أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - الخراف الضالة - رواية- القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد (11)















المزيد.....


الخراف الضالة - رواية- القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد (11)


احمد جمعة
روائي

(A.juma)


الحوار المتمدن-العدد: 6958 - 2021 / 7 / 14 - 16:20
المحور: الادب والفن
    


1993

(فلاش باك)

"عندما وُلدتُ في عام 1985 بمستشفى الولادة بالمحرق كنت قاب قوسين من المقبرة الواقعة خلف المستشفى وكأنه أنشئ هناك حتى يكون الأطفال المولودون من غير قابلية للحياة أسرع إلى المكان الذي ينتظرهم، أخبرني خالي بوعلي الهوى فيما بعد أن جسدي الصغير كان لا يتقبل الحياة وصارع وجوده بقسوة متناهية حيث سارعت الموّلدة إلى استدعاء الأطباء المتواجدين حينها في المستشفي لإنقاذي من حالة الموت المحقق الذي كنت عليه، كان لوني أزرق قاتماً وعيناي متورمتين يميل لونهما إلى الأصفر الناصع وأعضائي كلها مع كل نبض فيّ ينبئ إلى أنني على موعد مع الموت بعكس شقيقي يعقوب الذي ولد وهو بحجم أكبر من المتوقع وصرخ أثناءها في كل من كان يحيط بوالدتي التي عانت من شدة الألم وهو يخرج بصعوبة وصلت حد النزيف وقد استدعى بقاؤها في المستشفى أسبوعاً ؟
كان الوقت صيفاً ودرجات الحرارة وصلت حداً لا يطاق وتشبع الجو برطوبة شديدة والتصق بخار الهواء البارد المنبعث من حجرة الولادة الجماعية بزجاج النوافذ، تذكرت ذلك من سرد والدتي الحكاية عشرات المرات لصديقاتها بعد سنوات من ذلك، كانت مولعة بسرد الأمراض والأعراض التي مرت بها كما تسرد تفاصيل يومياتها الرتيبة مع كل من تطرق الباب من الجيران، تقضي الساعات وهي تروي الأحداث في الوقت الذي تستمر فيه بالطبخ والكنس والغسيل، فكانت تقوم بعدة أعمال في وقت واحد بالإضافة إلى سرد القصص والحوادث، وعندما يفاجئها الخال تهرع إلى إلقاء أي من قطع القماش تكون حولها للمرأة الجالسة معها لتستر وجهها، فيما يمضي هو في طريقه منكساً رأسه من دون يلتفت ويكتفي بإلقاء التحية إذا ما كانت المرأة من الجيران القريبين وأحايناً يطلب منها نقل التحية إلى زوجها إذا كان من أصدقائه البحارة، أتذكر ذلك لأنني كنت عادة العب في الفناء أو أجلس فوق درجات السلم المؤدي إلى سطح الدار أستمع إلى بعض الحكايات التي ترويها بطريقة مشوقة أقرب ما تكون إلى المسلسلات التلفزيونية.
ذات يوم عندما جاءت سكينة جارتنا وبصحبتها أبنتها التي تبلغ من العمر ما يقارب السبع سنوات كان يومها عيد من الأعياد التي لن أنساها، فلأول مرة أجد نفسي بمواجهة فتاة بعمري ورأيت وعرفت منذ ذلك الحين أي شعور ينتابني وأنا أتطلع في وجه الطفلة التي جلست بمحاذاة والدتها وراحت تنظر نحوي فكنت أخفض نظري ثم أعود وأرفع رأسي كمن يسترق النظر إليها، وأبصرت في ذلك اليوم النور وسطع بداخلي شعاع من السعادة وأنا أرى حولي من يبادلني النظرات، وحين فرغت والدتي من رواية القصة التي كانت تسردها تململت سكينة ونهضت مستأذنة من والدتي وعندما التفتت نحو ابنتها أمرتها بالنهوض وهي تذكر أسمها فعرفت منذ ذاك الحين أسم الفتاة الذي ظل عالقاً بذاكرتي وهو فرح.
كان خروجي للمدرسة مصحوباً بوالدتي في أول يوم لي فيها هو يوم فزع مما حولي، إذ كنت أتوق دائماً للعلب حول عتبة الدار واجتاحني شعور بالوحدة وأنا لا اذكر سوى دموعي تبلل صفحة وجهي الطرية، كنت أرفل في ثوب أبيض قصير وحذاء بني واسع على قدمي اختارته أمي كعادتها حتى عندما بلغت العاشرة من عمري كانت تختار كل ملابسي من دون حتى أن أرافقها إلى السوق، كانت تعتمد على حدسها في تحديد مقاسات أحذيتي وملابسي إلى أن جاء يوم وتمردت فيه على هذا الطقس وبدأت أرفض ما تفرضه علي من ألوان وأشكال الملابس والأحذية، حينها أدركت أنني كبر ت وأن على خالي بوعلي الهوى أن يتكفل بالتعامل معي، إلا أن الرجل لا يفقه من أمر الشراء والتسوق شيئاً، كان الوقت يمر ببطء وكنت أتوق لأن أعيش أكبر من عمري الحقيقي وهو هاجسي الذي ملأ علي تصرفاتي الضبابية التي بدأت تغضب والدتي وتسعد خالي حينها، من يومها راح الخال أثناء الإجازات الصيفية يأخذني مع شقيقي يعقوب على ظهر سفينة ضخمة كنا نبحر فيها لثلاثة أو أربعة أيام عن اليابسة وكان ذلك في البداية يشحنني بالتوتر والخوف إلا أنه بعد فترة وجيزة بدأت أعتاد الأمر، فتح ذلك أمامي أفقاً واسعاً من المعرفة بالبحر والصيد والتعامل مع الأحداث بشغف أضفى على حياتي فيما بعد لوناً من المتعة، واكسب شخصيتي شيئاً من التعنت مع نفسي ومع الآخرين وزاد من شغفي لليابسة كلما طال الوقت في البحر، كنت في الليل حينما نهدأ على سطح السفينة بعد يوم حافل مع الصيد وبعد تناول وجبة العشاء التي غالباً ما كانت من الرز والسمك المشوي، استلقي على ظهري وأتطلع إلى النجوم في السماء وأقرأ فيها جمالاً لم أره من قبل، تأخذني السكينة مع صوت الموج الذي يرتطم بجوانب السفينة إلى عوالم من الخيال استيقظ منه على أصوات أحاديث البحارة وهم يتجادلون أو يمازحون بعضهم البعض مستخدمين بعض الألفاظ التي كان يرى فيها خالي الهوى أنها لا تناسب وجودي معهم وأنا مستيقظ حتى تلك الساعة فكان يؤنبهم على ذلك أمامي فيقومون بتغيير الحديث لوهلة ولكن سرعان ما يعودن إلى سيرتهم الأولى فيتركهم وشأنهم ويلتفت إلّي طالباً مني النوم فأغمض عيني وأبتعد عن النجوم وأكتفي بإرهاف سمعي للحوارات.
كان أكثر ما يربطني بعالم البحر هو الشمس عندما تخرج من سطح البحر فجراً وتتسلل خيوطها من الماء مبللة ثم تبدأ تدريجياً في الانحسار عن الأفق وتغادر إلى قلب السماء فتشتعل الحرارة على سطح السفينة ويسخن ماء البحر فتنبعث الحرارة منه ويبدأ يوم العمل بالعودة إلى سحب الأقفاص الهائلة من الماء وإخراج ما في جوفها من مختلف ألوان الأسماك، كان منظرها وهي تتقافز داخل الأقفاص يصيبني بالبهجة وأنا أتأمل مختلف أنواعها وأحجامها وألونها الزاهية، علقت تلك الصور بذهني حتى اليوم كلما عادت بي الذاكرة إلى تلك الحقبة الزمنية الشفافة والغادرة لأنها كانت تحمل صوراً من الخوف والذعر حينما تهب الرياح شمالية قوية أثناء العودة وتجعل من السفينة راقصة تتلوى وسط كومة الأمواج العاتية التي يقذف بها البحر كتلة هائلة في عبابه، يغرق سطح السفينة بالماء فيبلل كل شيء من حولنا ورغم الخبرة التي اكتسبتها من البحر بحكم سني إلا أنني أثناء عنفوان البحر كنت أركن إلى الهدوء في زاوية من سطح السفينة وأكتفي بمراقبة عمل البحارة متأملاً وجوههم الجامدة كالصخر لأستنتج من خلالها ما إذا كان ثمة ما يُفزع، كنت أبحث عن الخوف في عيونهم وحركاتهم ولا أجده فيهم حيث كل شيء طبيعي فيهم حتى أن بعضهم كان يذهب إلى الحمام بمؤخرة السفينة وهو عبارة عن صندوق مربع صغير من الخشب يتسع لشخص واحد يتبرزون فيه وهم يتحدثون في الوقت نفسه إلى بعضهم البعض أثناء ذلك وكنت أستغرب كيف يتسنى لهم ذلك وسط اضطراب الموج وتراقص السفينة كأنها قشة وسط العاصفة.
حين وقعت عيني فجأة على فرح بعد عدة سنوات رأيتها تنمو وبهرتني من حيث لم أتوقع ذلك، فقد برز صدرها وذابت بشرتها في حليب أبيض وأشرقت عينيها ببريق ساخر فيما اكتنز جسمها وظهرت فتنتها كطيف يرفل في جمال ساحق ذكرني بالمرة الأولى التي وقعت عيني عليها وهي طفلة، تعلقت بها كلما صادفتها في الطريق أثناء عودتها من المدرسة وتبادلنا النظرات ثم الأوراق الصغيرة المكتوبة تحمل رسائل سطحية حول الحب وقد اكتشفت فيما بعد أنها لم تفقه شيئاً مما كتبته لها إلى أن فوجئت بعد سنتين أو ثلاث على ما أذكر أنها قد تزوجت من أحد الجيران يكبرني بسنوات طويلة فزرع فيّ ذلك كراهية ومقت للرجل واحتفظت فيما بعد بذكرى لقائي الأول معها وهي طفلة مصحوبة بوالدتها سكينة في زياراتها لوالدتي، انخرطت بعدها على إثر الجرح الذي كسر كبريائي بسلسلة من المحاولات في التقرب من الفتيات من دون أن افلح حتى بلغت السابعة عشر حينما تعرفت على فتاة صغيرة مطلقة من أحد الجيران فأنشأت معها علاقة سرية لبضعة أسابيع وسرعان ما انكشف أمرها مع أحد الجيران وهو متزوج وله أولاد كان يستغلها مقابل مبالغ مالية شحيحة يدفعها لها كلما خرج معها، فرحلت مع أهلها من الحي بشكل غامض وسري من دون أن يكتشف أحد علاقتها بي وقد علقت صورتها بذهني كلما مر بخاطري طيف جسدها الطري وهو يقطر أنوثة كأنها ثمرة استوائية ساخنة، ازدهرت علاقتي بها في ليالي الصيف الحارة عندما كنت أتسلل إلى شقتهم الصغيرة بإحدى العمارات المؤجرة وهي تبعد عن مسكننا ببضعة منازل، ومن الغريب أنني لم أفكر يومها بالخطر ولا بالخوف وأنا اقتحم الشقة وأصعد السلم في ضوء الليل الشحيح، تواجهني نظرات من سكان البناية ممن يصادف أن التقي بهم وأنا في الطريق إلى شقتها الخالية بعد أن يغادر شقيقها للعمل وتخلد أمها للنوم، لم أشعر بخوف ولم يخطر ببالي لحظة وضعي لو صادف واكتشف أمرنا، كنت منزوعاً حينها من شعور بالوجل مقابل الإحساس بالشغف لملامستها واكتشاف تضاريس جسدها الممشوق الذي أثار فيّ حينها زهواً بالرجولة المبكرة التي أيقظت فيّ كتلة الشبق للجسد النسائي.
عرفت الخوف لأول مرة حينما فاجأني الخال وهو يقتحم عليّ الحمام الذي نسيت إغلاقه وأنا أقوم بالاستمناء ومن يومها بدأ يتسلل إلي الخوف من القيام بأي عمل له علاقة بالجنس."


****

إثر رفع حالة الطوارئ ساد التوتر الأجواء مرة أخرى ضربت نوبة من الكراهية المتخفية تحت الجلد نفوس البعض من السكان وعصفت بالمشاعر المحتقنة بين بعض الأفراد تجاه بعضهم ببعض وظهرت بوادر مقاطعة المحلات والمتاجر من قبل البعض وبرزت الطائفية تنذر بحرب نفسية استيقظت كأنها جمرة من تحت الرماد، كان رذاذ الكراهية يتفاعل مثل المطر الأسود الذي يهطل ممتزجاً بغازات وغبار وأبخرة سامة تحملها معها مع رذاذ الأفق وهو ينهمر ملوثاً البيئة، لم تسر الحياة كما ظن يعقوب وأمثاله من الذين أرادوا العودة إلى الطمأنينة، فمع انتشار أخبار عودة أعمال التظاهر والاحتجاجات ببعض القرى والمدن أدرك أن البعض القصاص الذي بشر به البعض كان نسج خيال، وقال بوعلي معلقاً عندما سأله يعقوب عن رأيه في عودة الاحتجاجات رد عليه بأنها التربة التي زرعناها هي أرض "صبخة" وهي كلمة قالها كناية عن الأرض الميتة التي لا تنبت حتى شوكاً، أدرك يعقوب أن خاله فهم الحياة على طريقته، وسمع منه بعد ذلك أن عرس حمد يجب أن يجري بسرعة لأن الآتي مازال في علم الغيب، ولا تراهن على الغيب ما لم تملك الحاضر، وعندما نقل الخبر إلى حمد الذي كان عائداً للتو بعد اختفائه كان الشباب في الحي يجهزون للاحتفاء به بإقامة حفلة رقص شعبي مما أثار دهشة يعقوب الذي خشي من أن تنعكس علاقته بالفتاة من الطائفة الأخرى في هذه الأجواء المشعبة بالتوتر والاحتقان، فسر الأمر بداخله بأن سكان الحي لا يعلمون بماهية اختفائه حتى هو نفسه لا يعلم بخلفيات اختفاء شقيقه الذي اكتفى بالقول أنه كان مع الفتاة وأن هاتفه كان فارغ البطارية، شاعت أخبار الحفل المزمع أقامته في الحي وتسابق الشباب على تزيين محيط المنزل بالإضاءة وأعلام البحرين وفيما استعدوا للحفل، كان بوعلي الهوى يطل من نافذة غرفته ويتأملهم وابتسامة تعلو وجهه وبهجة تكتسي ملامحه وقد شعر بأنه على وشك رؤية حمد متزوجاً وقد انتظر هذا اليوم مدى حياته، وتمنى أن يلحق به يعقوب، لم يتوقع مجيء هذا اليوم من قبل إلا بعد أن فتح الطريق حمد برغبته في الزواج وقد وافقه رغم كل الظروف، فقد أراد له أن يخطو هذه الخطوة بالطريقة التي يراها وتعجبه، كانت أمنيته أن يرى أبني شقيقته قد تزوجا ليهنأ فيهما قبل رحيله، كبت مشاعره تلك وسارع في اتخاذ خطوات الزواج مستعيناً ببعض الأموال التي اكتسبها من بيعه أرضاً كان يحتفظ بها سراً طوال هذه السنين من أجل هذا اليوم.

****

فاجأت حرارة الطقس الجميع عندما بلغت 48 درجة مصحوبة برطوبة مرتفعة تجاوزت 90% وقد كان ذلك يوم بدا فيه الشارع كأنه فرن حراري وكانت رؤية رجال الأمن القابعين عند الحواجز الأمنية تحت أشعة الشمس الحارقة تبعث في نفوس سكان المحرق التعاطف، فكان يعقوب يمر عليهم بسيارته ويوزع عليهم كراتين زجاجات المياه يكتنفه شعور بالسعادة، كانت روحه النابضة بالحب تدفعه لمشاركة غيره من الناس التعاطف ورأى في تصرفه هذا تعبيراً عن إحساسه بالطمأنينة التي وفرها هؤلاء الرجال للناس خلال الاضطرابات التي سادت البلاد، كانت الحرارة في هذا اليوم محور حديث الناس ودفعت كثيراً منهم إلى الخروج إلى برك السباحة والتسوق في المجمعات التجارية وهذا ما فعله سعد بن ناصر حينما تغلب على تعبه وتجاسر على صحته ونهض مرتدياً ملابس رياضية خفيفة رغم إصرار زوجته أم محمد على منعه من الخروج خشية على صحته، فما كان منه إلا أن غافلها واتصل بأحد مساعديه وطلب منه تجهيز يخته ثم مر بالسيارة على بوعلي الهوى واصطحبه معه.
كان مرسى السفن بمنتجع البندر البحري وقت الظهيرة هادئاً للغاية بعكس ما كان عليه في السنوات الماضية في مثل هذا الوقت الذي يصادف إجازات الصيف في المنطقة، كان فيما سبق يعج بالحركة التي تضاءلت ربما بسبب محاذاته لقرية سترة الملتهبة بالاحتجاجات وأعمال العنف، وصلت سيارة سعد بن ناصر "الرنج روفر" البيضاء اللون يقودها بنفسه متحدياً نصائح أطبائه وبجانبه جلس أحد رجال الدين وفي الخلف اثنان من أصدقائه ومعهم بوعلي الهوى الذي لم يحرك عينيه عن الشارع، وصل المكان تتقدمهم سيارة جيب ومن خلفهم سيارة أخرى من رجاله الذين عادة ما يرافقونه إلى الأماكن البعيدة عن المحرق وقبل أن ينزل الجميع من السيارة سارع رجلان كانا في انتظارهم بقرب رصيف السفن المقابل لسلسلة الشاليهات.
كانت الحرارة ملتهبة بسبب حدة أشعة الشمس والرطوبة في قمتها تنبعث مشبعة ببخار البحر ورائحته التي تسربت من رائحة الأسماك لتحرك أحاسيس بوعلي الهوي الذي وقف ونظر للبحر وقال مازحاً.
- كأنه زلال العسل.
- ماذا قلت يا الهوى؟
قلب الهوى يده يلعب بأصابعه ورد موضحاً.
- البحر مثل العسل.
ضحك سعد بن ناصر فيما قهقه الرجلان وهما يحملان حقيبتين صغيرتين.
- منذ متى لم ترى البحر؟
لوى رقبته وتقدم من حافة الرصيف وهو يضحك.
- أراه كل يوم من نافذتي بمنزلك الدائم ولكنه ليس كهذا البحر، هنا يبدو كأنه مستورد.
غرق الجميع في الضحك وعبروا إلى اليخت الذي كان راسياً بانتظارهما، وعندما وطئت قدما الهوى سطح اليخت الهائل المزود بكل الوسائل المتاحة والتي بدا من خلالها أشبه ما يكون بسفينة سياحية صغيرة، التفت بوعلي الهوى حوله وردد بصوت خفيض لا يكاد يسمع.
- ما شاء الله تبارك الرحمن.
دبت الحركة على سطح اليخت وظهر عدد من الرجال من كل مكان وكأنهم النمل تسللوا بغتة من كل منفذ من القارب الكبير وبدأت الاستعدادات للرحيل وكان واضحاً بان القارب كان مجهزاً كلية من قبل مجيء سعد وأصدقائه وظهر من ملامح الرجال العاملين منهم الربان المسئول عن المطبخ والمسئول عن الرحلة ومنهم من ينتظر إشارة ليقوم بعمل ما، كان الجميع متأهبين للإبحار بمجرد أن يعطيهم سعد بن ناصر الأمر.
عندما شق اليخت طريقه في البحر وابتعد عن اليابسة اقترب الهوى من صدر اليخت وراح يعاين بعض الأجهزة بنظره وكأنه ينسق المكان على نمطه القديم، رأى البحر مختلفاً عن البحر الذي ارتاده طوال عمره فاللون بدا له صناعياً والسماء برزت بيضاء تتخللها ثقوب رمادية وفقدت زرقتها التي كانت في زمنه تشبه لون البحر ذاته، وحتى إذا ما اخترقتها الثقوب السوداء في الشتاء كانت تبدو له سماء طبيعية، حتى حرارة الطقس كانت شديدة الوطأة وكأن النار تأكل من البحر، في زمنه الشمس وديعة وساكنة ويتدثرون بها كغطاء حامي لهم من فجوة الطقس الحار، رأى من على بعد الأفق يكتسي لوناً مزيفاً ليس به الجمال الفطري الذي كان يرافقهم عندما ترحل سفنهم عند الفجر، هاله ما جرى للبحر وارتسمت على وجنتيه ملامح حزينة وهو يعود إلى خلفية اليخت حيث جلس الجميع في صالته الخارجية المطلة على البحر وصفت الأواني والكؤوس وأنواع الأطعمة مع زجاجات النبيذ الأصفر فيما وضعت زجاجات وعلب البيرة في صندوق من الفلين وطمرت بمكعبات الثلج، وحين أقترب الهوى منهم ناداه سعد بن ناصر مفسحاً له مكاناً بجانبه وهو يفك ياقة ثوبه.
- عدت أخيراً للبحر منزلك الأزلي.
احتل الهوى زاويته بمحاذاة الرجل وابتسم من دون أن يعلق فيما رأى الآخر شيئاً غريباً يكتسح ملامحه ويمنعه من الكلام فسارع بالتوجه إليه من خلال نظرة لا تفصح عن مشاعره، قال سعد وهو يلوح بيده صوب البحر بينما كان اليخت يشق طريقه وسط الموج الساكن.
- هل اختلف البحر عن أيامكم، أرى في عينيك رفضاً للبحر الذي تنتمي إليه.
راقب الهوى البحر وتأمل الماء يتناثر على طرفي السفينة ثم عاد بنظره للرجل الجالس بجانبه وقال مازحاً.
- هذا البحر مستورد، كل شيء فيه صناعي.
لم يتملك سعد بن ناصر نفسه من الضحك وهو يربت على كتف الهوى قائلاً بعد أن توقفت موجة الضحك.
- يقطع ابليسك.. كيف اخترعت هذه العبارة.
تنهد الهوى واستطرد قائلاً وهو يشير بيده في اتجاه اليابسة.
- على أيامنا بمجرد أن نغادر الساحل تختفي الدنيا من حولنا ولا نرى سوى البحر والسماء، انظر الآن منذ أن غادرنا وأنا اشعر بأننا مازلنا على اليابسة، كل شيء يبدو واضحاً أمامك.
كان يشير إلى بعض المناظر للبنايات التي ما زال بالإمكان رؤيتها بعد المسافة التي قطعها اليخت منذ أن تحرك.
أخذ الظلام يحل بانسياب ساكن واختفت آخر خيوط الشمس الذهبية وأشعلت الإنارة على ظهر اليخت الذي أخذ يبطئ من سيره وسط المياه التي راح الجميع يراقبون الموج وهم واقفين بانتظار توقف اليخت كلية في بقعة أشار إليها الربان الذي أخذ يتلفت وكأنه ينتظر موافقة سعد بن ناصر الذي كان لاهياً بمكالمة من هاتف الثرياء الذي يحمله عادة عندما يغادر إلى البحر أو عند إجراء مكالمة دولية سرية.
كان المغزى من ركوب سعد ورجاله البحر ليس فقط للصيد والترفيه، اكتشف بوعلي الهوى أن هؤلاء الرجال يقصدون وسط البحر للتحدث في صفقات تجارية ومالية وسياسية من شأنها تغيير مسارات البلد، كان يستمع إليهم والكلمات تخرج من أفواههم كأنها قناديل ملونة في وسط أضواء حادة، تتدحرج في الفضاء وتلامس كل شيء، لا يوجد محظور في عباراتهم، بداية من اسم الملك مروراً باسم ولي العهد ثم كلمات مثل المقاطعة والحوار والتغيير وكان واضحاً من كلامهم له أنهم متفقون على شيء واحد ومختلفون على أشياء عديدة، كان محور الاتفاق بينهم تحول السنة إلى معارضة، لم يفهم الهوى كلمة مما قيل هناك وبين الفينة والأخرى يأخذه سعد بن ناصر جانباً ويحتسي معه الشاي الأخضر وهو يقول مقهقهاً.
- بارك لنا هذا الحديث فوجودك معي صار ضرورة.
استنشق الهوى نسيم البحر كما لو أنه عطراً ورد وهو يسرح بنظره بعيداً وقد أخذته فكرة نائية لمكان لم يخمنه الآخر وهو يتطلع إليه.
- أطلعني على أوضح عبارة قيلت يمكنني أن أفهمها.
اهتز جسم سعد بن ناصر في الهواء قليلاً وتمايل فمد له الهوى يده وصلبه ليعيد له توازنه، ضحك سعد متسائلاً.
- من أكبر من الآخر؟
رد الهوى بزهو.
- هذا سر، سأدفنه معي في التراب.
غرق سعد بن ناصر في نوبة أخرى من الضحك وابتعد منضماً إلى الآخرين فيما توجه الهوى نحو الربان وتحدث معه للحظات ليجلبوا له بعدها خيطاً للصيد.
عاد الآخرون إلى نقاشهم وكان بعضهم قد بدأ بشرب الكحول بوجود رجل الدين معهم والذي استفزه منذ البداية وجود بوعلي الهوى على ظهر السفينة ويبدو أنه تفاجأ به هذه المرة وهي الوحيدة التي يراه فيها، وعندما دارت الكؤوس بين بعضهم قال الشيخ معاتباً.
- ماذا سيقول عنا الآن؟ بل ماذا سيدور في رأسه من تخمينات عني أنا بالذات؟
أغمض سعد بن ناصر عينيه للحظة كأنه يفكر بشيء أبعد من هذا المكان الذي يجلسون فيه ثم فتحهما قائلاً.
- ما بالكم تهدرون وقتكم وتضيعون طاقتكم؟
صمت ونظر في عيونهم وأردف موبخاً.
- كيف ستغيرون البلد وأنتم تخشون رجلاً كهلاً؟
التفت إلى بوعلي الهوى وأشار إليه بأصابعه كلها فيما كان الآخر يجلس على بعد منهم وألقى بخيط الصيد في البحر وغرق في التأمل.
- لعلمكم فقط، هذا الرجل أنقذ البلد بكلمة دفعتني لتغيير مساري، وللعلم أيضاً يملك عقلاً بوزننا كلنا وهو للعلم أيضاً لا يقرأ ولا يكتب ويتظاهر بأنه لا يفهم وهذه صفة الحكماء لا الجهلاء المدعين.
ثم ختم وهو ينهض .
- أنا مستعد أن أصحبه حتى إلى القبر.
رأى سعد بن ناصر النسمات الباردة تأتي من جهة البحر وشعر بحرارة الشمس أدفأ من المعتاد، سار نحو الهوى وقد وجده يعالج سمكة علقت بخيطه فابتسم وقال.
- أنت الوحيد يا صاحبي فينا تملك العالم بين يديك.
رفع رأسه في ذات اللحظة التي وخزته السمكة بشوكتها فقال معلقاً.
- حتى الأسماك صارت تقاتل.
تنهد سعد بن ناصر وأثنى ركبتيه بصعوبة وهو يجلس بقرب الهوى وقال وعينيه على السمكة التي تمكن الهوى من فكها ثم رمى بها في البحر وقذف بسؤاله فجأة في وجه الرجل.
- أيهما تظن أقوى المرأة أم السمكة؟
مال الهوى برأسه صوب الآخر وهمس قائلاً.
- السمكة حينما تعاند ولا تلتقط الطعم تصيبك باليأس.
التفت إلى الرجال القابعين على مقربة وأشار إليهم متسائلاً.
- ما رأيك فيهم؟
- هم رجالك.
- هل تثق بهم؟
رفع الهوى يده إلى الأعلى وقذف بخيط الصيد بعيداً والتفت إلى صاحبه قائلاً.
- أثق بالبحر.
أشار إليه سعد بن ناصر مازحاً.
- ألم يغدر بك كل هذه السنين؟
رد الهوى بسؤال آخر.
- إلى ماذا ترمي يا صاحبي؟
نهض سعد بذات الصعوبة التي جلس بها وقال مغادراً المكان.
- مشاكستك.
مع حلول الظلام سحب بوعلي الهوى خيطه من الماء، أضيئت أنوار اليخت وتحرك إلى رقعة أخرى من البحر فيما ظهر من على بعد قارب آخر متجهاً نحوهم، كان رجل الدين مع آخر من المجموعة أثناء ذلك يصليان فيما آخر من المجموعة وقف ماسكاً طرف جدار الكبينة الوسطى بيد وبيده الأخرى أمسك سيجاراً كبيراً راح يدخنه وينفذ منه رائحة بدت لبوعلي الهوى زكية.
حين اقترب القارب وكان يبدو من هيئته أنه يتبع خفر السواحل، عاد أدراجه بمجرد أن لمح اليخت، عندئذ اجتمع الرجال حول سعد بن ناصر مرة أخرى فيما ربان اليخت انشغل بالبحث عن موقع آخر، دار الحديث بين الجميع في مواضيع مختلفة إلى أن تمحور سؤال وجهه رجل الدين إليهم حين قال.
- أين تسير البلد؟
قال أحدهم..
- إنها واقفة؟
ثم قال آخر..
- من سيحركها؟
هنا تدخل سعد بن ناصر وتوجه بالسؤال إلى بوعلي الهوى الذي كان مغمضاً عينيه وبدا عليه الاسترخاء حتى أيقظه السؤال.
- ماذا فعلت بشأن حمد؟



#احمد_جمعة (هاشتاغ)       A.juma#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ازرع الورد حتى لو كان جارك يزرع الشوْك...
- لا عزاء للصحافة العربية...
- ماذا تعلمنا بعد كل محنة؟
- ثلوج يوليو...
- من بيع الأجساد إلى بيع العقول (تجارة الرق الجديدة)
- الخراف الضالة - رواية- القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد (10 ...
- قدس حماس أم قدس إسرائيل؟!
- الخراف الضالة - رواية- القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد (9)
- من شروط استقرار الدول...
- الخراف الضالة - رواية- القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد (8)
- الخراف الضالة - رواية- القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد (7)
- قطارنا ما يزال يسير على الفحم!
- الخراف الضالة - رواية- القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد (6)
- الخراف الضالة - رواية- القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد (5)
- رواية عن مقال ممنوع...
- حذار من انهيار الطبقة الوسطى!!
- ميغان وأوبرا وينفري ثورة جديدة!
- الخراف الضالة - رواية- القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد (4)
- الديمقراطية الدكتاتورية!!
- الغوغاء قادمون!


المزيد.....




- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ ...
- عارف حجاوي: الصحافة العربية ينقصها القارئ والفتح الإسلامي كا ...
- رواية -خاتم سليمى- لريما بالي.. فصول متقلبة عن الحب وحلب
- تردد قناة سبونج بوب على النايل سات …. أجدد الأفلام وأغاني ال ...
- الكشف عن القائمة القصيرة لجائزة -PublisHer-


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - الخراف الضالة - رواية- القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد (11)