أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جيلاني الهمامي - مرة أخرى حول مسألة الرأسمال الوطني















المزيد.....


مرة أخرى حول مسألة الرأسمال الوطني


جيلاني الهمامي
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 6673 - 2020 / 9 / 10 - 17:27
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أثار تصريح الرفيق الأمين العام، حمة الهمامي، على قناة تلفزة " الحوار التونسي " في المدة الأخيرة انتقادات بعض الرفاق من قيادة الحزب وعناصر أخرى من خارجه. ولئن بقيت هذه الانتقادات محصورة في أوساط ضيقة داخل الحزب وخارجه فإنها فتحت – داخليا على الأقل – الجدل من جديد حول موضوع كان في وقت سابق ساحة سجال فكري وسياسي ثم خبا. ويتعلق هذا الجدل بمسألة مرتبطة بالخط الفكري والسياسي وبأكثر تدقيق بالبرنامج العام للحزب وببرنامجه التكتيكي وهي قضية " الرأسمال الوطني ".

وإذ اتفق مع ما جاء في مقال الرفيق حمة الهمامي بعنوان " حول الرأسمالية الوطنية " بتاريخ 9 ماي 2020 تمام الاتفاق وخاصة ما جاء في الفقرة التالية " إن هذه الشركات الصغرى والمتوسطة العاملة في العديد من القطاعات الصناعية والفلاحية والخدماتية ليس بالطبع شركات "بروليتارية" أو "اشتراكية" بل هي بداهة شركات رأسمالية. لكن ما يميز هذه الشركات هو أنها تنتج محلّيا في مجالات متعددة (نسيج، صناعات تقليدية، جلود وأحذية، صناعات غذائية الخ...) وهي تتعرض إلى تدمير ممنهج من الرأسمال الكبير المحلي ومن الرأسمال الأجنبي ومن دولة الكمبرادور وهو ما يضرّها ويضرّ العمال والعاملات الذين يشتغلون فيها. وهو ما جعلنا ندافع عنها في وجه السلطة وفي وجه اتحاد الأعراف الذي لا يفكر إلا في مصالح الحيتان الكبيرة " ( 1 ) وكذلك في الفقرة التي استشهد بها من الـ" تقرير مرفق لبرنامج الحزب " فإني أود أن اتناول فيما يلي الموضوع من زاوية أخرى.

لقد سبق في سبعينات القرن الماضي أن جرى جدل سياسي في صفوف مجموعات اليسار التونسي حول مسألة البرجوازية " الوطنية " بعلاقة بما عرف آنذاك بنظرية العوالم الثلاث المنسوبة لماو تسي تونغ وأطروحات " الشق الوطني في النظام " البورقيبي في إشارة إلى الشق الذي كان عارض سياسة حكومة الهادي نويرة ضد اتحاد الشغل قبل وأثناء الازمة التي انتهت بأحداث 26 جانفي 1978. كما كانت هذه المسألة موضوع نقاش ضمن القضايا التي أثيرت بصدد تقييم التجارب الثورية التي عرفها الوطن العربي بقيادة فصائل من الحركة القومية العربية في مصر وفي العراق وسوريا وكذلك في الجزائر. وكنا في النقاشات التي تداولتها حلقة الشيوعي وفي المواد التأسيسية للحزب تعرضنا لهذه المسألة في إطار تحليل الحزب لطبيعة المجتمع التونسي ونقاش برنامج الحزب وقدمنا إجابات واضحة في الغرض. وعلى امتداد السنوات الماضية، منذ تأسيس الحرب إلى اليوم، تركت هذه المسألة مكانها لقضايا فكرية وسياسية أخرى أصبحت مركز اهتمامات المناضلين في النقاشات الداخلية في حزبنا أو في الجدل السياسي الذي عرفته الحركة اليسارية والساحة السياسية عموما.

ونحن إذ نعود لهذه المسألة اليوم ليس فقط لأن بعض الرفاق اثاروا الموضوع إثر مداخلة الأمين العام في إحدى القنوات التلفزية وإنما أيضا لما لحق بمصطلح " الرأسمال الوطني " ومصطلحات شبيهة مثل " البرجوازية الوطنية " و" المستثمرين الوطنيين " وغيرها من خلط وغموض نتيجة الاستعمالات العشوائية في وسائل الاعلام ولدى طائفة من السياسيين تعمدوا بث الضبابية بهذا الخصوص. لذا أصبح تدقيق المسألة أكثر من ضروري وملح حول ما المقصود بـ" الرأسمال الوطني " وما المقصود " بالبرجوازية الوطنية "؟ وهل يصح إطلاق هذه التسمية على جزء او صنف من الرأسمال الكبير المحلي وعلى شريحة من البرجوازية الكبيرة الكمبرادورية المحلية؟ وهل يرتبط المفهوم بالطبيعة الطبقية حصرا أو يشمل كذلك ما يمكن ان تتخذه هذه الفئة او تلك من مواقف سياسية في ظروف ما؟

إذا تناولنا المسألة من زاوية " رأس المال " وطبيعته وأصنافه اعتبر ان ما جاء في مقال الرفيق الأمين العام واضح ولا يحتاج لمزيد التوضيح.

غير انه بالنظر الجدل القديم حول " البرجوازية الوطنية " في تجارب الثورات العربية وبالنظر للغموض الذي تم إشاعته في سنوات ما بعد الثورة بصدد الحديث عن " دور المستثمرين " ودور أصحاب رأس المال " الوطنيين " وما إلى ذلك من الأفكار المشبوهة التي تم نشرها على أوسع نطاق لتبييض كبار الرأسماليين والعملاء وتلطيف التناقضات الطبقية ومغالطة الشعب حتى لا يدرك جيدا من هم اعداءه الحقيقيون، بالنظر لكل هذا قد يكون من الأفضل تناول المسألة من زاوية أخرى لتفادي كل الالتباسات. فبدلا من الحديث عن " راس مال " قد يكون من الأفضل تناولها من زاوية الطبقات والفئات البرجوازية بكل تصنيفاتها حتى نتبين أكثر مضمون " الرأسمال الوطني " وفيمن يتجسد طبقيا؟

راس المال في شكله الحديث هو أرقى اشكال التعبير عن الملكية. وتم تعريفه بتعريفات كثيرة ومتنوعة على خلاف الكثير منها عرف ماركس رأس المال بأنه يتكون من الرأسمال الثابت (capital constant) أي ما يضعه المستثمر من إمكانيات مادية (أموال ومواد أساسية ووسائل إنتاج) في عملية الإنتاج ورأس مال متغير (capital variable) أي العمل الذي يخلق القيمة. المستثمرون، مالكو وسائل الإنتاج هم الطبقة المالكة العصرية أي البرجوازية. تتسع صفوف البرجوازية إلى كل مالكي وسائل الإنتاج في مجالات الإنتاج الصناعي والفلاحي والخدمات والقطاع المالي وغيره الذين يمكن تصنيفهم بحسب حجم رأس المال الذي بحوزتهم في شرائح مختلفة، إلى برجوازيين صغار ومتوسطين وكبار. فالبرجوازيون الصغار، في المدينة أو في الريف، هم مالكو رأس مال صغير سواء كان رأسمالا ماديا (أراضي وعقارات ومعدات إنتاج وورشات وأموال) أو لا مادي (معارف ومهارات إدارية وتقنية وفنية...) وعامة ما يساهمون في تنمية رأسمالهم بالعمل ويستخدم البعض منهم عددا محدودا من العمال (أو الموظفين). ولهذا السبب يتخذون موقعا طبقيا مزدوجا فهم مالكون وفي نفس الوقت كادحون. يعيشون – بدرجات متفاوتة – على عائدات رأسمالهم وعلى ثمرة عملهم ومن استغلال قوة عمل الاخرين لذلك يصطلح عليهم بأنصاف البروليتاريين. فكلما كان رأسمالهم محدودا اقتربوا أكثر من طبقة العمال باعتبار ارتفاع نسبة مساهمة عنصر العمل، ما اسماه ماركس " capital variable " الذي يقومون به لاستثمار رأسمالهم الصغير في مدخولهم، وكلما كبر رأسمالهم قلت نسبة عنصر عملهم في ما ينتجون، أي في مجموع دخلهم، واقتربوا أكثر من البرجوازية المتوسطة. شريحة أخرى من البرجوازية المدينية (الموظفون والتقنيون والمهندسون وطائفة واسعة من أصحاب المهن الحرة كالأطباء والمحامون وغيرهم) يستثمرون في ملكاتهم ومهاراتهم ولا يخلقون بصورة مباشرة القيمة ولقاء ذلك يقدم لهم المجتمع، في شكل رواتب ومنافع أخرى، جزء من القيمة التي يخلقها العمال وعموم الكادحين.

تتعرض البرجوازية الصغيرة إلى ضغوط كبار الرأسماليين عبر المنافسة الضارية في السوق وأشكال أخرى من الابتزاز والفساد وتضع حواجز متنوعة أمام نموها وتحرر طاقاتها الإنتاجية. لذلك تمثل هذه الطبقة احتياطيا للطبقة العاملة في كفاحها ضد الرأسمال الكبير ولكنها لا تستهدف الرأسمالية كنظام لذلك هي طبقة محافظة ورجعية كما يقول البيان الشيوعي " ومن بين جميع الطبقات، التي تُـناهض البرجوازية اليوم، فإنّ البروليتاريا وحدها هي الطبقة الثورية حقا. فالطبقات الأخرى تنهار وتتلاشى أمام الصناعة الكبيرة الخاصة، والبروليتاريا هي نِتاجُها. والطبقات الوسطى – الصناعي الصغير والتاجر الصغير والحِرفيّ الصغير والفلاّح الصغير – كلها تحارب البرجوازية للحفاظ على وجودها كطبقات وسطى من التلاشي. فهي إذن ليست ثورية بل مُحافظة، وفضلا عن ذلك، إنها رجعية تسعى إلى جعل عَجَلة التاريخ ترجع القهقرى. وإذا وقع لها أن تكون ثوريّة فذلك نظرا إلى انتقالها الوشيك الوقوع، إلى البروليتاريا، وهي بذلك لا تدافع عن مصالحها الراهنة، بل عن مصالحها المقبلة، فتتخلى عن موقعها الخاص، لتَتَبنّى وجهة نظر البروليتاريا " ( 2 ).

إن سمة البرجوازية الصغيرة الأساسية كطبقة هي التردد والتذبذب وهي محكومة في مواقفها وسلوكها السياسي بحسب الظروف وموازين القوى في المجتمع، حسب ما إذا كانت حركة النضال الثوري في حالة مد او في حالة جزر. وتعيش البرجوازية الصغيرة على الدوام حالة تمزق بين اوضاعها المادية السيئة من جهة وطموحاتها البرجوازية من جهة ثانية. لذلك تبقى دوما حليفا احتياطيا للطبقة العاملة والثورة. وهو امر لا خلاف فيه بالنسبة للماركسيين. وقد حسم الحزب في هذه المسألة بمنتهى الوضوح منذ التأسيس. فقد جاء في توطئة البرنامج العام للحزب ما يلي «وبناء على ذلك تشق المجتمع التونسي تناقضات أساسية ثلاثة :
- التناقض بين الشعب (الطبقة العاملة وانصاف البروليتاريين، الفلاحون الفقراء والصغار، البرجوازية الصغيرة المدينية) وبين الامبريالية (وخاصة الامريكية والفرنسية) والبرجوازية الكبيرة المحلية (الخاصة والبيروقراطية).
- التناقض بين الفلاحين وبين البرجوازية الزراعية وبقايا الاستغلال ما قبل الرأسمالي
- التناقض بين الطبقة العاملة والبرجوازية". ( 3 )

هكذا حدد برنامج الحزب التناقضات التي تشق مجتمعنا وحدد المعسكرات الطبقية المتقابلة في كل تناقض من التناقضات الثلاث المذكورة. وغني عن القول ان البرجوازية الصغيرة في المدينة والريف، (الفلاحون الفقراء والصغار والبرجوازية المدينية) انصاف البروليتاريين، هم في صف الشعب رغم انهم برجوازيون أي رغم انهم مالكو رأس مال ولكن أي صنف من رأس المال؟ إنه الرأسمال الذي يتحالف مع الطبقة العاملة ضد الامبريالية أي بلغة أخرى الرأسمال الوطني. وهو رأس المال (الصغير) الذي يتحالف مع الطبقة العاملة ضد رأس المال الكبير المحلي عميل الامبريالية. هذه هي المعسكرات الطبقية الأساسية في الثورة الوطنية الديمقراطية وعلى امتداد المسار الذي يسبق الثورة وفي مختلف مراحل الاعداد لها. ما يعني اننا اليوم في هذه المرحلة التاريخية التي نعد فيها للثورة بصرف النظر عن حقيقة موازين القوى الراهنة وفعالية الحزب في النضال الثوري وبصرف النظر عن التقدم في المسار الاعدادي للثورة فإن التناقض الرئيسي لا زال على حاله ولم يقع حسمه بعد والمعسكرات الطبقية المتقابلة في هذا التناقض لا تزال على حالها. بلغة أخرى وفي ضوء ما تقدم هل يجوز اليوم الحديث عن الرأسمال الوطني؟ بالأكيد نعم والمقصود به رأس المال الصغير في المدينة والريف الذين يمثلون حليف الطبقة العاملة الأول في النضال ضد الامبريالية وضد رأس المال الكبير المحلي عميل الامبريالية.

من جهة أخرى، انتشر في تونس بعد الثورة استعمال مصطلح " الطبقة الوسطى " ويقصد به أصحاب الدخل المتوسط بما يعني بالمعايير الطبقية " البرجوازية المتوسطة ". وكان هذا الاستعمال مصحوبا بحملة تباكي على ما آلت إليه أوضاع هذه الفئة وما سيترتب على ذلك من اختلال " للتوازنات الاجتماعية " ومن مشاكل اقتصادية. وهو في الحقيقة مصطلح غريب شيئا ما عن الماركسية ذلك اننا لا نجد له اثرا في الكلاسيك الماركسي. ولعل أشهر ما قيل في هذا الصدد قولة انجلز في مقدمة كتابه " وضع الطبقة العاملة في إنجلترا " (1845) " بداية كثيرا ما استعملت لفظ " طبقة وسطى " في معناها الإنجليزي middle class (او كما يقال دائما تقريبا middle classes) وتعني هذه الكلمة مثلها مثل الكلمة الفرنسية برجوازية الطبقة المالكة وبالأخص الطبقة المالكة المتمايزة عما يسمى طبقة الارستقراطية التي في فرنسا كما في انجلترا تمسك مباشرة بالسلطة السياسية وبصورة غير مباشرة في المانيا بعنوان الرأي العام ". ( 4 ) وقد ذهب الكثير من المختصين في العلوم السياسية والاجتماعية الحديثة إلى تعريفها تعريفات شتى اعتمادا على معايير مختلفة. ودون الدخول في تفاصيل هذه التعريفات يمكن القول أن " الطبقة او الطبقات الوسطى " هي بالمعايير الطبقية في التحليل الماركسي الشريحة العليا من البرجوازية الصغيرة أو إن شئنا الشريحة السفلى من البرجوازية الكبيرة وتجمع في صفوفها مالكي رأس مال متوسط في شكل استثمارات ( صناعية او تجارية وغيرها ) او عقارات او ثروات مالية وقيم منقولة على اختلاف اصنافها ( في بنوك او بورصات او غيرها ) متوسطة الحجم لا هي صغيرة على شاكلة ورشات او عقارات صغيرة ولا هي كبيرة على شاكلة أملاك كبار الرأسماليين والمجمعات الاحتكارية الكبرى. كما تضم هذه الشريحة الموظفين السامين في الإدارة وما شابهها وأصحاب المهن الحرة ذوي الدخل الكبير نسبيا (من أطباء ومهندسين ومحامين وغيرهم).

إن هذا الصنف من الملكية هو مرحلة انتقالية في مسار مركزة رأس المال وهو نتاج لسيرورة من التطور للرساميل الصغيرة عبر مراحل وأشكال من المنافسة. وهي كمرحلة انتقالية لا تمثل درجة من التشكل القار بقدر ما هي مرحلة تمهيدية إما للتحول إلى رساميل كبيرة او التقهقر او الاندثار إذا لم تقو على الصمود في اتون التنافس الضاري مع الرساميل الكبيرة والاحتكارات. وهي كشريحة تمثل الخزان الذي يمول دوائر الرساميل الكبرى ويقع اللجوء إليها وإلى البرجوازية الصغيرة بعد كل ازمة من الازمات الدورية ذلك ان الرأسمالية كلما مرت بأزمة إلا ووجدت في عملية توسيع قاعدة التراكم عبر بعث مؤسسات صغرة ومتوسطة لأنعاش النهوض والتدرج نحو التعافي. غير أن عملية التراكم نفسها المصحوبة بمسار مركزة واستقطاب تجري في كل مرة على حساب هذا النمط من الملكية والشريحة الاجتماعية التي تمثله.

ومع كل هذا فإن ما يسمى بـ" الطبقات المتوسطة " تظل على الدوام بحكم موقعها مشدودة إلى الامل في التحول إلى برجوازية كبيرة وهي أقرب منها إلى هذه الطبقة من اية شريحة أخرى في المجتمع. فهي أكثر رجعية من البرجوازية الصغيرة ومحافظة ولا ترى العالم إلا من زاوية الملكية والمبادرة الحرة التي تتجند أكثر من كل القوى الأخرى للدفاع عنها بكل استماتة. ولا ينتظر منها حتى في الظروف الثورية ان تنحاز إلى قوى الثورة عدا بعض الأصوات الشاذة.

إن الحملات الدعائية التي حفلت بها كل منابر الاعلام والتواصل الاجتماعي طيلة السنوات الأخيرة – نصفها نحيب ونصفها الاخر مديح – لصالح الطبقة الوسطى والتباكي على ما حصل لها من تفقير وتهميش، وهو في الحقيقة لا يساوي شيئا مما حصل للطبقة العاملة والفئات الفقيرة الأخرى من أضرار، ليست سوى خطوط هجوم متقدمة دفاعا عن البرجوازية ككل وعن الرأسمالية المتعفنة الماسكة بمقاليد الحكم ودواليب الاقتصاد. وهو علاوة ذلك تكتيك قديم ومعروف لدى منظرو الرأسمالية ومثقفيها وأيديولجييها. لقد استغلوا التطور التقني الذي ادخل تحولات عميقة على سيرورة الإنتاج وعلى تركيبة الطبقة العاملة والمناورات التي جرت في عملية توزيع فائض القيمة المنتج بما في ذلك التحسينات الطفيفة التي طرأت على منظومات التأجير ليبلوروا مفاهيم جديدة حول الصراع الطبقي والطبقات الاجتماعية. فما وقع التركيز عليه بعد الحرب العالمية الثانية وعلى امتداد ما يسمى بسنوات الرخاء les trente glorieuses بخصوص أهمية " الطبقة الوسطى " كانت الغاية منه، أيديولوجيا، دحض مفهوم الصراع الطبقي وبث الوهم حول الفرص التي تمنحها الرأسمالية لكل فرد للارتقاء اجتماعيا في مجتمع يدور فيه الصراع " بين الكفاءات والمهارات " ولا علاقة له بالطبقات حسب ادعائهم.

لقد ركزت الأحزاب اليمينية الممثلة للبرجوازية الكبيرة في حملاتها الانتخابية على هذه المقولات لكسب أصوات شرائح البرجوازية الصغيرة من كبار الموظفين وأصحاب المهن الحرة والمؤسسات الصغيرة الخاصة. لذلك لم يكن " ابتداع " هذه التسمية خال من الأغراض الانتخابية ولهذا السبب تم الترويج لها على أوسع نطاق حتى تحولت إلى نوع من المسلمات.

ملخص القول ان مفهوم " الطبقة الوسطى " بالمعاني التي اعطته إياها الدعاية البرجوازية منذ منتصف القرن الماضي يبقى مفهوما هلاميا وغير دقيق ولم يحصل بشأنه اتفاق نهائي ولا يعدو ان يكون سوى مغالطة برجوازية لا هدف لها سوى محاولة دحض النظرية الاجتماعية العلمية، نظرية الاشتراكية العلمية وهي أيضا واحدة من الأدوات الفكرية لتخريب وعي الطبقة العاملة ومنعها من الوعي بذاتها والنضال من أجل ذاتها كطبقة تتعارض مصالحها تعارضا تاما مع مصالح البرجوازية. كل ذلك في سبيل استدامة نظام الاستغلال الرأسمالي.

لعل أكثر ما ينبغي تدقيقه في هذه المسألة هو خاصيات البرجوازية الكبيرة المحلية وطبيعتها وأدوارها ووظيفتها. ويجدر هنا السؤال هل يمكن الحديث عن برجوازية كبيرة محلية وطنية لها مصلحة في الثورة الوطنية الديمقراطية ويمكن ان تكون شريكا فيها؟

يتميز الرأسمال الكبير في تونس بخاصيات البرجوازيات التي نشأت تحت الاستعمار المباشر وغير المباشر، يعني بخاصيات كل البرجوازيات التي نشأت في الأطراف في عصر الامبريالية، فهي برجوازية لقيطة ومرتبطة بالرأسمال الاحتكاري الاستعماري من حيث النشوء ومن حيث الأدوار والوظيفة المكلفة بها. وهي لا تختلف في شيء عما قاله فيها المؤتمر الرابع للأممية الشيوعية الثالثة " في هذه البلدان نشأت الرأسمالية وتطورت على قاعدة الاقطاع واتخذت اشكالا مبتورة وانتقالية وهجينة سمحت في البداية بهيمنة الرأسمال التجاري والمرابي (الشرق الإسلامي، الصين...). وللتباين مع العناصر الاقطاعية البيروقراطية والاقطاعية الفلاحية سارت الديمقراطية البرجوازية في طريق ملتوية ومشوشة. هذا هو العائق الرئيسي في وجه النضال ضد الهيمنة الامبريالية التي لا تتوانى في كل البلدان المتخلفة عن تحويل الفئات العليا الاقطاعية (وجزئيا شبه الاقطاعية شبه رأسمالية) للمجتمعات المحلية إلى أدوات لسيطرتها (حكام عسكريون او تونوينيون في الصين، بيروقراطية وأرستقراطية في فارس، جناة الضريبة العقارية، زاميندار وتالوكدار في الهند، مزارعون ذوي تكوين رأسمالي في مصر الخ...) ". ( 5 )

لقد ظهر بعض الرأسماليين الكبار في عهد الاستعمار المباشر في تونس بارتباط بالسلط الاستعمارية من حواشي العائلة المالكة الاقطاعيين ومن المتعاونين مع المستعمر وشكلوا عنصر من عناصر القاعدة الاجتماعية، إلى جانب المعمرين، للحضور الاستعماري المباشر في بلادنا. كما شكلوا القاعدة الاجتماعية لحكام الصفقة الاستعمارية الجديدة سنة 1956 ونقطة ارتكاز دولتها الجديدة ومجمل اختياراتها. وبالمقابل من ذلك كانوا المستفيدين الرئيسيين منها وأصحاب المصلحة في بقائها وديمومتها. إلى هؤلاء انضافت العناصر التي استغلت مواقعها الإدارية والسياسية في الدولة الجديدة والتي كونت ثروتها وراكمتها لتعزز قاعدتها الاجتماعية أي لدولة الاستعمار الجديد. فمن بين هؤلاء هل يمكن القول ان أحدهم او البعض منهم يمكن ان يكون وطنيا؟ يعني يمكن ان يكون رأسماليا كبيرا في قطيعة مع الدوائر المالية العالمية؟ أبدا.

من طبيعة رأس المال وخاصة في عصرنا الراهن ان يندمج بسرعة مع المنظومة الرأسمالية العالمية بألف خيط وخيط بما انه مربوط بالسوق – وقد أضحت سوقا مفتوحة على مصراعيها – في كامل دورة رأس المال استثمارا وانتاجا وتسويقا وادخارا الخ... فكبار الرأسماليين التونسيين – الكمبرادور - مرتبطون بمؤسسات وشركات عابرة للقارات وببنوك ومؤسسات تسليف مالي وبحرفاء وشركاء، برأسماليين أجانب يشتركون معهم في المصالح والاهداف. فهم ينتجون بحسب ما تسمح به السوق الرأسمالية العالمية ووفق شروط الرأسمال العالمي المسيطر في إطار تقسيم عالمي للعمل ضبطته كبريات الاحتكارات دولا ومؤسسات وشركات. فهم على الغالب مجرد سماسرة وممثلون للرساميل الأجنبية ومنتوجاتهم وسلعهم لا يشغل بالهم عدا تحقيق الأرباح وتهريبها إلى حساباتهم في المصارف الأجنبية بحيث لا تستفيد منها البلاد والشعب بقدر ما تستفيد منها الاقتصاديات الرأسمالية في أوروبا وغيرها. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى وعلى المستوى السياسي فإن الاعتقاد بان كبار الرأسماليين الكبار في تونس بالخصائص المذكورة يمكن ان يتخذوا مواقف وطنية، منحازة للوطن والشعب كالقول ان باستطاعتهم ان يتنكروا لمصالحهم ويقبلون من تلقاء أنفسهم وبكل براءة بالتخلي عنها لفائدة الوطن والشعب ينم عن جهل بطبيعة رأس المال او غباء ما بعده غباء.

يحاول البرجوازيون دوما خداع الناس بادعاء ما لا ينطبق عليهم بالمرة، يدعون الوطنية وحب الوطن والعطف على الشعب ومراعاة " المصلحة الوطنية " وما إلى ذلك من الشعارات. وينظمون الحملات الإعلامية ويصرفون الأموال الطائلة من أجل نشر هذه الدعايات ويعملون قصارى جهدهم كي يصدقها الناس لا لشيء سوى ان يخفوا حقيقتهم وعداءهم المقيت للوطن والشعب. وقد نجحوا بعد الثورة في بث الكثير من الغموض والتشويش على وعي الجماهير الشعبية واستمالوا أوساطا مما يسمى بالنخبة السياسية لينتصبوا مدافعين عنهم حتى باتت مقولة " الرأسمال وطني " مستساغة بل وبات من يعارضها إنما هو يشيطن " أصحاب المؤسسات " و" المستثمرين" وبالتالي يقترف جرما في حق الوطن الذي هو في حاجة إليهم ولاستثماراتهم لمساعدة الاقتصاد على الخروج من الازمة.

إن الهيمنة الواسعة للرأسمالية والسطوة التي تتمتع بها على نطاق عالمي قلصت وبشكل كامل تقريبا هامش الاستقلالية بالنسبة لبرجوازيات الأطراف لا فقط الكبيرة بل وكذلك حتى البرجوازية الصغيرة التي من المفروض، بصفتها كمتضررة، يرشحها وضعها لأن تكون من القوى ذات المصلحة في التمرد على واقع الهيمنة والاستغلال ولكنها بما ان الصراع الطبقي يمر طوال العشريات الأخيرة بـحالة ركود لفائدة البرجوازية اندمجت هي الأخرى في السياق العام وأضحت من الحزام الموسع للطغم الرأسمالية والمالية المسيطرة. لكن ولئن هو متوقع ان تتمكن الطبقة العاملة في فترات النهوض والهجوم الثوري من اجتذاب البرجوازية الصغيرة على جانبها – او على الأقل أوساط واسعة منها – كما كان الامر في تجارب كل الثورات تقريبا فإن البرجوازية الكبيرة الكمبرادورية وأوساط مما يسمى بـ" البرجوازية الوسطى " ستكون بلا ريب من أكثر القوى شراسة ضد تقدم مسار الثورة لنها تدرك – وبحس طبقي حاد – ان نجاح الثورة لا يعني شيئا غير حفر قبرها والقضاء المبرم عليها وعلى مصالحها.








هوامش :

( 1 ) – نص " حول الرأسمالية الوطنية " للرفيق حمة الهمامي – 9 ماي 2020 – ص. ص 2 و3

( 2 ) – ماركس – انجلز – بيان الحزب الشيوعي، انظر الرابط التالي :
https://foulabook.com/ar/book/البيان-الشيوعي-في-أول-ترجمة-غير-مزورة-pdf

( 3 ) – برنامج حزب العمال الشيوعي التونسي ( 1992 ) – ص 4

( 4 ) – انجلز – مقدمة كتاب " أوضاع الطبقة العاملة في إنجلترا " – 1845 – انظر الرابط التالي :
https://www.marxists.org/francais/engels/works/1845/03/fe_18450315.htm

( 5 ) – المؤتمر الرابع للأممية الشيوعية الثالثة – أطروحات حول مسألة الشرق. انظر الرابط التالي :
https://www.marxists.org/francais/inter_com/1922/ic4_08.htm
IV° Congrès - Internationale Communiste - Thèses générales sur la question de l Orient



#جيلاني_الهمامي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حتى لا تصطدم البشرية بأسوأ سيناريو
- إلى راشد الغنوشي: إن مع اليوم غدا يا مسعدة
- الحكومة الجديدة: التركيبة والبرنامج
- الإصلاح الزراعي مهمة ثورية عاجلة
- الاستثمار الخارجي في تونس أكذوبة لتبرير التبعية والاستغلال و ...
- بعد تأجيل ديون 25 بلدا هل تقتنع الحكومة؟؟
- حكومة الفخفاخ والمضي قدما في التداين
- إلى الرئيس قيس سعيد : «عليك أن توضح خفايا زيارة أردوغان الفج ...
- إلى أين تسير البلاد؟؟
- المخطط الجديد التشخيص والأهداف والآليات، ما الجديد؟
- تونس تعيش أزمة حكم
- الجبهة الشّعبيّة تزرع زنابق غرّة ماي وبشائر الأمل
- فشل الحكومة... فشل منظومة
- الوحدة الوطنيّة لا يجب أن تكون شعارا دون مضمون


المزيد.....




- حفل -ميت غالا- 2024.. إليكم أغرب الإطلالات على السجادة الحمر ...
- خارجية الصين تدعو إسرائيل إلى وقف الهجوم على رفح: نشعر بقلق ...
- أول تعليق من خارجية مصر بعد سيطرة إسرائيل على الجانب الفلسطي ...
- -سأعمل كل ما بوسعي للدفاع عن الوطن بكل إخلاص-.. مراسم تنصيب ...
- ذروة النشاط الشمسي تنتج شفقا غير مسبوق على الكوكب الأحمر
- مينسك تعرب عن قلقها إزاء خطاب الغرب العدائي
- وسائل إعلام: زوارق مسيرة أوكرانية تسلّح بصواريخ -جو – جو- (ف ...
- الأمن الروسي: إسقاط ما يقرب من 500 طائرة مسيرة أوكرانية في د ...
- أنطونوف: روسيا تضطر للرد على سياسات الغرب الوقحة بإجراء مناو ...
- قتلى وجرحى خلال هجوم طعن جنوب غرب الصين


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جيلاني الهمامي - مرة أخرى حول مسألة الرأسمال الوطني