أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - الطايع الهراغي - غسّان كنفاني في ذكرى استشهاده / الشّاهد والشّهيد















المزيد.....


غسّان كنفاني في ذكرى استشهاده / الشّاهد والشّهيد


الطايع الهراغي

الحوار المتمدن-العدد: 6952 - 2021 / 7 / 8 - 02:42
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    


" أين هي الأرض غير المحتلّة في الكون ؟؟ وأين هي الأرض المحتّلة في الثّورة ؟؟".
– محمـود درويـش--
"لن أرتدّ حتّى أزرع في الأرض جنّتي أو أقتلع من السّماء جنّتها أو أموت أو نموت معا".
--غسّــان كنفانــي--
" كلّما ذكروا لي الخطوط الحمراء طار صوابي ، أنا أعرف خطّــا أحمر واحدا
أنّه ليس من حقّ أكبر رأس أن يوقّع وثيقة اعتراف واستسلام لإسرائيل".
-- أيقونة الرّفض ناجــي العلــي --

الإهـداء: إلى الرّائعة آنـي هوفـا،أرملة غسّـان ، فلسطينيّة كانت ولم تزل. جاءت بحثا عن الحقيقة فباتت صوتا للحقيقة، دانماركيّة الأصل والتّنشئة، فلسطينيّة الهوى والانتماء.
حمّلها وِزْر دمه إرثا ثقيلا، فما بدّلت تبديلا وما رامت غير الوفاء والنّضال سبيلا.

السّبت 08 جويلية 1972 صباحا، أشلاء غسّــــان كنفانــي تتناثر في بيروت– يوم كانت بيروت تعاند مكر التّاريخ علّها تصبح للعروبة عاصمة، ويوم كان للعرب العاربة قِبلة تستر بعضا من عوراتهم -- لتحلّق في سماء" أرض البرتقـــال الحزيـــن "،" زهــرة المدائــن " وبها تتوحّد كما توحّد غسّان بالقضيّة الفلسطينيّة. شنيعٌ اغتياله وغريبٌ ، وأغرب منه نجاحه في مخاتلة الموت ستّة وثلاثين حولا بلياليها، ذلك هو نصيب كنفاني من الحياة. وذلك ما استطاع أن يستلّه من مخالب الموت . فالفلسطينيّ ، حالما يتمرّد على العاديّ ويخرق قوانين الحياة الطّبيعيّة وحالما يتصرّف في معادلات رُسمت خطأ علّه يرجع الأمور إلى وضعها الطّبيعيّ، و ما إن يشرع في إعداد مراسم تطليق خيمة اللاّجئ بكلّ حمولاتها السّلبيّة ليعبّد " الطّريق إلى الخيمة الأخرى"، خيمة الفدائي بكلّ حمولاتها الإيجابيّة، حتّى يصبح إفلاته من الموت ضربة حظّ. ألم يقل شاعرهم " مـازلــت حيّـا، ألـف شكـر للمصادفـة السّعيـدة " ؟؟ ( محمـود درويـش ) . غسّان غزال يطاول بركانا ، يحوّل الكلِم إلى قذائف، يرسم بالكلمات مسارا لمرحلة، مرحلة الاستفاقة من غيبوبة الهزائم . عنــه قال درويــش " تسلّــم علــى السّائــح فتصيبـه عـدوى فلسطيــن ، تقبّــل امـرأة فتصيــر مريــم المجدليّــة ، تعانـق طفــلا فيستكمـل طفولتــه فــي إحــدى قصصــك"، " آه مـن يرثـي بركانـا ؟؟ " . وعنه قال بيـار أبي صعب " إذا نظرنا إلى كتاباته الرّوائيّة والقصصيّة والمسرحيّة والنّقديّة نحـسب أنّنــا أمـام كتيبـة مـن المؤلّفيـن وليس كاتبا فردا ". الشّاعر كمــال ناصــر تمنّى جنازة في حجم ما أقيم لغسّان وأوصى أن يُدفن إلى جواره ، آنــي هوفــا كنفاني ثبّتت بكبرياء أراد الأعداء كسرها " صحيح أنّ جسـده تناثـر أشـلاء ولكـنّ روحـه بقيــت عصيّـة علـى الاغتيــال "، إحدى صديقاتها كتبت تؤكّد أنّها لم تفهم القضيّة الفلسطينيّة ولم تقدّرها قبل أن تقرأ رواية "رجـال فـي الشّمـس" ، رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير علّقت على اغتياله " اليـوم تخلّصنـا مــن لـواء فكــريّ مسلّـح كـان يشكّــل خطـرا علـى إسرائيـل أكثــر ممّــا يشكّــله ألــف فدائـيّ مسلّــح " . فهل استشعر غسّان غدر الموت وتربّصه به في كلّ آن وحين فعمل على تقليص المسافة بين فلسطين التي يحملها معه نبضا في القلب حيثما أمكنه أن يتدبّــر إقامة مؤقّتة مهينة ومستفزّة وفلسطين التي زرعت فيه عدوى الأمل في عودة يدرك أنّها قد تتأخّر وعليه أن يعمل على تسريعها بأن يجعلها موضوعا مركزيّا في أغلب مؤلّفاته ، فألزم نفسه بأن يختزل في سنوات معدودات ما عجز عنه غيره في ضعف هذا العمر وما تعجز مؤسّسات عن الإتيان به في عشريّات. في غياب مؤسّسات بحثيّــة ما كان يمكن إلاّ إن تتّخذ هذه المهمّة طابع المغامرة الفرديّة : تأسيس الأدب الفلسطينيّ المقاوم، تجميعا وتعريفا، كجزء من مقاومة شاملة.
أصدر غسّان حتّى تاريخ اغتياله من قبل الموساد 18 كتابــا موزّعة بين الرّوايات والقصص والأقاصيص والمسرحيّات عدا مئات المقالات والدّراسات في الثّقافة والسّياسة والمتابعات الصّحفيّة. ............................................................................................. ...............................................................................................................................................

لم يخض جدالا حول حدود التّماس بين الأدب والسّياسة ، حول جدوى الكتابة ، ماهيّتها ، علاقتها بالسّياسة. الكتبة ترياق أبديّ ،عندما تأسر صاحبها تغنيه عن مناعة القطيع وتجنّبه إمكانيّة السّقوط وتدفعه إلى التّسامي . ألم تصبح رسومات حنظلة بوصلة لناجي العليّ والوفاء له ديْــنا تجاه طفل العشر سنوات الذي أراد له مبدعه أن لا يكبر ما لم يعد إلى فلسطين ؟؟ ، " إنّ شخصيّة حنظلة بمثابة أيقونة حفظت روحي من السّقوط ...أشعر بأنّ هذا الطّفل كنقطة ماء على جبيني يصحّيني ويدفعني إلى الحرص ويحرسني من الخطإ والضّياع "، " لو ذوّبوا يديّ بالأسيد سأرسم بأصابع رجليّ ".الكتابة انتصار الذّاكرة على آفة التّلاشي .حرب ضدّ شبح الإماتة . مهمّة ورسالة تمليها المرحلة، تفرض نفسها على صاحبها. " في اليوم الذي أترك فيه هذه المبادئ ستكون قصصي فارغة ".هكذا أجاب غسّــان مدللته ورفيقته في الحلم والاستشهاد ابنة أخته لميـــس حسيــن نجــــم ( 17 سنة ) لمّا طلبت منه أن يتخلّى عن العمل النّضاليّ ويتفرّغ لكتابة القصص. فأن تكون فلسطينيّا وتمارس فلسطينيّتك ترجمته أن تخاتل الموت ، أن تسبقه في القبض على ما تحتّمه اللّحظة ، أن تخدم قضيّة شعب تحوّل إلى قضيّة، أن تغوص في بحر السّياسة، أن تنحت شكل موتك ، إذ موت عن موت يفرّق. الكتابة مهمّة نضاليّة شائكة ومتشابكة، مسؤوليّة أدبيّة وسياسيّة وتاريخيّة. الأدب جزء من الصّراع . إجابة عمليّة وردّ على دعاة السّياسة والأدب لا يلتقيان. . الكتابة عند غسّان مكابدة ومعاناة وتصوير للمعاناة بشرط أن لا يكون تجسيم المعاناة كابحا بل حافزا. الكتابة قراءة هادفة وواعية في/ ولتاريخ فلسطين ، المنفى: سببه ، العودة :سبلها، التّحرير: دعائمه. كان همّه أن يسائل الماضي عن أسباب الهزيمة . وليس المطلوب التّجريح وجلد الذات تكفيرا عن ذنب تجاه هزيمة ما كان يجب أن تقع . ليس المطلوب بكاء النّكبة ولا توهّم حلم عودة كاذب بل وضع الماضي على سرير التّشريح لتعرية أسباب الهزيمة ووضع الحاضر على محكّ النّقد لفهم فداحته. المنفى إلغاء للوجود، عقاب ، غربة واغتراب، عار وضياع .
واعتقاد الفلسطينيّ أنّ الوجود ممكن خارج الوطن كذبة باهتة تسفّهها التّجربة اليوميّة المعاشة.
....................................................................................................................................................................................................................................

" رجــال فــي الشّمــس"[ إحدى روايات غسّان كنفانــي ] بحثوا عن خلاص فرديّ، الهجرة إلى الكويت عبر الصّحراء. فماذا كانت النّتيجة ؟؟. الموت اختناقا داخل الصّهريج ، خزّان الموت ، انتقمت منهم الصّحراء رمز الضّياع والتّيه وانتقم منهم الصّهريج رديف الانغلاق والعجز وانعدام الحركة . لم ينالوا حتّى شرف الاختيار على غرار البطل المأساويّ. "طوال عشرين سنة كنت أتصوّر أنّ بوّابة مندلبوم ستُـفتح ذات يوم .... ولكن أبدا لم أتصوّر أنّها ستُفتح من النّاحية الأخرى" (عائــد إلـى حيفــا ) ، العودة الحقيقيّة لا طريق لها غير النّضال . والحقّ مع مظفّــر النّــواب عندما يصرخ " الله أكير من قلة الفهم / قاتلنا دوليّ / وثمّة اجتهاد وحيد هو البندقيّة " . التّاريخ عند الآخرين يبدأ من الوجود ( قبل التّقسيم ) إلى الضّياع ( بعد التّقسيم والتّهجير) . من العزّ إلى المذلّة . فلا غرابة إن هم اكتفوا بلعن الحاضر وبكاء النّكبة . أمّا عند غسّان فالتّاريخ يبدأ من المنفى ليسائل الماضي عن ميكانيزم الهزيمة وليعود من جديد بسلاح النّقد إلى الحاضر حيث المنفى -- المخيّم -- لن يكون أبدا لعـنة بل سيمثّـل ضريبة الحرّيّة ووسامها . الكتابة [ رواية / قصّة / مسرح / مقال..] إعادة الوعي المنفلت إلى ذاته . لم يكتب غسّان بكائيّة عن ضياع الوطن بل سطّــر ملحمة كيف نسترجع الوطن. العودة في النّهاية أمر مفروغ منه رغم أنّ " ذلك شيء تحتاج تسويّته إلى حرب " [ عائـــد إلــى حيفــا ]. السّؤال كلّ السّؤال : كيف نجعل من المخيّم متراسا ؟؟. كيف تتحوّل الهزيمة إلى حافز بعد أن كانت خطيئة تلازم الفلسطينيّ ولعنة تلاحقه. ليس المطلوب تجميل المخيّم والتّأقلم مع المنفى وتأمين المؤقّــت واختزال الحياة إلى مجرّد رغيف وسقف . الكرامة تقتضي وطنا ، وماعدا ذلك سراب خلّب . ضياع الوطن جرح والماضي صنو الهزيمة، ولكنّ محو العار لن يكون إلاّ بتحويل الواقع البائس إلى سبب للثّورة على السّبب الحقيقيّ : الاحتـــلال . " لا أريد أن أموت هنا في هذا الوحل ووسخ المطابخ. أنت تكتب رأيك وأنا لا أعرف الكتابة ولكنّي أرسلت ابني إلى هناك .فعلت بذلك ما تقوله أنت . أليس كذلك ؟؟ " [ أمّ سعـــد / إحدى روايات غسّــان كنفانـي ] . الفعل ، الرّفض ، الكلام، الصّراخ ، الكتابة أشياء تعطي لحياة الفلسطينيّ معنى ولكيانه هدفا . الفلسطينيّ ، ما إن يتحوّل إلى فدائيّ، يصرخ " صار للعيش طعم .الآن .الآن فقط ". الكتابة احتضان لتاريخ المقاومة ومساهمة في إذكاء نارها ، في وقت كان يبدو أنّ مجرّد انبعاثها مغامرة . الرّواية عنده تأسيس للحظة الوعي ومقاومة للإحباط وتمرّد على الواقع المتردّي . الأدب عند غسّان تأريخ لتاريخ الشّعب الفلسطينيّ منذ " النّحــس الأوّل ". شعب بلا ذاكرة شعب لقيط لذلك وعى غسّان أهمّيّة وراهنيّة تأسيس هذه الذّاكرة والحفر فيها وصقلها ما دامت الذّاكرة التي لا تشحذ نفسها تتآكل. لم يبحث عن عالميّة موهومة ولكنّ انغماسه في المحلّيّ لم يُــفقد شخصيّاته وجهها الإنسانيّ. أمّ سعد مثلا شخصية بسيطة كسائر النّاس في كلّ أصقاع الدّنيا. في بساطة تامّة تعيش وفي صمت وبدون ضجيج تساهم في الثّورة .أدركت بحسّها الشّعبيّ أنّ عليها أن تنجب أبناء للثّورة ففعلت .تقول عن ابنها سعد " أودّ لو عندي مثله عشرة ...إذا لم يذهب سعد فمن يذهب ". انحاز غسّان للبسطاء انحيازا واعيا ومقصودا لأنّهم مستقبل المقاومة وفتيلها .هذا التّأسيس كان غسّان افتتحه في كتابه [ ثورة 1936 /1939 ، خلفيّات وتفاصيل وتحاليل ] . دراسة تاريخيّة لمرحلة مهمّة من تاريخ فلسطين، أطول ثورة على الإطلاق ، 06 أشهر إضراب عامّ و04 سنوات تمرّد وعصيان وكفاح مسلّح . هدف الكتاب هو حفظ الذاكرة والحفر في أسباب الفشل عن الهزيمة في الهزيمة كواقعة قائمة في ذاتها وليست قدرا ، تماما كالخروج من فلسطين ، خطأ جسيم وجريمة لا تُغتفر، ولكنّ المأساة وقعت ، وواقع ما قبل النكبة ما كان يمكن إلاّ أن يؤدّي إلى النّكبة . التّعريّة ضروريّة . ميزتها أنّها تكشف أنّ الهزيمة كائنة في الأرض وليس في السّماء . وعي التّخلّف مهمّة نضاليّة مريرة صادمة ، ولكنّ الوقائع عنيـدة، ومكاشفة الذات واجب نضاليّ لأنّ البحث عن أفق يستوجب نقدا ذاتيّا يمرّ وجوبا عبر دراسة التّجربة وتشريحها ونقدها ، وليس حجب أخطائها ، لضمان إنجاح المعركة -- المعارك -- القادمة. ولم يكن إعلانه عن وجود أدب مقاوم داخل فلسطين المحتلّة [أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948 / 1966 ] سبقا بقدر ما كان عمليّة فدائيّة على حدّ الاستعارة الرّشيقة لمحمود درويش .كان الكلّ يجزم بأن لا أدب إلاّ خارج الأرض المحتلّة فمشى النّقيض إلى نقيضه وانقلب الضّدّ إلى ضدّه ، وبات الكلّ يلهج أن لا أدب --لا شعر بالأساس -- إلاّ في الأرض المحتلّة. كان الاعتقاد السّائد أنّ فلسطينيي الدّاخل أقليّة مهزومة أقصى اجتهادها أن تنتظر خلاصا من جهة ما . وكان فضل غسّان تلك العمليّة الفدائيّة الجريئة : الإعلان عن وجود مقاومة في الدّاخل كجزء من نضال شعب جزّأته الجغرافيا وظلم ذوي القربى ووحّده التّاريخ ، مقاومة محتشمة، محدودة ولكنّ مجرّد وجودها إثبات لاستحالة التّعايش مع المحتلّ . يومها أطلق محمود درويش صيحته المشهورة " أنقذونا من هذا الحبّ القاسي" .
كان الهاجس الذي يؤرّق غسّـــان كنفاني في كلّ ما كتب هو أن يصبح أمر العودة متروكا للصّدفة وأن تفرض الخيانة نفسها وجهة نظر، لذلك أصرّ على أن يكتب " قصّة إنســان فلسطينــيّ بسيــط عــاديّ يمتلكــه فجـأة إحسـاس لا يقهــر، هــو إحســاس العــودة ، لا يستطيــع البقـاء بعـده ليـوم واحــد كلاجــئ " [ فضل النّقيب /عالم غسّان كنفاني، غسّان كنفاني إنسانا وأديبا ومناضلا. ]. نصوص غسّان نصّ جامع تتداخل فيه الأجناس وتتزاوج ، وتمّحي فيها الحدود بين ما هو قـصّ وما هو مسرح، ما هو يوميّات وما هو سيرة ، ما هو روائيّ وما هو واقعيّ .كتابة متشابكة تشابك المأساة الفلسطينيّة التي يستحيل السّيطرة عليها إذا لم تقتحمها من أكثر من زاوية ومدخل. أعمال غسّان الرّوائيّة لا يمكن فــكّ ترميزها وشفراتها الدّلالية خارج الملابسات التّاريخيّة التي تسيّجها، قراءة في خصوصيّات المراحل المتشعّبة التي مرّت بها القضيّة الفلسطينيّة ، يشكّل فيها التّاريخ الخلفيّة الأساسيّة لكلّ الأحداث ليصبح الشّخصيّة المركزيّة التي تؤثّث فعل كلّ الشّخصيّات.
..............................................................................................................................................................................................................................
" رجـــال فـــي الشّمـــس" ( 1963 ) ، تأريخ لمرحلة تمسح حيّـزا زمنيّا يمتدّ من واقعة الاستيطان ( 1948) إلى عجيبة هزيمة 1967 ، ما قبل تشكّل العمل الفدائيّ وبروز حركة المقاومة . إدانة الارتهان لــ"حلـــم " الخلاص الفرديّ مجسّمة في الإحباط الذي طال الشّخصيّات الثلاثة .رحلة في الصّحراء ، هي رحلة الفلسطينيّ التّائه في / وبين مخيّمات اللّجوء والتّشرّد .الصّحراء رمز الهلاك والموت والتّــيه والضّياع. " أبطالها " مسكونون بالعجز، تبتلعهم الصّحراء وتقتل حلمهم ، يجابهون أهوال الرّحلة بالصّمت. يموتون اختناقا في الخزّان . فيدينون بشكل رمزيّ كارثيّة البحث عن حلول فرديّة كطريق لا يقود إلاّ إلى موت قائم وفي أحسن الحالات إلى موت مؤجّل.
" لمـــــــاذا لم تدقّـّـوا جدران الخـزّان ؟؟ لمــــــــاذا لم تقولوا ؟؟ لمـــــــــاذا ؟؟. وفجأة بدأت الصّحراء كلّها تردّد الصّدى: لمـــــــاذا لم تدقّوا جدران الخـزّان ؟؟ لمـــــــــــــاذا لم تقرعوا جدران الخــزّان ؟؟ لمــــــــاذا ؟؟ لمــــــــاذا ؟؟ لمـــــــاذا ؟؟ ". على هذه النّهاية الفاجعيّة والصّرخة المشبعة بالإيحاءات تنغلق الرّواية لينفتح الجرح وينتصب السّؤال مثنى وثلاثا ورباعا وأكثر. السّؤال إدانة لمرحلة اتّسمت بالصّمت والتّردّد والتّخاذل ، إدانة للسّياسات الفاشلة التي أضاعت الوطن وراكمت الهزائم.

................................................................................................................................................................................................................................................
"
"مــا تبقّــى لكــم " العمل الرّوائيّ الثّاني لغسّـــان كنفانـي ( 1966). تأريخ لمرحلة ثانيّة. بداية تشكّل الوعي مجسّدا في ظهور التّنظيمات السّياسيّة وبداية الكفاح المسلّح مع تلمّس بعض المنظّمات الفسطينيّة لمراجعات فكريّة ." مــا تبقّــى لكــم "هي عمليّا الفصل الثّاني من "رجــال فــي الشّمــس". إجابة عمليّة على السؤال المأساوي " لماذا ؟؟ لماذا ؟؟، لماذا ؟؟ " . حامــــد الشّخصيّة المحوريّة يقرّر الفرار من غــــزّة هربا من فضيحة ارتكبتها أخته مريم بالزّواج من زكريّا الخائن [ لا ينعته حامد إلاّ بالنّتن ] وبحثا عن طهوريّة تمثلها الأمّ المقيمة في الأردن . يوغل حامد في عباب الصّحراء ، صحراء النّــقب التي يحتلّها العدوّ الصّهيونيّ ليجد نفسه وجها لوجه مع عدوّه ،جنديّ إسرائيليّ أضاع طريق دوريّـته. عالمان متضادّان ، فدائيّ ومحتلّ ، لغة الحوار متعطّــلة فالأمر تحتاج " تسويّته إلى حرب ". " وفجأة جاءت الصّحراء ، رآها مخلوقا يتنفّس على امتداد البصر، شدّ نفسه إلى التّراب وأحسه دافئا ناعما ". صحراء النّقب، على خلاف صحراء " رجــال فــي الشّمــس " ، ليست عدوّا بل قارب نجاة ، منها يستمدّ حامد تماسكه ، عنها يقول " لأوّل مــرة فــي حياتــي افتقـدت السّــلاح فعــلا هنا ". " مــا تبقّــى لكــم "رحلة عبور من خيمة اللاّجئ إلى خيمة الفدائيّ ، من البحث عن حلّ فرديّ لهمّ فرديّ إلى تلمّس سبل تحويل الهمّ الفرديّ إلى همّ جماعيّ في رحلة البحث عن خلاص.
.................................................................................................. ......................................................................................................................................

" أمّ سعــد " ( 1969 ) العمل الرّوائيّ الثالث لغسّان كنفاني. عمل يملي انتباها لما قد يبدو ثانويّا وشكليّا لأنّه مشبع بالدّلالات : " الإهــداء إلـى أمّ سعد الشّعب والمدرسة ". لماذا ؟؟. أمّ سعـد هي أمّ الفلسطينيّ المولود الجديد الذي أعطى للمخيّم طعما وهويّة بانخراطه في العمل الفدائيّ. به تعتزّ وبه تفاخر " إذا لـم يذهــب سعـد فمـن يذهــب ؟؟ " . في مدرسة المعاناة تعلّمت ومن معاناتها يتعلّم الرّاوي( غسّان كنفاني ) .السّرد في الرّواية مسند بشكل شبه كلّيّ إلى أمّ سعــد ، هي تسرد وتعلّق والرّاوي يستمع ، يتلقّى ، يلتقط ، يتعلّم . وحتّى عندما ينوبها في السّرد فعـنها يتحدّث وإيّاها يصف ومنها يستفسر. احتفال غسّان كنفاني بالمرأة واقتناعه بدورها المركزيّ في نضال الشّعب الفلسطينيّ تجسّد في العنوان " أمّ سعـد " بلا اسم لأنّها أمّ الفدائيّ ، أمّ الفدائيّين. و تجسّد في" إهدائها " مجمل السّرد وفي المدخل فهي ليست وهما روائيا تخييليّا بل هي شخص من داخل المتن السّرديّ ، وهي " امرأة حقيقيّة أعرفها جيّدا ، وما زلت أراها دائما وأحادثها وأتعلّم منها " . فكيف يسمو الواقع والواقعيّ على التّسجيليّ ؟؟ وكيف يُشحن بأبعاد رمزيّة تجعل الشّخصيّة حيّة لا تموت؟؟.
الرّوايات الثلاثة، سباق مسافات طويلة في مغامرة البحث عن خلاص: من سلبيّة الحلّ الفرديّ لهمّ فرديّ وكارثيّته بالموت المأساويّ) لـــ" رجال في الشّمس " إلى محدوديّة المجابهة الفرديّة بحلّ فرديّ لهمّ جماعيّ ( ما تبقّى لكم ) إلى جدوى الحلّ الجماعيّ لهمّ جماعيّ بنضال جماعيّ " أمّ سعد " .
............................................................................................................................................................................................................................................

" حين يبتسـم المخيّم تعبـس المـدن الكبيـرة " ( محمـود درويـش )، أمّ سعـد، " تصعد من قلب الأرض " تفجّر قرآنها، تعلن أنّ " خيمـة عـن خيمـة تفــرّق" ( غسّان كنفاني). كبُـــر الطّفل يا غسّــان وصار ندّا، لم تعد الصّحراء ترعبه ، التحم الشّتات بالدّاخل ، تعاظمت الفكرة وتصاغرت الدّولة. أمّ سعــــد التي منها تعلّمتَ جدوى الكتابة ، مفرد في صيغة الجمع، أمّ لكلّ أطفال الحجارة والمقلاع، فلسطينيّة كانت ولم تزل، فلسطينيّة الهمّ والحلم ، فلسطينيّة في حزن بهيّ يشبهها ومحال أن يشبه حزن غيرها ، تلوح دائما من بعيد البعيد " وكأنّها ترتقي سلّما لا نهاية له" . ألم تقل عنها "هذه المرأة تلد الأولاد فيصيروا فدائيّين، هي تخلّـف وفلسطين تأخذ "؟؟، " خالد العائد الأوّل " [ عائد إلى حيفــا ] قد تطوّح به السّنون وحوادث الزّمن و النّيران الصّديق -- وما أكثرها -- وغدر حكّــام الصّدفة ، وطالما أنّه " مـا يــزال يسيـر" فحتما سيصل، ابنك فايــــز ورّط نفسه في عهد "عندمـا أكبـر أريــد أن أكــون مثـل أبـي، وسأحــارب لكــي أعــود إلـى فلسطيــن، وطـن أبـي، والأرض التـي حدّثنـي هـو وحدّثتنـي أّمّ سعــد كثيـرا عنـها " فبات له أسيرا، استطاب " الأسر" فقرّر أن لا محيد . آنـي أوفــا اختارت أن تكون فلسطينيّة زيادة عن اللّزوم منذ " قـرّرت الصّمـود والبقـاء ( في لبنان ) والتّمسّك بالهدف الذي استشهدتَ أنت من أجله ". جاءت بيروت في رحلة استكشاف فصارت فلسطينيّة ولا تزال وستظلّ من الرّأس حتّــى أخمص القدمين . ..................................................................................................................................................................................................................................
لم يرث غسّان أحدا .ولا انتظــرَ من أحد رثاء . لعلّه تمــاوت ، كما الشّهداء يتماوتون، لمّا حاصره الموت من كلّ الجهات. لم يساوم على قضيّة لتكون موضع رثاء. فأيّ عار يرتكبه الذين باعوا ذممهم مدخلا للمتاجرة بالقضيّة وساروا في جنازتها [هي في الأصل جنازتهــم ] صاغرين ؟؟. لم يشكّ لحظـةً في قناعة. فأيّة فضيحة ترتكبها جحافل مأجورة تباهي بأنّها تحرّرت لمّا تنصّلت من كلّ قناعة ؟؟.
قد تُقبَــر ألف حقيقة، تلاحقها جحافل الظلام ، يصدرون عليها الحكم قبل المداولة .و لكنّ الحقيقة تظلّ دوما حقيقة حتّى لو اضطــرّ قائلها إلى مغادرة المدينة، كما تقول الحكمة اليونانيّة.
غسّــان ، غزال أنت يكتب حبّا لشعب بأرض وأرض بشعب، جســدٌ أنت ينسحب ، وأمل أنت ينفجر. يسافر الجسد، يرحل عن أحبّة إلى الأحبّة. وتبقى الفكرة ، صاحبها في لا مكان وهي في كلّ مكان.



#الطايع_الهراغي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جائحة الكورونات وجوائح الحكومات/ مرض الغباء
- الشّيــخ إمـــام في ذكرى رحيله السّادسة والعشرين / ما كلّ ال ...
- الشّهداء يتماوتون ولا يموتون / بعض الانتصارات أشدّ عارا من ا ...
- إرادة التّحرير في فلسطين / النّظام العربيّ في محكمة التّاريخ
- - أرض البرتقال الحزين - / - جذور تستعصي على القلع -
- فلسطين ، إرادة التّحرير/ تهافت الهرولة إلى التّطبيع
- محمد علي الحامّي في ذكرى وفاته / عِبرٌ واعتبار
- من لا أرض له لا بحر له ، ولا منفى
- محنة الإضراب عن التّفكير// جاحة التّراشق بأطباق التّراسل
- رسالة مفتوحة الى الرئيس بن علي // - وقف حما رالشيخ في العقبة ...
- هرطقات تونسية في مقامة قيسيّة
- تخليدا للمناضلات والمناضلين / نوّال السّعداوي رحلة الخلود ال ...
- اغتيال الفعل السّياسيّ في تونس / هزلت حتّى سامها كلّ مفلس
- كورونا الاستهتار بالمفاهيم و الفوضى المنفلتة من عقالها
- استفحال الأزمة في تونس/ جائحة كورونا وجائحة التّرويكا
- مشهد ميلودرامي في تونس: تناسل الأزمة // تذرّرالحلول
- الوفاء كلّ الوفاء للشّهداء /الذكرى السّنويّة الثامنة لاستشها ...
- المشهد في تونس/ بين توهّج الثورة وتسلّط الدّولة
- تونس: وحديث عن - الاحتجاجات -
- الوفاء كلّ الوفاء للمناضلين والشّهداء. الذكرى السّنويّة الأو ...


المزيد.....




- شاهد.. مبادرة طبية لمعالجة الفقراء في جنوب غرب إيران
- بالفيديو.. اتساع نطاق التظاهرات المطالبة بوقف العدوان على غز ...
- الاحتجاجات بالجامعات الأميركية تتوسع ومنظمات تندد بانتهاكات ...
- بعد اعتقال متظاهرين داعمين للفلسطينيين.. شكوى اتحادية ضد جام ...
- كاميرا CNN تُظهر استخدام الشرطة القوة في اعتقال متظاهرين مؤي ...
- “اعرف صلاة الجمعة امتا؟!” أوقات الصلاة اليوم الجمعة بالتوقيت ...
- هدفنا قانون أسرة ديمقراطي ينتصر لحقوق النساء الديمقراطية
- الشرطة الأمريكية تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة ...
- مناضل من مكناس// إما فسادهم والعبودية وإما فسادهم والطرد.
- بلاغ القطاع الطلابي لحزب للتقدم و الاشتراكية


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - الطايع الهراغي - غسّان كنفاني في ذكرى استشهاده / الشّاهد والشّهيد