|
بين كلبين !
ملهم جديد
الحوار المتمدن-العدد: 6932 - 2021 / 6 / 18 - 09:51
المحور:
الادب والفن
بين كلبين ! نيويورك مدينة كبيرة ، ليبرالية ، و في منتهى الانفتاح. غير أن انشغال الناس الدائم بتحقيق طموحاتهم التي لا تنتهي، يجعل منهم أفرادا منعزلين في عزّ ازدحامهم، و لا قيمة للتواصل بينهم إلا بقدر يحقق لهم من تقدم على مستوى الطموحات التي يسعون إليها ، فتصبح إقامة علاقة لمجرد العلاقة مع الجنس الآخر أمرا شاقا، و ليس بالسهولة التي قد توحي به المدينة النشطة التي لا تنام . و من الضروري التنويه أنه الآن، و في ظل نشاط الحركة النسائية ( me too ) أي ( أنا أيضا )، و التي تهتم بقضايا التحرش الجنسي و تجر الرجال زرافات و وحدانا إلى المحاكم ، فإن كلمات الإطراء التي درج الرجال تاريخيا على استخدامها للتعبير عن الإعجاب و جذب انتباه النساء ، لم تعد عديمة الجدوى وحسب ، لا بل وقد تعرض المتفوه بها لتهمة التحرش الجنسي مهما بدت التعبيرات بريئة ظاهريا مثل ( تبدين اليوم جميلة ) أو ( الفستان الذي ترديه اليوم هو الفستان الأكثر انسجاما مع شمس بداية الربيع ) إذ يعتمد القضاة الناظرين في هكذا مسائل على ما شعرت به المرأة المستهدفة بالإطراء، و لا يلقون بالا لما تعنيه الكلمات بحد ذاتها مهما بلغت براءتها الظاهرية ( مع الاعتراف أن بعضها قد يخفي خبثا لا يمكن إثباته ) ! و لأنه من الصعب أن يقّدر الرجال ما يمكن أن تشعر به النساء بالضبط عند سماعهن للإطراء، فإنهم يفضلون الصمت اتباعا للمثل القائل " الباب يللي بتجيك منو الريح سدّو و استريح " ! و لأن تاريخ البشر ليس سوى مسرح تراجيوكوميدي يقوم على الحركات و المفارقات ، فإنه يحدث دائما أن تخلق الحركة التي تقوم للدفاع عن ضحايا معينين ضحايا جددا ينتظرون بفارغ الصبر قيام حركة أخرى لإنصافهم و تخليصهم من الخوف و الاضطهاد الذي سببته الحركة الأولى ! أما أنا ، و لأني قاربت الستين من العمر ، و أتميز بقلة الصبر ، فقد قررت عدم الإنتظار ،و البحث عن وسيلة سريعة تمكنني من الاقتراب من النساء ،أو اقتراب النساء مني( لا فرق )، من دون مخاطر تهمة التحرش بهن . و لم أجد وسيلة أفضل من اقتناء كلب يجذب انتباه الجنس اللطيف. اشتريت كلبا و انتظرت يوما ربيعيا مشمسا لتنزيهه في حديقة السنتر بارك في قلب مانهاتن . في الحديقة التي تعج بالمتنزهين من مختلف الألوان و الجنسيات و الأعمار ، بدأت خطتي تجني ثمارها، أو هكذا اعتقدت ، فخلال الساعات الثلاث التي قضيتها هناك اقتربت مني (الأحرى القول اقتربت من الكلب ) ما لايقل عن عشر نساء جميلات من أعمار مختلفة( و هل هناك نساء غير جميلات! ) . كن يقتربن، و يقضين وقتا لا بأس به يمسدن على ظهر الكلب و يداعبن رقبته قبل أن يرفعن رؤوسهن و يسألن عن اسمه ( اسم الكلب و ليس اسمي ) ،ثم يستفسرن عن سلالته ، و يطرين على جماله ،و هناك اثنتان قبلنه ، قبلة منهما كانت على فمه ! طبعا ، كنت أنا في تلك الأثناء التي يقضينها مع الكلب، أحاول بحرص شديد ترتيب جملة ما تجعلهن يتركن الكلب ولو لثانية واحدة و ينتبهن لي ، وكم كان شعورا مذلا ما زلت أشعر بثقله ، و أعني الشعور بدخول منافسة مع الكلب للفت انتباههن و إثبات أني لست أقل منه ، إن لم يكن جمالا ، فعلى الأقل لطفا، و أنه يمكن لهن الوثوق بي كما يثقن به ، و إذا كان الكلب يتحدر من سلالة جرمانية عريقة ، كما كنت قد شرحت لهن ، فإني أيضا لست نكرة، و أتحدر من سلالة نشأت في بلاد مهد الحضارات التي تزاحمت، و ما زالت تتزاحم فيها، الرسالات السماوية و الأرضية ، و إذا كن لا يستطعن تبينها على الخريطة بوضوح ، فذلك بسبب غبار المعارك التي لا تخمد، و لا يبدو أنها سوف تخمد في المستقبل المنظور ! و في الحقيقة، كان يمكن لي تجاوز الشعور المذل بالدخول في منافسة مع الكلب ، و كنت سأرضى بالتعادل معه ، أما أن أخسر المنافسة ، فهذا كان أكثر من قدرتي على الاحتمال . حتى أن آخر امرأة داعبت الكلب قبل أن أترك الحديقة قالت لي قبل أن تودعه( الكلب و ليس أنا ) " إني أحسدك على هذا الكلب !" تحسدني أنا و لا تحسد الكلب علي ! و ما زاد من غضبي أن الكلب ، كان بين فترة و أخرى، يتطلع إلى الأعلى ، ينظر إلي و يهز رأسه ، ثم يعود و ينظر أمامه منتظرا اقتراب امرأة جديدة ، و كأنه يقول لي " أنت رجل محظوظ لأني قبلت مرافقتك!" ربما لم يكن يقصد ذلك ! لكن هذا ما شعرت به ، و لأنه ليس من المهم ما يقصده الآخرون، سواء كانوا بشرا أم كلابا، بقدر ما هو مهم تأويلنا، و المشاعر التي تنتابنا بناء على هذا التأويل، فلكم أن تتخيلوا حجم الغم الذي خرجت به من الحديقة ! قطعت الشارع ، و اتجهت نحو " ستار باكس " لشرب فنجان قهوة و قراءة جريدة " new York times" التي اشتريتها قبل رحلة القطار إلى مانهاتن، و لم يتوفر لي الوقت لقراءتها بعد . أخذت فنجان القهوة و جلست على كرسي خارج المقهى ،بينما كان الكلب يتمطى تحت وهج الشمس التي كانت قد انتصفت في سماء خلت من الغيوم . كانت هناك أربع صور تغطي القسم الأعلى من الصفحة الأولى لما بدا أنه جنازة رسمية مهيبة ، في الصورة الأولى بدت أربعة خيول تجر عربة فوقها تابوت مغطى بالعلم الأميريكي، بينما كان علم شرطة الولاية يخفق في مؤخرة العربة ، و في الصورة الثانية كانت العربة تسير بين صفين من رجال الشرطة المسمرين كالتماثيل في أمكنتهم في وضعية التحية الرسمية ، أما الصورة الثالثة فقد كانت للميداليات الرسمية التي حصل عليها الفقيد خلال تأديته للخدمة ، بينما كانت صورة كلب شبيه بكلبي تتصدر الصورة الرابعة و قد كُتب تحتها " ستبقى دائما في القلب " ! عندما انهمكت بقراءة المقال اكتشف بأن الفقيد كان من كلاب شرطة الولاية و تدعى ( k 9 )، (قسم مكافحة المخدرات )، و حصل في اليوم السابق أن هاجمت الشرطة منزلا مشبوها ، حيث كان على الكلب الفقيد ، بعد أن كسرت الشرطة الباب الخارجي للشقة ، أن يدخل أولا ، ليدخل بعده رجال الشرطة، وحدث أنه في اللحظة التي أصبح فيها الكلب الفقيد في منتصف الصالون ، أن ظهر أحد المهتمين نازلا الدرج و في يده مسدس ، فقفز الكلب في الهواء متجها نحو يده التي تحمل المسدس ، فأطلق المتهم العيار الناري الوحيد الذي أودى بالكلب قبل أن تردي الشرطة بالمتهم، و بذلك يكون الكلب، كما ورد في الصحيفة، قد قام بواجبه بحماية رجال الشرطة من الطلقة الأولى التي كان ممن الممكن أن تردي أحدهم ، فاستحق على ذلك لقب بطل العام و شرف التمدد في مثواه الأخير في المقبرة الوطنية . إذا "الجنازة كبيرة و الميت كلب" فعلا و ليس مثلا كما يُقال عندنا ، و مع أن الأمر مفهوم ضمن سياق الاختلاف الثقافي ، فإني قضيت المساء ممددا على سريري وحيدا ، أتأمل اليوم الذي قضيته في حسد كلبين ؛ كلبي الذي خسرت المنافسة معه في كسب قلوب النساء ، و كلب الشرطة الذي لن يكون لي حظه في الحصول على جنازة مهيبة تتصدر الصفحات الأولى من جرائد الولاية عندما أموت !
#ملهم_جديد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القديس و الدب
-
صورة الجد
-
عند الحلاق
-
الخائب
-
الليلة الأخيرة في البيت الأبيض
-
الحديث الأخير
-
أقوى رجل في العالم
-
الدهشة
-
السيرة الموجزة لحياة المواطن (م ع ع)
-
في مديح السيكارة
-
بدل ضائع
-
ندامة الأرمني
-
رجل حر ، لكن! / قصة قصيرة
-
صديقي الفأر
-
الفك
-
رجل حر ، و لكن ! / قصة قصيرة
-
هل يستحق المجد الأدبي عناء السعي إليه / ترجمة ملهم جديد عن م
...
-
صديقي الأميريكي
-
دور النخب الثقافية و السياسية في الأزمة السورية وفي صياغة أس
...
-
دور النظام السياسي الحاكم في الأزمة السورية
المزيد.....
-
خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو
...
-
في عيون النهر
-
مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة
...
-
”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا
...
-
غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم
...
-
-كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
-
«بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي
...
-
إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل
...
-
“قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم
...
-
روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|