتز، ناداها متلعثما وبصوت مخنوق:
ــ نع.. نعم.. نعمه.. نعمة.. أما أنهيت صلاتك؟.. هل انتهيت؟.
كأن لم يسمعه أحد، ولم يسمع هو إلا طنين الصمت المرعب، تقدم نحوها، حدق في الكتلة البيضاء، لم يستطع تحديد رأسها، شاهدها انخفضت كثيرا، فزاد خوفه، قرر رفع الغطاء بيده، ثم تراجع خشية أن يقطع عليها تعبدها، تحير فيما يفعل، انقذه دخول رفيقتها التي تسكن معها، حيته بفرح، أسرع إليها ملهوفا، توسل إليها أن تساعده في تخليصه من هذه الحالة التي وضع نفسه فيها، قالت له الفتاة:
ــ أين نعمة يا عم؟.. ما هذا الغطاء؟.. ماذا حدث؟..
قاوم خجله وخيبته قائلا:
ــ هذه هي.. هنا تحت الغطاء.. تصوري.. تصلي بلا غطاء على رأسها.. فرميت باللحاف فوقها.. أنا غطيتها.. لكنها حتى الآن لم تتحرك.
ــ أمرك عجيب.. لماذا تغطي رأسها مادامت تصلي وحدها؟.. وأنت أبوها .. فلماذا تغطيها؟.. لماذا فعلت هذا يا عم؟..
أسرع يرجوها قائلا:
ــ ساعديني أرجوك.. ارفعي الغطاء عنها.. لقد تغيرت جلستها.. أخاف أن يكون قد حدث لها شيء.. حدثيها قد ترد عليك.. هي لم ترد علي.
ــ ولماذا تنتظر؟.. لماذا لم ترفعه أنت؟.
ــ كنت سأرفعه وقت دخولك.. هل كل هذا الوقت صلاة؟.
أسرعت بلهفة ترفع الغطاء عن نعمة، التي تكومت وتجمعت، كانت تحتضن رأسها بين ذراعيها وقد غمرت الدموع وجهها وكفيها، كأنها دماء تشف عن قلبها المقتول.



#أحمد_جدعان_الشايب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ابتسامتها سلسبيل
- كابوس ثقيل جدا...قصة
- أحلام من سراب...... قصة
- السكون بعد العاصفة..... قصة
- البلاد تغلق أبوابها..... قصة
- انعطافة لابد منها..... قصة
- المغفل يستخدم عقله...... قصة
- مبادئ وقناعات متحولة......قصة
- القارض لم يمت
- المأزق....... قصة
- حق مشروع... قصة
- مشوار العذاب
- البدائل لأساليب التدريس القديمة.
- الصرخة.. وعناق الأرض...... قصة
- طرق التعليم التقليدية.. القمع الأسري والمدرسي للأطفال
- خفقات القلب الأخيرة.... قصة
- أسود.. وأسود.... قصة
- أهمية الكتاب والقراءة.. وتعميم الثقافة.
- مأساة إيزادورا...... قصة
- الغلس....... قصة


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد جدعان الشايب - دموع حمراء... قصة