أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - اللغة الخريفية في رواية -حنظلة- بديعة النعيمي















المزيد.....


اللغة الخريفية في رواية -حنظلة- بديعة النعيمي


رائد الحواري

الحوار المتمدن-العدد: 6987 - 2021 / 8 / 13 - 00:35
المحور: الادب والفن
    


اللغة الخريفية في رواية
"حنظلة"
بديعة النعيمي
لكل عمل أدبي لغته وأسلوبه وطريقة تقديم خاصة به، ومن المهم أن يكون عنوان النص منسجم مع المتن، هذه ضرورة الأدبية، لكن هناك من الأدباء من يزيد ويجعل اللغة تخدم المعنى/المضمون، فالمتلقي يصل إلى الفكرة من خلال اللغة المجردة، وهذه تحسب للأديب وللنص، من هنا سنحاول الدخول إلى رواية "حنظلة" لتبيان الطريقة واللغة والأسلوب الذي استخدم في تقديمها.
الساردة تقسم الرواية إلى ثلاثة أقسام، في القسام الأول يغلب السرد الخارجي/العليم، وأحيانا تسرد الشخصيات، لكن يبقى سرد الشخصيات ضعيف ومحدود، في القسم الثاني تأخذنا الساردة إلى مشاهد تقدمها بلغة خريفية، حتى أن المتلقي يشعر بأن البطل في هذا القسم هو اللغة والصورة الأدبية التي جاءت فيه، في القسم الثالث، تكشف أحداث الرواية وتوضيحها من خلال حديثها عن الصندوق، والرجل السمين، وعن حنظلة، وعلي، وحياة، واعتقد أن هذا التقسيم يحمل اشارة إلى الكمال والاستمرارية، بمعنى كمال الرواية، أدبيا، واستمرارية الأحداث التي لم تنتهي بعد، وهذا يستدعي كتابات أدبية أخرى تتناول مشاهد/أحداث/شخصيات/مكان/زمان لكي تضيف أشياء/عناصر جديدة الحالة التي تتناولها الرواية.
المكان
هناك اهتمام اضح من الساردة بالمكان، فأحيانا تتناوله دون تسميه: "سار هائما على وجهه لا يعلم وجهته في مدينة لا تنام، شوراعها لا تزال تعج بالناس، برائحة الويسكي المنبعثة من أنفاس الماردة، ...بمومسات يعرضن أجسادهن بالشورتات القصيرة الملتصقة بلحوم سوداء وأخرى بيضاء" ص9، فهنا لم يتم تسميه المكان، لكن المتلقي يشعر أنه أمام مدينة أوروبية وليست عربية، فالمشاهد لا تتلائم مع طبيعة المدن العربية.
ونلاحظ النظرة السوداء للمكان، لكن في الصفحة التالية نجده تتحدث عن مكان آخر بطريقة أخرى: "...هي مقدسية المنبت على جبل الزيتون والمكبر عقدت لهفتها، وهو بقلب بحري ولد بين أمواج هادرة لمدينة الحضارات والموانئ والبرتقال" ص10، فهنا نجد الفاظ ولغة ناعمة وجميلة، وليست كتلك التي سبقها، وهذا يوصل القارئ إلى أنحياز الساردة للمكان من خلال توقفه عند الأفاظ المجردة فقط، ففي المكان الأول نجد الناس غارقة في وحل المدينة، وفي الثاني نجد أفراد ينعمون بالطبيعة" جبل المكبر والزيتون" وبالمدينة الطاهرة/المقدسة.
فالتباين واضح بين المكان في الغربة/الغربي، والمكان المحلي/الوطني/الفلسطيني.
تؤكد الساردة على هذا الأمر عندما تتحدث عن "هارلم": "...لقد كانت هارلم في زمن ما تشهد أعظم موجات الفوضى.. مرض، فقر، جهل، ...أسواق مؤقتة على الأرصفة، مافيات الجريمة" ص20، وتضيف: "إنها نيويورك وكر الدعارة ومغارة اللصوص مديمة تتآكل في أزقتها الأرواح بعد أن تغرق في سعار الجنس، الإدمان، القتل، الظلم، أنها عالم من الوحل والقذارة، مدينة تثير شهوة الجريمة في النفوس، إنها مدينة انعكاسات الشر الكامن في نفوس أبنائها ...مدينة تشبه الموت الذي يغرز أنيابه في الأشياء حتى تفقد نضارتها" ص32، فكرة السواد واضحة في المقطع، كما أن الألفاظ المجردة تزيد من حدته فتجعله قاتم وحالك.
هذا ما جاء عن المكان في القسم الأول، في القسم الثاني نجد علاقة الإنسان بالمكان، وأثره عليه، فهو هنا ليس مكان منعزل/مجرد على ذات الساردة، بل هو جزء منها ويؤثر عليها، وعلى اللغة التي تستخدمها، تحدثنا "حياة" عن السجن لكن بطريقة غير مباشرة: "الفتحات العلوية من سقف الغرفة تهتز، يقولون بأنها ريح الخريف التي تنبئ بحلول شتاء قريب هذا العام، هذا ما رددته السجينات.
...هذا الشتاء الثاني الذي لن أراقص فيه قطرات المطر ولن أتمكن من رؤية تراب يافا وهو يلتهم مواليد الغيمات البكارى بكل شوق ونهم" ص51، اللافت في هذا المقطع لغة الأنثى التي نجدها ونميزها من خلال: "أراقص، مواليد، البكارى" فهذه الألفاظ متعلقة بالإناث وليس بالذكور، كما أننا نجد (فكرة) الأنثى من خلال العلاقة بين المؤنث والمذكر: "الفتحات العلوية تهتز/ (هنا مؤنث)، بواسطة "الخريف"/مذكر، وهذا ما يجعل القارئ يميز لغة السرد الأنوية في الرواية.
ونلاحظ تركيزها على الزمن/الوقت الذي نجده في: "الخريف، شتاء/الشتاء، العام، المطر" هذا الزمن/الوقت يشير إلى حالة الخبو/السبات/الكبوة، وإذا عدنا إلى الأدب الفلسطيني، نجده، غالبا ما جاء فصل الشتاء على أنه يحمل فصل الموت والقسوة والجوع والتشرد، وهذا ما أكدته الساردة في هذا المقطع.
دائم ما تكون المرأة عنصر تخفيف وفرح للرجل، والعكس صحيح، تؤكد السردة على هذا الأمر من خلال: "دعنا نعد تلك الليلة ولو على أطراف الموانئ الباردة، فقط اريد أن اكون معك، امتزج بك" ص53، فرغم أن المكان قاسي/"الموانئ الباردة" إلا أن القارئ يشعر بدفء المشهد، فهناك انثى تحدثنا عما تريده وتحتاجه من رجلها، ونلاحظ أن الوجود الإنساني في المكان جعله مؤنسا للشخصيات وللمتقي أيضا.
وهذا يأخذنا إلى علاقة الفلسطيني بالمكان، فهو يتعامل معه بحميمية، ويتماهي معه، من هنا نجد الساردة تتجاوز "الموانئ الباردة"/البعيدة/الغريبة والقسوة التي فيها، وتمتزج/تتوحد مع الحبيب.
وعدما تكون تحت التعذيب والألم نجدها تلجأ للمكان ولماضيها للتخلص من الألم: "..كان يوم عيد الفطر، حين اصطحب أبي العائلة إلى خارج باب الخليل في شارع يافا حيث يقع ستوديو فوتوغرافي لمصور أرمني أسمه كرابيد كريكوبان، وكان قد افتتح عام 1885... وفي عز سعادتي انتزعتني صرخة قوية ترافقت بعبارة كريهة:
قومي يا حيوانية." ص72، فالمكان بالنسبة للفلسطيني/ة كحال الطبيعة، تمنحه/ا الراحة والسكينة، ويخفف عنه من ثقل الواقع.
طرق جذب القارئ
التشويق
عندما يتناول النص الروائي مشاهد الألم والقسوة، لا بد من وجود اشكال وطرق تجعل القارئ يبقى متعلقا بالعمل، تستخدم الساردة عنصر التشويق من خلال حديثها في بداية الرواية عن "صندوق": "...سلمه صندوقا خشبيا ودس مفتاح قفله الصغير في جيب بنطاله. إنه أمانة من أمك، تفتحه يوم تحصل على شهادتك الجامعية"ص10و11، فهذا الصندوق تبقه الساردة في الكتمان، حتى تفتح سيرته في نهاية الرواية: "عائلتي تعتبر الثورة إرثا يجب أن ينتقل من الآباء إلى الأبناء، كان يريدنني صورة طبق الأصل عنه، قلت له بأني أريد أن أعيش حياة طبيعية، أتزوج، أنجب أطفالا، أقضي معظم وقتي معهم، أشعر بأبوتي، لا أريد لهم أن يتسولوا شفقة الآخرين كما فعلت أنا، أما الآن وبعد أن نبشت هذا الصندوق وكشفت عورته، فقد تغيرت نظرتي ولن أخيب ظن أبي" ص172و173، فهذه احدى عناصر الجذب التي تجعل القارئ متعلق بالنص الروائي.
وهناك شخصية "الرجل السمين" الذي قدمته الساردة بصورة مثيرة لحنظلة في بداية الرواية: "... وها انت بفضل أموالهم تقطن شقة مكيفة وفي عمارة محترمة وحي ؤاق، ةأكاد أجزم بأن أباك كمبرادورا أو أنه أقدم على بيع أرضه لأحدهم، وإلا لما تمكن من ابتعاثك إلى هذه المديمة.
...إني أنصحك بألا تتشدق كثيرا يا صاحبي، ألا ترى بأنكم تنعمون بفضلهم بحياة أفضل من كومة التراب والصخور تلك التي تدعون بأنها وطن!!" ص 12و13، فهذه الكلامات كلن لها وقع كبيرعلى "حنظلة" حتى أنه يصفها: "..كانت كلمات السمين من أقوى الصفعات التي تلقيتها طوال سني عمري" ص22، يتم تغيب الرجل السمين عن أحداث الرواية حتى نهايتها، حيث نجده مقتولا: "..وجدوا السمين مقتولا" ص178، وهذا الامر له علاقة بحنظلة لأنه: " للأسف إنك المتهم الأول بقتل السمين أيها البائس" ص184، مما أسهم في جذب اقارئ لأحداث الرواية، وجعله يتعلق بشخصياتها لمعرفة ما سيجري لها.
الفانتازيا
من أدوات التخفيف التي تستخدم للحد قسوة الأحدث الفانتازيا، فهي أحد أشكال الرد على الواقع، لما فيها من ثورة على العقل والمنطق، فعندما يكون الواقع مجنونا بكل ما فيه، فلا بد من مواجته بالجنون أيضا: "...انحدر شرقا مرورا بتمثال الحرية، وهنا سار حنظلة على يديه منكسا رأسه للأسفل ورافعا قدميه للأعلى.
كان يرحب بملايين المهاجرين القادمين على ظهر السفن في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين" ص32، ولم تقتصر الفانتازيا على هذا المشهد، بل نجد هناك عبور للزمن: "...لقد سافرنا عبر الزمن أيها الجاهل!...إننا في مكان وزمان محايدين" ص35، من هنا يتم الحديث فلسطين ونبوخذ نصر والاسكندر المقدونين وتتقدم الساردة في الزمن أكثر، لتصل إلى: "إننا أي انا وأنت في القرن الثامن عشر للميلاد، ونقف الآن على أرض فرنسا" ص39، بهذا التجوال عبر الزمان والمكان أستطاعت الساردة أن تجذب القارئ للرواية، وتحيده قليلا عن قسوة الأحداث، وتجذبه أكثر إلى الرواية.
اللغة الخريفية
ومن الطرق الأخرى التي انتهجتها الساردة للتخفيف من وقع الأحداث اللغة الأدبية، وهذ أسهم في امتاع القارئ بتلك للغة مبتعدا قليلا عن قتامة الأحداث وفسوتها: "بدت أفكاري تلك الليلة مثل صوف انسل خيطها وتشابكت بقية الخيوط، ضوضاء في الخارج، أضواء تنعكس تتشاكس زجاج النوافذ وتتسلل عبر ستارة الشيفون كلصة، عربدة الشوارع، نباح الكلاب الضالة، هدير الأمواج الغاضبة، أصطكاك أسنان الغيوم، صراخ أغصان تص الرياح على التزاوج بها وإفراغ شبقها كأنها قطط في شهر شباط" ص111، نلاحظ وجود لغة الأدبية عالية ومتالقة، لكن الفكرة قاسية، كأن الالفاظ (تتآمر) مع المضمون على القارئ، بحيث يكون وقع القسوة مزدوج عليه، من هنا يمكننا القول أن تأثير اللغة الأدبية لم يكن بالمقدار الذي (يمحو/يزيل) السواد من الفقرة، لكنه خفف قليلا منها.
"كلما حل الشتاء تحولت ذاكرتي إلى حفر تمتلئ بآلاف الصور، تتقافز أمامي برشاقة تستفز الحنين بداخلي، أحاول هشها لكنها صلفة، متمرة، تزداد صلافة كلما ازدادت الصور داخل الحفر،كما حفر الطبيعة تماما، تمتيء وحلا، أوراقا ميتة جلبتها السيول الشابة" ص123، من المفترض أن تكون الطبيعة إحدى المخففات، كحال المرأة/الرجل، والكتابة/القراءة، والتمرد/اثورة، لكنها هنا لم تسهم في التخفيف بالقدر المطلوب، فكان أثرها ضئيل ومحدود.
"رياح تلك الليلة نزقة، ضربت بسوطها كل من وقف في طريقها، لم تسلم منها الأشجار ولا حتى الفتحات العالية، مطر غزير كما لو أن السماء أصابها نزيف داخلي، لم تعرف طعم النوم، كانت ليلة مخيفة انفجرت شبقا، ارتوت الأرض من نسغها فأوحلت تربتها، لقد كان جوا جنونيا، جنائزيا بامتياز" ص151، مشهد قاسي، وهذا ما نجده في الألفاظ أيضا، حيث هناك "ضربت، بسوطتها، نزيف، مخيفة، انفجرت، فأوحلت، جنائزيا" هذه المشاهد وغيرها جاءت من أجواء السجن التي تعيشها "حياة"، وكأنها تريد القول من خلال هذه الوقفات: أن اللغة الأدبية وما فيها من جمال، وأن الطبيعة وما تمنحه من هدوء وسكينة وفرح، لم تكن قادرة على إزالة ألم السجن وما فيه من وجع.
وبهذا تكون قد أوصلت فكرة الألم والقسوة من خلال (فشل) عناصر الفرح والتخفيف/الطبيعة، من القيام بدورها وبما يجب أن تكون عليه من فاعلية بإزالة آثار القسوة والشدة عن الساردة، ومن ثم على المتلقي.
الصور الأدبية
الصورة الأدبية تاتي كفاكهة في العمل الأدبي، لما فيها من جمال ومتعة، فهي تبث الفرح بالتأكيد، حتى لو قدمت صورة قاسية ومؤلمة، هذا لأنها تأتي بواسطة لغة أدبية حاملة/دافعة للتأمل والتخيل، وتعطي العقل مساحة للإبحار فيها والتأمل في جمالها، من هذه الصور، عندما يتم تناول الرجل السمين وما في قوله من سياط موجعة تسلع ظهر "حنظلة"، نجد هذه الفقرة: "... أبتعد عن ذلك البدين يا حنظلة ولا تحاول أن تمد يدك مرة أخرى في عش الدبابير"26، فهذه الفقرة رغم ما فيها من أمر ونهي، إلا أنها بشموليتها جميلة وممتعة، وهذا ما يجعل القارئ يلتقطها بلهفة وشوق، خاصة إذا علمنا أن الرواية تتحدث عن فكرة قاسية، وتستخدم لغة خريفية.
عندما يتم تناول الواقع الفلسطيني والعربي، نجد هذه الصورة: "استحدثوا لنا أوطانا اصطناعية من غير جذور، فإذا بنا نشكو العطش دون أن نموت، يتراكم علينا غبار القهر، نختنق وتبهت ألواننا، سماءنا مظلمة لا شمس لها" ص77، الجميل في هذه المشهد إيصال فكرة سوداء بصورة جميلة، بحيث تمحوا تماما السواد، وهنا يأتي فضل الصور الأدبية على اللغة الأدبية، فالأولى ممتع وجميلة، والثانية جميلة لكنها مؤلمة.
"أنه الصباح الأكثر وحشة، غصن عجوز يحدق بي من خلف زجاج الفتحات العلوية، أتبادل معه إشارات الصم والبكم.. أسأله عن الأرض..
يجيب ...إنها حزينة" ص129، فهنا تم خلق حوار بين "حياة والغصن" وهذا ما يجعل الصورة حية، وتأخذ القارئ إلى آفاق أخرى.
وتصف يوم صدر الحكم عليها بالسجن لمدة ثلاثة مؤبدات: "غدوت يومها كسمكة سردين في منقار طائر" ص151.
شعبية اللغة
من المخففات الأخرى التي استخدمتها الساردة، جعل الشخصيات تتحدث باللغة المحكية، وقد جاءت غالبيتها على لسان الجدة "حلوة" وبما أن تلك الأقول كانت متعلقة بفترة الطفولة البعيدة عن مشاكل وهموم الواقع، فقد كان لحديثها أثر إيجابي على القارئ كما كان على الساردة"حياة": "...هذا الوادي مسكون يا أولاد، لا تلعبوا فيه، وإذا مش مسدكين إسألوا إمهاتكن كم جاج راحن في الخم" ص98، هذه البساطة والسلاسة تجعل القارئ يستمتع بطريقة لفظ الجدة وبما يحمله حديثها من فكرة (بساطة)، حيث تعيده إلى أحاديث يحن إليها، وإلى أفكار يبستم لأنه اعتنقها يوما ما.
لغة الأنثى
لغة الأنثى تحمل النعومة والهدوء، كما أن صوتها غالبا ما يُقرن بالفرح والجمال، لكن بما أن "حياة" تتحدث عن ألم السجن وقسوته، فجاءت صوتها مزدوج، ناعم ومؤلم، جميل وموجع، تحدثنا "حياة" عن علاقتها "بحنظلة: "كما ثرثرت الريح مع الأغصان، القمر مع النجمات، كلها ثرثرات لا تسمعها إلا قلوب تشتيهها، أحبس أنفاسي حين استعيد نبرة صوتك وأنت بتوح لي بهذه العبارات حتى لا تزاحمها نبضات قلبي وأنت تبوح لي بهذه العبارات التي تزاد كلما حاولت قمعها.. تهمس في أذني.. الميناء جميل يا حياة" ص107، إذا ما توقفنا عند هذا المقطع سنجد فيه حاجة المرأة للرجل، وهذا واضح في الفكرة التي تحملها، لكن هناك الفاظ استخدمها "حياة" تشير إلى كونها أنثى وإلى حاجتها للرجل"حنظلة": "ثرثرت (مكررة)، تشتيهها، فتكرار وتلاصق حرفي الثاء والراء في "ثرثرت، وحرفي الهاء في "تشتيهها" يشيران إلى ان حاجة الأنثى "حياة" للقاء "حنظلة"، كما ان تماثل لفظي "قلوب/قلبي" يخدم فكرة الرغبة في تلاقي "حياة بحنظلة" وهناك ألفاظ مذكرة ومؤنثة تخدم فكرة أهمية التلاقي بين الأنثى والذكر: "الريح/الأغصان، القمر/النجمات" وهذا ما يجعل لغة الأنثى متميزة وجميلة وذات أثر ناعم على المتلقي.
"هل تصدق بأنني كلما تمثلتك أمامي شعرت بالفرح يعانقني، يصنع لي جناحين أحلق بهما بعيدا عن واقعي المر، أجوب سماء بألوان قوس قزح، تداعبني بقايا قطرات عالقة في غيوم حرة لا تكبلها القيود، تبث في نفسي طمأنينة وردية تجعلني أبكي كالأطفال، أطالب بقطعة حلوى أو بدمية قماشية ألقمها ثديي، أمارس معها دور أمومتي الضائعة" ص 117، إذا ما توقفنا عند الألفاظ التي جاءت بعد (تخيل) اللقاء "بحنظلة" سنجدها كما يلي: "بالفرح، يعانقني، جناحين، أحلق، أجوب، السماء، بألوان، قزح، تداعبني، قطرات، غيوم، حلوى، بدمية، ثديي، أمومتي" هذا الكم الكبير من الألفاظ البيضاء والناعمة يشير إلى أثر "حنظلة" الإيجابي على "حياة"، فقد منحها الأمل والفرح، وأيضا جعلها تحس بانوثتها، بكونها امرأة لها حاجات/غرائز يجب أن تمارسها: "طمأنئنة، أبكي، أطالب، ألقمها، ثديي، أمومتي" فهذه الألفاظ تخص المراة ومتعلقة بها، وهي تصارحنا بأهمية ممارسة دورها كأم، من خلال لقمتها ثديي، أموامتي" فهذه اللغة المتعلقة بحاجات الأم ومتطلباتها تمحو السواد من المقطع، وتجعله ناعما جميلا، لما فيه من إنسانية متعلقة برغبات المرأة وحاجاتها.
وفي موضع آخرى تتقدم أكثر من "حنظلة" موضحة أنها تحيا بوجوده: "...ما أسعدني في تلك اللحظة، كانت يدك دافئة وكان جسدي يشكو البرد، نفض دفء يدك جميع تواريخ عمري الحزينة، نفض عن قلبي غبار التشرد، الفقد، الموت، غبار كل ما هو قبيح في حياتي، تمنتيت لحظتها بأن أتسرب تحت جلدك وأسكن هناك لأموت معك" ص126، في هذه الفقرة "تستخدم "حياة" التوازن الطبيعي في الحياة من خلال: "دافئة/دفء، البرد" فهذه اشارة إلى التكامل بينهما، كما أنها كأنثى تكرر استخدام فعل "ينفض" والذي له مدلول جنسي، اضافة إلى المدلول الحسي والنفسي الذي جاء ضمن سياق المقطع.
الأب "حنظلة"
في غالبية الأعمال الأدبية التي تتاول مواضيع سياسية جاءت صورة الأدب فيها قاسية، أو تم تغيبه من خلال رحيله/موته أو من تجاهله كليا، في رواية "حنظلة" نجد الصورة السلبية للأب الرسمي/النظام، فهو من ناحية كان (مقصرا) بتربية وتعليم "حنظلة": "...ليمسكه من كتفيه ويهزه بقوة...لم أجبرتني على السفر؟ لم جعلت مني لاجئا في مدينة عاهرة؟ لم دفعت بي إلى هذه الطاولة، كيف أقامر ولم تعلمني قوانين الورق؟" ص9، صورة الأب هنا تحمل شيا من النظام الرسمي العربي، من هنا تم نسب حالة اللجوء له، وهذا يتوافق مع صوته في الأدبية، فكل الفشل في الحياة تنسب للنظام الرسمي وما يحدثه من خلل بنيوي في الافراد.
بينما عندما يتم الحديث عن الأب الحقيقي، نجد صورة أخرى، فالأب هناك كان وطنيا لم يتقهقر ويسليم بما هو كائن/حاصل، فعندما يتم تهامه مكن قل الرجل السمين بأنه باع أرضه ليتعلم ابنه "حنظلة" نجد هذا المقول من حنظلة: "انتفخت أوداجه واحمر وجهه، ثم جحظت عيناه، وانقض عليه، قال صارخا، أبي ليس خائنا، لم يسوف يوما لبضائع إسرائيل الرأسمالية ولم يبع شبرا من أرض أجدادي لهم" ص12، "حنظلة" يتحدث عن الأب (العادي)، فهو حاسما بموقفه من الاحتلال.
أب "حياة" وزوجته "زهرية"
لكن "حياة" المعتقلة والمحكومة بثلاثة مؤبدات، تحدثنا عن ابيها بصورة سلبية: "كثيرا ما كان أبي يشتم أمي ويتبعها بصقة طويلة، (حتى ولد ما قدرتي تجيبيلي تفووو عليك يا قصبة الصيد)" ص83، فهنا يتم الحديث عن ااب (العادي) الطبيعي، لكنه قدم بصورة الأب المتخلف، الأب الاشرقي الذي تتحكم في عقلية المجتمع الذكوري، من هنا كان قاسيا في معاملته أم "حياة" زوجته الأولى.
في المقابل نجده يعامل زوجته الثانية بطريقة مغايرة: "..لا أعلم هل كان أبي بالفعل يحب زهرية السالم، أم انه أحب طراوة جسدها في الفراش، ...نعم لقد كانت زهرية كالجمر المختبئ تحت رماد منطفئ، فما ان يختلي بها حتى أسمع عواءها، تلك الملعونة التي تبقى على النافذة مفتوحة قصدا منها، ... ابنة الكلب لقد كانت تقن ذلك الفن، وهذا ما كان يجعل ابي يجري خلفها كالكلب، دائم التمسح بحذائها بل كان مستعدا أن يعلقه من اجل رمشة رضا من عينيها" ص84، هذا الطرح يتوافق مع نظر المجتمع لزوجة الأب، ولنظر الأب لزوجته الشابة/الجديدة، فهو كذكر في مجتمع ذكوري يتعامل مع المرأة/الزوجة كما يتعامل مع أثاث البيت، فالفرشة القديمة ليست كالفرشة الجديدة، والسيارة القديم المهترئة ليست كسيارة الوكالة.
ولم تقتصر المعاملة القاسية للأم فقط، بل طالت ايضا الأبنة "حياة" أيضا: "...ابنتك تحسدني على ثوبي، أعلم بأنه لم يحبني يوما، لكنه لم يضربني بحياته مثلما فعل ذلك اليوم، كان أمامها كالحمار الحرون الذي يعجز عن مواجهة حفر.. نعم لقد كانت زهرية السالم كالحفرة أمام جبروت أبي" ص85، فزوجة الاب، والأب الجاهل والمتخلف يتحالفان معا ضد "حياة": "زهيرة أين ذهبت؟ بالأمس كانت معنا تفعل الأفاعيل تستخدمي كخادمة لها، تحرض أبي ليضربني، فتأتيني ضربات العصا دون تمييز على جسدي الهزيل، أهرب باكية إلى جدتي حلوة" ص139.
بعد ان تنكشف حقيقة "زهرية السالم" وأنها تخون زوجها، يتم التخلص من البائع الذي نام معها، وهنا ينتاب الأب الأسف والندم والحزن على كل ما بدر منه تجاه ازوجته الأولى، أم حياة وحياة، "...شدني بكاء أبي، كانت المرة الأولى التي أسمعه فيها يبكي، فهل أبكاه ذلك الوقت شرفه الذي تلوث؟ استخفاف زهرية بفحولته؟ ندمه على معاملته لأمي الطاهرة؟، العقاب الذي كان ينزله بي بسببها؟ شعوره بأنه كان السبب في كل ما حصل في العراقيب من قبل اليهود؟ أم أنه كان كالثور الذي التفت فجأة فلم يجد رفيق المحراث فاطلق خوارا عاليا؟" ص153، بهذا تكون "حياة" قدمت لنا صورة الأب الشرقي، الذي يمارس دوره كذكر، وليس كأب طبيعي، فكان سلوكه معها ومع والدتها قاسيا ولا يمحى من الذاكرة.
وهناك صورة (رمزية) للأب نجدها من خلال خيانة زوجته له وهو غافل عنها، فهذا الأمريتماثل مع حالة حدث للأنظمة العربية التي خذلها السلاح الفاسد الذي ابتاعته من الدول الأوروابية، التي كانت تتغنى به ومعها، فكانت سبب فقدانهم للأرض، وتبيان هوانهم وضعفهم امام شعوبهم، هذا حالهم وحال والد "حياة".
الرواية من منشورات دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 2021



#رائد_الحواري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطريق إلى المرأة في قصيدة -حافي القدمين- عبد الله المساعيد
- البساطة في مجموعة -إيسولينا وعجة بالفلفل الأسود- منجد صالح
- الفانتازيا في رواية ثلاثة في الليل المتوكل طه
- الرواية الكاملة -خوف- خالد خضر
- السواد في رواية -رائحة النوم- مازن سعادة
- جمالية التقديم في رواية -حجر الفسيفساء، سيرة روائية- مي الغص ...
- -أسرى وحكايات- في فضاء عمان تقرير: حسن عبّادي/ حيفا
- فنية إيصال الفكرة في قصة -عزاء خلف القضبان- أيمن الشرباتي
- العناب المر على مائدة النقاش في مكتبة بلدية نابلس
- الهم الشخصي والجمعي في -آن وقت الرحيل- وجيه مسعود
- كامل ياسين القصيدة الكاملة -رؤيا-
- المجتمع الذكوي في رواية -اليتيمة- جميل السلحوت
- التجديد في نوع الأدب غواية الزنزلخت عبد الله رضوان
- شكل وطريقة تقديم السواد والألم في -الجدار- سليمان أحمد العوج ...
- التاريخ والواقع في رواية -الصوفي والقصر-* سيرة ممكنة للسيد ا ...
- رواية سبعينيات القرن الماضي -الخيوط- وليد أبو بكر
- -بريق كاذب- عبد المجيد السامرائي
- استعادة وجوه غسان كنفاني بعد نصف قرن من استشهاده
- اكتمال جمال الشهيد في قصيدة حضور الشهداء
- عبث الزمن والسواد جروان المعاني


المزيد.....




- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - اللغة الخريفية في رواية -حنظلة- بديعة النعيمي