أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعود سالم - إصطياد الزمن














المزيد.....

إصطياد الزمن


سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)


الحوار المتمدن-العدد: 6802 - 2021 / 1 / 31 - 21:29
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


أركيولوجيا العدم
١١ - القناص

يروي المؤرخ الروماني بلوتارك Plutarque بأن الملك بيروس Pyrrhus الممتلئ طموحا مثل إبن عمه الإسكندر المقدوني Alexandre le Grand كان ذات يوم يراجع مشاريع غزواته القادمه قائلا لمساعده سينيياس Cinéas :
- أولا يجب إخضاع اليونان.
- وبعد ذلك ؟ سأله سينيياس.
- سننتصر على أفريقيا.
- وبعد أفريقيا ؟
- سنواصل الزحف على آسيا، سنحتل آسيا الصغرى ثم بلاد العرب.
- وبعد ذلك ؟
- سنذهب حتى الهند.
- وبعد الهند ؟ تسائل سينيياس.
ـ آه .. بعد الهند، قال بيروس، بعد الهند سأخلع درعي وأستريح.
- ولكن لماذا لا تستريح منذ الآن ؟


منذ البدايات الأولى للبشرية، وما أن بدأ الإنسان يقف ويسير على قدميه واجهته مشكلة "الفراغ"، ماذا يفعل بكل هذه الدقائق والثواني التي تملأ أيامه ولياليه وتجعله ضحية لهذه الظاهرة المزعجة "الضجر". فكان في الأيام الأولى ينطرح طوال اليوم في الشمس أو في ظل شجرة، ومن حين لآخر حينما يقرصه الجوع في معدته، يمد يده بتراخ وكسل ليقطف تفاحة يقضمها بدون حتى أن يفتح عينيه، ثم يعاود شخيره. وبعد أن قضى عدة قرون مسترخيا في الشمس، شعر ذات يوم بالضجر من أكل الأعشاب والجذور وثمار الأشجار وأوراقها، فقرر أن يجري وراء الأرانب والغزلان ويطارد لحم الخروف. وكان ذلك يأخذ جزءا لا بأس به من وقته اليومي، حيث يخرج منذ شروق الشمس ولا يعود أحيانا إلا بعد غروبها. وفي نفس الوقت بدأ في تقليب الأرض ونبشها ليدفن فيها بقايا تفاحته وينتظر أن تنمو الشجرة ليقطف ثمارها، وفي الإنتظار زرع القمح والشعير والذرة والبطاطا والطماطم وما شابه ذلك لينوع مائدة عشائه. غير أن المشكلة ما تزال باقية، وإن أصبح الفراغ نسبيا، والضجر ينتابه عادة قبل غروب الشمس بقليل، فبدأ في تأليف القصص والحكايات والأشعار والأساطير، فاخترع المخلوقات الإلهية والأشباح والحيوانات الغريبة وتخيل قصة تكوين الأرض والسماء وبداية الإنسان على ظهر البسيطة، قصص وحكايات تتناقل من قرية لقرية ومن جيل لجيل طوال سنوات عديدة، وكل ذلك من أجل قتل الوقت. ثم اكتشف ذات يوم أن قتل بقية الناس يمكن أن يكون بدوره وسيلة لقتل الوقت، يجعله يتجاوز ضجره المميت وينسى الفراغ الوجودي الذي ينخر أيامه ولياليه. فبعد أن ينتهي من تقليب الأرض وزراعة الشعير وشوي خروفه وحكاية قصة الطوفان، ينقض على جيرانه في كهفهم الآمن، يقتل بعضهم ويجرجر ما تبقى من الأسرى لقريته ليحرثوا الأرض بدلا منه. غير أن قصص الآلهة والجن والشياطين وكل الطقوس المتعلقة بها، والحروب العديدة والإستعدادات التي تتطلبها، كل ذلك لا يشكل نشاطا يوميا متواصلا وبلا إنقطاع، فهناك فترات السلام النسبي والهدن واإتفاقيات الصلح وعدم الإعتداء .. إلخ، أضف إلى ذلك أن إعلان الحرب على جيرانه مكنه من الحصول على القمح والخرفان وبقية الغنائم دون أن يبذل أي مجهود يذكر، وهكذا يطل الفراغ من جديد بوجهه البشع من وراء النافذة ويحيل الحياة إلى كابوس لا يحتمل. غير أن الإنسان لم ييأس ولم يفقد الأمل، فواصل البحث والتنقيب عن كل ما يمكن أن يقتل به هذه الأيام والليالي التي تتمطط إلى ما لا نهاية. فبعد إكتشافه للنار والزراعة وإختراع اللغة والدين والفن والعجلة، بدأ جديا هذه المرة مواجهة عدوه العنيد، فاخترع الأدوات الزراعية وبدأ في الصناعات الأولية مستخدما الحديد والنحاس، ثم شرع في بناء المدن والقلاع وشيد الأسوار والسدود، وغير مجرى الأنهار واجتاز البحار والمحيطات في قوارب وسفن تزداد حجما وسرعة في كل يوم، أنشا الحضارات الصناعية واستعمر الأرض حتى لم فيها شبر واحد لم يستكشفه وانتهى به الأمر مسافرا في الفضاء يبحث عن الذهب في السماء، ومع كل ذلك لم يستطع أن يقتلع الداء الذي يؤرقه من جذوره. حقا أن الفن والشعر والأدب والسينما والمسرح والدين والسياسة وممارسة الحب وطقوس الأكل والتفسح بعد العشاء على ضوء القمر وأشياء عديدة أخرى أعطته حلا جزئيا، وإن كان البعض يراه وهميا ومؤقتا، لمشكلة الضجر. فالإنسان لا يكتفي بالحلول الجزئية، إنه يبحث عن الحلول الجذرية، عن المطلق، حياة مليئة حتى الحافة، حتى تطفح وتفيض بالنشاط والحركة والفعل. لا يريد ولا يحتمل ذرة واحدة من الفراغ تندس في ثنايا نشاطه اليومي طوال الحياة. وربما هذا النوع من التطرف "الخلاق" هو الذي مكن هذه الحضارة الصناعية من التقدم والرقي والوصول إلى أقصى درجات الإبداع البشري، من الكوكا كولا والجينز والماكدونالدز والآيباد، إلى الأسلحة النووية والحروب الوقائية والحروب من أجل الحرية والديموقراطية. هذا النوع الجديد من البشر الذين يصطادون الزمن، يجرون بخوذاتهم ودروعهم وراء كل دقيقة وكل ثانية، بسهامهم الإلكترونية يثقبون جلودها ويلاشونها مثل فقاعة من الصابون. هؤلاء هم عباقرة الإنسانية والحضارة المعاصرة، ورواد مستعمرات الزمن.



#سعود_سالم (هاشتاغ)       Saoud_Salem#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- طعم الكارثة
- العدمية والثورة
- العدمية وأخلاق العبيد
- الرجل والملح
- الجهادية ليست حركة عدمية
- ضجيج الأشياء
- ميلانكوليا
- السلطة والمال والكينونة
- خلق الله الأنف لحمل النظارات ..
- معنى الحياة والموت
- قذارة البشر .. والآلهة
- عبثية الإنتحار
- لا تنظر للقمر
- إنتحار الآلهة
- ماذا يفعل الله طوال اليوم ؟
- أركيولوجيا العدم
- ضجيج الآلهة البلهاء
- وحدة الله
- الثورة على الله وأزلامه
- القطار الأخرس


المزيد.....




- مراهق اعتقلته الشرطة بعد مطاردة خطيرة.. كاميرا من الجو توثق ...
- فيكتوريا بيكهام في الخمسين من عمرها.. لحظات الموضة الأكثر تم ...
- مسؤول أمريكي: فيديو رهينة حماس وصل لبايدن قبل يومين من نشره ...
- السعودية.. محتوى -مسيء للذات الإلهية- يثير تفاعلا والداخلية ...
- جريح في غارة إسرائيلية استهدفت شاحنة في بعلبك شرق لبنان
- الجيش الأمريكي: إسقاط صاروخ مضاد للسفن وأربع مسيرات للحوثيين ...
- الوحدة الشعبية ينعي الرفيق المؤسس المناضل “محمد شكري عبد الر ...
- كاميرات المراقبة ترصد انهيار المباني أثناء زلازل تايوان
- الصين تعرض على مصر إنشاء مدينة ضخمة
- الأهلي المصري يرد على الهجوم عليه بسبب فلسطين


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعود سالم - إصطياد الزمن