أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ملهم جديد - الفك















المزيد.....

الفك


ملهم جديد

الحوار المتمدن-العدد: 6577 - 2020 / 5 / 29 - 23:41
المحور: الادب والفن
    


كان ما زال وهو في سن الثمانين يحتفظ بعادة النوم على الصوفا الخشبة الصامدة في مكانها على المصطبة منذ خمسين عاما ، و مثل أي يوم صيفي آخر ، و بعد أن تجاوزت الساعة التاسعة ليلا بقليل ، شرب آخر شفة عرق من الطاسة النحاسية ، ثم ملأها ماء ، و وضع فيها فكه الذي كان مازال يحاول الإعتياد على ارتدائه ، و تذكر بحسرة كيف كان حتى سنين قليلة خلت ، يتندر على أصدقائه العجائز و يتباهى باحتفاظه بأغلب أسنانه ، من دون أن ينسى لعن ساعة النحس التي خطر على باله فيها الصعود إلى شجرة التين في حاكورة المنزل للتأكد فيما إذا كانت بيوض عصفورة الدوري ما زالت في العش ، و لم يعتدِ عليها قط جاره أبو ابراهيم ، و كان من المعتاد أن يغط في نومه الآن بعد أن مضت نصف ساعة على آخر شفة عرق ، إلا أنه ، تابع التفكير بالسبب الذي جعل السلم الذي استخدمه من أجل الصعود إلى الشجرة يميل بهدوء و يقع على الأرض بينما كان يهم بوضع رجله اليمنى عليه عندما قرر النزول ، و لأنه كان عليه أن ينزل عن الشجرة بنفسه الآن، و لأنه كان يدرك ، أيضا بأنه لم يعد شابا و عليه الإحتياط خلال عملية النزول ، فقد كان متأكدا بأنه اتبع ما يلزم من حرص فيما يتعلق بالموضع الذي وضع قدمه عليه ، كما أنه كان متأكدا بأنه لم يسمع صوت انكسار أي غص ، و إلى الآن لم يستوعب كيف ، و بلمح البصر ، هوى بكامل جسمه وسقط على الأرض المفلوحة حديثا ، و مع أنه لم يشعر بأي ألم في جسمه ، غير أن سوء الحظ جعل فمه يرتطم بالحجرة الوحيدة تحت شجرة التين فتكسَّرت أسنانه دفعة واحدة و امتلأ فمه بالدم و التراب . لعن أبو ابراهيم و جيرة النحس هذه ، و مع أن أبو ابراهيم كان أول الواصلين إليه لمساعدته على النهوض و أخذه إلى المنزل ، و من ثم مساعدته بتنظيف فمه و الإعتناء به طيلة ذلك المشؤوم ، فقد كان وصوله السريع يؤكد حدسه ، و إلا كيف كان لأبو ابراهيم أن يعرف بأنه سقط لو لم يكن يراقبه من مكان قريب ! ، وكان مقتنعا بأن عين أبو ابراهيم الحسودة هي التي حركت السلم من مكانه ليسقط ، و عينه نفسها هي من أسقطته عن الشجرة ، كما أن نفس العين التي لا تشبع من رؤية الشر ينزل بالآخرين هي من جعلت فمه يرتطم بالحجرة الوحيدة تحت شجرة التين . كما لم ينس لعن نفسه على الوعد السخيف الذي ألزم فيه نفسه أمام حفيده الصغير بأن يهديه فرخ دوري عندما يأتي إلى القرية مع والديه في نهاية الأسبوع ، فلولا هذا الوعد لما كانت الفرصة قد توفرت للعين الحسودة كي تفعل ما فعلته ، و لكان الآن محتفظا بأسنانه . و بعد حفلة اللعن هذه، و لأنه لم يكن من أولئك الذين يبخلون بامتنانهم عندما يكون الإمتنان واجبا ، فقد شكر الله الذي وفَّقه بابن أصبح مسؤولا كبيرا ، إذ لم يكد الإبن ،الذي غادر القرية منذ زمن طويل ، يسمع بما حدث لوالده حتى بعث بسيارة أخذته إلى المدينة حيث قضى أسبوعا بانتظار أن يجهز الفك ، و لم يكن العجوز خلال ذلك الأسبوع أكثر حرقة ، بانتظار اليوم الذي سيعود فيه إلى القرية ، من ابنه و كنته اللذين كانا هما الآخران بانتظار ذلك اليوم الذي سوف يتخلصان فيه منه، فقد كان يهذي طوال الوقت و يعيد نفس الحكايات العتيقة التي كان يتذكرها و كأنها حدثت البارحة ، بينما ينسى إسم حفيده الصغير ، كما كان عليهما إيكال أمر مراقبته للخادمة التي اقتصر عملها على التأكد من إغلاق باب الحمام خلفه عندما يذهب لقضاء حاجته ، و منعه من التحدث مع حفيده ، فقد كانا يعتقدان بأن ابنهما يستحق جدا أرفع شأنا من هذا القروي الذي بدأت تظهر عليه علامات الخرف ! بانتهاء الأسبوع ، كانت نفس السيارة جاهزة لإعادته إلى القرية مع نصيحة كررها له طبيب الأسنان :
" قبل النوم ، انزع الفك و حطو بكاسة مي "
" أنا بستعمل الطاسة "
ابتسم الدكتور
" إذا ، حطو بالطاسة "
" من دون مي !.
" حتى لو كانت طاسة ، لازم تحط فيها مي " أجاب الطبيب " . و عاد ابنه ليكررها عشرات المرات :
" قبل ما تنام ، شيل الفك و حطو بكاسة مي " .
" أنا بستعمل الطاسة " .
" إذا حطو بالطاسة " رد الإبن بنزق .
" بس الطبيب قال بأنو لازم يكون بالطاسة مي " .
تمالك الإبن أعصابه و قال بهدوء :
" اسمع كلام الطبيب وحطو بطاسة فيها مي "
مع طلوع الفجر ، اسيقظ العجوز ، أخذ بعض الوقت حتى يجلس ، و لوهلة أعتقد بأنه يحلم ، فقد كانت الطاسة الموضوعة على الأرض قريبا من شحاطته مقلوبة ، و حولها بقايا من مائها المسكوب ، و لا أثر للفك ! لعن أبو ابراهيم قبل أن يلعن الشيطان ، و بينما كان يهز رأسه ، تأكد بأنه لا يحلم ، و أن الفك اختفى .
مرت نصف ساعة لم يتحرك فيه عن جلسته ، و كان عليه أن يمسح دموعه مرتين عندما تذكر عجوزته التي " راحت " منذ سنتين ، لم يكن يحب كلمة " ماتت " و يفضّل كلمة " راحت " ، و كان عليه أن يمسح دموعه للمرة الثالثة و هو يحدّث نفسه " وينك يا أم علي ، ما كان فيك تنتظري حتى موت و بعدين تروحي ، لو كنتي معي ما كان راح الفك ، كل عمرك كنت حريصة على غراضك و غراضي " ، ثم هزَّ رأسه غافرا لها تلك الكذبة التي ارتكبتها بحقه عندما وعدته قبل وفاتها بسنين طويلة أن لا تموت قبله لأنه كما كانت تقول له " عقلك خفيف ، و ما فيك تكمل لحالك " ، و مع أنه لم يقل لها " أحبك " أبدا ، إلا أنها كانت الأنثى الوحيدة التي أحبها منذ يفاعته و ما زال . لكن ماذا باستطاعة المرء أن يفعل سوى الركون إلى إرادة الله الذي لا يُقلع عن عادته السيئة باختبار عباده ! . نهض عن الصوفا و ذهب خلف البيت ليتبول على الحائط حيث اعتاد، ، و إذا كان قد اعتقد بأنه يمكن أن يعتاد على ارتداء الفك ، إلا أنه و منذ أن أضاف ابنه حماما عصريا لصق المنزل ، فقد كان متأكدا بأنه لن يعتاد على تلك العادة العصرية السخيفة التي تلزم المرء بأن يكون حريصا على الإمساك بعضوه بإحكام و من ثم تصويبه بدقة ليتدفق بوله في تلك الفتحة الضيقة ! و إذا حدث و شرشر (و كثيرا ما كان يشرشر بسبب اهتزاز يديه ) على الأطراف الناصعة البياض لتلك الفتحة اللعينة ، ماذا يفعل ! عليه أن يمسحها ، و بماذا سوف يمسح ما شرشره ! بالمحارم ! و أين سيضع المحارم بعد أن يمسح ما شرشره ! في سله بلاستيكية توضع في الحمام من أجل هذا الخصوص ! لماذا التضييق على النفس من أجل تصريف حاجة تافهة يمكن تصريفها على أي حائط . نفض عضوه المتهدل نفضتين و أعاده إلى سرواله ليكتشف ، ربما للمرة الألف ، بأنه كان عليه أن ينفضه نفضتين أخريين بعد أن شعر بفتوره تلك البقية اللعينة من البول التي دائما ما تتأخر و تكبر مع التقدم في العمر ، و تنتظر حتى يعيد المرء عضوه إلى مكانه تحت الثياب لتبدأ بالنزول .شعر بالغيظ ، و ركن إلى أن شمس الصباح لن تلبث أن تقوم ، إضافة إلى وظائفها الأخرى ، بتنشيف البلل الذي كان قد برد الآن . عاد للجلوس على الصوفا ، و بصعوبة انحنى و رفع الطاسة عن الأرض آملا أن يجد الفك في قعرها ، و من أجل التأكد و ضع يده في الطاسة ، يا للحماقة !، لا يريد أن يصدق أن الفك اختفى ! و لكن أين يمكن أن يختفي الفك ! و لماذا بقيت الطاسة ! لو اختفت الطاسة مع الفك لكان ركن إلى أن الأمر لا يتعدى مجرد سرقة عادية ! أما أن تبقى الطاسة و يختفي الفك ! هل من المعقول أن يكون أحدهم قد سرق الفك ! و من سيسرق فكا لا يصلح إلا لمن فُصِّل لأجله ! أو ربما لم أضعه في الطاسة ! إذا لم أضعه في الطاسة ، أين وضعته إذن ! لعنة الله عليك يا أبو ابراهيم . و لم يكد ينتهي من لعنه حتى أطل أبو ابراهيم من طرف الحاكورة متجها نحو مصطبة جاره و في يده ركوة قهوة مع فنجانين ، صبّح على جاره و انتبه إلى الطاسة التي في يده :
- خير انشالله ! شايفك مزعوج !
- الفك ! فقت الصبح ، و متل مانك شايف بقت الطاسة و راح الفك .
- ليش وين كان الفك !
- بالطاسة .
- وين كانت الطاسة !
- جنبي ، عند الصوفا ع الأرض
- طيب وين الكلب !
- ما عم تسمع ! عم قلك راح الفك ما الكلب ! .
ابتسم أبو ابراهيم و قال :
- يا بوعلي ، صحيح أنا ختيرت بس سمعي منيح ! يا أما أنت نسيان وين حاطط الفك ، يا أمّا الكلب أخد الفك و عم يلعب فيه بشي محل ! وين الكلب !
عندها انتبه أبو علي إلى أنه لم يستيقظ يوما من دون أن يرى كلبه إمَّا على المصطبة وإمَّا في الحاكورة مستلقيا تحت شجرة التين ، جال ببصره في الحاكورة و قال :
- صحيح ، وين الكلب ! .

عند المساء ، كان على أصدقائه العجائز أن يزوره ، بينما ما برح هو جالسا على الصوفا ، و بين فترة و أخرى ينظر تحتها و يحرك يديه عشوائيا ، آملا أن يكون بصره قد ضعف إلى درجة منعته من رؤية الفك ، ثم يأخذه وقت ليس بالقليل للنهوض و العودة إلى الجلوس مرة أخرى . و بعد أن مر بعض الوقت على انهماكهم بلف الدخان و طمأنته بشأن عودة الكلب ، شرب أبو علي شفة عرق من الطاسة التي كان قد ملأها كعادته في مثل هذا الوقت ، ثم سألهم إذا كان قد حدث معهم نفس الشيء بشأن أفكاكهم ، فأجابه أحدهم بأنهم لا يضعونها في مكان يصل إليه الكلب
" بس الطبيب ما قللي إنّو لازم حط فكي بطاسة بعيدة عن الكلب !" و بعد أن ضحكوا ، قال أحدهم
" أنت ما قلت للطبيب بأنو عندك كلب !" .
ثم لم يلبث أن قال آخر بجدية :
" هدا طبيب ، و ما شغلتو يعرف كم حيوان عندك بالبيت ! " ثم أضاف
" أنا برأيي بأنو إبنك لازم يكون لفت انتباهك لموضوع الكلب !" هز أبو علي رأسه و عاد إلى صمته .
حتى تلك اللحظة ، كان أبو ابراهيم صامتا ، ثم لم لم يلبث أن ذكَّرهم بأنه لم يحدث في القرية أبدا أن اختفى كلب
كل هذا المدة الطويلة :
- ممكن يختفي ولد ، ممكن تختفي بنت، ممكن يختفي زوج ، ممكن تختفي زوجة ، ممكن يختفي المختار ، ممكن تختفي رحمة الرب ، أما الكلب ، اسألوني عن الكلاب ! الكلب ما بيختفي .
- طيب وين راح الكلب ! . سأل أحدهم .
- الأفضل نسأل شو صار مع الكلب ! ، أجاب أبو ابراهيم
......... ............. ...........
في ظهيرة اليوم الثاني ، بدت السماء أكثر بعدا و صفاء من ظهيرات الأيام السابقة ، و بينما كان العجائز يتحادثون كعادتهم في الأيام المشمسة تحت شجرة السنديان العتيقة في ساحة القرية ، بقي أبو علي جالسا على الصوفا محدقا في الطريق الترابي الذي يقود إلى مدخل بيته ، و مع أن فكرة أن ينذر على نفسه نذرا قد راودته طيلة الليل ، إلا أنه أقلع عنها ، ليس لأنه لم يحدث ، طيلة حياته المديدة ، أن استجاب الله لدعائه و حسب ، بل لأنه لم يكن أيضا قد فقد ثقته بعودة الكلب بعد . و مع اشتداد الحر، و بسبب الأرق الذي كابده طيلة ليلة البارحة ، تمدد على ظهره ، و كان على وشك الإغفاء عندا أحاطت الضجة بسريره ، فجلس مرعوبا و قد وقف قبالته أبو ابراهيم بشاربيه الثخينين و حوله بعض العجائز ، فأخذ كلبه البني الهزيل يتمسح برجليه ، تارة يتطلع إلى الأعلى نحو صاحبه و في عينيه ما يشبه الشعور بالذنب و تارة أخرى يضع عينيه في الأرض بما يشبه الإعتذار ، فبدا الفك أكثر لمعانا بين شدقيه اللذين يشرشر منهما اللعاب ، مد أبو علي يده كطفل عثر على لعبته ، نزع فكه من شدقي كلبه و وضعه في فمه ، فلم ينتبه و هو في ذروة فرحه إلى نظرات الإمتعاض في عيون الحاضرين . و لسوف تمنعه فرحته تلك ، ليس من النوم طيلة الأسبوعين القادمين محتفظا بالفك في فمه ، والإكتفاء بغفوات نهارية متقطعة ، و حسب ، إنما أيضا ، من الإنتباه إلى أن أبو ابراهيم لم يعد ، كما كان يفعل سابقا ، يأتي بالقهوة كل صباح ليشرباها سوية ، كما لم ينتبه إلى أن لا أحد يدعوه إلى الغذاء أو شرب الشاي ، و امتنع أولئك الذين كان عليهم الإيفاء بنذورهم عن دعوته لأداء الصلوات معهم ، كما تركته خادمته الفقيرة التي كانت تطبخ له غذاءه و تعتني بشؤون المنزل لعدة ساعات في اليوم بحجة أن والدتها بحاجة إليها للإعتناء بأخواتها الصغار . أما الشيخ يونس ، و الذي كان قد قدم إلى منزل أبو علي بعد و قت قصير من عودة الكلب ليبارك له باستعادة فكه ، فسوف ينتبه إلى أن أهالي القرية بدأوا يتجنبون تقبيل يده بعد أن عرفوا بأن أبو علي قبَّلها أكثر من مرة طالبا بركاته و شاكرا قدومه ، من دون أن يتساءلوا فيما إذا كانت تلك اليد المقدسة التي توقفوا الآن عن تقبيلها كانت أكثر طهارة من قبل ! ، فهي إضافة إلى مهامها السماوية ، كانت تقوم أيضا و ما تزال بمهام أرضية يفرضها التبول و التغوط و تنظيف الأنف في الأوقات الفاصلة بين الصلوات و الأدعية و مباركة النذور، و إذا كان من الصعب إثبات طهارة روح الشيخ من عدمها ، فقد كان من السهل إثبات قذارة يديه اللتين كان قلما يغسلهما ، ليس لصفة متأصلة فيه ، بل بسبب الطبيعة الجوالة لعمله التي تفرض عليه التجول بين القرى . و عبثا سوف تذهب محاولات الشيخ في إقناع أهل القرية بأن نجاسة الكلب ليست سوى فكرة فرضتها العادة ولم ترد في القرآن ، و عبثا أيضا ذهبت محاولاته للفت انتابهم إلى أن للكلب سمعة عطرة ، فقد ذكره الله في سورة أهل الكهف ، كما لن تنفع حججه و الأمثلة التي أوردها عن وفاء الكلاب في تغيير رأيهم حول نجاستها .
بدأ الهزال يبدو على أبو علي ، و لم يعد هناك من يحادثه سوى نفسه ! و لطالما تساءل عن الناس الذين لم يعد يراهم يمرون من أمام بيته ، و عندما يحدث و يرى أحدهم فقد كان يناديه و يدعوه للدخول ، ليسمع الجواب الدائم " مستعجل شوي راح مر عليك بعدين " ! و مع أنه بقي هنالك من يبعث له بين فترة و أخرى بالطعام مع بعض الأطفال الذين كانوا يضعون الصحون عند البوابة الخارجية لمنزله و يعودون راكضين ، غير أنه لم ينتبه إلى أن لا أحد يعود و يأخذ الصحون في اليوم التالي ، و مع اشتداد حرارة الصيف ، أصبحت نهاراته أكثر قيظا ، و مساءاته أشد كآبة و هو جالس يحدق في الفراغ بينما يتناهى إلى سمعه أصوات الساهرين على المصاطب و الأسطحة ، كما لم تكن أذنه لتخطئ صوت الطبل الذي يصله قويا من ساحة القرية عندما يكون هناك عرس أو احتفال ، و عندما كان يغفو لبعض الوقت في جلوسه ، لم يكن يرى في أحلامه سوى تلك الصور المغبشة لطفل فقير ملتصقا بأمه طيلة الوقت ينتظرها ريثما تنتهي من إطعام الدجاجات لتجلسه في حضنها و ترضعه ، لقد كان الطفل الوحيد الذي بقي لها على قيد الحياة بعد أن سقط أطفالها السبعة الآخرون صرعى لمرض السل ، و قد استمرت في إرضاعه حتى سن السابعة ! و لربما كانت سترضعه لسنوات أخرى لو لم تلحق بأولادها الآخرين بسبب المرض نفسه . أو صور زوجته التي كذبت عليه و راحت قبله ، و التي اكتشفت منذ السنة الأولى لزواجهما بأن الطريقة الوحيدة لتكمل العمر معه هي أن تتعامل معه كأم ، فكانت تلاطفه كطفل ، و عندما يتحامق ، كانت تؤنبه كطفل . و عندما ماتت ، أو راحت كما يحب أن يقول ، لم يدرك المعزون سر بكائه المرير الذي استمر لشهور ، و لا أصوات المناجات التي كان يسمعها المارون في الليل عندما يمرون من أمام بيته . لم يدرك أحد بأنه لم يكن يبكي زوجته و يناجيها كأرمل ، بل كطفل تيتَّم للمرة الثانية .
في الأسبوع الثالث ، بدأ يفقد الشهية للطعام ، و أصبحت الصحون التي يتركها الأطفال عند البوابة ولائم ، ليس لكلبه و حسب ، و إنما أيضا لكلاب و قطط القرية الشارة ، بينما أخذ جسده يزداد نحولا ، و من بين جميع عاداته السابقة ، فقد حافظ على شرب طاسة عرق عند المساء ، و لن يمر الكثير من الوقت قبل أن يصبح صعبا عليه الوصول إلى شجرة التين و العودة إلى الصوفا كما كان يفعل عدة مرات في اليوم ، و لربما كان من حسن حظه أن ذاكرته بدأت أكثر ترديا في أيامه الأخيرة فأراحته من حسرة إضافية كانت ستضاف إلى حسراته الكثيرة ، إذ نسي بأن عنده إبن وحيد كان قد و عده من زمن طويل بأن يجلب حفيده لزيارته عند نهاية الأسبوع !



#ملهم_جديد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رجل حر ، و لكن ! / قصة قصيرة
- هل يستحق المجد الأدبي عناء السعي إليه / ترجمة ملهم جديد عن م ...
- صديقي الأميريكي
- دور النخب الثقافية و السياسية في الأزمة السورية وفي صياغة أس ...
- دور النظام السياسي الحاكم في الأزمة السورية
- الصغيرة و الحرب
- وداعاً يا قرطاج/ قصة قصيرة
- في مكتب السيد الرئيس / قصة قصيرة
- قصة قصيرة
- حكاية ليست للروي / قصة قصيرة
- على الجبهه الشمالية
- على باب السيد الرئيس / قصة قصيرة جدا
- الحبل
- الرأس المقطوع
- الشرق
- العاشق / قصة قصيرة
- القنَّاص
- حدث في الأسبوع الماضي /قصة قصيرة جداً
- تلك الرائحة
- المعارضة السورية و دور الضحية


المزيد.....




- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ملهم جديد - الفك