أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - اسماعيل شاكر الرفاعي - رحلة حرة في ذاكرة العراق التاريخية القريبة















المزيد.....


رحلة حرة في ذاكرة العراق التاريخية القريبة


اسماعيل شاكر الرفاعي

الحوار المتمدن-العدد: 6846 - 2021 / 3 / 20 - 09:03
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مع انبلاج عصر الحضارة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر ، كتبت الامم الحديثة دساتيرها . قبل ذلك لا توجد دساتير : يوجد فقه وشريعة لاهوتية تولدت عنها أعراف وعادات وتقاليد مثقلة بالقيود التي تحد من حرية الانسان . قامت الدساتير الحديثة على قاعدتي الحرية والمساواة ( بعض الامم في تاريخها القديم التي حققت لإحرارها ، او حقق خواصها من مالكي الارض - من دون عوامها - بعضاً من حريتهم كما في اثينا القديمة او بريطانيا 1215 : شاع في ثقافتها تداول لفظ الدستور ) والحرية والمساواة بندان لا حضور لهما في المدونات القانونية القديمة للحضارة الزراعية التي تخترمها اللامساواة وبالتالي الاستبداد والجبرية من الفها الى يائها . واذا كانت الأساطير والملاحم والكتب الدينية هي حاضنة وعي الأقوام و الامم في الحضارة الزراعية : حيث المعجزات والنبوة وخلق الكون والإنسان ليس على مثال سابق كما تقول الكتب الدينية ، فأن الدساتير الحديثة هي حاضنة وعي الامم الحديثة : حيث معجزات العلم والتكنولوجيات ، في اختراع وابداع آلات لم يجيء تصميمها على مثال سابق ، اذ لم تخترع البشرية شبيهاً لها في الماضي . كتبت الامم القومية الحديثة ( لابد من تسميتها بالقومية وبالحديثة ، تمييزاً لها عن امم الحضارة الزراعية القديمة ذات المدلول الطائفي الديني ) دساتيرها تجسيداً لنظرتها الى الشرعية والحقوق والأخلاق والجمال : المستلة اصلاً من نظرتها الى الكون ، والى وظيفة الانسان في الحياة ...
2 -
لم تدخل الامم الحديثة : عالم الحضارة الصناعية بسهولة ، لقد خاضت طلائعها المستنيرة صراعاً طويلاً ضد أعرافها : أي ضد الثقافة المترسبة عن الحضارة الزراعية ، التي كثيراً ما يستدعيها اشباح الماضي مع اول ازمة يطول مكوثها خاصة في الازمات الاقتصادية والصحية : اذ تنبعث مجدداً - بطريقة تشبه ما قرره فرويد في مفهومه عن عودة المكبوت ( راجع كتابه : موسى والتوحيد ) - منهجية الدعاء التي تخاطب عالم الغيب وتستعطفه في ايجاد الحلول لمشاكلها الطبيعية والاجتماعية . في هذه المنهجية تستقيل الامة عن ممارسة دورها الطبيعي في التفكير طالبة من عالم الغيب - عبر استعطافه بالدعاء - على ايجاد المخرج الملائم لازماتها . وهذا واحد من اهم ما يفرق الامة في طورها الزراعي القديم عن الامة في طورها الصناعي الحديث . الامة في طورها الثقافي الزراعي ، تعتمد على قوى من خارج ذاتها : في تزويدها بما تحتاجه ( قد يكون هذا الخارج غيباً يستورد لنا الأنبياء منه : حاجاتنا الروحية ، او قد يكون الخارج دولاً متقدمة صناعياً ، نستورد منها ما نحتاجه من سلع وبضائع وخدمات ونرفض التفكير في كيفية تصنيعها داخلياً ) : وهو ما ترفضه الامة الحديثة التي يعتمد قادتها على ذواتهم في التفكير ووضع الخطط الكفيلة في حل التحديات التي تواجه مجتمعاتهم ، وتشجيع أهل الاختصاص على إقامة التجارب العلمية وإجراء البحوث المختلفة والدراسات الميدانية والإنسانية . ففي جائحة كورونا مثلاً ، أنتجت الامم التي مارست طلائعها التفكير : العلاج الشافي لهذا الفايروس ، في حين اعتمدت الامم التي لم تمارس التفكير على الخارج ، واستوردتها منه . فتاريخ الامم الحديثة يشير الى ان خروجها من افق الحضارة الزراعية الضيق : إنتاجياً وثقافياً ، ودخولها عالم التصنيع الواسع : إنتاجياً وثقافياً ، قد تم نتيجة انتصار قوانينها ومنهجها العلمي على أعرافها .
3 -
في هذا الجزء من المقال : أسقطت عن عمد مصطلح " الهوية " الملتبس ، واستعظت عنه بمفهوم : وظيفة الامة في الحياة ، الذي يعبر عن نوع النشاط الأساسي الذي مارسته وتمارسه الامة . فالأمة ليست جوهراً ثابتاً معلقاً في فراغ ، انها على العكس من ذلك : نشاط متواصل يمارسه أفرادها وتمارسه جماعاتها : لحماية الذات ، ولتلبية حاجات العيش الاساسية . وفي أتون هذا النشاط المستمر تتكون للأمة سمات تميزها عن سواها من الامم . وسمات الامم - في عصرنا الحديث - يجسدها مفهوما : التقدم والتخلف ، وليس مفهوم الهوية المطرز بآيات مدح الذات والأعلاء من شأنها دون وجه حق : وهي لا تقوى على بناء شبكة كهرباء تنير ليلها الطويل مثلاً . مفهوما : التقدم والتخلف يمنحاننا رؤية الامة على حقيقتها : رؤيتها في محطات قوتها وزهوها ، ورؤيتها في محطات ضعفها وانهزامها ، خاصة في عصر الاستعمار الذي مارسته اوربا وهي تغزو العالم لنهبه ، وإعادة تكييفه بالطريقة التي يسهل عليها امتصاص دمائه . في عصرنا الحديث : مرت جميع الامم بلحظات انتصر فيها القانون مرة ، وانتصر العرف في الأخرى ( والعرف هو المنتصر الدائم في العراق وعالم العرب والإسلام ) : وحين ينتصر القانون يكون للامة إشعاعها ، وتتعدد فيها منابر العطائين : المادي والروحي ، لكن انتصار الأعراف يقود الى : انحسار حضور دولة الامة ، وتلاشي هيبتها ، وتفكك أواصر اللحمة الوطنية وعودة الجماعات الى تكويناتها الاولى : العشائرية والطائفية والاثنية والمناطقية ، مصحوبة بوسواس الخوف من التعددية : هذا الخوف الذي يؤججه داخل كل مجموعة ، اصحاب نظرية المؤامرة ، الذين يوحون لجماعتهم بتآمر الجماعات الاخرى عليهم ( المالكي والصدر شيعياً وسليم الجبوري والحلبوسي سنياً والبارزاني وطالباني كردياً ) ويدفعونهم الى تبني خيار : ردع عدوان الجماعات الاخرى الوشيك : بالمباشرة بامتلاك السلاح وتشكيل الميليشيات .
4 -
ما وظيفة الامة في الحياة في عصرنا الحديث ؟ هل وظيفتها الجهاد والاستنفار الدائم للذات لصد مؤامرات داخلية وخارجية مزعومة ؟
أم ان وظيفتها الاكثار من صناعة المناسبات الدينية ( المقدسة ) واختراع طقوس عبادة مناسبة ، وممارستها على شكل مهرجانات جماعية تتعطل خلالها الدولة من تسيير شؤون الناس ؟
أم ان وظيفة الأمة في الحياة امتداد للوظيفة الاساسية للأمم في عصر الحضارة الصناعية ، والمتمثلة بالتنمية المستدامة لتحسين شروط العيش ، ولتحقيق مستوى متقدم من مستويات الحياة : الحياة السائرة على سكة الدستور والقوانين ، لا على ما تقرره الاعراف : وهذا هو الفارق الثاني الذي يميز امم الحضارة الصناعية عن الامم التي ما تزال تتخبط في مخلفات الحضارة الزراعية ، وتتشبث بغيبياتها . وحين نفتش عن صنف الحياة التي يعيشها العراق الآن نجدها : حياة لا واعية ، عفوية ، ينظم الناس فيها علاقتهم خارج سيطرة قانون الدولة ، بتشجيع من قوى خارجية لتحويلهم ، بعد حين ، الى جيوش تحمل اجندات اخرى مناوئة على طول الخط لأستراتيجية الدولة العراقية : ويقدم عراق ما بعد 2003 مثالاً قوياً على الترابط الوشيج بين غياب تطبيق القوانين ، وبين انتشار ثقافة تأسيس الميليشيات ، وكيف ان دول الجوار ( الخليجية وايران وتركيا اردوغان وسوريا آل الاسد ) شجعت رموز الموروثين الشيعي والسني من الساسة والفقهاء على تشكيل الميليشيات ، فتكونت ميليشيات ضاربة : بلغت الذروة في احتلال القاعدة وداعش والزرقاوي : لمناطق واسعة من العراق ، فيما استطاعت ميليشيات شيعة السلطة ان تبلغ الذروة : بإجبار الدولة على تشريع قرار ضمها الى الجيش الرسمي شكلياً : اذ ظلت محافظة على هياكلها التنظيمية ، وعلى أجنداتها كذراع من اذرع ايران في صراعها مع امريكا . لقد نجحت الميليشيات في تحطيم نزوع الدولة الطبيعي الى تلبية حاجات الناس من السلع التصنيعية ، وسد حاجتهم من الخدمات ، وفي هذا تؤكد الميليشيات على انها تكوين ينتمي الى عالم الحضارة الزراعية : يتناقض وجوده ووجود الدولة الحديثة ، اذ لا تسمح دساتير الامم القومية الحديثة بازدواجية السلطة وبتقاسم السيادة مع الدولة . ولتمرير هذا الوجود المخرب والمشوه للدولة : أجبرت هذه الميليشيات الدولة على ايجاد الغطاء المناسب فأصدرت قراراً شكلياً يشير كذباً الى تابعيتها للقيادة العسكرية ، وجرت الدولة الى حمايتها ، وهي تعلن انحيازها الى ايران وتباشر الحرب على اكبر الشياطين وليس أصغرها : مستخدمة أسلحة متطورة كالصواريخ البالستية ، رغم ادراك زعامات الميليشيات بأن الله في القرآن قد سمح للشيطان : بالعيش الدائم والوسوسة الدائمة حتى يوم القيامة ، وان هذا الاستخدام المكثف لاسم الشيطان يدخل في باب عدم فهم نظرية القرآن عن الشيطان الذي سيظل حياً وفاعلاً الى يوم القيامة : ولذا فان هذا التكاثر السرطاني للميليشيات وجد لتمرير أهدافاً سياسية وليست دينية .
5 -
من خلال جولة سريعة في بغداد ومدن عراقية اخرى ، تكتشف ان قادة البلاد : معممين وافندية ، ينتمون - في مفاهيمهم الإدارية والتنظيمية - الى عالم الحضارة الزراعية الذي يخلو موروثه التأليفي من كتاب فقهي ( أقول فقهي لأن الحضارة التي جاء بها الاسلام - واعتمدت في تمويلها على ما قررته من ضرائب " الخراج " على الارض المفتوحة - هي حضارة فقه ، فالفقه فيها ثقافة معممة يتجادل الناس في موضوعاته في كل مكان وزمان ، وحتى جائحة كورونا لم تسلم من التساؤل حول ما اذا كانت مؤامرة وفعل من افعال الشيطان الاكبر ، أو عقوبة ربانية ) يضم في احد ابوابه مناقشة فقهية : لقانون المرور ، أو ارصفة المدن . لأن القانون والرصيف : معلمان بارزان من معالم مدن الحضارة الصناعية ، اللذان اخترعهما الانسان بعد ثورة المواصلات في الربع الاول من القرن العشرين : اخترع قانون المرور لتنظيم حركة السيارات ، واوجد الأرصفة في المدن لعزل حركة البشر والحيوانات عن حركة السيارات . وحين ينعدم حضور قانون المرور في تنظيم الحركة داخل شوارع بغداد ، ويحتل اعضاء الاحزاب والميليشيات أرصفتها كباعة مفرق : لا مجال أمام السائح الآتي من مدن الحضارة الصناعية : الا ان يتحدث عن بغداد القرية وليس عن بغداد المدينة : عن بغداد ذات الحركة العشوائية والعفوية ، وليس عن بغداد الواعية التي تنظم وترتب كل شيء داخلها . وفي هذا تكون العقلية الزراعية العشوائية قد انتصرت على العقلية الصناعية : عقلية التنظيم والترتيب ...
6 -
حين ترنحت المؤسسات التي صاغتها منظومة الخلافة الفكرية كالجيش الانكشاري والحسبة والصدر الأعظم وغيرها ، وانهزمت امام قوات الحلفاء في الحرب العالمية الاولى ، فان ذلك يشير بوضوح الى ان : أمة الدولة العثمانية ( وهي أمة دينية في رؤية الخلافة لها ، اذ هي مصدر الضرائب والجيش الجهادي الذي يقاتل من اجل نشر الاسلام : وهذا هو اصل منشأ دولة : آل عثمان ، وليست مصدراً للتشريع بوجود تشريع سماوي جاهز تأخذ دولة الخلافة - من بين جملة تأويلات للشرع - بتأويله الحنفي ) في طريقها الى التفكك والأفول ، ذلك ان شخصية الامم كامنة في القواعد والمعايير التي توافقت وتعاقدت عليها في ادارة شأنها العام . وستظل الامة المهزومة كذلك بلا شخصية الى ان : تتمكن من اكتشاف معايير وقواعد وتشريعات مضادة للمعايير والأصول المهزومة ، وهذا ما فعلته المؤسسة العسكرية بقيادة كمال اتاتورك الذي استبدل مؤسسة الخلافة ، وما كان يدور في فلكها من فقه ومؤسسات ، بمنظومة فكرية علمانية : جعلت من أهدافها السريعة تصنيع البلاد وتطوير الزراعة وتحديث الحياة الاجتماعية والسياسية بالقطيعة التامة مع الموروث الإسلامي على مستوى اللباس والتعليم والكتابة والنظام السياسي . لقد صنع العسكر بلاداً جديدة اسمها : تركيا ، على انقاض الخلافة العثمانية ، كما صنعت طبقة البرجوازية دول اوربا الحديثة . وبعد مرور 100 عام على هذا التأسيس نستطيع القول بأن النجاح حليف التجربة الاتاتوركية التي يمكن تلخيصها بالخروج الواعي والمقصود من مؤسسات عالم الحضارة الزراعية ومنظومتها الفقهية الى عالم الحضارة الصناعية ومنظومتها العلمانية . ( في حين لم يحالف النجاح تجربة خروج العراق من عالم الحضارة الزراعية والتأسيس لدولة دستورية بقيادة المستعمر البريطاني ) لأن العراق والعالم العربي الذي تكررت هزائم دوله من المحيط الهادر الى الخليج ( الثائر ) ، رفض الخروج من عالم الحضارة الزراعية عن وعي وتصميم : ولم يحقق القطيعة التي نجحت في تركيا نجاحاً باهراً ، فامتلكت القوة التي منحتها قدرة التدخل العسكري في بلدان العالم العربي المتمسك ( بأصالته ) من ليبيا الى العراق مروراً بسوريا . لم يحقق العراق ولا بلدان العالم العربي القطيعة المطلوبة مع معاييره وقواعده القديمة ، لكي يدخل عالم الحضارة الصناعية : وهي شرط اولي لهذا الدخول ، فظل متمسكاً بالمفاهيم القديمة التي فضحته امام العالم وهي تجرجره من حروب الى حصار الى فرهود متواصل للدولة . فالعراق والعالم العربي هو العالم الوحيد الذي يكره حريته " ويخاف منها " على حد تعبير اريك فروم . وهو العالم الوحيد الذي يقوم بالثورات من اجل الماضي لا من اجل حاضر الناس ومستقبلهم في تحقيق العدالة والخبز والكرامة ، وهو بعكس امم الارض التي تسارع الى استبدال قواعدها ومفاهيمها المهزومة بأخرى عصرية : يتشدد بالتمسك بتلك الاصول والقواعد المهزومة ، ويفسر هزائمه بابتعاده عنها ، ويعد الثورة عليها : " فتنة " من عمل الشيطان . ويضرب مفكرو هذا العالم مثالاً ساطعاً على هذا التمسك : فهم يرون ان الماضي قد قدم إجابات مقدسة عن جميع التساؤلات والهموم البشرية ، واعطى لكل شيء تعريفاً : وبهذا يكون قد حمى نفسه بأسوار عالية من الهزائم الشاملة ، وهو لا يهزم الا جزئياً ، ويمكن إصلاح هزيمته الجزئية : باستبدال منظومة فكرية لإحدى الطوائف الاسلامية بأخرى : وهذه الفكرة استوحيتها من قراءتي لمحمد عبدة رئيس الأزهر قبل 100 عام ، والدكتور حسن حنفي في الأوان الذي نعيش ، اللذين استبدلا - في كتاباتهما - مفاهيم الأزهر ومنظومته الفكرية بالمنظومة الفكرية للمعتزلة ، ومن يقرأ : الدكتور محمد شحرور السوري وتلامذة نهجه من بعده : يرى ذلك الجهد العنيف في اعادة تأويل القرآن من اجل اعادة استخدام المعايير المهزومة بحلة لغوية جديدة . يضم الاسلام الكثير من الفرق الدينية التي اصطف قسم منها مع العقل كالمعتزلة او مع النقل كالاشعرية : من غير التنويه بالحقيقة الساطعة التي تشير الى ان مرجعيتهم الفكرية واحدة : وهي الغيب ، اذ ان نظرة المعتزلة المختزلة في اصولها الخمسة ، لا تختلف جوهرياً عن الاصول التي قررها الأشعري للسنة ، او زيد بن علي للزيدية ، او اخوان الصفا للإسماعيلية ، او جعفر الصادق للشيعة الاثني عشرية ، فجميع ما تواضعوا عليه من أصول وحتى فروع : مشتقة من الرؤية الدينية المنقولة عن عالم الغيب ، على عكس الرؤية الحديثة للحضارة الصناعية التي أنتجت قوة اوربا الكاسحة والمشتقة من عالم الشهادة والحضور : المرئي والملموس . فالمعتزلة لا يختلفون عن السنة ولا عن الخوارج ، او عن الزيدية في ان معتقداتهم الدينية تقوم على التصديق والايمان من غير سؤال ، ومن غير مناقشة اصولهم عقلياً ، على العكس من منهج الحضارة الصناعية الذي يشترط على النظريات العلمية اختبار صحتها قبل ان يحولها المخترعون الى تكنولوجيا . وقد تغاضى عن معرفة هذا : قادة عرب العراق وأكراده وتركمانه وأقلياته الاخرى وقتذاك ( ولا يريدون الإقرار به الآن ) ولكنه كان معروفاً للاحتلال البريطاني . لقد ارتبط ميلاد القوة في عصرنا الصناعي بإنتاجها وليس بتجميعها : الذين استوردوا القوة وجمعوها على طريقة العقلية الزراعية : تمت هزيمتهم جميعاً من جمال الى صدام مروراً بالزعامات العسكرية الاخرى في اليمن وسوريا وليبيا ، لأنهم جميعاً تمسكوا بالمقولات السياسية القديمة ورفضوا الانصات الى حكمة العصر : في احترام ارادة وخيارات شعوبهم ، أو بالأحرى الرفض القاطع لأن تكون لشعوبهم ارادة في الاختيار . فرغم الهزيمة التي حلت بهم جميعاً : رفضوا استبدال مفاهيم الدكتاتورية والاستبداد بمفاهيم الحرية والتعددية والمواطنة وحقوق الانسان ، لان هذه المفاهيم تحولهم الى مواطنين ، وهم يرفضون المساواة بأفراد شعوبهم . ولهذا تمسكوا ويتمسك أشباههم من كارهي شعوبهم في أيامنا بمصطلح الهوية ألذي يوفر لهم مهرباً من مفهوم : المواطنة واستحقاقاته المساواتية . تعريف الهوية مرتبط بعد الثورة الصناعية بالعياني والملموس من افعال الناس ، وليس بكلمات شعرية عن كوننا : الأمجد والأفضل ، من غير أمثلة وأدلة ملموسة على اننا الأفضل فعلاً لا قولاً . وأفعال الناس مرتبطة في الأوان الذي نعيش بالسياق التكنولوجي ، اذ لا حل لأي مشكلة في العصر الصناعي خارج اطار العلم والتكنولوجيا ، ففي عصر الشعوب يصح الاستشهاد بخبرة البريطانيين وهم يضعون قواعد الحضارة الصناعية قبل ما يقرب من ثلاثة قرون ، وما فعله الماليزيون والهنود والصينيون وما وضعوه من خطط اقتصادية لإخراج بلدانهم من ظلام العالم الزراعي الى نور الحياة الحديثة . لا قوة لأي شعب : اي لا هوية له من غير امتلاك النظريات العلمية وتطبيقاتها التكنولوجية ، فهذا النوع من الملكية هو الذي يوحدهم كالبنيان المرصوص ، ويصنع منهم أمة ذات فعالية في صناعة الاحداث ، من غير ذلك : تتفكك الشعوب ، وتنزوي أجزائها محتمية بهوياتها الفرعية : الطائفية والعشائرية والمناطقية والاثنية . كما ان هذه الشعوب التي يرفض قادتها منطق العلم وهدف امتلاك التكنولوجيا تسقط نسبة عظيمة منها تحت خط الفقر : لانها رفضت امتلاك منهج التصنيع الذي يقود حتماً الى حركة تصنيعية داخلية توفر لهم الوظائف وكذلك السلع الضرورية بأسعار قادرين على دفعها طالما يملكون فرصاً كثيرة للحصول على الأعمال . لقد تربى الملك الهاشمي قبل ان يصبح ملكاً " مفدى " على العراق ، وهو يتزعم جيش الثورة العربية الخارج من الحجاز ، وكذلك تربى الضباط الذين التحقوا به : على عقلية الغزو والاحتلال العثمانية ، وقد أوحت بريطانيا - للشعوب التي جمعتها وفرضت عليها العيش معاً داخل أهاب الدولة العراقية بعد ان فرضت على تركيا كمال اتاتورك ، وعلى الاخوان الوهابيين في السعودية ، احترام حدودها - بأن هؤلاء ( = الملك وحاشيته والضباط الشريفيين وبعض الفقهاء ورؤساء العشائر ) : هم الرموز الجديدة التي ستمثلهم سياسياً : وكانت بريطانيا قد اختارت هذه الرموز الاجتماعية عن قصد ووعي : لأنها كانت تعرف من تجربتها الاستعمارية في الهند وسواها بأن هؤلاء : سيديرون الشأن العام ( رغم البرلمان والانتخابات والدستور ) في العراق بمناهج الحكم القديمة ولا يفكرون باختبار غيرها من المناهج والمعايير التي أفرزتها الحضارة الصناعية . وهكذا ابقت بريطانيا المعايير وقواعد الحكم المهزومة ، حين ابقت على رموزها في ادارة الشأن العام العراقي : فعلى مستوى تمثيل سنة العراق تصدر المشهد : الضباط والفقهاء واصبح نقيب الإشراف ، عبد الرحمن الگيلاني رئيساً لأول حكومة يشرف عليها المحتل البريطاني ، وظل فقهاء الشيعة هم الممثلين الرسميين لطائفتهم مع بعض التجار ( جعفر ابو التمن ) بأفكارهم التقليدية التي لم تخرج عن اطار : النخوة ، نخوة العشائر للاشتراك في ثورة العشرين . وهي الطريقة التقليدية نفسها التي مارسها الكثير من فقهاء السنة في خطبهم التحريضية من اجل ( مقاومة ) الأمريكان بعد 2003 . ولم يكن الكرد بأفضل حال مع الشيخ محمود البرزنچي والعوائل الصوفية . لم تكن هذه التعرية التاريخية لنظم ومعايير الحضارة الاسلامية في الحكم اثناء وبعد الحرب العالمية الاولى : هي الاولى ( كانت التعرية الاولى قد حدثت بسقوط بغداد عاصمة الخلافة عام 1258 م ، لكن قادة المسلمين الروحانيون والزمنيون لم يبحثوا عن اسباب هزيمتهم امام المغول ، واكتفوا بتبادل الشتائم ، والحديث عن تآمر فرقة الشيعة ( الضالة ) مع الخارج ، للإطاحة بخلافة الله في الارض : باحثين عن كبش فداء : للتغطية على اسباب الهزيمة الكامنة في معايير واصول الحكم التي شاخت ...



#اسماعيل_شاكر_الرفاعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيف نجا الأدب بشقيه الشعري والسردي من مجازر الردات السياثقاف ...
- الوحوش
- اطردوا اشباح الماضي
- دولة الإمارات العربية المتحدة / ملاحظات أولية
- عن استراتيجية بث الذعر والخوف
- ( 2 ) الجلوس على عرش : شجرة عيد الميلاد
- الجلوس على عرش - شجرة عيد الميلاد - ( 1 )
- حركة التحرر الكردي : ثورات لا تنقطع ( 2 من 2 )
- حركة التحرر الكردية : ثورات لا تنقطع ( 1 من 2 )
- مساء الليلة الماضية
- البيت الشيعي
- شيعة العراق ومقتدى الصدر
- تعيين الكاظمي بمنصب رئيس الوزراء ليس شرعياً
- توقفوا عن تدوير هذه الزبالة السياسية
- بمناسبة الانتخابات الأمريكية
- في الفضائية العراقية
- حكومة الكاظمي ومنطق مستشارها السياسي
- في الذكرى الاولى للثورة
- صدام حسين ، حيدر العبادي
- قصيدتنا


المزيد.....




- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...
- زاخاروفا: إستونيا تتجه إلى-نظام شمولي-
- الإعلام الحربي في حزب الله اللبناني ينشر ملخص عملياته خلال ا ...
- الدرك المغربي يطلق النار على كلب لإنقاذ فتاة قاصر مختطفة
- تنديد فلسطيني بالفيتو الأمريكي
- أردوغان ينتقد الفيتو الأمريكي
- كوريا الشمالية تختبر صاروخا جديدا للدفاع الجوي
- تظاهرات بمحيط سفارة إسرائيل في عمان


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - اسماعيل شاكر الرفاعي - رحلة حرة في ذاكرة العراق التاريخية القريبة