أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حكمت الحاج - حول مفهوم -وجهة النظر- في الرواية المعاصرة..















المزيد.....

حول مفهوم -وجهة النظر- في الرواية المعاصرة..


حكمت الحاج

الحوار المتمدن-العدد: 6909 - 2021 / 5 / 25 - 02:42
المحور: الادب والفن
    


تمهيد:

يتم استخدام وجهة النظر = Point of View = كأداة أدبية للإشارة إلى الزاوية أو المنظور الذي يتم من خلاله سرد القصة. وبشكل أساسي، تشير وجهة النظر إلى "عين" السارد أو عين الكاميرا التي يحملها الراوي التي تحدد موقع أو زاوية الرؤية التي يتم نقل القصة من خلالها. وجهة النظر هي واحدة من أهم الخيارات التي يعتمدها كتاب الروايات  لأنها ستتحكم في كيفية وصول القارئ إلى الحكاية، وتحدد مدى قدرة القارئ على التدخل في أية لحظة  لإمكانية معرفة ما يحدث في السرد.

يشتهر غريغوري ماغواير برواياته التي تعيد سرد القصص الشهيرة باستخدام وجهة نظر مختلفة. ففي عمله "اعترافات أخت غير شقيقة قبيحة"، تروي قصة سندريلا إحدى "الأخوات القبيحات" نفسها، بدلاً من سرد الضمير الغائب.

من خلال تغيير وجهة نظر الصوت السردي، يتم إعطاء القارئ منظورًا ونسخة مختلفة تمامًا من القصة الشهيرة. لا يؤدي هذا إلى توفير تجربة جذابة ومبتكرة للقارئ فحسب، بل يؤدي التغيير في وجهة النظر أيضًا إلى تغيير القصة نفسها من خلال تقديم معلومات وآراء جديدة "غير مرئية".

كأداة أدبية، يتم التعبير عن وجهة النظر بشكل عام من خلال استخدام الضمائر. ولكل ضمير منها مزاياه وقيوده. تعتبر وجهتي نظر الشخص الأول والثالث أكثر شيوعًا من وجهة نظر الشخص الثاني في الأدب. يسمح السرد بضمير المتكلم للكاتب بإقامة علاقة حميمة مع القارئ من خلال السماح بالوصول إلى الأفكار الداخلية للراوي. السرد بضمير المخاطب مرن من حيث أنه يمكن للكاتب التركيز على أكثر من أفعال وأفكار شخصية واحدة.



دعونا الآن نتعرف على أشهر ثلاث مقاربات نقدية في خصوص مفهوم وجهة النظر، لأشهر ثلاثة نقاد اختصوا بنقد الرواية في العالم الأنكلوسكسوني:



أولا: مساهمة بيرسي لوبوك

إنّ كتابة رواية جيدة البناء وناجحة هي غاية اهتمام النقاد في الثقافة الأنكلوسكسونية عموما. وقد كانت هذه الغاية هي محور اهتمام ناقد ومنظر كبير مثل "بيرسي لوبوك"، وهي التي لا تزال تشكل إلى يومنا هذا كل تلك الأهمية المعطاة إلى كتابه ذائع الصيت "صنعة الرواية"- The Craft of Fiction - ذلك الكتاب الذي كان له تأثيره أيضا في ثقافتنا العربية عبر الترجمة الرائعة التي قدّمها لنا د. عبد الستار جواد.

لا يمكن أن نقول شيئا ما مفيدا حول رواية معينة، ما لم نعرف الطريقة التي صنعت بها، يقول "لوبوك" في كتابه الآنف الذكر. ويضيف قائلا: "إنّ التقنية هي المظهر الذي يجب دراسته". ويؤكّد "لوبوك" إننا دائما "يجب أن نقرأ الروايات قراءة تأسيسية، وهذه القراءة ستكون قائمة على تحليل التكنيك بشكل رئيس"، وهو ما فعله انطلاقا من تحليل بعض الروايات الكبرى.

لقد أخذ "لوبوك" عن أستاذه "هنري جيمس" بعض المبادئ الأساسية حول فنّ الرواية ليطبقها على روائيين آخرين. ويمكن تلخيص هذه المبادئ حسب ما تورده الناقدة الفرنسية "فرانسواز غويون" كالتالي:

1. تظهر فنية الروائي عندما يتمثل ما يحكيه/ يرويه، كشيء يجب أن يتمّ عرضه، وأن يقدّم للقارئ وأن يفرض نفسه بنفسه. في الرواية ليست ثمة سلطة تقع خارج حدود النص نفسه.

2. على الروائي أن يكون مخلصا وأن يبقى مخلصا للطريقة التي قرّر تبنيها.

3. الرواية المتقنة هي التي يتطابق فيها الشكل مع المضمون.

4. الشكل الأسمى هو الذي يطور بشكل أفضل الأسس الرئيسية للمضمون.

5. يجب على وجهة النظر، أي علاقة الراوي بالحكاية التي يحكيها، أن تهيمن على مجمل المشاكل في الرواية.

هذه هي المبادئ التي صارت كأساس لمقاربة مشاكل الرواية في الثقافة برمتها، ووفق هذه المبادئ حلّل "لوبوك" روايات مثل الحرب والسلام لتولستوي، مدام بوفاري لفلويير، معرض الغرور لوليم ثاكري، السفراء لهنري جيمس. وعلى ضوئها صاغ ما يمكن أن نسميه تفريقاته النقدية وتتعلق هذه التفريقات من جهة بمفهوم "وجهة النظر" ومن جهة أخرى بمفهوم "تقنيات السرد". ويتبع "لوبوك" منهجا أصوليا صارما ودقيقا، حيث ينطلق من قراءة الرواية ليسجل عليها أوصافها المميزة لها ثمّ إنّه يميّز صيغ العرض ويفصل فيما بينها بواسطة مصطلحات محدّدة. وهكذا يميز وهو يحلّل رواية مدام بوفاري بين عرض مشهدي للأحداث في بداية الرواية وبين العرض الشمولي العام الذي يعقب ذلك. ويلاحظ أيضا داخل نفس الرواية عرضا دراميا - مشهد تجمعات الفلاحين - ويقابل بينه وبين العرض التصويري (نسبة إلى فن التصوير أو الرسم) مثلا القسم المتعلق بالحفلة الراقصة في الرواية.

إنّ كل طريقة من هذه الطرق، وكل تقنية منها تفضي إلى استعمال "وجهة نظر معينة". فبينما يفترض العرض الشمولي مؤلفا عالما بكل شيء، يحلق فوق موضوعه بعيني نسر، يصبح هذا الكاتب غائبا في العرض المشهدي، وتوضع الأحداث مباشرة أمام القارئ أمّا في حالة العرض التصويري/ التشكيلي/ فتنعكس الأحداث أمّا في وعي الراوي كلي العلم أو في وعي إحدى الشخصيات (إيما بوفاري في حفلة الرقص مثلا) وكل صيغة من هذه الصيغ تمثل بعض الإيجابيات وبعض السلبيات أيضا. ورغم اعترافه بإيجابيات وجهة نظر الراوي العليم وبالإنجازات الناجحة لوليم ثاكري مثلا في روايته "معرض الغرور"، فإنّ لوبوك يفضّل دون شك النماذج الأخرى لوجهة النظر حيث يكون الراوي ممسرحا ومدمجا في الحكاية. وبهذا الشكل تكتفي الرواية بذاتها وتصبح كما يقول الناقد والروائي الفرنسي "جان ريكاردو" رواية لازمة غير متعدية (أنظر مقالنا السابق ضمن هذه السلسلة حول كتابه قضايا الرواية الجديدة) لا تحتاج إلى الاستعانة بأية سلطة من خارجها. وكمثال على ذات وجهة النظر المدمجة يذكر "لوبوك" تلك الروايات المكتوبة بضمير المتكلم ولكنه في نفس الوقت يؤكّد على الإيجابيات الأكثر التي يقدّمها التحويل الإضافي لوجهة النظر الذي يحدث حينما تتمّ مشاهدة المحكي من خلال وعي إحدى الشخصيات في اللحظة نفسها التي تحدث فيها بالنسبة لهذا الوعي وسيختفي ذلك الخلل الزمني بين "مضارع الراوي" و"ماضي الواقعات" ذلك الخلل الزمني الذي يقع دائما في الروايات التي تكتب بضمير المتكلم. وبالإضافة إلى ذلك لا يصبح كل شيء ممسرحا ومعرضا فحسب بل إنّ الوعي نفسه يصبح ممسرحا. كل شيء يصبح موضوعيا دون أن يفقد مع ذلك خصائصه الروحية. هكذا يقول "بيرسي لوبوك".



ثانيا: مساهمة نورمان فريدمان

بمرور الزمن، ازداد المفهوم الذي بلوره "بيرسي لوبوك" بعد "هنري جيمس" تحديدا وتأسيسا. فبعد أكثر من ثلاثة عقود على نشر كتاب "صنعة الرواية" تقدم ناقد كبير مثل "نورمان فريدمان" ليقدم مساهمته في الموضوع، لكن دون أن يجدّد في شيء أو يغيّر في شيء. وتقول "فرنسواز غويون" واصفة كتابه (الشكل والمعنى في القصّة) مطبعة جامعة جورجيا 1985 بأنّ قيمته تكمن فقط في طابعه التلخيصي وكذلك التنظيمي، فبالاعتماد على التمييز الأساسي ما بين "التيلينغ" وبين "الشووينغ" أي ما بين الإبلاغ والمشاهدة، يصنف "فريدمان" وجهات النظر الممكنة حسب درجة الموضوعية التي تسمح وجهات النظر هذه بوصولها وهي كالتالي:

أولا: الراوي العليم/ في هذه الحالة تكون زاوية الرؤية بالنسبة للمؤلف غير محدّدة، إلا أنّه في المقابل، لا يتحكم في الرؤية بشكل جيد. وجهة النظر هذه تتميز بتدخلات الكاتب التي يمكن أن تكون ذات علاقة أو غير ذات علاقة بالحكاية، وأشهر الأمثلة على هذا النوع من وجهة النظر هو رواية تولستوي الحرب والسلام ومعظم روايات الكاتب التشيكي المعاصر ميلان كونديرا.

ثانيا: عندما يكون الراوي كلي العلم أيضا ولكن محايدا، بمعنى أنّه لا يتدخّل مباشرة، بل يتحدث بطريقة غير شخصية وبضمير الغائب، وفي نفس الوقت تقدّم الأحداث وتعرض وتحلّل بطريقة يراها الكاتب بشكل مختلف عما تراها الشخصية، مختلف من حيث طريقة هذه الرؤية وأشهر من كتب بوجهة النظر هذه هو توماس هاردي، مثلا روايته "نافخ البوق" أو "تيس سليلة دوبرفيل".

ثالثا: عندما يكون الراوي بوصفه شاهدا وهذه وجهة نظر الروايات المكتوبة بضمير المتكلم، حيث يختلف الراوي عن الشخصية، هنا، القارئ يرى الأحداث عبر الراوي ويرى الحكاية من زوايا مختلفة متغيرة. أشهر الأمثلة على هذا النوع روايات "جوزيف كونراد" مثل "لورد جيم".

رابعا: عندما يكون الراوي بوصفه مشاركا وهذه هي حالة الروايات المكتوبة بضمير المتكلم، حيث يتساوى الراوي والشخصية الرئيسية. وأشهر الأمثلة على هذا النوع من وجهة النظر هو روايات "تشارلز ديكنز" مثل "الآمال الكبيرة”.

خامسا: الراوي كلي العلم المتعدّد: في هذه الحالة، لا يوجد أي راو، بل تقدم الحكاية مباشرة كما ستعاش من قبل الشخصيات جميعا، أي كما تنعكس في وعيهم. والفرق بين وجهة النظر هذه ووجهة نظر الراوي العليم المحايد، كما في الفقرة (ثانيا) أعلاه، هي في كون المؤلف يقدّم هنا الأفكار والمشاعر كما تتكون بالتدريج في وعي الشخصيات، بينما هو في الحالة الأخرى يلخصها أو يحللها بعد حدوثها. أشهر الأمثلة على هذا النوع هو رواية " السفينة" لجبرا إبراهيم جبرا ، ومن الأدب العالمي، أشهر الأمثلة روايات "فيرجينا وولف"/ الأمواج" مثلا.

سادسا: عندما يكون الراوي كلي العلم مفردا. هنا، الاقتصار على شخصية واحدة إذ تثبت وجهة النظر وتركز في زاوية واحدة. أشهر الأمثلة على هذا النوع، رواية "صورة الفنان في شبابه" لجيمس جويس.

سابعا: الراوي الممسرح: في هذه الحالة، تعرض أفعال وأقوال الشخصيات وليس أفكارها ومشاعرها، وعلى القارئ أن يستخلص الأفكار والمشاعر الخاصة بالشخصيات انطلاقا من تلك الأفعال والأقوال. وأشهر الأمثلة على هذا النوع من وجهة النظر هو روايات "آرنست همنغواي".

ثامنا: حالة عين الكاميرا: هنا الراوي يعمل كعدسة، ينقل قطعة من واقع معين دون انتقاء أو تنظيم، نصل هنا إلى أقصى حالات التضييق حيث يحصل تناقض مع طبيعة الكتابة نفسها بصفتها فنا كلاميا.

يقول "فريدمان": إنّ الغاية الأولى للسرد هي أن ينتج إيهاما تاما بالواقعية، وهذا لا يعني أنّ هناك وجهة نظر معينة أفضل من غيرها، فلكل منها جوانب إيجابية وجوانب سلبية ولكل منها أن تقبل أو لا تقبل تحقيق نتائج معينة. إنّ السؤال المتعلق باختيار وجهة نظر معينة دون غيرها مرتبط بالسؤال المتعلق بنوع الموضوع المتناول، وبنوع الإيهام المرغوب تحقيقه.



ثالثا: مساهمة وايان بوث

مشكلة " وايان بوث" هي دائما التأثير الذي تحدثه الرواية على القارئ، بل إنّ هذا هو مشكله الأساس. ويحمل مشروعه عنوانا دالا بدقة على هذا الاهتمام - بلاغة الرواية- ويقصد بالبلاغة كل التقنيات المستخدمة من قبل المؤلف ليحقّق التواصل مع القارئ، أي ليفرض عليه عالمه المتخيّل، ويتعلق الأمر برصد الوسائل التي يتواصل بواسطتها المؤلف مع مشروعه في التحكم بقارئه بشكل يجعل هذا الأخير يشاركه نظامَ قيمهِ. إنّ المشكل إذن هنا هو أيضا مشكل الغاية والوسيلة ولكن تصوّر" بوث" لهذه الغايات مختلف عن التصوّرات السابقة. تلاحظ "فرنسواز غويون"، ودائما مع مقالتها، اختلاف "بوث" عن غيره، إذ لا يمكن حسب تصوّره أن نسنّ مجموعة من القوانين العامة، مهما تعلّق الأمر بالإيهام بالواقع أو بالموضوعية أو بالمسافة الجمالية [اصطلاح وايان بوث المفضل، راجع بصدد ذلك، مجلة الثقافة الأجنبية عدد خاص بالسردية لعام 1992 بغداد] وذلك لأنّ الناقد قد يتعامل دائما مع أعمال أدبية خاصة.

ومن جهة أخرى، فإنّ الهدف الأول للرواية ليس هو خلق الإيهام بقدر ما هو نقل بعض القيم. هكذا ينتقل الاهتمام من تحليل التقنيات كما تظهر في العمل الأدبي، إلى تحليل ما يسميه "وايان بوث" أصوات الكاتب المختلفة التي تسمع نفسها. وحسب تعبير "بوث" فإن هذه التقنيات هي التي يجب أن تكون موضع الاهتمام في المقام الأول، وهي التي ستحل محل مفهوم وجهة النظر. ويعتبر نقده للتعارض التقليدي بين "المشهد" و "الحكي" مميزا في هذا الصدد. وهو يستعين بأمثلة من "فيلدنغ" ومن "سارتر" ويقارن بين الحكي المهم والحكي عند "فيلدنغ" وبين تلك المشاهد المملة والمزعجة عند "سارتر" وما يهم في نظره ليس نوع الإجراء المستعمل، بل نوع الراوي الذي يستعمل. ويهاجم "بوث" كذلك خرافة اختفاء المؤلف أو امحائه، ويرى أنّ الكاتب يمكن له إلى حد ما أن يختار التنكر، ولكنه لا يمكن له أن يختفي أبدا. 

إذن جدّد "بوث" في مفهوم وجهة النظر وقدّم تمييزه التالي:

1. هناك فرق بين "المؤلف الضمني" وبين "الراوي"

2. هناك فرق بين الراوي الموثوق منه والآخر غير الموثوق منه

3. هناك فرق بين الراوي الممسرح وبين الراوي غير الممسرح

إنّ هذه التمييزات تحيل إلى مبدأ أساس لهذا النظام النقدي ألا وهو إيصال مجموعة من القيم من قبل المؤلف إلى قرائه.

إنّ "بوث" بتفريقه الواضح بين المؤلف الضمني وبين الراوي، وبابتكاره لمصطلح المؤلف الضمني (لكي يميزه عن المؤلف الحقيقي) يكون قد وضع حدا للغموض المتولد عن الخلط ما بين الراوي المنتج الذي ينتج العمل وينظم المحكي كلية، وبين الراوي الذي يبدو أنّه يحكي الأحداث داخل العمل. وبالاستناد إلى " وايان بوث" فإنّ غموضا لا يحدث إذا كان الراوي ممسرحا (أي له صفات شخصية) وخاصة إذا كانت خصائصه مختلفة بشكل واضح عن الخصائص التي يمكن نسبتها إلى الكاتب، ذلك أن كثيرا من القرّاء غالبا ما يخلطون بين المؤلف والراوي خاصة في الروايات المكتوبة بضمير المتكلم. وهنا تتجلى أهمية مفهوم " وايان بوث" عن المسرحة والتمسرح (ولا ننسى أن نقارن هنا مع مفهوم بيرسي لوبوك في كتابه صنعة الرواية. راجع القسم الأول من هذا المقال) فعندما لا يكون الراوي ممسرحا يحدث لدينا لبس وغموض. وأوضح مثال على ذلك يورده "بوث" هو روايات "ستاندال": الأحمر والأسود وصومعة بارما ولوسيان لوين".

وخارج هذا التصنيف المتعلق بالمصطلحات فإنّ ما هو أهمّ بالنسبة لوايان بوث دون شك هو إدخال أو إقحام المؤلف من جديد في العمل الأدبي، ولو بشكل ضمني على هيئة " أنا" ثانية أو نفس ثانية للمؤلف، ومن ثمّ فإنّ المؤلف سيدخل من جديد أيضا في الرؤية التي سيكونها القارئ عن هذا العمل، وهذا التمييز الأول يتحكم في باقي التمييزات الأخرى، لهذا السبب كانت الإشكالية المثارة مركزة كلها على تغير المسافة بين القارئ والمؤلف الضمني. وعبر مفهومي المسافة وثقة القارئ في الراوي أثار "بوث" مشكل الالتباس في أعمال مثل "السقطة" لألبير كامو، وهي رواية يمكن لقارئها أن يثق بالراوي الذي فيها. ونستطيع القول الآن أنّ مجمل مساهمة "وايان بوث" إنّما يتعلق بإحلال مسألة "أصوات المؤلف" محل مسألة الرؤية في المحكي أو مفهوم وجهات النظر التي تتعلق بالدرجة الأولى بالتنظيم الداخلي للعمل وخصوصا علاقات الراوي بالشخصيات وعلاقات الشخصيات ببعضها. إنّ أصوات المؤلف هذه التي تعبر عن نفسها بالصيغ السردية والمسرحية المختلفة هي قبل كل شيء وسائل يحقق المؤلف بواسطتها الاتصال مع القارئ. وهكذا فإنّ التعليقات تسمح للكاتب بأن يوضّح الوقائع وأن يلخّص الأخبار وأن يؤكّد على دلالة الأحداث وأن يتحكم في التشويق وأن يعمّم وأن يؤثر في اعتقادات القارئ وأن يدعم معاييره وأنّ ينفيها وأن يكسب صداقته، صداقة القارئ، ذلك الصنو والشبيه والأخ، حسب ما يقول "بودلير" في قصيدته إلى القارئ.

إنّ السرد أو الحكي فن وليس علما، يقول "وايان بوث" في ختام مساهمته ولكن هذا لا يعني أنّه لا يمكن صياغة مبادئ بشأن هذا الفن. إنّنا نلاحظ، ودائما مع مقالة "بوث"، وجود عناصر منظمة في كل فن، ولا يمكن للنقد المختص بالقصّة والرواية أن يتهرّب من المسؤولية. إنّه ملزم بأن يفسّر نجاح التقنيات أو فشلها بالإحالة إلى المبادئ العامة ولكن المشكلة كل المشكلة هي "أين نجد هذه المبادئ العامة؟" إنّ القصّة والرواية ووجهة النظر، كل هذه المصطلحات لا تفيد، وهي ليست بذات معنى إذا لم يكن لها قابلية التعميم. إنّ تقنية معينة لا يمكن الحكم عليها من زاوية أهميتها للقصة والرواية ولكن فقط من زاوية وظيفتها في أعمال محدّدة أو في نوع محدّد من الأعمال.



وأخيرا، وكخلاصة سريعة، فإننا نقول: إنّ هذه السرديات تستند على تصوّر واقعي للأدب. فالتمييز بين المستويات الثلاث: محكي، حكاية، سرد، وإجراءات التحليل التي تنتج عن ذلك إنّما تفترض أنّ شيئا ما قد وقع أو حدث خارج النصّ الذي يحكيه. ويبدو المحكي كإعادة إنتاج أكثر أو أقل تحريفا لواقع سابق عليه. إن كل "السرودات" هي بالضرورة مسرودات واقعية. وقد قال الكاتب العراقي ذو المستوى العالمي في سرد القصص محمد خضير شي مثل هذا قبل ثلاثين عاما. كل شيء يحدث كما لو كان للحكاية وجودها المستقل، وينتج عن ذلك أنّ هذا المنهج يطبق بشكل أقل سهولة على ما يسمى بالرواية الجديدة حيث لا يمكن فيها ترميم الحكاية ولا يمكن الحسم في مسألة الأصوات السردية.



*(فصل من كتاب قيد الطبع حول تقنيات الكتابة الروائية المعاصرة..)



#حكمت_الحاج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرواية الدينية والبديل الشعري عند وليم غولدينغ
- حوار مع الفنانة التشكيلية التونسية عائدة عمار: أفكار لوحاتي ...
- المسرح الآن، أكثر من أي وقت مضى.. بمناسبة يوم المسرح العالمي
- سنتان وثمانية أشهر وثمانية وعشرون ليلة: ألف ليلة وليلة كما ي ...
- سلمان رشدي متحدثا عن الشعر والقصة القصيرة والخيال..
- الثدي المقطوع: فارس اللامعقول يترجل..
- نجيب عياد: نحو هوية عربية للسينما..
- رواية ما بعد الحداثة وتكنيك المرايا المتقابلة: -المرآة والقط ...
- في بنية التفهم الأدبي: الأدب والقراءة والتأويل..
- الغموض بوصفه ظاهرة شعرية
- الخيال والعالم: تداخل النص والمعنى في شعر والاس ستيفنز
- الشاعر وتراثه
- سوق الشيوخ
- بنية اللغة الشعرية: سبع ملاحظات على أطروحة جان كوهين..
- كيف نظر فْريدْ هَاليدايْ للعربِ والمسلمين
- طريق داخل حسن
- لا تكنْ متفاخراً يا موتُ-قصيدة جون دون- ترجمة حكمت الحاج
- الشّعرُ عِلْمَاً..
- الشاعر وقناع الأناقة
- تمييزات، ديون، استجابات.. حول التلقي والتأويل


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حكمت الحاج - حول مفهوم -وجهة النظر- في الرواية المعاصرة..