أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جعفر المظفر - كان يا مكان .. سياج بيتي














المزيد.....

كان يا مكان .. سياج بيتي


جعفر المظفر

الحوار المتمدن-العدد: 6993 - 2021 / 8 / 19 - 17:37
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


أكملت بناء بيتي في الغزالية في بداية عام 1980 على قطعة أرض مساحتها ستمائة متر منحت لي بموجب قانون عودة ذوي الكفاءات الذي شمل بالنهاية جميع أصحاب الشهادات العليا.
في السنين الثلاثة أو الأربعة التي تلت ذلك التاريخ كان سياج بيتي, مثلما هي عامة الأسيجة, لا يتجاوز أرتفاعه أكثر من متر واحد, وكان من شأن ذلك أن لا يقطع صلتك بالمكان العام وبما يؤسس لثقافة مكانية أوسع من أن يضيق عليها السياج الخاص.
وبغض النظر عن الموقف من النظام السياسي البعثي فإن من الحق الإعتراف بأن الأمن العام كان مستتبا كما أن التغييرات ذات الصلة بالإستقرار والتقدم الاقتصادي كانت واضحة.
الحرب مع إيران كانت لها الصلة الواضحة بتغيير ثقافة الأسيجة وصلة المكان الاجتماعية. كان بالإمكان من خلال السياج المشترك الواطئ بيني وبين جاري أن يراني وأن أراه وأن نتواصل يوميا بما عزز العلاقات فيما بيننا. وحتى مع السائرين في الشارع المجاور كان ذلك التواصل قائما بما خلق مستوى إيجابيا من العلاقات الاجتماعية المتواصلة بين أبناء المنطقة جميعا.
غير أن الحرب سرعان ما مدت يدها لتغير وحتى تهدم ثقافة المكان القديمة. أصبح المزاج العراقي معقدا وتراجعت الثقة بين أبناء المنطقة الواحدة.
تصاعد شكيمة الدولة الأمنية وإرهاب القائد الفرد الذي دخل في المساحة العصابية, والخوف من الجار, ووشاية التقارير الحزبية, والخوف من الإلحاق القسري بقواطع الجيش الشعبي المتجهة إلى الخطوط الأمامية, إضافة إلى تصاعد الجريمة والسطو المسلح على البيوت التي رافقها إفناء عائلات بكاملها, كانت جميعها قد أدت إلى الإطاحة بثقافة الأسيجة المفتوحة وإستبدلتها تدريجيا بثقافة المكان المنعزل المغلق على صاحبه وأهله.
لقد أصبح هناك خوف حقيقي ومتبادل بين الجار وصاحبه.
جاري الذي كنت أتبادل الحديث معه أصبح يتسلل وهو يخطو بخطوات سريعة حتى يفتح باب بيته الخارجي ليقفز سريعا إلى سيارته. زوجته لم تعد تتعمد الإطلالة من السياج لتفقد زوجتي والحديث معها. الجار الذي كان قد تزوج حديثا والذي كان يجد متعته الصباحية في اللعب والمزاح مع طفلي أصبح يتجاهلني, وقد تخلى عن متعة اللعب مع إبني الصغير والمزاح معه يوميا وحتى إحتضانه وتقبيله. ولذا فقد قررت ذات يوم أن أبادر لأخفف عنه رهابه اليومي فشاهدني مع عامل بناء مُنهمكيْن في إضافة عدة طابوقات لرفع السياج الفاصل بيننا إلى المستوى الذي يعفيه من رهاب المكان ويوفر عليه عذاب التسلل اليومي من بيته.
كان رد فعله إبتسامة معبرة عن الإمتنان بدلا من إظهار الإنزعاج أو الخيبة. ولقد كانت تلك آخر إبتسامة نتبادلها سوية قبل أن تحل بيننا القطيعة الكاملة.
ومع إستمرار الحرب إستبدل الناس المثل الذي يقول (صيت الغنى ولا صيت الفقر) بآخر يقول (صيت الفقر ولا صيت الغنى) متمنين أن يكون للمثل في حلته الجديدة أثرا في رفع الشخص من قائمة الإستهداف اللصوصي.
بالنسبة لي تعرضت داري إلى سرقتين, وقد حمدت الله حينها على أن السرقتين قد تمتا وعائلتي خارج الدار إذ أن لصوص الحرب والحصار ما عادوا مثل لصوص الجوع الذين سبقوهم. هؤلاء, أي اللصوص القدماء, كانوا يحرصون على أن يسرقوا البيوت بعد أن يتيقنوا أن أصحابها قد غادروها لعملهم اليومي أو ربما لسفر, أما لصوص الحروب والحصار فكانوا يتعمدون السرقة بعد أن يتأكدوا أن أصحاب الدار موجودون في داخلها, لأن ذلك كان سيوفر عليهم صداع البحث عن المواد والسلع الثمينة كالحلي الذهبية أو الدولار وذلك من خلال إخافة أصحاب البيت حتى ولو كان ذلك عن طريق ذبح أحد أبنائها.
كنت بعد السرقة الأولى قد رفعت السياج إلى المستوى الذي يعزلنا تماما عن الشارع المجاور وعن الجيران الآخرين. بعد السرقة الثانية ولأغراض الردع أضفت على السياج أسلاكا شائكة وبرفقتها شظايا من الزجاج الملتصق بأعلى الجدار, وعملت ما كان غيري قد سبقني إليه إذ تعاقدت مع حداد قضى أياما عدة وهو ينصب حول داري سياجا من الحديد يقوم من أساس البيت حتى محيط سطحه تاركا على الأرض بضعة أقدام هي عرض الممشى الذي يفصل ما بين جدران البيت وحديقته, حريصا على أن يقوم ذلك السياج أو القفص الحديدي بحماية السيارة.
بذلك فقد تنقبت البيوت قبل أن تتننقب النساء وأصبحت البيوت مثل أماكن للإقامة الجبرية مقفولة على ساكنيها.
وحينما إستدعتني الشرطة الجنائية في منطقة المسبح للتعرف على بطل السرقة الأولى ظهر أن الرجل لم يكن فقيرا أو محتاجا وإنما كان إبنا مرفها لعائلة غنية ماديا. وقد عكست رواياته المتعلقة بغزواته اللصوصية حالة من تراكم الأحقاد الذاتية التي نتجت من الإنهيار القيمي للدولة وقياداتها ومنظومتها الحزبية وذلك بفعل الحربين والحصار وسقوط النماذج المتمثل بشكل خاص بأبطال العائلة الحاكمة وفي المقدمة منهم (زين الشباب عدي صدام حسين).
سقوط الحواجز الأخلاقية والنماذج القيادية, وتلك التي في خانتهما, شكلا مصادر الإنهيار الرئيسة السلوكي في المجتمع, وهذه كانت أشبه بصب النار على الزيت الذي خلقه جوع الحصار وتبعات الحروب وكان من نتائجه صعود الأسيجة وغلق فتحاتها وبناء الأقفاص الحديدية, وكل ذلك وإن شكل إحدى أشكال التعامل مع الهاجس الأمني إلا أنه أسس أيضا لحالة من التراجعات الإجتماعية التي تم من خلالها العزل ما بين الجار وجاره وما بين أهل البيت والشارع.



#جعفر_المظفر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كابول وبغداد .. عن معنى الدولة ومعنى الطرف الثالث والسلاح ال ...
- الرئيس الصح في الزمن الخطأ .. القسم الثالث والأخير
- الرئيس الصح في الزمن الخطأ*
- 17 – 30 تموز الرئيس الصح في الزمن الخطأ
- إسمع بالمَعِيدي خير من أن تراه
- التمرحل السياسي والنظرية اللوئية
- النظرية اللَوْئِية وقراءة تاريخ العراق المعاصر
- عن حسن العلوي وهلوساته
- في نقد النظرية البعثية
- رأس (أبو جعفر المنصور).
- الحشد ليس مقدسا وبعض مقاتليه الأبطال في الحرب ضد داعش قد يتح ...
- البحث عن الذات الفكرية والهوية البعثية*
- إسرائيل الدور إسرائيل الدولة
- قراءة في الدفاتر العتيقة .. صراع الحتميات التاريخية*
- البعثيون وقضايا الإسلام وتاريخ الأمة القومي (5)
- البعثيون وقضايا الإسلام وتاريخ الأمة القومي (4)
- البعثيون وقضايا الإسلام وتاريخ الأمة القومي (3)
- البعثيون وقضايا الإسلام وتاريخ الأمة القومي (2)
- البعثيون وقضايا الإسلام وتاريخ الأمة القومي (1)
- الطائفية .. من التكفير والإرهاب إلى عبادة الموتى


المزيد.....




- مصر.. بدء تطبيق التوقيت الشتوي.. وبرلمانية: طالبنا الحكومة ب ...
- نتنياهو يهدد.. لن تملك إيران سلاحا نوويا
- سقوط مسيرة -مجهولة- في الأردن.. ومصدر عسكري يعلق
- الهند تضيء ملايين المصابيح الطينية في احتفالات -ديوالي- المق ...
- المغرب يعتقل الناشط الحقوقي فؤاد عبد المومني
- استطلاع: أغلبية الألمان يرغبون في إجراء انتخابات مبكرة
- المنفي: الاستفتاء الشعبي على قوانين الانتخابات يكسر الجمود و ...
- بيان مصري ثالث للرد على مزاعم التعاون مع الجيش الإسرائيلي.. ...
- الحرس الثوري الإيراني: رد طهران على العدوان الإسرائيلي حتمي ...
- الخارجية الإيرانية تستدعي القائم بالأعمال الألماني بسبب إغلا ...


المزيد.....

- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج
- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جعفر المظفر - كان يا مكان .. سياج بيتي