أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - ضيا اسكندر - كراج مستعمل، ممنوع الوقوف!















المزيد.....

كراج مستعمل، ممنوع الوقوف!


ضيا اسكندر

الحوار المتمدن-العدد: 6771 - 2020 / 12 / 26 - 20:48
المحور: كتابات ساخرة
    


عندما كنت صغيراً في الصف الثاني الابتدائي، وبعد أن تمكّنت قليلاً من جمع الحروف وأصبحتُ أجيد القراءة لماماً، صرتُ أحرص على قراءة كل ما يقع تحت ناظري؛ أسماء المحلّات والدكاكين، مصلّحي بوابير الكاز، العبارات المدوّنة على الجدران (ملعون من يبول هنا، لا ترمي الزبالة هون يا حيوان، ر + ع = حب، ..). حتى غدَوْتُ حافظاً عن ظهر قلب كلَّ ما هو مكتوب في حيّنا. وعندما انتقلتُ إلى الصف الثالث وبات بإمكاني الوصول إلى الأحياء المجاورة كوني كبرتُ قليلاً. بدأتُ أبتعد يوماً بعد آخر عن حيّنا لدى تجوالي اليومي، معزّزاً هوايتي بقراءاتٍ جديدةٍ كالآرمات والشاخصات المرورية وأسماء الأطباء والصيادلة والمطاعم.. وحيث أنني كنت أسكن في حيٍّ بالغ الفقر، ولا يوجد فيه أيُّ مالكٍ لسيارةٍ خاصة. فإن مرور سيارة في حيّنا كان حدثاً بحدّ ذاته. وبالتالي فقد كنت أجهل تماماً أيَّ شيءٍ عن عالم السيارات. وفي أحد الأيام جرّتني قدماي إلى أحد الأحياء الميسورة نوعاً ما، ولدى مروري في أحد الشوارع النظيفة، حيث الأبنية الجميلة المصمّمة بإتقان، والمزنّرة بالحدائق الجميلة، لفت انتباهي لوحة معدنية ثُبّتت على بابٍ حديديٍّ قرب مدخل أحد الأبنية، كُتب عليها عبارة (كراج مستعمل ممنوع الوقوف)! استوقفتني هذه العبارة مطولاً ولم أفهم معناها. تُرى، لماذا يُمنع على المارّة الوقوف أمام باب الكراج؟ وماذا يضير مالك السيارة أن يقف عابر السبيل ولو لدقيقة أمام الباب؟ مع أنه مغلق والسيارة التي تركن خلفه غير ظاهرة أصلاً!؟ هل يعقل أن يكون ثمة فخ على مدخل الكراج؟ حفرة مثلاً مغطاة برصيف خلّبي؟!
عدتً إلى البيت وأنا مثقلٌ بالأسئلة ولا أتجرّأ على سؤال أحدٍ من أهلي فالعاقبة وخيمة؛ «أين كنت يا شقي؟ وكيف تذهب وحيداً إلى تلك المناطق البعيدة؟ ألا تخشى من الضياع؟ من الخطف؟ ألا ترحم والديك وتشفق عليهما؟ منحناك ثقتنا وسمحنا لك بالذهاب إلى غابة الصنوبر القريبة من حيّنا لتلعب هناك، لا أن تنضرب على قلبك وتتكزدر في حيّ الأكابر..» وبالتالي لم يكن أمامي سوى الاعتماد على ذاتي لفكّ سرّ هذا اللغز المحيّر.
صرتُ أذهب يومياً إلى ذلك الكراج وأقرأ العبارة بإمعان، متفقداً المكان وما حوله، عسى ولعلّ أجد جواباً لأسئلتي التي باتت تحرق مخيّلتي. ولكن دونما جدوى!
قرّرت أحد الأيام أن أجرّب وأضرب الطين بالعجين وأقف أمام باب الكراج ولْيكن ما يكون.
لدى وصولي إلى البناية التي يقبع فيها الكراج، ازدادت نبضات قلبي خفقاناً، وجفّ لعابي. أحسستُ بأني لست على قدرٍ كافٍ من الجرأة لأقف وأجرّب المصير الذي ينتظرني. إلا أن حبّ المغامرة كان أقوى. عقدتُ العزم ووقفتُ على مدخل الكراج تماماً وأغمضتُ عينيّ وأنا أردّد في داخلي عبارة لطاما سمعتها من أهلي ومن الجيران «أكثر من القرد. ما مسخ الله!». فجأةً شعرتُ بنداء أمعائي يحثّني على إفراغها ربما بسبب الخوف والقلق الشديدين. حاولتُ ضبط حاجتي الملحّة. قاومت بضراوة، أحسست بأنني أستطيع الصبر والتريّث لمدة ثواني قليلة وإلا سألوّث ثيابي لا محالة. بحثت في كل الاتجاهات عن ملاذٍ قريبٍ يأويني لدقيقة فقط. كان بالقرب من الكراج حديقة منزلية فيها بعض أشجار النارنج والرمان وشجيرات الورد الجوري.. ألقيتُ نظرة على الشارع الطويل، على الشرفات، ما إذا كان أحدٌ ما يراقبني.. لم أجد أحداً. فالهدوء يلفُّ المكان. ربما بسبب القيظ الذي يشوي الحيّ، فقد كان الوقت نهاراً، بل في عزّ الظهيرة. هرعتُ مباشرةً إلى تلك الحديقة وبسرعة البرق أنزلتُ بنطالي قرب سور الحديقة.
فجأةً وإذ برجلٍ ضخمٍ ينتصب أمامي وكأن الأرض انشقّت وخرج منها هذا العفريت المخيف.
لو أنني خُيّرت في تلك اللحظة بين الموت وبين مواجهة ذلك العفريت، لفضّلت الموت دون نقاش. نهضتُ وأنا أرفع بنطالي وبلكنةٍ متوسّلةٍ باكيةٍ رجوته أن يسامحني ويقدّر موقفي.. امتدّت يده الضخمة إلى أذني بعد أن قذفني من عينيه بسهام الغضب، وبأصابعه الخشنة بدأ يفركها وهو يكزّ على أسنانه شاتماً: «يا ابن الكلب فاتحلك تواليت هون مه؟! والله لأمسح فيك الأرض.» وبدأ يصفعني بكلّ ما أوتي من قوة. وعلى أصوات صراخي وعويلي، تجمّع بعض الجيران بدافع الفضول. انبرى أحد الرجال المتعاطفين وخلّصني من بين يديّ ذلك العفريت سائلاً بعبوس وهو يهزّني من ياقة قميصي:
- مين أنت عمّو؟ شو اسمك؟ من أيّ حارة أنت؟ ابن مين؟
- (بصوتٍ خائفٍ باكٍ) عمّو أنا من حيّ الصنوبر.. ابن أبو أحمد.
- طيب شو جابك لهون ولك عمّو؟
- عمّو والله حبّيت أعرف ليش ما بيصير الواحد يوقّف قدّام باب الكراج..!
همد الرجل وهو يحاول استعادة ما سمعه دون أن يفهم الموقف، إذْ ما دخل قصة الكراج بتغوّطي في الحديقة؟ وسألني مجدداً:
- شو كراج ومو كراج ولك ابني؟! احكي الحقيقة شو جابك لهون؟
- والله العظيم عمّو مرحْ احكي غير الحقيقة؛ من مدة كل ما مرّيت من هون بتلفُتْ انتباهي هديك العبارة على مدخل الكراج (ممنوع الوقوف، كراج مستعمل) بدون ما أعرف السبب. قلت لحالي يا ولد جرّب وُقِّفْ قدّام الكراج لشوف شو رح يصير معي. وقت اللي قررت الوقوف.. شعرت بـ.. وصار اللي صار.
وقف الرجل المتعاطف مبهوتاً للحظة، ونقّل نظره بين الحضور. وسرعان ما ابتسم مفسّراً تلك العبارة اللعينة قائلاً: «ولك يا ابني هاي العبارة لا تعني المارّة أبداً، هاي تعني أنّو اللي بيقود سيارة بهالشارع، لازم ما يوقف بسيارته قدّام باب الكراج، حتى ما يعيق حركة خروج السيارة من المرآب. هاد كلّ ما في الأمر.»
وقفت مشدوهاً! هكذا إذن! أكان من الضروري خوض هذه المغامرة المشؤومة لمعرفة كنه تلك العبارة؟ ألم يكن من الأفضل الاستيضاح من أحدٍ ما، من معلّم المدرسة مثلاً، دون أن أتبهدل تلك البهدلة المذلّة؟
وبعد أن تيقّنوا من براءتي، أطلقوا سراحي مهدّدين متوعّدين.
ولما كنت قد تأخرتُ عن البيت، وجدت أنه من الأنسب العودة إليه بباص النقل الداخلي.
في تلك الأيام كان قاطع التذاكر يجلس على مقعدٍ قرب الباب الخلفي للباص. وكانت الأجرة آنذاك نصف فرنك للطلاب وعناصر الجيش، وفرنك لباقي فئات الشعب. وغالباً ما كان قاطع التذاكر يغضّ الطرف عن الأطفال الذين يودّون الركوب، خاصةً إذا بقي الطفل واقفاً ولم يشغل مقعداً. وكان الركاب يصعدون من الخلف وينزلون من الباب الأمامي. وحيث أن والدي كان يأخذني معه إلى السوق في مطلع كل شهر لنأكل معاً أوقية لحمة مشوية، كوني نحيف جداً ومصاب بسوء تغذية مزمن، فقد كنت أجيد ركوب الباص وأعرف طقوس الصعود والنزول.
دلفتُ إلى الباص من بابه الخلفي وأمسكتُ بالماسورة المثبتة في مؤخرة جسم الباص متجاهلاً نظرة قاطع التذاكر الذي ابتسم عندما تشاغلت عن دفع قيمة التذكرة. وكعادتي بدأتُ بقراءة العبارات المدوّنة على جدران الباص الداخلية. بادئاً من العبارات البعيدة فالأقرب.. وهكذا.. (ممنوع التكلم مع السائق) عبارة واضحة كُتِبت مرتين على جانبي مقدّمة الباص، تعني أن التحدّث مع السائق أثناء القيادة قد يشغله ويسبّب له وللركاب حادثة مؤلمة.. قلتُ في نفسي عبارة منطقية تماماً. (لسنا مسؤولين عن فقدان أغراضك الشخصية) أيضاً عبارة واضحة؛ فالسائق ومعاونه غير معنيين باستهتار الركاب وترك أغراضهم الشخصية على المقاعد، فيأتي ركاب آخرون ويستولوا عليها. نظرتُ إلى أقرب عبارة مكتوبة فوق الباب الخلفي تماماً حيث أقف. يا إلهي ما هذا؟! (لا تعبث في الباب) من جديد توالد في أعماقي سيلٌ من مرارة السؤال! لماذا يتوجّب على الراكب ألا يقطّب جبينه ويعبس في الباب؟! ترى ماذا سيحصل لو تجرّأ أحدٌ ما وعبس في الباب؟ هل سيفتح الباب تلقائياً أثناء سير الباص فيقع بعض الركاب منه مثلاً؟! أم أن للباص مشاعر وأحاسيس كالبشر تماماً وتثيره تكشيرة الناس وعبوسهم فينتقم منهم شرّ انتقام؟!
تذكّرت عاقبة سؤالي عن الكراج وذاك العفريت الذي فرك أذني وصفعني في حديقة منزله. لذلك آثرتُ السلامة. لم أكن في تلك السنّ من عمري أميّز جيداً بين الأحرف اللثوية. فالثاء والسين كنا نلفظهما حيثما وُجِدا (سين). ولهذا فقد التبس عليّ الأمر. نظرت إلى العبارة مجدداً (لا تعبث في الباب) وابتسمت ابتسامةً صفراء خوفاً من أن أنشغل قليلاً وأعبس في الباب بشكلٍ لا إرادي كنوعٍ من التحدّي الذي يعتمل في داخلي دائماً، فيحصل ما لا تحمد عقباه. سأفقد عقلي وأُجنّ تماماً إذا لم أعرف معنى هذه العبارة. أحسستُ بصداعٍ هائل في رأسي؛ تُرى هل أسأل قاطع التذاكر؟ أم إحدى السيدات اللواتي يدلّ مظهرهنّ على تقبّل فكرة السؤال؟ أم أتريّث إلى أن أصل إلى البيت وأسأل أبي؟ من الأفضل أن أسأل قاطع التذاكر، هذا ما رسوتُ عليه. اقتربتُ من قاطع التذاكر وسألته: «عمّو! شو معنى هالعبارة؟» وأشرتُ بيدي إليها. رفع قاطع التذاكر نظره إلى الأعلى بارماً رأسه إلى الخلف ليرى ما أُشير إليه وابتسم قائلاً برشاقة: «يعني إيّاك تلعب بالباب، لأنه ممكن يفتح فجأةً ويضغط على أصابعك ويهرسها متل ما بتهرس الماكينة اللحمة.» قلت له: «شو علاقة العبوس باللعب؟». للوهلة الأولى لم يفهم السؤال، لاذ بالصمت هنيهة ثم قال: «عن أيّ عبوس عم تحكي!؟» قلت له ببراءة: «العبارة عم تحذّرنا من العبس بالباب!» التفت إلى العبارة مجدّداً وطفق يضحك، وبعد أن هدأ قليلاً تنهّد سائلاً: «بأي صفٍّ أنت عمّو؟» قلت له بالصف الثالث. استمرّ بالسؤال: «ما بتعرف معنى كلمة (تعبث)؟» قلت له طبعاً أعرف، تعني هيك؛ وقطّبت له جبيني موضحاً. انفجر ضاحكاً ضارباً كفّه بالأخرى ومال بجزعه إلى الخلف حتى ضربت مؤخرة رأسه جدار الباص. شعرت بالخجل خاصةً وأن عدداً من الركاب كانوا يسمعون حوارنا رغم حرصي ألا يكون طويلاً. وبدأ أغلبهم بالضحك أو الابتسام، ليس عليّ بالضرورة، ولكن ربما بالعدوى التي انتقلت من قاطع التذاكر إلى كافة الركاب القريبين منه. وددتُ لو أن الباص يقف فوراً، أن يتعطّل.. المهم أن أنجو من هذا الموقف الحرج. بالفعل ما هي إلا لحظات حتى وقف الباص عند موقف. لم أنتظر أن يصل الباص إلى الموقف الذي كان أبي ينزل به عندما كان يصحبني معه أول الشهر لتناول اللحمة. ما إن فُتِحَ الباب الخلفي حتى نزلتُ منه مخالفاً بذلك قواعد النزول من الباب الأمامي. وجدتُ نفسي في منطقة غريبة عني تماماً، حاولت جاهداً أن أتذكّر من خلال قراءتي للآرمات وأسماء المحلات.. في أيّ حارةٍ أنا، لم تسعفني ذاكرتي المضطربة. مشيتُ عدة أمتار مستطلعاً المكان بعينين حزينتين، وبدأت مشاعرُ الخوفِ تتسلّل إلى أعماقي شيئاً فشيئاً. لا شك من أنني ضعت. ماذا أفعل؟ كيف السبيل إلى البيت؟ هل أسأل الناس عن عنوان بيتي؟ أم أعتمد على نفسي وأجرّب كل الطرق، ولكن ذلك قد يستغرق زمناً طويلاً وسوف أتأخر عن موعد وصولي المعتاد إلى البيت، ما يعني أن العقوبة بانتظاري.
في تلك الأيام كانت (موتورات المُشنِص) إحدى وسائل النقل الرئيسية في المدينة. طبعاً إلى جانب سيارات الأجرة قليلة العدد. تجوب الشوارع بكثافة وتقوم بنقل الركاب ضمن أحياء المدينة. وكانت أجرة الراكب نصف ليرة بشكلٍ عام. إلا إذا كانت المسافة طويلة، فكان يتقاضى السائق أجرته ليرةً كاملة. بحثتُ في جيوبي متفقّداً ماليّتي، فقد أضحى تأخّري عن البيت ملموساً، كان بحوزتي ثلاثة فرنكات! وحيث أنني صغير، وبيتي أخمّن أنه لا يبعد كثيراً عن المكان الذي نزلتُ فيه، فقد يكفي ما معي من نقود لوصولي إلى البيت. لهذا تجرّأتُ واتجهتُ نحو موتور يقف إلى جانب موقف الباص ينتظر راكباً. كان سائقه يرتدي نظارة شمسية أسوةً بزملائه السائقين، وقد غطّت بالإضافة إلى عينيه، حاجبيه ونصف أنفه وخدّيه تقريباً بالكامل. وبسبب سرعة الموتور أثناء القيادة، فقد كان أغلب السائقين يسرّحون شعرهم بشكلٍ طبيعي إلى الخلف بفعل شدة الهواء دون الحاجة لاستخدام أيّ مشط. وكانت وجوههم جميعاً برونزية اللون تميل إلى السمرة المحمرّة. بسبب تعرّضهم للشمس طوال النهار. اقتربت من السائق الذي كان يثبّت ريشة نعام على مقوده كنوعٍ من الزينة وأيضاً كأغلب أصحاب الموتورات. وخاطبته قائلاً:
- عمّو ممكن توصّلني للبيت؟
التفت صوبي وابتسم:
- ليش وين ساكن عمّو؟
- بحيّ الصنوبر.
- مم.. بحيّ الصنوبر.. وين بالضبط؟
- جنب شركة البترول.
تابع انهماكه بتثبيت الريشة ذات اللون البنّي اللمّاع وأردف:
- طيب، معك مصاري؟
- أي عمّو معي تلات فرنكات.
- طيب، عمرك ركبت موتور؟
- أي عمّو عدة مرات كان بابا يركّبني معه..
لم تفارقه الابتسامة طيلة حديثه معي. وبعد أن أنهى تثبيت ريشة النعام على المقود امتطى الموتور وحملني من تحت إبطيّ بسرعة البرق وأجلسني أمامه خلافاً لجلوس الركاب في المقعد الخلفي. وقد خمّنتُ ذلك بحرصه على سلامتي. وأدار المحرّك وانطلق بي باتجاه حيّنا.
رغم الحرارة الشديدة إلا أن سرعة الموتور كانت تلطّف الجوّ وأشعرتني ببرودة منعشة لذيذة. وسرعان ما أصبح شعري مسرّحاً إلى الخلف ككلّ سائقي المُشنِص. تبدّد قلقي ونسيتُ عفريت الحديقة، والحرج في الباص الحكومي، وعقوبة الأهل المنتظرة.. تمنّيتُ لو أن المسافة طويلة وجيبي عامرة بالليرات لأتمكّن من التجوال بكافة ربوع المدينة.. ولكن ما هي إلا لحظات حتى خفَّف السائق من سرعته وسألني:
- رح نوصل عالشركة، وين بيتك عمّو؟
- عمّو نزّلني وين مابدّك.. خلص صرت بعرف روح لحالي..
- لا يا عمّو لازم وصّلك لعند البيت..
- والله عمّو ما في داعي.. خلص نزّلني هون.. ليك بيتنا صار بأوّل الشارع.
أوقف السائق موتوره وحملني من تحت إبطيّ وأنزلني على الرصيف. مددتُ يدي بسرعة إلى جيبي لإخراج الفرنكات الثلاث، إلا أنه أمسك يدي بلطف معاتباً: «وَلَوْ يا عمّو أنا ماباخُد من الأطفال، إنت متل ابني.. بس دير بالك مرة تانية تبعد عن بيتك بدون مايكون معك واحد كبير. روح عبيتك عمّو روح..» وانطلق مسرعاً.
تابعته بامتنان وهو يبتعد دون أن يبارحني شعور الغبطة الذي استولدته هذه الرحلة القصيرة.
تفقّدتُ مجدداً الفرنكات الثلاث واتجهتُ إلى البيت.
كانت أمّي بانتظاري تولول نادبةً بصوتٍ مسموع «يا ويلي وين راح الصبي؟.. دخيلك يا ألله رجّعلي ابني وخود يللّي بدّك ياه.. آخ من عالعمر أخ.» وما إن مثلتُ أمامها حتى شهقت وهرعتْ لاحتضاني والدموع تنهمر من عينيها معاتبةً بكلماتٍ متلاحقةٍ سريعةٍ وبصوتٍ مبحوح: «قلقنا عليك يا حبيبي.. وين كنت؟ برمْنا الدنيا عليك!» وبدأت ترفع رأسها إلى السماء متضرّعةً: «شكراً إلك يا ربّ! شكراً لاستجابتك السريعة لدعائي.. والله رح أوفي نذري بس يتوفّر المبلغ المطلوب والله..» وبعد هنيهات هدأت قليلاً وزال الكرب عنها واطمأنّت على أحوالي، وإذ بحنانها ولهفتها ينقلبان فجأةً إلى ثورةٍ من الغضب والتهديد.. وبينما هي على وعيدها كان السؤال الذي يتقافز في ذهني: «تُرى، هل عرف أبي بغيابي؟ وما هو تهديده لي بعد قدومي؟» هي توبّخني وأنا ألوب بعينيّ جنبات الدار بحثاً عن أبي. لم أعد أسمع ما تقول! حاولتُ مقاطعتها سائلاً وقد جفّ لعابي تماماً: «ماما أين أبي؟» وأنا أتوسّل بداخلي لتقول لي: «ربّك حميد لم يدرِ أبوك بغيابك. اشكر ربّك على ذلك. إذ لو عرف بغيابك الطويل هذا.. الله أعلم ماذا كان سيحصل!» همدتْ قليلاً مسدّدةً نظرةً هي خليط بين الرأفة والسرور والتأنيب معاً وأجابت كما كنتُ أتمنّى بالضبط: «حظك يا لعين وارثه عن خالك الله يرحمه.. أبوك لم يعُدْ من عمله بعد.» وضمّتني ثانية. عندها بادلتها الضمّ وأنا أكاد أرقص من فرحي.. فقد نجحت مغامراتي هذا اليوم دون أية عقوبات تذكر. وسرعان ما استغاثت أمعائي من شدة الجوع بعد أن اطمأننت. وأسرعتُ بالدخول إلى المطبخ حيث رائحة البصل المقلي بزيت الزيتون تفوح بأرجائه. عرفت فوراً بأن مجدّرة البرغل التي نأكلها ثلاث مرات في الأسبوع بانتظاري.



#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل الشيوعيّون قِلّة في مجتمعاتهم؟
- أين أختبئ يا ناس؟!
- ما أمرّ قهوة الجنرال!
- حاضر معالي الوزير!
- طائر البلشون
- كاسة قهوة ومحرمة وطابور..
- هل يكمن الحلّ بقتْلِ كِبار الفاسدين؟
- أرجوك لا تقاطعني!
- «ماذا وراء هذه الجدران؟»
- جدل بيزنطي
- دلال
- ما مصلحة الغرب في فرض العقوبات على سورية؟
- من يقف وراء الحرائق في البلاد؟
- طفولة غير سعيدة
- جمعيّة دفن الموتى
- الأستاذ محمد الأفصع(*)
- الحُبُّ في زمنِ الكِمامة
- ما أبرعهم!
- فلسطين
- بعد طول انتظار


المزيد.....




- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - ضيا اسكندر - كراج مستعمل، ممنوع الوقوف!