أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد جدعان الشايب - خفقات القلب الأخيرة.... قصة















المزيد.....

خفقات القلب الأخيرة.... قصة


أحمد جدعان الشايب

الحوار المتمدن-العدد: 6996 - 2021 / 8 / 22 - 12:25
المحور: الادب والفن
    


سفح الجبل المخضرّ ينحدر باتجاه البحر بسرعة، يتوهم المرء من قمته، لو مد يده إلى الماء يلامسه ويغرف منه أجا جا وزبدا، رغم بعد المسافة بين الشاطئ والغرفة المنعزلة، التي بقيت من ممتلكاته.
يترنّح إذا ما احتاج لمغادرة السرير لقضاء بعض حاجاته البسيطة، أو يطل من النافذة ليلقي غبشه على ما يستطيع رؤيته في الضباب الكثيف، الذي يحتضن السفح والقمم، يستعيد شيئا من ذكرياته، إثر رحيلها وقبل رحيله.
بيوت العنكبوت تزين الغرفة في جميع الزوايا، يقف متلوّيا، هزيلا، صامتا، يحس بدوار، يستند إلى الطاولة، المجاورة، يتقدم من سريره، يرفع الغطاء ويتلاشى في الفراش.
صحة أم خيرو العجوز ماتزال صامدة، هي الوحيدة التي بقيت تتردد إليه كل يوم، تقضي له بعض الحاجات الضرورية. بين يديها طبق من حساء العدس، جلست بجانبه، ولم يحس بحضورها، حرّكته، نادته بصوتها المهتز: ( أسعد.. يا أسعد).
ينفتح في أسفل جبهته ثقبان، تحيط بهما عظام وجهه الكالح، ودون أم يحرّك جذعه، هز رأسه على رقبته كحبل عقد عقدة كبيرة، ألحّت عليه: ( أسعد.. قم خذ ملعقتين من الشوربة.. لاتزال دافئة.. قم .. يا لله). ساعدته على سحب جسده قليلا، ارتفع وأسند ظهره إلى طرف السرير، ورغم أنه فاقد الإحساس بالجوع والشبع منذ مدة، إلا أنه أطاع أم خيرو وبدأ يرشف من الطبق دون شهية، وضعه على الطاولة، وغرق في شريط ذكرياته التي تلح عليه باستمرار، وإذا تذكّر أي شيء في حياته، فإنه يعود إلى أول صورة يعتز بها، طيف مريم وهو يلقي كلمة على مدرج الجامعة بحضور حشد من المثقفين ومحبي الأدب والفن، يومها احتفى الناس به أول مرة، فهو عضو فعّال في منتدى ساهم بتشكيله مع الزملاء الذين يجمعهم هم مشترك، وضعوا نصب أعينهم قضية المرأة العربية في أولويات برنامجهم ، وآمنوا أن تحريرها من قيود المجتمع وسلطة التزمت الذكوري، يمضي بالأمة نحو الحضارة المزدهرة والتفوق، هذا يذكّره بالرفيقة والحبيبة مريم، التي كانت ترافقه كل سنواته التي أمضاها في كلية الآداب.
أربع سنوات قضاها معها، كانت كل لحظة منها تعدل لديه عمرا بكامله، سعيدة هي معه كما كان هو سعيد برفقتها.
ابتسم، حين رنّت في أذنيه كركرة ناعمة، أطربته كما كانت تطربه، وهو مستلقٍ على العشب النّجيلي في مروج حدائق المدينة، تستلقي بجانبه، تداعب كفه وشعره، تنظر في عينيه الغارقتين في اتساع الفضاء، ترسمان أحلاما كأسطورة عشق، سألته: ( ( أسعد حبيبي ). ينظر إليها بابتسامة وكأنه يضمها بجفنيه وهو يرمز برمشيه: ( عيون أسعد).
كانت تشعر بنهاية مأساوية تترصد علاقتهما قالت: ( أنا لا أصدق ما أعيشه.. كأنه حلمي.. فهل نجود الأقدار ويستمر حبنا.. ونعيش تحت سقف واحد؟، وبموافقة أهلنا.. وبدون عوائق؟).
قال بثقة: ( حبنا سينتصر على انتماءاتنا). ويذكر أن هذا آخر لقاء بينهما وآخر حديث، رغم كل ما عاناه من أوجاع نفسية.
مثلما يهاجر السنونو ويعود، هاجرت مريم مع عائلتها على أن تعود لتبني معه عشها الدافئ. غربة وضياع سريع في قلب ليل غادِر. مرغمة تحت ظروف الأمر الواقع، بعد ترتيب كل شيء دون أن تعلم، ولم يبق أمامها مجال لإبلاغه، ولكي لا يعدّها انسحبت من حياته بلؤم،
لكن الرسائل كانت تختصر الفواصل والمسافات، كل رسالة كأنها تحضر معها روح الآخر، وينتظر كل واحد منهما رسالة الآخر لتحضر إليه روحه. ليبثّها الشوق واللوعة، والحنين واللهفة، وفي كل رسالة يبعثها لها، يضمّنها بيت الشعر مع دمعات تنسرب من بين جفنيه، فيشارك أبا فراس الحمداني همه وحرقة نفسه:
( آيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم تعالي)
يشرق وجهه بالأمل وسط ذكرياته، يجد نفسه في مطبعته التي أسسها حين كان رجلا صلبا واعيا وخبيرا، يأخذ برأيه الكتاب والأدباء، عاش حياته الثقافية والعملية بثقة ونجاح. يحثه أمله الكبير لتحقيق ما يحلم به لنفسه وحبيبته ووطنه.
دائما لا تفارق مريم ذهنه، يتراءى له طيفها أمامه بأنوثتها، ويقرأ في صمتها أشعارا وأغاني، يراها بدرا مكتملا، يضيء له ما تبقى من حياته.
لكن السعادة في أحيان كثيرة، تكون سرابا سرعان ما تبدو باهتة متناثرة، تفقد بريقها حين يصحو المرء من شروده مع الذكريات، ليعيش في حرفيات جلافة الواقع.
شفافية نفسه لا تقاوم ألام روحه، كزجاج لا يلتئم إذا كسر، لكنه لا يتحطم، رسائل مريم التي لونتها صورها، وباحت بالآمال همساتها، قالت له مرة: ( كلنا إلى فناء يوما.. عش لي ولك).
كانت تبعث في نفسه القوة، والثبات، بعد أية هزة أو صدمة تنتابه، تمنى وجود أبيه وأمه إلى جانبه، ليفرحا به وهو يحتضن حلمه وأمله، فور عودة مريم من غربتها، لكن القدر لم يمهله، ومهما طال الزمن به سينتظر، وعده دين عليه، لقد وعدها ووعدته وسوف ينتظران.
لم تفتّ فيه مرور الأيام، صار يتذكر أن شعره كان له لونا غير الأبيض، ورحل الصبا عن مريم، وما يزال حبهما عبر الرسائل ناضجا كثمر صيفي، متماسكا كجذر سنديانة، يحفر في النفس تعرجاته كجدول نقي، والروح في أوج شبابها.
السعادة ملأت كيانه حين ظهر كتابه الجديد، حول حرية المرأة، يجلس ويعيد قراءته خلف مكتبه، كانت الصفحة الأولى بيضاء إلا من جملة واحدة.
( مريم.. أهديك مع قلبي هذا الرحيق). ساعتها تسلم رسالة مفاجئة قاتلة، فتحها، كانت تنعي له فقد من أحب، فانهار على كرسيه، ولم يشعر بشيء إلا وهو في غرفته، حين صحا، كأنه في نوبة جنون، يرغي ويزبد، ويضجّ ويرعد، يضرب الأشياء بيديه برجليه فيكسرها، لم يبق شيء له أهمية عنده، بعد أن تحطم أخيرا زجاج روحه، دام على حاله عدة سنوات يثور ويهدأ، فاعتلّت صحته، وانزوى في عزلة مقهورة.
كان يتردد بعض أقاربه إليه لزمن قصير، اتفقوا جميعهم واتهموه بالجنون، حجروا عليه وأدخلوه مشفى الأمراض العقلية، لكنه يتذكر جيدا أنه يغضب كما يغضب غيره، وينقم ويضطرب مثل كل البشر.
سنتان مضتا وهو داخل المشفى، وحيدا تخلى عنه الأقربون، حتى جاء أهل الوداد لزيارته، فطلبوا فحصه والكشف عن سلامة عقله. قرر الأطباء سلامته وخلوّه من أي مرض عقلي أو عصبي، حينها شعر بكيانه يعود إليه، وتنشق رائحة الحرية إثر خروجه من المستشفى إلى هذه الغرفة التي بقيت من ممتلكاته، نائية عن مركز المدينة، بعد أن أجهز ذوو القربى على كل ما يملك، ولم يتبق له غير رحمة السماء.
كان شريط الذكريات ذاته، يأتيه كلما أحس بغبن المجتمع لحلم كان ينمو، فقد اقتحم على ذهنه وقلبه وأوصاله دفعة واحدة، ولم يعد قادرا على ترميم حطامه بعد فقد الأغلى والأعز، صار نهبا لأ لام نفسه وروحه، وَأَدَتْ كل أمل له في الحياة.
لعبة أهل مريم من بعيد أدّت بعض أغراضهم، فعندما اكتشفوا استمرار علاقة ابنتهم بأسعد، أرسلوا رسالة له على أنها من صديقتها، لتخبره بوفاتها. حاولوا تزويجها من أصحاب الأموال والتجار المغتربين، لكنها رفضتهم جميعا، واستمر الحب يعيش معها ككائن ترعاه وتحافظ عليه.
هي في قرارة نفسها لم ترحل، هي سافرت لمدة مؤقتة وستعود. الرسالة التي وصلتها على أنها ممن يعرفون أسعد، تخبرها بأن سيارة صدمته ومات، فانكفأت على نفسها مدة، وظلت رافضة الزواج، تحمل في داخلها حبا لا يموت.
مرت الأيام ولم تبق الأحوال كما هي، فبقيت وحيدة غريبة بعد موت أبيها وأمها، وتفرقت العائلة كل واحد يبحث عن همه ومصيره وثروته.
الوطن ينتظرها، تسمعه يناديها، يهمس لها أغان الشوق واللهفة، تقول لنفسها ( يكفيني أنه يضم رفاة الحبيب). لكنها تكتشف وجود أسعد على قيد الحياة، ما يزال ينتظرها، في البداية بحثت عن المقبرة التي تضم جثمانه، لتزرع باقة ورد وتودعه، لكن الناس الذين شاهدوها تعبة دامعة، أخبروها بأنه أصيب بصدمة إثر رسالة وصلته من البرازيل، وزاد في حالته مشاكل اجتماعية، سببها له أقاربه، فانزوى بعيدا في بيته الريفي على سفح هذا الجبل.
تسكن مريم في بيت قريب من بيته، تقترب منه ومن الناس الذين يعيشون حوله، تمد يدها لتعطي مالا لمحتاج، وتساعد فقيرا، وتمنح معوزا، وتعالج مريضا على نفقتها، لم يبق لها ما تنتظره، ومن كثرة ما فعلته لهم من الخير أطلقوا عليها اسم أم خيرو.
فكرت أن تصارحه مرات عدة، فهو لم يتعرف عليها، كأن الزمن قد حفر لهما ملامح أخرى، فهل تقول له الحقيقة؟، هل تهمس له بحبها المختلف؟. لكنها تتراجع، فهي لا ترى فائدة من تعذيبه، تراه منذ جاءت بقايا هيكل عظمي، يغطيه جلد يكاد يتلف. أكثر أوقاتها تقضيها بجانبه، لا تستطيع مفارقته لساعات، تسرع إليه من بيتها لتقول له حبيبي وروحي أنا مريم حبيبتك، لكنها ما أن تصل إليه وتقف بجانبه لتسقيه أو تطعمه، حتى تخاف عليه من صدمة أخرى، فتعزف عن بوح سرها، ويكفيها أنها تقف قريبة منه تخدمه وترعاه بما تبقى لها من عزيمة.
في هذا اليوم، مدت يدها إليه، حرّكته ببطء، نادته همسا: ( أسعد.. أسعد..)، بمشقة نظر إليها بعينين ذابلتين، ودمعتين دوشتا بصره، ونفرت القُردُحة في عنقه لا يكسوها إلا جلد رقيق سيتمزق. انسل في فراشه أكثر، غطى عنقه وأذنيه، كأنه يهيئ نفسه لرحيل قادم، وراح يغني هسيسا: ( أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا..... تعالي أقاسمك الهموم تعالي).
حدقتاه تسبحان في لجة من الدموع، وبضع أنفاس خفيفة، دافئة، كأنفاس رضيع يغفو، تخرج منذرة أم خيرو أن النهاية حانت.
أخذت يده، ضغطت عليها بما تبقى لها من قوة، أحست بالبرودة تسري في عروقه، نقلت كفها إلى جبهته ووجنتيه، مسحت عرقا نفر اللحظة وغسل وجهه، كما غسلت دموعُها خديها.
تباطأ إيقاع قلبه، الأنفاس تتلاشى، ثم أسبل جفنيه. شعرت أن قلبها صار في حنجرتها وهي وحدها، فصرخت بلوعة دوى صداها بين أشجار الصفصاف والحور والتين التي تحيط بالبيوت الريفية الحزينة: ( حبيبي أسعد.. أنا مريم.. أنا مرياااااام). وترتمي فوقه وتحتضنه.
هرع أهل الحي، وصاروا في حيرة يتساءلون ماذا يفعلون، فقرروا دفنهما في حديقة بيت أسعد، الذي حوّله المحبون إلى استراحة للسياح والمتنزهين، ورح الناس ينسجون حكايات حول قصة عشق لن تموت.



#أحمد_جدعان_الشايب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسود.. وأسود.... قصة
- أهمية الكتاب والقراءة.. وتعميم الثقافة.
- مأساة إيزادورا...... قصة
- الغلس....... قصة
- الكمين....قصة عن أحداث الجزائرفي نهاية القرن الماضي
- ضد الفطرة....( قصة)
- وسوسات التحدي الكبير
- الجرح............... قصة
- عليّ بحماري.................قصة
- المأزوم
- أسف
- القناع
- حمزة رستناوي.. وإسقاطات جلجامش على الحياة
- في يوم عيد
- تآلف
- كبرياء الراعية ( شولمين)
- أمنية لن تضيع
- القرار الأخير
- العدالة والضواري
- صباح رائق.. وخيبة


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد جدعان الشايب - خفقات القلب الأخيرة.... قصة