أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسن مدن - نقلات على رقعة الحياة















المزيد.....

نقلات على رقعة الحياة


حسن مدن

الحوار المتمدن-العدد: 6816 - 2021 / 2 / 17 - 09:48
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


التضاريس درس الجغرافيا الأول في المدرسة. هناك تعلمنا الكلمة أول مرة، ولفترة ظننا أنها واردة فقط حين يدور الحديث عن الأنهار والبحار والجبال والسهول والسفوح، حيث ذلك التنوع المدهش في التفاصيل وفي المناخات وفي وسائل الحياة. لكن الحياة تُعلم أن التضاريس ليست حكر الجغرافيا وحدها. إن في الحياة، وفي المجتمع ثمة تضاريس، وفي النفس الإنسانية كذلك شيئاً من هذه التضاريس، وهنا كما هناك تتجسد التناقضات والفروقات.
لنأخذ أي مجتمع من المجتمعات، ولنلاحظ تضاريسه، التي هي مجمل التناقضات والتعقيدات وشبكة العلاقات فيه، ولنلاحظ أن سلوك البشر إنما يتكيف تبعا لهذه التناقضات، فهناك مستويات مختلفة من التعامل تفرضها هذه التضاريس. إن الناس في الواقع لا تسلك خطا مستقيماً واحداً يؤدي إلى النهاية السريعة أو إلى الوصول المحقق لما يتوخونه، فهم يضطرون للصعود حيث تكون الموجة عالية، ويضطرون للهبوط حين تنحسر. والأمر يتطلب ولا شك مهارة تبدو لدى البعض موهبة فطرية، وتبدو لدى البعض الآخر خبرة مكتسبة من كثرة المران.
التضاريس أكبر من القوالب الجاهزة، وهذه الأخيرة غالبا ما تفشل في الإحاطة بما تنطوي عليه هذه التضاريس من تفصيلات، وسبب فشل أو إخفاق الكثير من المشاريع هو استخفاف أصحابها بما في الواقع من تضاريس، وتعاملها مع هذا الواقع كما لو كان سطحاً مستوياً خالياً من المنعطفات والمفاجآت، حين لم تحسب الحساب الكافي لتعقيدات هذا الواقع، التي تتطلب الدراسة والتمعن والتمحيص، لأن إسقاط عامل من عوامل هذه التضاريس من الحساب جدير بأن يصيب من مشروع بكامله مقتلاً، وهذا ما برهنت عليه تجارب العقود الماضية.
تضاريس النفس الإنسانية تبدو أشد تعقيداً، فمهما بدا لك انك تعرف الآخرين من الناس، بمن فيهم الأشد قربا إليك، تفاجئ بأن ثمة منطقة، تضريس من التضاريس، نتوء من النتوءات مجهول منك. حتى النقلات المفاجئة في مزاج الناس من السعادة الغامرة إلى الكمون أو الحياد أو حتى الكآبة تبدو أحيانا خارج أي معيار أو توقع، وللأمر أسبابه بالتأكيد، لكن وضع اليد على هذه الأسباب ليس من السهولة أبدا، حتى بالنسبة للشخص الذي يجد نفسه ضحية هذه النقلات الحادة.
معرفة الناس للتضاريس النفسية، الروحية والوجدانية، لبعضهم البعض هو سر نجاح وديمومة العلاقات البشرية الحميمة، وهي معرفة تنشأ كثمرة للتدريب الطويل، والمران القادر على اكتشاف عوالم الآخر وبلوغ المكامن البعيدة في ذاته، والإصغاء المرهف له حين يبدو شديد الحاجة لم يسمعه أو يواسيه ويربت على كتفه.
داخل كل إنسان سلسلة من التضاريس، سلسلة من النتوءات ، لا سبيل لإلغائها بجرة قلم أو برغبة أو أمنية، علينا قبولها والتعاطي معها بأناة وصبر، ونحن في المحصلة النهائية مختلفون لأننا لسنا سوى تضاريس نفسية مختلفة، وشرط تعايشنا هو قبول هذا الاختلاف، والتعود على استيعابه.
ينسب إلى بطل العالم السابق في الشطرنج كاسباروف قوله: "أن النقلات التي نصنعها في أذهاننا أثناء اللعب، ثم نصرف النظر عنها تشكل جزءا أصيلا من اللعبة، تماما كتلك التي ننجزها على رقعة الشطرنج. ولو جال المرء بناظريه لاكتشاف انه كذات، وان الكثير من الناس حواليه ليسوا فقط حصيلة المشاريع التي أنجزوها وتلك النقلات التي أقدموا عليها فوق رقعة الحياة، وإنما هم أيضا حصيلة تلك الأشياء التي لم ينجزوها، حصيلة المشاريع الخائبة والمشاريع المؤجلة والمشاريع المخبأة.
ويقال إن لدى الصينيين تقليدا طريفا يتمثل في اختيار اسم جديد لكل شخص في آخر حياته، غالبا ما يقوم الشخص نفسه باختياره على خلاف اسمه الأول الذي يمنحه إياه والداه أو جداه. فكرة هذا الاختيار تكمن في أن الإنسان وقد خبر الحياة أصبح بإمكانه أن يختار الاسم الذي يومئ للصفات التي اكتشفها في ذاته، أو الخبرات التي اكتسبها والمعارف التي تعلمها والميول التي أدرك انه منجذب إليها أكثر من سواها، كأن الاسم الجديد يهيئه لحياة جديدة منتظرة، يكون فيها الإنسان مستعداً لمواجهتها بصورة أفضل، متعلما من حياته السابقة .
وأهم ما في هذه الفكرة الطريفة أنها تعطي الإنسان – الذات وحده حرية اختيار الاسم الذي يناسبه، فهو وحده أعرف بنفسه، بعالمه الداخلي، بالمعلن والمخفي من هذه النفس، وإذا كان المعلن معروفا، فان المخفي هو ذاك الذي يشبه نقلات الشطرنج الذهنية التي تحدث عنها كاسباروف، واعتبرها جزءا لا يتجزأ من اللعبة ، والتي قد تكون حينا أشبه بمقدمات في التفكير السابق للفعل، يقصيها المرء بعدما تنضج في ذهنه الفكرة التي يظن أنها ملائمة.
كانت بطلة الطاهر بن جلون في رواية " ليلة القدر"، وقد صارت عجوزا بلغ بها العمر أرذله تشعر بأنها مثقلة، وهي أدركت أن ذلك لا يعود إلى وطأة السنين، وإنما إلى وطأة ما لم يقل، كل ما كتمته وأخفته على مدار عمرها المديد. كانت تقول: "لا أعلم بأن ذاكرة مملوءة بأنواع الصمت وبالنظرات المتقطعة يمكن أن تصير كيسا من الرمل". وهي يوم ذاك تكلمت. أدلت بالكلمات شهادة على الزمن، على الحياة الصعبة التي انقضت. لكن الفكرة المضمرة في النفس والمستقرة في الذهن قد لا تجد طريقها للعلن أبدا، فما أكثر الناس الذين يثقلهم ما هو مسكوت عنه، الذين تثقلهم النقلات الذهنية التي يمور بها الدماغ، ليكتشفوا في ما بعد أن هذه "النقلات الذهنية" هي ما صنع سيمياء شخصياتهم أكثر مما صنعته النقلات التي نفذوها على رقعة الحياة.
ثمة بيت من الشعر لشاعر أجنبي يقول: "امش في الهواء .. مخالفا لما تعتقده صحيحا". هذه دعوة غريبة، ولكنها تلفت أنظارنا إلى حقيقة انه ما أكثر الناس التي تمشي، مختارة أو مكرهة، عكس ما تعتقده صحيحا، تاركة الصحيح يمور في الذهن وحده.
البروفة في المسرح أو في الغناء أو في الحفلات هي تدريب على أداء الدور أو إنشاد الأغنية أو عزف الآلات الموسيقية، هي في أمرٍ ما تشبه التدريبات التي يجريها الرياضيون لفترات تطول أو تقصر قبل المباريات. يذهب الممثلون إلى المسرح، إلى مقابلة الجمهور، في الوقت الذي يفترض فيه أن يكونوا قد أتقنوا الدور أو الأدوار التي سيؤدونها على الخشبة، في الوقت الذي يبدو فيه أن الممثل قد تمكن من تقمص الشخصية التي سيؤدي دورها على المسرح.
فكرة البروفة هدفها في الأصل هو التجويد أو الإتقان، كلما كان وقت البروفات طويلاً وكافياً جاء الأداء أمام الجمهور أكثر إتقاناً.. ولكن هذه الفكرة بالذات تثير مسألة أخرى حول مدى تلقائية أو عفوية الأداء الذي نشاهده، الذي جرى التدخل فيه عدة مرات، وجرى تعديله عدة مرات لولا إدراكنا أن عفوية الممثل وتلقائيته إنما تبرزان أكثر من خلال جودة أدائه وإتقانه، لأن الجمهور حين يذهب المسرح لا يرمي إلى رؤية الشخصية التي يؤديها الممثل والتي قد يكون عرفها من خلال قراءته للنص المسرحي أو من كتب التاريخ، وإنما لرؤية الممثل المعني وهو يؤدي هذه الشخصية.
لكن هل البروفات موجودة في المسرح وحده؟!
الأرجح إن في الحياة سلسلة من البروفات اليومية التي نقوم بها، سواء كانت باعث ذلك ذهنياً أو لا واع، من أجل إتقان أدوارنا في الحياة، وهذا الموضوع من الاتساع بحيث يشمل سلسلة من التدريبات والدورات التأهيلية والحصص الدراسية التي لو تأملنا في جوهرها لما وجدناه بعيدة عن فكرة البروفة المسرحية أو الغنائية، نحن نتدرب لكي يكون أداؤنا أفضل في وظائفنا ومهامنا في الحياة.
أبعد من ذلك، نظن أن الحياة ما هي إلا مجموعة من البروفات. التجارب السابقة هي بروفات للتجارب اللاحقة، لأن الإنسان النابه لا يمكن أن يكرر الأخطاء ذاتها التي ارتكبها في تجارب اجتازها في أعماله وتجاربه الجديدة. حقاً إنه يمكن أن يقع في أخطاء أخرى، ولكن يفترض أن تكون جديدة غير تلك التي سبق له أن دفع ثمنها. والقول بأن الحياة هي مجموعة متتابعة من البروفات لا يراد منه تسفيه هذه الحياة ومغزاها، بالعكس تماماً فإن المراد القول إن الحياة ما هي إلا سلسلة من التجارب ومن الدروس التي تتراكم طبقات فوق طبقات لتشكل في المحصلة النهائية خلاصة الإنسان وخبراته.
وكما يتألق الممثل المبدع على خشبة المسرح في ليلة العرض بعد بروفات صعبة قاسية، يطل على الإنسان الناجح أو المحظوظ بعد طول بروفات في الحياة ما يوازي العرض صورته الأخيرة المتقنة، حين تأخذه الأقدار التي صنعتها تجارب الحياة إلى تلك اللحظة التي انتظرها، إلى ذلك الشخص الذي طالما تاق إليه أو إلى ما يعنيه هذا الشخص أو يمثله، والذي يبدو أنه كان على موعدٍ معه طوال ما مضى من عمره.



#حسن_مدن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مُريد الذي أرانا رام الله
- تنويعات على إجتراح الأسئلة الكبرى
- الحقيقة ليست بيضاء
- شكري بلعيد يعود
- المدينة في الرواية
- سايكولوجيا الجماهير .. سايكولوجيا السلطة
- رسائل غرامشي إلى أمه
- البعد الاجتماعي الناقص
- أللوراء نسير؟
- حين تعطس الصين
- جئنا من الباب ذاته
- الغرب يريدها ملوّنة في موسكو
- (بروفيلات) لعبدالرحمن منيف
- التاريخ المنسي
- لا لقاح للفقراء
- ترميم ما لا يُرمم
- عن عبدالناصر
- قيود مخملية
- الإغارة على ثقافات الشعوب
- الدولة العميقة .. المجتمع العميق


المزيد.....




- بالخيام والأعلام الفلسطينية.. مظاهرة مؤيدة لغزة في حرم جامعة ...
- أوكرانيا تحوّل طائراتها المدنية إلى مسيرات انتحارية إرهابية ...
- الأمن الروسي يعتقل متهما جديدا في هجوم -كروكوس- الإرهابي
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1005 عسكريين أوكرانيين خلال 2 ...
- صحيفة إسرائيلية تكشف سبب قرار -عملية رفح- واحتمال حصول تغيير ...
- الشرطة الفلبينية تقضي على أحد مقاتلي جماعة أبو سياف المتورط ...
- تركيا.. الحكم بالمؤبد سبع مرات على منفذة تفجير إسطنبول عام 2 ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لقتلى وجرحى القصف الإسرائيلي
- -بلومبيرغ-: إسرائيل تجهز قواتها لحرب شاملة مع -حزب الله-
- بلينكن يهدد الصين: مستعدون لفرض عقوبات جديدة بسبب أوكرانيا


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسن مدن - نقلات على رقعة الحياة