الوعي المغيب

آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 6800 - 2021 / 1 / 27 - 11:37
المحور: الادب والفن
    

ما يفعله الكبت أنه يحبس ذاك المولود الجميل في داخلك، يمنعه من النمو أو العيش في الطبيعة.
هذا المولود المحبوس ينزوي مقهورًا في زاوية بعيدة عنك، يعيش حياته بعيدًا عن الضوء والشمس والطعام والشراب، يبكي في وحدته، يصرخ دون صوت، وأنت لا تسمع نداءه.
هذا المولود الجميل هو الحرية، تقمعه، كل ما يطل على الضوء، تضربه ضربة موجعة، تعيده إلى قمقمه.
منذ أن تشكل هذا الوعي المزيف، ومولودك كامن في ظل نفسه، محبوس في محبسه، وأنت الأخر، لست أنت، بالرغم من أنك في الضوء والشمس، تراهما ولا ترى نفسك، لا ترى ذاك الحر في داخلك.
كل واحد منّا أثنان، أنت وذاك، واحد يبدو أنه كائن حي، بيد أنه ميت، وذاك الحي الذي لا يرى، ويبدو أنه ميت، لكنه حي.
ثم تقول أنك طبيعي.
إن المكبوت هو الوعي الأصلي أو الوعي المغيب، المسيطر عليه. لقد سمح لعلم النفس، بشكل مقصود أو غير مقصود، ليس مهمًا، أن يدرس العقل الباطن والظاهر، اللذان هما نتاج الوعي الأصلي، مظهر من مظاهره دون أن يتسلل ليقرأ ذلك الوعي الحقيقي للكائن البشري لضرورات سياسية واجتماعية وثقافية وحضارية.
إن الواقع الاجتماعي الإنساني والثقافي غير مهيأ لتحرير هذا الوعي المغيب، وإخراجه من دهاليز الصمت وإعادته إلى الحياة للعيش في الضوء والشمس.
الوعي الباطني والظاهري يتعلق بالفرد، إن الطب النفسي يخرج المريض من الحضيرة الاجتماعية ويجري عليها تعديلات عامة بقصد إدخاله في النسق الثقافي والعقلي للمرض العام للحضيرة البشرية، أما محاولة الوصول إلى جوهر المرض الجماعي فهذا غير مهيأ ولا تقبل به الدول والحكومات، وليس من مصلحة أحد أن يحرره من مكمنه وإدخاله في الحياة، هذا سيسيبب ضررًا كبيرًا للنخب المالية والسلطة.
وستدخل البشرية في أزمة، ربما في المستقبل سيعمل التطور على الحفر في أعماق النفس الإنسانية لاستخراج ما هو دفين فيها من قيم طبيعية.
جذر المشكلة ان الإنسان يعاني تاريخيًا من الاغتراب على كل المستويات، وما يفعله الطب النفسي الحديث أنه يعمل على تدوير المرض ورميه جانبًا، كشأن شخصي، بالرغم من أن المرض اجتماعي عام يمس كل إنسان في هذا العالم، والناس يعانون منه سواء كانوا أغنياء أو فقراء، من ذلك الإحساس القاتل، الخواء والفراغ والضياع.
ما يفعله الطب النفسي أنه يعيد تدوير المرض، أي، إعادة المريض إلى الجماعة البشرية المريضة.
إن يأخذ أحدهم من الحضيرة المريضة، الشاذ، أو المجنون، يدخل عليه تعديلات ظاهرية، ليكون قادرًا أن يصبح مثل الجميع.
إن الشاذ في هذه الحالة هو المتمرد الرافض للبقاء في جوقة القطيع الذاهب إلى المقصلة الذاتية.
أوروبا العدمية قتلت الإله الوهمي منذ عصر النهضة، بيد أنها لم تنتج إله أخر يشفي أو يرمم أو يبني ثقافة أخرى.
أي، لم تهدم الثقافة السابقة على الأساطير والوهم والدين.
العقلانية التي تبنتها، هي عقلانية سياسية أكثر من كونها عقلانية ثقافية إنسانية تمس كل جوانب الحياة، او لنقل، لم تنقل نفسها نقلة نوعية في البناء العام، بمجمله، فما زالت أوروبا في البناء القديم والغرب عمومًا، دون أب أو رأس، وعدميتها هي شكلانية، لكن بقاياه ما زال مستمرًا، بكامل أعضاءه
اليأس هو نتاج الوعي، أعلى درجات الوعي، إدراك العاقل أنه لن يقبض إلا على الريح الهوجاء، الرحيل في الصمت الأبدي.
ومأساة الإنسان الواعي إنه مأساة، هي قدرته على اختراق النفس والدخول في ثناياها أو في دقائقها، تمنيه أن يصبح صمت صارخ يجول في ذاته البعيدة.
ليس إنسانًا طبيعيًا إذا لا ييأس. وهذا اليأس يدفع المرء إلى ضرب جدار الحياة بقبضته، والتمعن في أبعادها، في معنى الحرية، الحياة، الهدف، والموت.
حاولت مرات كثيرة أن أساكن الفراغ، أجلس معه، ألويه أو أروضه بيد أنه يبقى حرًا طليقًا يقبض على الروح والقلب.
ربما هو أيضًا مقيد بالحرية يساكن الحقيقة أو الأبدية.
الفراغ وجع دائم، توازنه لذاته، سيد نفسه، يغني وحدته، يناشد الوجود أن يلتصق به، وأجمل شيء في الحياة أن لا يتعلم المرء لغة الاتزان. إن يبقى حرًا
عندما وصل الإنسان بالتجريد إلى أعلى مستوياته، عبر الرموز والإشارات، قبض على مفهوم السلطة.
إذًا، وجودها له علاقة بالوعي أو امتلاك الوعي. وهنا ليس مهمًا تحديد مفهوم الوعي
ما دامت السلطة قائمة بذاتها ولذاتها فهي من الحقائق، ولم يوجد عبر التاريخ كله نقيض لها يشبهها، أي قائم بذاته ولذاته وتكون ندًا لها.
لهذا فإن فهم ماركس للصراع اعتبره قاصرًا عندما اعتقد أن العمال يمكنهم أن يقلبوا المعادلة، ويرتقوا عبر السلطة للوصول إلى التغيير الجذري للنظام الرأسمالي.
اي أن يعملوا في ملعب السلطة، أي في ملعب النخب المالية ويتحولوا إلى بنية جديدة كبديل عن بنية السلطة ذاتها.
السلطة بناء أصيل، بينما نقيض السلطة غير موجود.
بالتأكيد السلطة ليس لها مركز وليست ملكية لأحد، هي أشبه بظاهرة تفتقد إلى التعريف الدقيق.
بمجرد أن يتم القبض على مفاصلها، يتحول القابض والمقبوض عليها إلى شبه إنسان، ربما نسميه مجموعة تدابير أو استراتيجيات.
حتى شيخ العشيرة يستطيع أن يتحول الى سلطة عبر الرموز التي يحملها، والدين أيضًا سلطة بالرغم أنه يفتقد إلى التماسك الذاتي، لهذا يتكئ على السلطة في تدبير شؤونه، والدين دون حماية السلطة له لا يستطيع أن يبقى ويستمر.

#آرام_كربيت (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات