أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - محمد رياض اسماعيل - رحلة حزن وعذاب بحثا عن الحرية/ الحلقة الثالثة















المزيد.....

رحلة حزن وعذاب بحثا عن الحرية/ الحلقة الثالثة


محمد رياض اسماعيل
باحث

(Mohammed Reyadh Ismail Sabir)


الحوار المتمدن-العدد: 7022 - 2021 / 9 / 17 - 12:41
المحور: القضية الكردية
    


في صباح الخامس من نيسان 1991، نهضنا الساعة الرابعة والنصف ولما نذق طعم النوم ليلاً. ورأينا الناس تترك مدينة حلبجة في طوابير طويلة وتتجه شرقاً باتجاه الجبال، كونها مهددة بالضرب بحسب الإشاعات الكثيرة، ولكنني كنت على إصرار للبقاء في حلبجة لحين استقرار الحال ثم العودة الى السليمانية، وأعلمني ابن خالي (ك) بان حلبجة أخُليت من السكان وحتى الساكنين في المقابر، وانتهى كل شيء ولا مفر من التوجه الى الحدود الإيرانية. واشتد النقاش بيننا وكان (ح ع) شقيق نسيبي يبشرني بتحسن الحال عند وصولنا لإيران، تمكنوا من اقناعي وعزفت عن فكرة العودة على مضض. حزمنا الأمتعة والحقائب في السيارات وتوجهنا في طريق ترابي مع اول تباشير الصباح في جو ممطر بغزارة شديدة، اضطررنا لمرتين ان نقف ونفرغ السيارة من الأهل، لإخراجها من الأطيان التي تعثرنا بها، عبرنا منطقة (عنب) ووصلنا الى الطريق الرئيس المبلط الذي يربط السليمانية بمدينة (طويله) الحدودية. واصلنا السير باتجاه قرية (بيارة) ووصلناها ظهراً، وكان مسيرنا صعودا الى قمم الجبال في طريق مبلط، تعطل الكابح اليدوي لسيارتي وبقيت على كابح القدم فقط، وكلما توقفنا في طريق الصعود كانت احدى اخواتي تنزل من السيارة لتضع حجراً خلف الاطارات لمنع السيارة من التقهقر رجوعا او السقوط في الوديان، وصلنا حدود مدينة طويله الساعة الثانية ظهراً.
"ستصل المؤن قريباً " ، جاءنا نسيبي (ح ف) بهذا الخبر، ووقفنا خارج سياراتنا يبشروننا بموعد وصول المؤن من قبل الحرس الثوري الايراني، فلن يموت أحداً من الجوع، وكان الخبز قد نفذ لدينا وبقي القليل من الرز ومعجون الطماطم وبعض الزيت، وأكثر ما كان يؤلمنا هو مشهد الأطفال حيث لم يجوعوا منذ ان ولدوا … جاءني نسيبي بقارورة شاي وكان راسي يؤلمني كثيراً ولَم اغتسل منذ اكثر من أسبوع … ثم بدأت السيارات بالحركة البطيئة جداً باتجاه الحدود ، ثم ما لبثت الا وعلمنا بان الحدود قد اغلقت أمامنا، وكانت السيارات تمتد أمامنا وخلفنا الى ما لانهاية على مرمى البصر، وكان المشاة يسيرون باتجاه الحدود صاعدين الجبل، منهم من حمل الاطفال على الاكتاف، ومنهم من يسحل بهم وسط الأوحال، وكنت اسمع الاطفال يصيحون " ابي رجلي يؤلمني ولا أقوى على المشي وراسي ينفجر من الألم (باوه گيان قاچم دييشيت، سةرم ژان ده كات ) " ، وآلامهم يشق عنان السماء و تهز ضمير الانسانية، والادهى من ذلك هو تساقط المطر بغزارة، كما لم نعهدها سابقا مصحوباً بالرعد والبرق، ثم جاءت سقوط قطع الثلج الصغيرة(الحالوب) كسرت نوافذ الكثير من السيارات، فاضطررنا الى وضع البطانيات على زجاج السيارة لمنع تهشمها، وركنت السابلة من شيوخ ونساء واطفال على سفح الجبل، وتغطت بالنايلون والبطانيات والملابس، والماء يجري من تحتهم سيولاً وهم يرتجفون كما ترتجف اوراق الشجر لعواصف فصل الخريف، واحتمى البعض في جوانب السيارات، وذكرني المنظر الماثل امام مرأى عيني بأيام الطفولة حين كان والدي يصحبني بسيارته الحكومية، لإرشاد العاملين على مكافحة الجراد الذي اجتاح العراق ايامها، حين كان يعمل مديراً لزراعة جم جمال، وقد هاجمت كوردستان بداية الستينات أيضا و كست الجبال والوديان باللون الاصفر، والآن ارى نفس المنظر ولكنها ليست جراداً، بل بشراً غطت الوديان وسفوح الجبال على مدى البصر، شعب يتكرر الحزن في كل فصل من فصول حياته، كنّا نرى من حمل ملابسه ومن حمل دجاجتين ومنهم من يقضي حاجته في العراء، و الجميع تسير الى مصير مجهول. توقف المطر قليلاً، وخرجنا من السيارة وقضينا حاجاتنا على سفح الجبل بعد ان أمسكنا بالبطانيات بشكل نصف دائري لحجب الرؤى … ثم بدأنا البحث عن الماء الذي كان يجري من عين في قمة جبل، وكلما مشينا لكي نظفي الى مكان نأمل ان نرى فيه ماءا صافيا بعيدا عن تلوث الجموع البشرية، وأدركنا التعب والإرهاق ولم نجد ما نتمنى، فاضطررنا الى ملئ القدور والقناني البلاستيكية بماء اصفر اللون، كان يسيل من اعلى الجبل، شربنا من ذلك الماء الملوث وجلبنا بعضاً منه لطبخ الرز حيث مزق الجوع احشاءنا.
طوال ايّام ثلاث، تقدمت سياراتنا في مسيرها مسافة نصف كيلومتر فقط نحو الحدود، وسط زحام الطريق المكتظ بالسيارات، وبدى العلم الايراني فوق قمة الجبل، ولَم ينقطع المطر الا لفترات قصيرة كنّا خلالها نأتي بالخشب لنفاذ النفط، ونهيئ النار اللازم لطبخ الرز، وكنا نظيف اليها معجون الطماطم ونأكلها في وجباتنا الثلاث. كان البعض من العوائل قد حصلت على الخبز من الحرس الإيراني، وكنا نحصل على بعضاً منها من تلك العوائل.
وأثناء صعود السيارات الى شارع منحدر بزاوية شبه قائمة في مدينة طويلة قبالة النقطة الحدودية، هّوتْ احدى السيارات اللاندكروزر الى وادٍ عميق حاد واحترقت، وكانت مليئة بالبشر تتعالى منها الصرخات والصيحات عند انحدارها للوادي، وبينما كنت أتقدم للأمام كانت شقيقتي تتبعنا مشياً لتضع الحجر خلف إطار سيارتي الخلفية، ولَم أجرؤ على النظر باتجاه الوادي بينما كنت ارتجف قلقاً، واتعرق خوفاً، ماسكاً بقوة على مقبض القيادة… كنت في حالة هذيان أطلق زفيراً طويلا واهز راسي دون شعور، وكنت استمع لصيحات النساء اللاتي تمشين في المطر وتكفرن بالله وتشتمن وتلعن قدرهن وترددن أين رحمة الله أين؟ أهذا جزاء صلواتنا وصومنا وعبادتنا إياه؟ ماذا فعلنا لنُقهَر هكذا ونطرد من بيوتنا! كنت اسمع نقداً جريئاً لم يألفه مسمعي ولا يرتضيه المجتمع، انفجار يعكس ما اكتنزه وجدان الشعب من الحزن على غياب العدالة، وقدرتهم على تقييم المآسي بطرق عفوية، وكاد أحشائي يتمزق حزناً على حالنا، وأحس بعقدة او غصة في صدري يخنقني شيئاً فشيئا. إذن هذا هو مصيرنا ان نموت جوعاً وحزناً والماً وببطء قاتل، كنّا ثمانية أفراد في السيارة لم نفارقها طوال ثلاثة ايّام. في الليل كانت الناس تركن لسفح الجبل وتشعل النار، وكأنها مسار قطار ممتد الى الأفق تتناثر منها وهج النيران، وتتجمع حولها العوائل المتغطية بالنايلون والملابس العتيقة والبطانيات المبللة والجميع تكفر ………
يوم 7 نيسان، كنت أفكر بالانتحار، ولكن واجبي تجاه اطفالي كان يثنيني عن الفكرة. الناس اختلطت بكل طبقاتها، الطبيب والراعي والمعلم والفلاح وكلٌ يفكر بطريقته، ولكن قاذوراتنا لا تدع للمثالية عنواناً، مناظرنا كانت بشعة وكأننا مخلوقات من كوكب ثان. وجوهنا لم تلامس الماء، وكنا نحترق شوقاً لقطعة صابون، أُطلِقَت اللحى والشعر، اثقلتنا الملابس الرثة، والإسهال يلازمنا ويأبى ان يزول بالأدوية… في غمرة هذا الحال المزرى التقيت بصديق عزيز من كركوك ، مدرس لغة إنكليزية واسمه (س)، وقص علي حكايته بألم وحرقة ولَم يبارح السكائر فمه لعدة ساعات فرشت فيها الارض معه، وكان قد اتخذ قرارا بترك العراق نهائياً، وعلمت منه بان نظام صدام قتل أباه في السجن، وماتت أمه حزناً عليه وعلى أخيه الأصغر الذي اعدم هو الاخر، وكان برفقته جميع من تبقى من عائلته قاصدين ايران مثلنا، وكانت سيارته خلفنا بعدة كيلومترات، ثم ودعته والتقيت بشقيق صديق عزيز لي ايّام الطفولة والصبا (ف م) ، واسم شقيقه (ع)، كان مرتبكاً جداً ويبحث عن والدته واخته بين جموع البشر والسيارات، بادرته بالسؤال عن (ف) صديق العمر، قال لا اعلم مصيره، ثم قص علي حكايته، حيث ترك كركوك برفقة أمه واخته الحامل ووصلوا الى السليمانية، وعلموا بان الجيش قد اشاع نيته بضرب المدينة بالسلاح الكيمياوي، مما خلق حالة من الذعر والخوف والارباك لدى الناس، فتركوا المدينة واتجهوا في كل حدب وصوب، هروباً من عقاب دون اقتراف معصية! ويقول بانه تدبر امر والدته مع احدى العوائل واستقلت سيارتهم بعد ان توسل بهم بحرقة وقبل ارجلهم واياديهم، كما تدبر لشقيقته الحامل مكاناً على ظهر سيارة شحن كبيرة كانت تحمل عشرات العوائل، ومضى هو مشياً على الأقدام من السليمانية الى طويلة قاطعاً 250 كيلومتراً مشيا على الأقدام. ونظرت الى قدميه المتورمتين المزرقتين، وجسمه المبلل بالماء، منظره كان يدمي القلب، فطلبت منه ان يجفف ملابسه على النار التي اوقدناها، ولكنه كان مرتبكاً وعاد للبحث عن أهله في القافلة، وودعني بعد ان رأى حالنا المزرى ورفع راْسه للسماء معاتباً ثم اختفى. وكنت ارى الشيوخ والنساء يتكأون على بعضهم الاخر، ويلهثون اثناء جريهم، يا الله ارحمنا يا الله واشهد لنا ما نعانيه ايتها السماء …



#محمد_رياض_اسماعيل (هاشتاغ)       Mohammed_Reyadh_Ismail_Sabir#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رحلة حزن وعذاب بحثاً عن الحرية/ معايشة حقيقية شخصية لتداعيات ...
- رحلة حزن وعذاب بحثاً عن الحرية// معايشة حقيقية شخصية لتداعيا ...
- ما السبيل الى التنوير
- بريد وهمس/ خاطرة واقعية تم تدوينها عام 2004/ من مذكرات موظف ...
- الاديان وخدعة الصور الفكرية للعقل في البقاء والانتفاع
- مدينة كركوك كما وعيتها/ من خواطري الشخصية
- عبارة عمي / خاطرة شخصية
- معالجة ديون العراق والاقتصاد المنهار بيد عصا البنك الدولي ال ...
- هل يمكن التغيير بهدف التعايش السلمي؟
- معالجة ديون العراق والاقتصاد المنهار بيد عصا البنك الدولي ال ...
- الى متى محاربة ( الاٍرهاب ) !
- وجهة نظر في الاقتصاد النفطي العراقي
- الوعي هو السبيل الى الحرية والاستقلال!
- غياب الإرادة الدولية سينهي الحياة على الكوكب الأزرق!
- السلاح الإعلامي الأمريكي والغربي يستهدف عقولنا
- استدراك النفس في ميلودرامية الحياة والموت
- الليبراليون الغربيون دعاة حرب!
- جدلية الانسان والخالق
- الكاظمي امام تحدي الدولة العميقة
- تداعيات انسحاب أمريكا من أفغانستان والعراق


المزيد.....




- ?غضب الجامعات يصل الكويت.. طلاب وأكاديميون يتظاهرون تضامنًا ...
- هيئة الأسرى: سياسة الإحتلال بحقّ الأسرى لم نشهدها منذ عام 19 ...
- قلق في إسرائيل من مذكرات اعتقال قد تصدرها المحكمة الجنائية ا ...
- هآرتس: شهادة فلسطيني مفرج عنه عن التعذيب والاعتداء الجنسي بس ...
- مصر.. إعدام فتاة ارتكبت جريمة هزت البلاد
- عمدة كييف: عودة اللاجئين الأوكرانيين من ألمانيا ستمثّل تحديا ...
- الاتحاد الأوروبي يدين تشريع البرلمان العراقي قانونًا يجرم -ا ...
- مسئول إسرائيلي يدعو بايدن لمنع مذكرات اعتقال ضد نتنياهو وجال ...
- هيئة الأسرى الفلسطينيين: سياسة الاحتلال بحق الأسرى لم تشهدها ...
- أيرلندا تهدد بإعادة طالبي اللجوء إلى المملكة المتحدة


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - محمد رياض اسماعيل - رحلة حزن وعذاب بحثا عن الحرية/ الحلقة الثالثة