أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - أبق حيث الغناء 9















المزيد.....

أبق حيث الغناء 9


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 6629 - 2020 / 7 / 27 - 16:55
المحور: الادب والفن
    


ـ هذه حالة خاصة يا نجيب، ويوجد بين الرجال هذا الشكل المرضي من البشر، علينا أن لا نعمم. هذا خطأ
في اليوم التالي، كنت جالسًا وحدي في البيت، اقرأ في كتاب اضمحلال وسقوط الإمبرطورية الرومانية لإدوارد جيبون، جاءت سيدة في متوسط العمر أو أقل، نظرت إلي باستغراب، يشع من عينيها الذكاء والثقة بالنفس، وتعج بالحيوية والنشاط، ووقفت في فم الباب، قالت:
ـ أين نجيب؟ من أنت؟
اسئلتها كانت صادمة، منذ متى أنت هنا؟
ـ لا أعرف أين نجيب، لقد خرج منذ ثلاث ساعات ولم يأت ولم يقل لي إلى أين سيذهب. أنا ضيفه، جئت منذ أربعة أيام. أنا من سوريا.
تمعنت في ملامحي جيدًا، قرأت الكامن في وجهي بدقة شديدة، وكأنها ضابط في الثكنة العسكرية المقاتلة تريد أن تفحص الجنود لنقلهم كجندي إلى الجبهة، بيد أنها لم تقل شيئًا، ثم أدارت ظهرها لتذهب، قالت قبل أن تخرج:
ـ قل له، أن أم سمير جاءت وسألت عنه.
لم أهتم بها وبسؤالها، بيد أن نظراتها الحادة الحاذقة وملامحها بقيا في ذاكرتي، قرأت فيهما النباهة والجرأة والقوة والثقة بالنفس. قلت في نفسي:
ـ من هي هذه المرأة القوية الصلبة؟
مع مرور الأيام، وبعد الاحتكاك مع الناس بمختلف المشارب في هذا البلد، وصلت إلى استنتاج عام أن المرأة الأردنية أقوى من الرجال، يتمتعن بشخصية صلبة بالرغم من النمط العشائري الكامن في العاقل الباطن للمجتمع وسلوكه وممارساته.
عندما جاء نجيب قلت له أن أم سمير جاءت وسألت عنه، بيد أنه لم يعلق، ولم يهتم، وبدوري لم أقل شيئًا، بقيت نظراته معلقة كأنه كان يفكر بها أو بموضوع أخر.
لأول مرة بدأت أخرج من العقل الأيديولوجي الذي غلف تفكيري عن المرأة، وكنت اعتقد أن النساء كائنات صالحات في مجمل حياتهن، ملتزمات بالبيت والأسرة والعطاء والحب كما رأيته في بيتنا، حيث جل وقت أمي أو كله كان في خدمة البيت والأطفال والزوج. ولم اسمع منها كلمة ما نابية بحق والدي.
لقد فرشت الحب في أرجاء المكان، وهكذا كان حال الأسر في مدينتي والمدن التي عشت فيها، مدن مغلقة، والعلاقات مفضوحة إذا كان هناك تسرب ما من امرأة ما، فإذا ذهبت سمعتها ذهبت كلها. لهذا كن ملتزمات يخافن أو قناعة في احترام أجسادهن وسمعة أولادهن وأزواجهن.
المدن الصغيرة فاضحة، وأغلب الرجال الذكور، كانوا يبحثون عن أنثى، أية أنثى في أماكن بعيدة أو في بيوت الدعرة السرية. ثم التحدث عن بطولتهم في هذا المجال. فالمجتمع بارك الرجل غزواته، وإذا علقت امرأة ما في براثنه فالفضيحة ستعتقلها وتكسر سمعتها وتحجرها اجتماعيًا.
إنه المجتمع التقليدي المريض.
نجيب مدني بالخبرة عن النساء، في المدينة الكبيرة عمان.
أدار نجيب ظهره للمكان عقب مجيئه، وبعد حديثنا عن أم سمير. ذهب إلى غرفته، جلب العود وجلس إلى جانبي. وتناول الريشة. وقبل أن يبدأ العزف أو التمرين على العزف، قال لي:
ـ هل تغذيت يا آرام؟
ـ لا.
ـ لماذا يا آرام، أنا تغذيت في المطعم، كنت بصحبة صديقي الدكتور يوسف، أستاذ الموسيقا، كنا نعوف على النوتة ونتمرن على طبقات الصوت. الغذاء موجود. هل أسخن لك الطعام أم أنك ستسخنه لوحدك؟
ـ أنا سأسخن الطعام.
وأثناء تسخين الطعام، رحت في تفكير عميق، حول مجيء إلى الأردن دون تخطيط سابق، دون نقود، دون معرفة هذا البلد. كان قرارًا متهورًا، لا تخطيط فيه ولا عقل. قلت لنفسي:
لولا هذا الشاب ماذا كنت سأفعل؟ وماذا سأفعل؟ وإلى هذه اللحظة ليس في ذهني أي شيء عن المكان الذي سأذهب إليه؟
في الأيام التالية، اتصل بي رفيق سابق وطلب مني أن أقدم لجوء إلى المفوضية السامية للأمم المتحدة، وعندما سألته:
ـ هل ستطول مدة مكوثي في الأردن؟
ـ نتمنى أن يرفقوا بحالك ويسرعوا قبول اللجوء.
فكرت في كلماته، قلت لنفسي:
ـ إذًا، أن مسألة اللجوء ليس مضمونًا وربما يرفضون طلبي، ماذا سأفعل.
مضى نجيب يعزف ويغني، ويتدرب، ويملأ الغرفة بالطرب.
وأصبحنا صديقين، نمشي يوميًا، ندور عمان مشيًا على الأقدام أو في السيارة، نمشي مسافات طويلة، نذهب إلى جبل عمان نلجأ إلى مكتبة شومان، نجلس فيها نقرأ أو نتصفح الكتب، وكل واحد يأخذ الكتب التي تناسبه.
أخذ نجيب يستعير المؤلفات الموسيقية، يقرأ بجد وبغزارة، ويتابع بدقة لكل ما يتعلق بالموسيقا المحلية والعالمية، وأنا استعير الكتب الفكرية والسياسية والتاريخية والروايات، حولنا الغرفة، بيته إلى مركز ثقافي، وقتنا مملوء.
في إحدى المرات، بينما كنا في كافي شوب، نتناول الطعام والشاي من بعده، شاهدت عدة نساء يلقين السلام عليه بحرارة، وعيونهن تريد أن تأكله، كن حول الطاولة يلتف حولهن شباب في أعمار أولادهن، سألته:
ـ من هؤلاء، وماذا يفعلن مع هؤلاءالشباب الصغار، إنهن كبيرات في السن.
الشباب في العشرينات يا آرام، بينما النساء في منتصف الأربعينات، فارغات، متصابيات، مثلهن الكثير منهن، يصاحبن الصغار من أجل الجنس وتقضية الوقت. رجالهن في العمل، وهن يتسكعن في المقاهي، يأركلن، يشربن الأركيلة، بصحبة هؤلاء الصغار، يصرفن عليهم المال طوال الشهر، أنهن أغنياء، ومن بقايا أموالهن يعطين بعضه للشباب العاطل عن العمل، من أجل شراء الثياب والأكل مقابل أن يبقوا معهن. عمل هؤلاء المحتاجين، أن يقدم خدمة مقابل خدمة.
ـ هذا ابتذال يا نجيب. إنهن رخيصات الثمن والقيمة. يبدو حال هؤلاء التافهين من حال النساء، كلاهما يؤدي دور الدعارة في هذا السوق المبتذل.
نجيب قليل الكلام عن نفسه، أقرب إلى الصامت أو الكتوم. هذه هي طبيعته. قلت لنفسي:
المثقف في مثل حالي يرى الحياة من فوق، لم ينزل إلى القاع، ولم يقترب من الطبقة السفلى من المجتمع، حيث يكمن فيه الواقع الاجتماعي السياسي الاقتصادي الحقيقي. نحن عائمون، لا نقرأ المجتمع وهموم الناس إلا في الكتاب.
أننا طبقة هلامية لا نرى إلا أنفسنا المريضة المضخمة. مجتمع القاع مسحوق، مدمر، يتم فيه بيع وشراء الإنسان وتمزيقه إلى قطع متناثرة.
صحيح، بعد خروجي من السجن التقيت مع عدة نساء، بيد إنهن كنّا خريجات الجامعة أو المعاهد أو لديهن بكلوريا، بمعنى أنني لم اتعامل مع النساء الفقيرات البسيطات، المحتاجات، المدمرات.
أذكر ذات مرة، أنني رأيت سيدة في الثامنة والعشرين من العمر، في فترة وجودي في دمشق قبل اشهر، جاءت إلى المحل الذي كنت أعمل فيه بالسخرة لدى صديق قدم، لي إغراءت كاذبة للبقاء في هذه المدينة الكبيرة.
هذه السيدة أرادت شراء فواشة لغسالتها النصف اوتوماتيك، ولم يكن في حوزتها المال الكافي لتدفع ثمنه للبائع، فدخلت المحل، وطلبت من صديقي عدنان المقداد أن يرهنها مبلغًا من المال، ولأن زبائن المحل كان عددهم كبيرًا، لهذا طلب مني أن أنظر في طلبها، قلت لها:
ـ ماذا تريدين يا أختاه؟
ـ محتاجة خمسة وعشرين ليرة، أي، ربع دولار، لأكمل المبلغ الذي معي لشراء فواشة،. البائع لا يقبل اعطائي القطة إلا بتسديد المبلغ كاملًا.
وقفت مذهولًا
ـ خمسة وعشرين ليرة فقط؟
ـ نعم.
ـ خذي خمسين ليرة وتيسري. الله معك.
ثم عدت إلى عدنان لأساعده. نسيت المرأة وحكايتها. بعد ساعتين عادت هذه السيدة مرة ثانية ووقفت في باب المحل الصغير ، قالت:
ـ هل تسمح لي بكلمة بعيدًا عن المكان؟
ـ طبعًا على الرحب والسعة.
أجبتها في منتهى البراءة، براءة المثقف المعزول عن المجتمع، الذي يعيش في مكان بعيد عن عالم النساء المسحوقات والرجال المسحوقين، المثقف الذي يريد أن يغير الكون دون معرفته أبسط قضايا الحياة وهو الحصول على لقمة الخبز. الخبز المغموس بالدم والمال الحرام.
مشيت معها في الشارع باتجاه محطة الحجاز، دون أن أتكلم بكلمة، قالت لي:
ـ استاذ، أنت إنسان طيب ولطيف، من الواضح أن الحياة لم تلوثك بعارها، لهذا جئتك مرة ثانية لثقتي بك وبتصرفك الشهم. احتاج إلى مساعدتك.
ـ ما نوع المساعدة التي تريدينها؟
ـ أنا امرأة مطلقة ولدي طفلة، وليس لدي عمل اعتاش منه، لدي بكلوريا، بيد أني لا أستطيع الحصول على عمل. لدي بيت بالإجار، علي دفع المبلغ، ألفي ليرة في الشهر وليس في حوزتي هذا المبلغ، أريدك أن تكون صاحبًا لي، أن تدفع نصف المبلغ وسأكون لك بمثابة الزوجة، أطبخ وأجلي الصحون واغسل الثياب واكويها لك وفي أخخر الليل أقدم لك ما تريده.
نظرت في ملامحها نظرة أب حنون أو أخ حنون. بكيت بحرقة. قلت لها:
ـ لا أستطيع يا خولة، لا يمكن أن أمد يدي إلى جسد امرأة محتاجة. لا يمكن. لم أفعلها من قبل ولن أفعلها اليوم. لا أريد استغلال امرأة محتاجة.
ـ أنا محتاجة وأنت محتاج، لنتبادل الحاجة، اعتبره خدمة إنسانية من أجل الطفلة الصغيرة، أن تعيش حياة مقبولة لأب حنون وعطوف.
ـ لا يا خولة. لا يمكن أن أخون مبادئي في الحياة.
ـ الحياة واسعة، تستطيع ان تكون أنت كما أنت دون أن تخون أي شيء. لا خيانة في تبادل العلاقة، سنكون كالزوجين، مثل أية أسرة في هذا العالم الواسع.
ـ لا أستطيع شراء الحب. سأعطيك خمسامئة ليرة دون مقابل. خذيهم. اعتبري هذا المبلغ من أخ لأخته.
ـ لن أخذ المبلغ منك. ليس من حقي.
وقفنا ننظر إلى بعضنا، بكينا معًا، كانت الدنيا تلف بي. لم يسبق أن عشت محتاجًا. أو دخلت في تجربة في مثل هذا الذل الذي عشته مع خولة.
أذكر أنني أجبرتها على أخذ مئتي ليرة، أربع دولارات، ثم عدت إلى مكاني حزينًا، مقهورًا، مذهولًا من بشاعة الواقع وقسوته.
نحن، المثقفون، طبقة مهترئة، بعد أن نحصن أنفسنا بالوضع المادي والمعنوي الجيد أو المقبول، نمنح الأخر، الضعيف، من بقايا موقعنا قيم أخلاقية وقيمية ومعنوية، من فضلنا، من بقايا الكاس، لنرمم هذه الذات المتعالية، نمنحها قيم من خارجنا، كأننا نريد أن نقول للعالم كله:
ـ أنظروا إلي، أنا إنسان أخلاقي، إنساني، أدافع عنكم.
من هذه الفوقية المتعالية، نعزز النرجسية المرضية القابعة فينا، نرضي التستسترون الكامن فينا، نرضي الذكورة، الطاقة الفائضة المتعالية، ونتفضل بها على الأضعف.
هو شكل من أشكال ممارسة الجنس دون شريك، استمناء، هو تفريغ طاقة اللبيدو في هذا المجتمع كله، بنسائه ورجاله وشيوخه وأطفاله، في فرجه الكبير والواسع، حيث يتحمل هوسنا وكذبنا على أنفسنا والأخر الكثير الكثير.
يتبع ــ



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أبق حيث الغناء 8
- أبق حيث الغناء 7
- الأخوان وتركيا
- مركزية النظام الرأسمالي
- أبق حيث الغناء 6
- أبق حيث الغناء ـ 5 ـ
- أبق حيث الغناء 4
- أن تقرأ لوليتا في طهران
- أبق حيث الغناء 3
- روائح عنبرية
- أبق حيث الغناء 2
- الرجوم
- رقص منفرد على الجمر
- أبق حيث الغناء 1
- كل البشر كاذبون
- المكتبة في الليل
- الساعة الخامسة والعشرون
- اعترافات خارجة عن الحياء
- اللهب المزدوج
- عزلة صاخبة جدًا


المزيد.....




- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - أبق حيث الغناء 9