أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جيلاني الهمامي - جدلية السياسي والنقابي في تجربة الحركة النقابية التونسية















المزيد.....


جدلية السياسي والنقابي في تجربة الحركة النقابية التونسية


جيلاني الهمامي
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 6933 - 2021 / 6 / 19 - 02:58
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


جدلية السياسي والنقابي
في تجربة الحركة النقابية التونسية

جيلاني الهمامي
كاتب عام سابق لجامعة البريد
في الاتحاد العام التونسي للشغل

نشأت الحركة النقابية في تونس بصورة مبكرة وبشكل غير متناسق تمام التناسق مع التطور الطبيعي للعنصر العمالي في التركيبة الطبقية للمجتمع التونسي. ولا شك أن هناك عوامل عدة لعبت دورا في التعجيل بهذه النشأة منها بالخصوص احتكاك العنصر العمالي المحلي بالتجربة النقابية المستوردة مع انبعاث مراكز إنتاج عصرية ( أي جديدة على منظومة الإنتاج في تونس ) مثل المناجم والموانئ وخدمات النقل الحضري من جهة وإحساس العمال التونسيين بطبيعة الميز بينهم ونظرائهم الأوروبيين في جميع مجالات الحياة المهنية والعامة من جهة أخرى.

وإلى جانب ذلك لعب العنصر المثقف دورا هاما في استحثاث ظهور نقابات تونسية خالصة كردة فعل على مساوئ فروع النقابات الفرنسية العاملة في تونس. ونذكر أن انبعاث جامعة عموم العملة التونسيين كان على يد محمد علي الحامي العائد لتوه من ألمانيا محملا بجملة من المعارف والاطلاع على خصائص الحراك الاجتماعي الذي عايشه في ألمانيا في تلك الفترة ( الأوضاع الثورية الألمانية بين سنة 1918 – 1922 ) والطاهر الحداد وعدد من رموز الحركة الاضرابية لصائفة 1924 ( مختار العياري والطاهر بودمغة ومحمد الخياري الخ ...).

من جهة أخرى لا بد من القول إنه لا يمكن فصل هذه التجربة عن المخاض العام الذي كانت تعيشه البلاد في فترة ما بين الحربين وبالتحديد في السنوات التي تلت الحرب الكبرى الأولى. فقد شهدت الساحة التونسية حركية غير مسبوقة ظهرت خلالها الجمعيات الرياضية والثقافية الخاصة بالتونسيين في العاصمة وفي عديد الجهات الأخرى ( جندوبة وتالة وسوسة الخ ...) وعرف الوعي السياسي قفزة نوعية مهمة بعودة الكثير من المغتربين الذين حملوا معهم أفكارا جديدة وبدأت تتبلور فكرة تنظيم العمل السياسي والنقابي والتعاوني عبر عنها ظهور " الحزب الحر الدستوري التونسي " والحزب الإصلاحي " و"فرع الأممية الشيوعية الثالثة في تونس " و" نقابة المعلمين " و" جامعة عموم العملة التونسيين ". ويندرج هذا التطور ضمن سياق عالمي انطبعت خصائصه بالتحولات الحاصلة في روسيا وانعكاساتها على الحركة الاجتماعية في العالم قاطبة وكذلك ضمن الحراك الذي شهدته المنطقة ( بعث حزب الوفد في مصر وظهور الجمهورية في تركيا الخ ... ).

ازدواجية النقابي والسياسي منذ النشأة
تلعب الصدف أحيانا دورا يحقق ما لا تسطيع مئات الخطط والبرامج تحقيقه. ذلك ما يمكن المجازفة بالقول أنه ينطبق إلى حد بعيد على ما حف بتأسيس " جامعة عموم العملة التونسيين ". فقد اتجهت النية عند محمد علي الحامي في بادئ الأمر إلى بعث جمعية " الاتحاد التعاوني التونسي " لإسداء خدمات تعاونية والإصلاح الاجتماعي أسوة بما كان يجري في بلدان أوروبا وألمانيا على وجه الخصوص ولكن اندلاع إضراب عمال الرصيف في تونس وحمام الأنف وبنزرت أعطى لمجرى الأحداث اتجاها آخر. إذ سرعان ما انبثق عن لجنة تنظيم الاضراب نقابة هدفها كما جاء في الفصل الأول من قانونها تجميع العمال في " دائرة اقتصادية للدفاع عن مصالحهم الأدبية والمادية ". وقد خلقت هذه الخطوة جدلا واسعا في صفوف المثقفين التونسيين واجتذبت لها القوى السياسية والعناصر الثورية فالتحق بها الجناح الراديكالي من الحزب الحر الدستوري " الدستوريون الثوريون " ومناضلو فرع الأممية الشيوعية بتونس الذين وجدوا فيها المجال للترويج لأفكارهم والاطار لتحقيق هدفهم : بعث الجبهة الوطنية.

أصبحت جامعة عموم العملة مركز اهتمام كل الحركة الاجتماعية والسياسية والمثقفة في تونس وعلق عليها جميعهم أمالهم بمختلف مستوياتها " المادية والأدبية ". لقد تجاوزت نقابة محمد علي في برنامجها السقف الإصلاحي لحزب حسن القلاتي وخطت خطوة أكثر جرأة في المطالبة بالاستقلال الوطني متجاوزة بذلك دعوة الثعالبي إلى إحياء " دستور 1861 " وبدا برنامجها الداعي صراحة للاستقلال الوطني وإصلاح المجتمع أقرب إلى برنامج حزب سياسي منه إلى برنامج نقابة بالمعنى التريدنيوني للكلمة.

وبمعنى ما يمكن القول أن الخط الراديكالي لجامعة عموم العملة لا فقط فيما يتعلق بالمطالب المادية لعمال الرصيف وبعض الفئات الأخرى التي التحقت بالجامعة وبدأت تتململ لمساندة المضربين وإنما خاصة للمطالب السياسية الواضحة التي رفعتها والتي أضحت لها صدى ما انفك يتسع هو السبب الذي عجل بهجوم السلطة الاستعمارية على التجربة النقابية الوليدة. في كلمة كانت شرور السياسة حاسمة في مصير اول نقابة في تونس ولم تشفع لها نواياها الاجتماعية الإصلاحية ومواقفها النقابية على أرض الميدان.

محاولة أخرى وخيبة أخرى
لم يتح المستعمر لجامعة عموم العملة التونسيين من الوقت غير بضعة أشهر ليهجم عليها بشراسة وليضع حدا لتجربتها وكان ينبغي على الطبقة العاملة وعموم الشعب في تونس انتظار سنة 1932 ليقع الاعتراف مجددا بحق الانتظام النقابي الذي فسح المجال مجددا لإحياء " الجامعة " على يد بقايا مناضلي التجربة الأولى وبقيادة بلقاسم القناوي سنة 1937. غير أن تحاشي الخلط بين السياسي والنقابي في هذه التجربة لم يكفل لها تلافي المصير الدراماتيكي الذي عرفته سابقتها.

تأسست " جامعة عموم العملة التونسيين " الثانية في مناخ اجتماعي وسياسي محلي ودولي مغاير نسبيا للمناح الذي حف بميلاد التجربة الأولى. فعلى الصعيد العالمي كان الصراع على أشده ضد الفاشية الصاعدة وكانت كل المؤشرات تنبئ باندلاع حرب عالمية أخرى. وكانت فرنسا تتأرجح بين تجربة قيام " الجبهة الشعبية " وسقوطها وسقوط كل الوعود التي أغدقتها على المستعمرات بنيل الاستقلال والحرية. وكانت الأوضاع الاجتماعية في تونس على درجة كبيرة من الاحتقان عورفت موجة إضرابية قوية ومواجهات عنيفة خلفت قتلى وجرحى. وعلى خلاف الفترات السابقة كان الحزب الدستوري الجديد سندا قويا لهذه التحركات وداعيا للتصعيد لذلك وبحكم تأثيره في تركيبة الجامعة الجديدة مارس ضغوطا قوية من أجل أن تتبنى الاضراب العام احتجاجا على ترحيل حسن النوري وعلى قمع الشعبين المغربي والجزائري. غير أن بلقاسم القناوي الذي رأى في ذلك زجا بالنقابة في " أمور " ليست من أولوياتها واهتماماتها رفض الانسياق في هذا التمشي وحاول النأي بنقابته عن السياسة حتى تبقى منظمة نقابية صرفة. ( 1 ) لا شك ان القناوي كان يستحضر المآل الذي آلت إليه تجربة جامعة محمد علي وخير بالتالي أن لا يتعدى سقف اهتمامات جامعة عموم العملة الثانية المطالب المادية الإصلاحية عسى أن تتلافى قمع السلطة الاستعمارية.

لم تأخذ فكرة الفصل بين ما هو نقابي وما هو سياسي في ظل تلك الأوضاع المتفجرة في تونس كما في المغرب الشقيق والجزائر تحت نفس المستعمر الفرنسي موضوع جدل ونقاش فكري وسياسي هادئ ومتزن بل سرعان ما تحول إلى تصادم بين النقابة وحزب الدستور الجديد الذي مر مباشرة إلى محاولة إزاحة القناوي من على رأس المنظمة النقابية واعتمد في ذلك شكلا فجا وتسلطيا حتى انتقلت المعركة أمام المحكمة وهكذا ازدادت الأزمة عمقا وسارت " جامعة عموم العملة التونسيين " في نسختها الثانية إلى الفشل فالاندثار.

مرة أخرى حكمت السياسة وإن في الاتجاه المعاكس بل حكم اختلال التوازن بين السياسي والنقابي على تجربة " الجامعة " بالفشل في ظرف كانت عوامل كثيرة ترشحها للنجاح. والحقيقة أن المغالاة في التحصن بـ" الروح النقابية الخالصة " والتنصل مما هو سياسي علاوة على التسلط الحزبي الدستوري هو الذي عجل هذه المرة بموت تجربة القناوي. وقد تكفل هذان العاملان بالمهمة فيما بقيت السلط الاستعمارية تراقب الصراع دون أن تتدخل كأنما كانت على يقين من ان عوامل داخلية للتجربة تكفيها شر التدخل السافر كما فعلت من قبل مع محمد علي الحامي.

الاتحاد العام التونسي للشغل : حزب سياسي في ثوب نقابة
قد يكون من المجازفة بمكان القول أن إقدام حشاد على بعث الاتحاد العام التونسي للشغل جاء نتيجة مخطط مسبق استوعب بصورة واعية دروس الماضي. ذلك أن معطيات تاريخية مشهود بصحتها تفيد أم ما أقدم عليه حشاد ورفاقه وعمال المناجم في الرديف قبل ذلك ( أول من بادر ببعث نقابة مستقلة ) أن ظهور النقابات المستقلة في الجنوب كان في بدايته عفويا إلى حد بعيد. وبطبيعة الحال وكما جرى الأمر في الحياة تكبر الأحلام وتتضح معالم المشاريع الكبرى كلما أحرزت الخطوات الأولى النجاح. وتصديقا للقولة الفرنسية الشهيرة " لا بد من ثالثة بعد مرتين " jamais deux sans trois نجحت المحاولة وانبعث الاتحاد العام التونسي للشغل على الصورة التي أرادها حشاد ورفاقه واستمرت التجربة حتى اليوم وعلى امتداد أكثر من سبعين سنة وتفردت بجملة من الخصائص منها هذا التوفيق اللامتناهي بين النقابي والسياسي.

ينبغي القول أن لأغلب مؤسسي الاتحاد تجربة نقابية في الأطر النقابية الفرنسية، التي كما يقول انجلز تشبعت مثلها مثل كل نقابات البلدان الأوروبية اللاتينية ( إيطاليا وفرنسا وإسبانيا خاصة ) بروح الفوضوية والفوضوية النقابية وتشربت عميقا مبادئ العمل المطلبي في ابعاده التريدونيونية الممزوجة بالاهتمامات السياسية والوفاق الطبقي مع رأس المال الكبير رغم الانتقادات اللاذعة ضده وضد الدولة والمركزة ومعاداة التنظيم الطبقي الحزبي.

ولئن لم تفصح تجربة الاتحاد عن تبنيها لهذا الأفكار في معانيها الفوضوية الأصلية والصريحة فإنها عكستها بهذه الدرجة بحسب الظروف والملابسات. وسنرى فيما يلي تجليات التأثيرات العميقة للمدرسة النقابية اللاتينية في تجربة الاتحاد العام التونسي للشغل قديما وحديثا.

إن الظروف السياسية والاجتماعية التي حفت ببداية تجربة الاتحاد وربما أيضا الأوضاع التي أحاطت بتركيز مؤسسات " الدولة التونسية الناشئة " والصراعات التي رافقتها صلب حزب الدستور من أجل " تملك الدولة " ثم التحولات التي عرفتها اختيارات التنمية في عهد " التعاضد وحتى فترة الليبرالية الاقتصادية طوال سنوات السبعين " بررت " تباعا الدور المزدوج للاتحاد العام التونسي للشغل كمنظمة مهنية نقابية من جهة وكفاعل سياسي شبيه لعب أدوارا شبيهة وإلى حد بعيد بأدوار الحزب السياسي " العمالي" في جبة منظمة نقابية.

لنعود قليلا إلى السنوات الأولى لميلاد الاتحاد. فقد وجدت الحركة الوطنية التونسية بعيد الحرب العالمية الثانية في الاتحاد العام التونسي للشغل الإطار الأمثل لسد الفراغ الذي تركه اضمحلال الحزب الدستوري القديم وانحسار الحزب الدستوري الجديد واهتراء مصداقية الحزب الشيوعي التونسي جراء تبعيته لمؤسسات المستعمر السياسية والنقابية. ولعل ما ساعد الاتحاد على ملء الفراغ اتساع دائرة تأثيره بسرعة في صفوف الطبقة العاملة التونسية ومراكزها الكبرى ( المناجم وعمال الفلاحة ) من جهة وقدرته الكبيرة على استيعاب المطالب المهنية الاجتماعية ومزجها بالمطالب الوطنية الكبرى : الاستقلال والحرية. وللتذكير فإن الاتحاد مول المقاومة المسلحة بعديد العناصر وربط معها صلات متينة في الوقت الذي أبدى الحزب الدستوري حيالها تحفظات بل وعبر بعض قادته عن موقف معادي تجاهها ( الهادي نويرة مثلا ).

أدت التطورات السياسية والاجتماعية في تونس أواخر الاربعينات وبداية الخمسينات من القرن الماضي إلى ظهور أربع مكونات كبرى للحركة الوطنية راهنت كلها، وإن بدرجات متفاوتة كلمن موقعه وبتصوره الخاص، على الاستقلال الوطني هي الحزب الدستوري بشقيه البورقيبي واليوسفي وحركة المقاومة المسلحة والاتحاد العام التونسي للشغل. وشكلت هذه الأطراف الأربع كما قال الأستاذ الصغير الصالحي " الكتلة الوطنية " أو " الكتلة التاريخية " ( 2 ) التي صنعت " الاستقلال " ورسمت ملامح نظام الحكم الجديد وهيكلة منظومته وقوانين عمله على امتداد عقود من الزمن وإلى غاية جانفي 2011.

لقد انطبعت مسيرة الاتحاد العام التونسي للشغل بالمفاهيم والمبادئ والأفكار والتقاليد التي نشأ عليها واتبعها طوال حوالي عشرين سنة من تاريخه أي منذ 1946 حتى 1965 تقريبا. ففي خلال هذه المرحلة من تاريخه كان الاتحاد منظمة نقابية منشغلة بالمطالب المادية والمهنية لمنخرطيها ولعموم العمال ولكنه وفي نفس الوقت كان منخرطا تماما وكشريك فاعل في كان يجري من تحولات سياسية عامة ومن تقلبات في موازين القوى داخل الحزب الحاكم والدولة.

ففي السنوات الأولى للدولة الناشئة لم تكن الأوضاع مستقرة واقتضى الأمر أن يشهد الحزب الحاكم والمنظمات الوطنية بما في ذلك الاتحاد مؤتمرات متتالية على وقع ما كان يعتمل داخل النخبة الحاكمة من صراعات وخاصة بين شقي بورقيبة وصالح بن يوسف للسيطرة على الحزب وبالتالي على الدولة. ولم يكن الاتحاد بمنأى عن هذه الصراعات على كل الواجهات بما في ذلك التنظيمية الداخلية والهيكلية. لقد عرفت قيادة الاتحاد سلسلة من التغييرات في شكل إقالات وعمليات استبعاد طالت على التوالي أحمد بن صالح وعاشور والتليلي أو تزكيات منحها بورقيبة لهذا وذاك منهم في كل مرة حسب متطلبات الصراعات الداخلية للحزب الحاكم.

لقد عمل بورقيبة على بسط نفوذه الشخصي على الحزب الحاكم وعمل على أن يتملك الحزب جهاز الدولة والمجتمع بكل فعالياته ومنظماته – على قلتها – وكان احتواء المنظمة الشغيلة من اهم وأصعب مهمات هذا المسعى الذي بلغ ذروته في مؤتمر المصير ببنزرت – اكتوبر 1964 – حيث تم إلحاق كل المنظمات الجماهيرية بالحزب الحاكم عضويا وأصبح لـ " حزب كل الأمة " تسمية جديدة " الحزب الاشتراكي الدستوري ". وهكذا فقد الاتحاد كغيره من المنظمات الدور النقابي المطلبي وتحول إلى أداة للدعاية والتأطير الجماهير في خدمة الدولة والحزب ومخطط التنمية " الاشتراكي " الجديد.

مزج الاتحاد في الفترة الممتدة بين 1946 1956 بين وظيفته النقابية المطلبية ودوره كواحد من الفاعلين الأساسيين في تركيز الدولة وأجهزة الحكم. فإلى جانب تأثيره في برنامج الحزب الدستوري ( نوفمبر 55 ) كان دعا بعيد مارس 56 إلى زيادة في الأجور بـ 30% وجدد هذه الدعوة بعد التخفيض في قيمة الدينار سنة 1960 وعارض سياسية التقشف وافتك نظام الاقتطاع المباشر ( 1% ) وبعث ما يزيد عن 45 تعاضدية مستفيدا من تواجد أمينه العام آنذاك احمد التليلي في الديوان السياسي للحزب. ولكن وإلى جانب ذلك كان الاتحاد وكما سبق أن قلنا قد انخرط كليا في لعبة السياسة وكطرف في الحكم منذ مؤتمر الحزب الدستوري في صفاقس سنة 1955 حيث كان هو العنصر الحاسم في أمرين إثنين هما تغليب الشق البورقيبي على شق بن صالح وتأمين أشغال المؤتمر وحمايته أولا ورسم معالم البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للحزب للفترة التي كان يتأهب فيها لتسلم السلطة ثانيا. وقد جازاه بورقيبة على ذلك بتمثيله في حكومته الأولى بأربع وزراء ذوي خلفية نقابية وبعدد من النواب في المجلس التأسيسي وبمسؤولين في الإدارة والدولة الناشئة.

أفضت تجربة التعاضد إلى فشل ذريع وضع البلاد على حافة الإفلاس الاقتصادي بشكل أصبحت منظومة الحكم مهددة بالتفكك الأمر الذي حدا ببورقيبة إلى إعادة النظر في التجربة " الاشتراكية الدستورية " والعودة على أعقابه إلى المنوال الليبرالي والتضحية ببعض رموز المرحلة وتبعا لذلك لكان لا بد من تجديد طاقم الحكم وإحلال شيء من الوئام داخل النخبة التي لم تشهد في الواقع أي تغيير يذكر. في هذا المناخ عاد الاتحاد إلى سالف موقعه وتم تنصيب عاشور بقرار حزبي فوقي على رأس المنظمة ليلعب دوره مجددا كسند اجتماعي للاختيارات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة – الليبرالية – بقيادة الهادي نويرة كرئيس للحكومة. لذلك فلئن تخلص الاتحاد من القيد التنظيمي المضروب عليه بمقتضى مقررات مؤتمر بنزرت فإنه لم يغادر سياج المنظومة وحافظ على موقعه كمكون من مكونات " الكتلة التاريخية " لصناعة سياسة " الإقلاع " الاقتصادي والرخاء الاجتماعي حتى انفجار أزمة 26 جانفي.

الاتحاد العام التونسي للشغل : عين على العمل النقابي وعين على السياسة
اندلعت الأزمة بعد أن نضجت ظروفها الموضوعية جراء فشل خيارات حكومة نويرة الليبرالية. ونجم عن الأزمة التي عصفت بالاقتصاد ملامح أزمة اجتماعية لم تنتظر كثيرا كي تندلع وتفتح على مصادمة عنيفة بين الاتحاد من جهة والدولة والحزب الحاكم من جهة ثانية. وعلى خلاف كل الأزمات السابقة دخلت الطبقة العاملة ساحة المعركة وضغطت بشكل فجّر " الكتلة التاريخية " القديمة حيث تباينت المقاربات في كيفية معالجة الأزمة وتحول الاتحاد خارج سياج نخبة الحكم بل ووصل الأمر أن أعلن عدد من الوزراء عن استقالتهم. وبذلك بدأت مرحلة تاريخية جديدة في علاق الاتحاد بالحزب الحاكم والدولة.

أغلقت أزمة 26 جانفي قوسا من تاريخ تونس وتاريخ " الكتلة الوطنية " وفتحت مرحلة جديدة تحول فيها الاتحاد من مكون عضوي لمنظومة الحكم إلى عنصر توازن بخصائص جديدة يدعم السلطة ويساندها ويكفل لسياساتها السند الاجتماعي اللازم متى كان في حالة وئام معها ويقف في وجه السلطة ويقود المعارضة متى راى في سياساتها ما يستنقص من دوره ووزنه في المشهد العام. وشهدت علاقته بالسلطة تعرجات كثيرة ومتتالية أفضت في حالات كثيرة إلى أزمات حادة ( جانفي 78 وأكتوبر 85 وسبتمبر 2000 الخ ) كما عرفت حملات تبريد وتسخين استعملت فيها المطالب المادية وأحيانا قضايا عامة تتعلق بالحريات والديمقراطية والحق النقابي. وكانت المعركة من أجل الاستقلالية واحدة من العناوين البارزة في المواجهات بين السلطة والاتحاد.

ورغم ان السلطة ( الحزب الحاكم والدولة ) ظلت تحن إلى الماضي ساعية إلى استبقاء المنظمة الشغيلة تحت سيطرتها لما تتمتع به من وزن اجتماعي وما تحضى به من تعاطف شعبي وسمعة في الخارج ورغم انها توصلت احيانا ( خلال التسعينات لما كان الاتحاد تحت قيادة السحباني ونسبيا لاحقا في عهد عبد السلام جراد ) إلى تدجين المنظمة وربطها بعجلتها وتمييع مواقفها حتى خيل لبن علي انه أعاد الاتحاد إلى مكانه الطبيعي – من وجهة نظره – كتابع " وشريك " في سياساته واختياراته معولا في ذلك على ما سمي بـ" سياسة الحوار الاجتماعي " طيلة التسعينات، رغم كل ذلك لم تتمكن من احتوائه واستعادته إلى داخل اسوار " الكتلة التاريخية " واجبرت على القبول بالتعاطي معه كشريك من الضفة المقابلة تلتقي مصالحها بمصالح قياداته وقواعد وتتنافر حسب الظرف والمعطيات.

ويمكن القول أن مثل هذه العلاقة الجديدة وضعت الاتحاد في ظروف أسنح كي يلعب دوره في الدفاع – ولو نسبيا – على مصالح منخرطيه ومن هنا نفهم التقدم الحاصل في مستوى تقنين العلاقات الشغلية وتنظيم المفاوضات حول الأجور والمقدرة الشرائية كما فسحت له المجال في أن يتحول إلى طرف ذي اهتمامات سياسية تحت عنوان تلازم الجوانب المادية وقضايا الشأن العام. وبذلك لم يقلع الاتحاد ابدا عن ثقافته القديمة وازدواجية النقابي والسياسي في خطه العام. وقد برز ذلك بأكثر جلاء بعد الثورة حيث تبوأ لعب أدوارا حاسمة في محطات سياسية دقيقة عرفتها البلاد خلال احداث الثورة ( يومي 12 في صفاقس و14 جانفي في العاصمة ) وعند تشكيل هيئة بن عاشور التي أعطت للثورة منحة مغاير تماما لما كان يمكن أن يحدث وكذلك خلال جولة الحوار الوطني وأخيرا في يسمى بـ" محادثات قرطاج " و" حكومة الوحدة الوطنية ".

إن ما يعاب على الاتحاد ليس هذا المزج بين ما هو نقابي وما هو سياسي وإنما طبيعة المواقف السياسية التي اتخذها في محطات متعددة من تاريخ بلادنا. فالنقابات ليست محايدة ولا يمكن ان تكون كذلك من حيث هي أطر لتنظيم جماهير العمال الذين يشكلون طرفا بذاته في التناقض الذي يشق المجتمع المعاصر. ولأن هذه الطبقة، طبقة العمال، لا يمكن أن تكون محايدة في ما يجري في الحياة العامة في ظل الاستغلال والقهر الذي يطالها وكافة المظالم المنجرة عن ذلك فإن الأطر التي تبعثها للدفاع عن مصالحها الخاصة، بما في ذلك النقابات، لا يمكن ان تكون مطلقا اطرا محايدة ولا مبالية وغير منحازة طبقيا. ولكن عدم الحياد والاهتمام بالشأن العام يعني بداهة الانحياز إلى مصالح العمال المعنوية والمادية والتمايز عن سياسات الطبقات الأخرى وخاصة طبقة مالكي رأسمال وسلطتهم السياسية.

في هذا المستوى بالذات لم يكرس الاتحاد العام التونسي للشغل – واعني هنا قياداته – في اهتمامه بالشأن السياسي مثل هذا التوجه وإنما كان على الدوام تقريبا طرفا في صراعات تشق الحزب الحاكم ممثل البرجوازية والاستبداد ومن منطلقات لا علاقة لها بمصالح الشعب. كما كان في فترات طويلة من تاريخه سندا للحكم ولعبت قياداته أدوارا سيئة في تدجين العمال وطمس وعيهم بل وشاركت في اعمال قمع وعنف باسم " الوحدة الوطنية " و" الوفاق " و" الاستقرار الاجتماعي والسياسي ". ومن هذه الزاوية فإن الدور السياسي للاتحاد الذي كلن أحيانا سببا في التضحية بمطالب مادية واستحقاقات مهنية شرعية كان دورا يتنافى والوظيفة النقابية المستقلة المنتصرة للعمال والمنخرطين.



هوامـــش :

( 1 ) – صرح القناوي قبل الضراب الذي نادى له ا لحزب الحر الدستوري الجديد بما يلي : " إن جامعة عموم العملة التونسيين منظمة مهنية خاصة غير تابعة لأي حزب مهما كان لونه وإذا من شن إضراب في 20 نوفمبر فإن الجامعة لا تتحمل أي مسؤولية فيه ولا يخطر ببالها البتة أن تشارك فيه ... "

( 2 ) - الصغير الصالحي – الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة – منظومة " التهميش " في تونس نموذجا. الطبعة الأولى – 2017 الدار التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم – تونس. ص 131



#جيلاني_الهمامي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- احذروا فالمستعد للشيء تكفيه أضعف أسبابه
- سيناريوهات العنف المحتملة في صراع اقطاب الحكم الحالي
- ردا على ما جاء في -توضيح- يمينة الزغلامي من مغالطات
- سيناريوهات العنف المحتملة في صراع أقطاب الحكم الحالي
- حتى لا تضيع الفرصة القادمة
- النزاع الأذري الأرمني ودور أردوغان حفيد عبد الحميد الثاني
- الثورة : في تدقيق بعض المفاهيم
- شيء من التاريخ : إلى روح المناضل النقابي نجيب الزغلامي
- المحكمة الدستورية من جديد
- حول خارطة الفقر في تونس
- الاقتصاد الاجتماعي أو التضامني، هل يشكل بديلا؟
- حول آخر مستجدات الوضع السياسي في تونس
- منطلقات لنقاش التكتيك السياسي في تونس
- مرة أخرى حول مسألة الرأسمال الوطني
- حتى لا تصطدم البشرية بأسوأ سيناريو
- إلى راشد الغنوشي: إن مع اليوم غدا يا مسعدة
- الحكومة الجديدة: التركيبة والبرنامج
- الإصلاح الزراعي مهمة ثورية عاجلة
- الاستثمار الخارجي في تونس أكذوبة لتبرير التبعية والاستغلال و ...
- بعد تأجيل ديون 25 بلدا هل تقتنع الحكومة؟؟


المزيد.....




- السيسي يعزي البرهان هاتفيا في وفاة نجله بعد تعرضه لحادث سير ...
- مسؤولون أمريكيون وإسرائيليون يتحدثون عن أيام لإتمام صفقة الر ...
- مقتل 5 فلسطينيين في الضفة الغربية
- وسائل إعلام فلسطينية: -حماس- وافقت على المقترح المصري لوقف إ ...
- القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية تصدر بيانا بشأن وفاة ...
- قوات كييف تهاجم قرية موروم بطائرتين مسيرتين
- دراسة أمريكية: السجائر الإلكترونية تضر بنمو الدماغ
- مصر.. القبض على المتهم بالتعدي على قطة في محافظة بورسعيد
- الأسد: في ظل الظروف العالمية تصبح الأحزاب العقائدية أكثر أهم ...
- مصر.. الحبس 3 سنوات للمتهمين بقتل نيرة صلاح طالبة العريش


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جيلاني الهمامي - جدلية السياسي والنقابي في تجربة الحركة النقابية التونسية