أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - الفلسطيني في رواية كلام على مصطبة ميت خالد أبو عجمي















المزيد.....


الفلسطيني في رواية كلام على مصطبة ميت خالد أبو عجمي


رائد الحواري

الحوار المتمدن-العدد: 6591 - 2020 / 6 / 12 - 17:45
المحور: الادب والفن
    


الفلسطيني في رواية
كلام على مصطبة ميت
خالد أبو عجمية
الرواية تتحدث عن حياة "محمد" الفلسطيني الذي هاجرة عائلته من أرضها في عام 48، إلى ما تبقى من فلسطين "الضفة الغربية"، ثم نزوجها إلى الضفة الشرقية بعد هزيمة حزيران في عام67، الراوي يبدأ الرواية من نهايتها، فيفتتحها ببيت العزاء الذي يقام لمحمد القادم من الأردن (الضفة الشرقية) للعلاج من مرض السرطان، والذي يتوفى في مخيمه الذي ولد فيه في فلسطين، ويختمها أيضا بحيثيات وتفاصيل موته، وبهذا تكون فاتحة الرواية وخاتمها متناسقة ومتكاملة.
الفلسطيني يسكنه المكان، فهو يعيش فيه أينما حل، لهذا نجد ذكر لأريحا والقدس وعمان وبيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور، ومخيم النويعمة، وما يؤكد هذا الأمر، جعل "موت" بطل الرواية "محمد" في فلسطين وليس في الأردن، رغم أن مرضه مستفحل، ووصل إلى ذروته، واعتقد أن الحديث عن العودة إلى فلسطين والموت فيها، كان يحمل دلالة: أن فلسطين تبقى الملجأ للفلسطيني حتى في مماته، فيكف في حياته؟.
السارد يحدثنا عن مجموعة من الشخصيات: "محمد، خليل، سعيد، أميرة، صبحي الناشف، ميسون ووالدها يوسف، حسين، بسام بك، الداية أم أحمد، داود، سارة، سميح، زريفة، زينب، عبد الرزاق، والآباء والأمهات" وغيرهم، وللافت أن بناء شخصيات الرواية كان محكم ومتناسق، فلم يتم ذكر شخصية إلا واعطانا السارد تفاصيل عنها، فلم يهملها أو يتجاوزها، رغم اتساع رقعة الأحداث وتشعبها، وهذا التمكن، أكد على أن وجود الشخصيات لم يكن من باب إملاء فراغ أو تعبئة حشوات، بل هي شخصيات حيوية وضرورية في بنية الرواية.
ونجد أن الشخصيات النسائية منقسمة إلى إيجابي وسلبي، البنات كن بغالبيتهن إيجابيات: "أميرة، سارة وحتى ميسون" بينما وجدنا الأمهات يلعبن دورا سلبيا، وهذا يشير إلى انحياز السارد للفتيات، وبما أنه جعل غالبيتهن يمتن قتلا "أميرة، ميسون، سارة"، بعد أن تعرضن للقهر النفسي والجسدي والاجتماعي، كل هذا يشير إلى أن السارد يطرق أبواب كيفية التعامل مع الفتيات، وضرورة تغيير السلوك الاجتماعي والأسري معهن.
وفيما يتعلق بلغة الشخوص، فقد جعل السارد الشخصيات تتحدث باللهجة الفلسطينية المحكية ، وهذا أكد على فلسطينية الرواية، واللافت في ما جاء على لسان الشخصيات أننا نجد مجموعة من الأمثال الشعبية الفلسطينية: "زي خبيزة المزابل بفور فور" ص186، "خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود" ص201، "مين بشهد للعروس" ص232، وإذا ما أضفنا مكان الأحداث نكون أمام رواية فلسطينية بامتياز.
المكان والفلسطيني
نكاد لا نجد أدبا روائيا فلسطينا لا يذكر/يتناول المكان، وهذا التناول لا يأتي/يخرج من باب (رفع عتب) بل يأتي من داخل السارد، فنجد الحميمية في ذكر المكان، يحدثنا الراوي عن مشاعر "محمد" عندما هم بمغادرة شرق النهر إلى غربه بقوله: "...هو لا يمد يديه فقط بل يمد روحه أيضا ليمسك بالمكان الذي يذهب إليه، فهذا كان من الأحلام يوما أن يعود إلى هناك، فقط بسبب المرض أمكنه أن يعود للعلاج.
لاحت من بعيد مدينة أريحا كبقعة بيضاء أمام السيارة التي شرعت في الهبوط إلى أخفض نقطة على وجه الكرة الأرضية، ... فتدفقت فيه تلك الذكريات، لتخرجه من لحظات الوداع الصعب التي أثقلت هذه الرحلة" ص 27و28، المكان هنا كان هو البديل عن الأهل والأحبة، فهو البلسم الذي منح "محمد" (الشفاء) من وجع فراق الأهل.
وهناك تعليق من الأهل على عودته إلى فلسطين: "كان له نصيب يشوف البلاد والأهل... (المربى غالي)" ص49، وبما أن السارد كان سارد عليم، فقد تدفقت مشاعره تجاه المكان ـ عبور النهر ـ، كما لو كان هو "محمد" العابر: "يتسرب ماء النهر من هذا الشق الترابي المالح، يختفي أحيانا بين الشجر الصحراوي المصر على البقاء، ويظهر في أحيان أخرى ليعلن عن وجوده واستمراره، ويواصل مسيرة قدسية رغم جبال الملح، ويبقى متدفقا من الأزل إلى الأزل، يتمدد بصمت جسرا حزينا للناس، وطريقا للوصول، إنها جدلية المكان والناس معا في كل الأزمان، لم ولن تتوقف" ص52، (حلول) السارد بدل "محمد" في الحديث عن المكان ووصفه يؤكد على العلاقة الحميمة بين الفلسطيني والمكان.
وإذا ما توقفنا عن اللغة التي وصف بها، نجدها لغة ناعمة، تنساب منها العاطفة كما ينسب الماء من النبع، من هنا جاءت لغة مشاعر وأحاسيس مرهفة، وبألفاظ بيضاء تنبض بالحياة والطبيعة.
وما أن وصل "محمد" إلى مخيمه، حتى أخذ السارد العليم مكانه، يحدثنا عن تدفق مشاعره: "ما أن دخل إلى البلاد، حتى استعادة روحه القديمة، ولم تمنع موجات الألم في جسده المنه، سيل الذكريات التي دقها الحنين دفعة واحدة أمامه، الأماكن هي صندوق ذكريات، تستعيده كما كان، ويستعيدها بالضبط، كما تركها يوما، حتى أصبح في شك من الزمن والأيام" ص 69، واعتقد (أصرار) الراوي على أن يكون روايا بدلا من "محمدا" يحمل بين ثناياه شيئا من حميمية العلاقة التي تربط السارد بالمكان، لهذا وجد نفسه ( يزاحم) بطله "محمد" في الحديث عن المكان (وينحي جانبا) فتحدث نيابة عنه، فهو أحق من (مخلوقه) الروائي بشرف الحديث عن المكان.
وبعد أن وصل م"حمد" بيته في المخيم، يصفه لنا السار بهذا الحال: "طلب من السائق أن يتوقف بالضبط أمام المنزل، وبصعوبة أزاح جسده المنهك من داخل السيارة، وما أن أسند نفسه، حتى جرت الدموع من عينيه بلهفة المشتاق، فدور عينيه في المكان، وكأنه يتفقد البيوت، فوجدها لا زالت مكانها، غرف صغيرة، تصطف على جنبات الشارع، تلفها السناسل الحجرية، وتفضي بواباتها الخشبية المتهالكة، إلى ساحات، مصاطب، تسمى قاع الدار" ص 104، قلنا أن السارد (أزاح) بطله "محمد" وحل مكانه في السرد، وهذا المقطع يؤكد على هذا الأمر، فقد (خلط) السارد بين مشهد البيوت في المخيم ومشهد البيوت في القرية، ففي القرية نجد السناسل الحجر، بينما في المخيم نجد مكعبات (الطوب)، كما أن أبواب البيوت الخارجية في القرية من خشب، وفي المخيم من حديد/صفائح، والبوابات في بيوت القرية تفضي إلى الساحات/المصاطب، وفي المخيم إلى الغرف مباشرة، وهذا (الخلط) ما كان ليكون دون حلول السارد مكان بطله "محمد" فالعقل الباطن للسارد أخذه إلى بيوت غير تلك التي في المخيم، فكان هذا التداخل في وصف طبيعة البيوت.
يصف دخول "محمد" بيته بهذا المشهد: "كانت خطوات مضنية التي قادته لكي يدخل بوابة بيتهم، نعم هو لا يزال بيتهم، لم يختلف شعوره عند الدخول، عن شعوره الذي اعتاده قبل النزوح، ولم يحس أنه غريب عن المكان، عاد إل بيته... تمنا أن يقول (يما)، كما كان يقولها عندما كان يعود للبيت، ..هل يمكنه أن يتحمل هذا الانثيال العميق لكل هذه الذكريات، التي تخرج من كل زاوية، وكل حجر" ص105، مثل هذه العاطفة وما تحمله من مشاعر تجاه المكان/البيت تمثل تأكيدا على أن الفلسطيني يتعاطى مع المكان كجزء منه، فالمكان ليس بكائن جامد، بل حي، يؤثر على الإنسان وينمي فيه ذكريات ويثير فيه أحاسيس، من هنا نجد "محمد" منسجم مع المكان، مع بيته، رغم البعد القصري عنه.
إذا كان المشاهد السابق يتحدث عن مكان خاص ببيت "محمد"، ففي هذا المشهد يتحدث عن المكان العام، عن المخيم: "...خرج إلى شوارع المخيم مع أخويه، بخطوات ضعيفة، وجسد منعب، أرغم نفسه وسار في شوارع المخيم، التقى الكثيرين الذين عرفهم وعرفوه، ذاكرته ما زالت متقدة، عرف الأماكن والبيوت دون عناء.
هنا مشى، وهنا دخل المدرسة، وهنا لعب، وهنا عمل في الفرن، وهنا كان بيت فلان، وهنا وهنا وهنا...توقف أمام بيت وتنهد بابتسامة فيها غصة عميقة، لتلك الذكريات التي كانت تلامس قلبه، وأطلقت في روحه حنينا دفينا، ..تمشى في كل حارات المخيم، وشوارعه، وملأ عينيه وقلبه وروحه من المكان، وكأنه يودعه" ص110، مرة أخرى يؤكد السارد على أن المكان كائن حي، رغم أنه مكان عام، غير متعلق بالبطل فقط، بل بمجموع الناس، ورغم هذا نجدها علاقة خاصة ومتميزة، فتفاعل بين "محمد" والمكان العام من جهة، وبينه وبين الناس من جهة أخرى، كل هذا يجعلنا نقول أن الفلسطيني يتعامل بصورة استثنائية من المكان.
للقدس مكانتها الخاصة عند الفلسطيني، فهي بمثابة القلب في الجسد، في الصفحة 78 نجد حديث عنها: "...وما أن وصلت السيارة إلى مشارف القدس، حتى استعاد أنفاسه بارتياح، هدأت أنفاسه، وكأنه هو من كان يجر السيارة في هذا الصعود المضني، تغير الهواء ولاطفه نسيم جميل، فتح له الشبابيك في كل الاتجاهات، فبدا كأنه أزاح الستائر التي أسدلت يوما، ..أنه يرى بكل وضوح حياته الماضية ...استعاد الذكريات، واستعادته الذكريات، وأيقن بما لا يدع مكانا للشك في قلبه أنه سيصل، وسوف يرى ما يتمنى أن يرى" ص78، اجزم أن مثل هذه اللغة تؤكد على وجود توحد وتماهي مع المكان، لهذا نجد تعبير: "استعاد أنفاسه، هدأت أنفاسه، لاطفه نسيم، يرى بكل وضوح، استعاد ذكرياته واستعادته الذكريات، أنه سيصل، يرى ما يتمنى أن يرى" فهذه التحولات على مريض بسرطان الرئة، تشير إلى تحول نوعي على صحته، فالألفاظ البياض والهادئة كلها تعكس هذا التحول، والذي بدا لنا وكأننا أمام شخص طبيعي/عادي، ويتمتع بصحة جيدة.
الشخصيات النسائية،
السارد ينحاز للنساء، وقدمهن على أنهن ضحايا، وقتل بعضهن، "أميرة، ميسون، سارة" وتعرضن للاضطهاد من الأسرة والمجتمع، نجد هذا الانحياز في فاتحة الرواية، عندما تحدث عن بيت العزاء الذي أقيم "لمحمد": "كلما حضرت امرأة تجد لها مكانا في هذا البيت الضيق، هل الحزن واسع لهذه الدرجة حتى يأخذ في أحضانه كل تلك النساء؟" ص18، رغم أن الحديث كتعلق بوفاة "محمد" إلا أننا نجده يقدمنا من أحداث ومشاهد موت النسوة، اللواتي تحدث عنهن، فيبدأ بقتل "ميسون" على يد أحد الأشخاص وأمام الناس وينتهي بموت أميرة وسارة.
"ميسون" شخصية مثير، فهي تقوم بأعمال غير سوية، وتتلفظ بألفاظ بذيئة، ويعاملها المجتمع على هذا الأساس، لكن علاقتها "بمحمد" علاقة متميزة، وهذا يعود إلى أنه كان الوحيد الذي يذهب إلى مركز الشرطة ليتكفلها، من سلوكياتها غير السوية: "... تجمع قوت يومها بسكين، تصعد إلى الباص، وتهدد من لا يعيطها ليرة" ص45، والدافع لهذا السلوك غياب والدها، الذي تم اعتقاله أثناء قيامه بعملية نقل السلاح إلى غرب النهر، واختفاء أخباره، فلم تعرف اسرته هل هو ميت أم حي حتى وقت متأخر: "...ولا تعرف الكثير عن والدها،، فقد تركهم منذ سنوات هي ووالدتها وأخوين، أصغرهم ثمانية سنوات، لا معيل لهم، حملتهم والدتهم من مكان بعيد، وحطت بهم هنا، أغلقت على ماضيهم بمفتاح ورمته بعيدا، ولم تخبر أحدا عنه، وقبلت كل ما يقال عن زوجها، ولم تقل شيئا عن الحقيقة، حالها كحال الجميع، يريدون طمر أحداث الدم في السنوات الماضية، ...فهي لا تحمل وزر شيء، ولا تعرف شيئا عما قام به زوجها، ولا تدري إن كان حيا يرزق أو ميتا في مكان ما، اكتفت بالغياب. ..كان له علاقة بنقل الأسلحة بين قطبي النهر، ...التصقت تسمية السبعاوي بميسون، نسبة لوالدها الذي له عشيرة وأهل في بئر السبع، أختفى السبعاوي، وفضل الجميع أن يتقبلوا الرواية الأسهل، والتي لا تورطهم في تساؤلات الحكومة، فاكتفوا بعبارات أب سيء، ترك زوجته وأطفاله يقاسمون هموم الحياة وحيدين دون معيل" ص 55و56، اللافت في هذا المقطع أنه يأخذنا إلى زمن يعد فيه العمل الفدائي جريمة، لا تطال الفدائي فحسب، بل تطال أهلة وأسرته، ونجد أيضا الضريبة الهائلة التي يدفعها الفدائي، خساران الأسرة وضياعيها، وأيضا اتهامه بالعجز عن القيام بواجبه تجاه اسرته، التي تبقى وحيدة دون معيل، هكذا هي حياة الفلسطيني في مخيمات اللجوء في شرق النهر بعد حرب أيلول.
ما يحسب للسارد أنه تناول فترة زمنة قاسية عاشها الفلسطيني في الأردن بطريقة غير مباشرة، فهو لم يذكر الزمن ولم يحدده، لكن القارئ يعرف الظروف والزمن من خلال "لا تورطهم في تساؤلات الحكومة"، ففي هذا الزمن كان العمل الفدائي يعد جريمة يعاقب عليها الفاعل مدى الحياة، وتكون أسرته مهددة بلقمة عيشها وتنقلها وتمتعها بحقوقها المدينة.
وهناك مقطع آخر يشير إلى أن زمن الأحداث المتعلقة "بميسون" هو فترة السبعينات من القرن الماضي، يحدثنا السارد عن والدها "يوسف" الذي وجد الظروف مناسبة ليبوح بحقيقته وباسمه: "عندما اعتقل والد ميسون لم يفصح عن اسمه الحقيقي، ولم يكن لديه أي بطاقة إثبات شخصية، وأطلق على نفسه اسما مستعارا، لكن بعد سنوات قرر التعريف عن نفسه لمندوب الصليب الأحمر، وقبل أن يرسل رسالة لزوجته واولاده، ...أيضا قد أطمئن أن ظروف البلد السياسية، قد تغيرت بعد هذه السنوات الطويلة، ويمكنه الإفصاح عن شخصيته، دون أن يسبب أي أذى لعائلته" 66و67، السارد من خلال هذه الاشارات أراد التنويه إلى ما تعرض له الفلسطيني من أذى على يد النظام الرسمي العربي، فالعقاب كان وقاسيا ومتطرفا لكل من يقدم على العمل الفدائي، لأنه لم يقتصر على الفاعل فحسب، بل طال أسرته أيضا، ومن باب التنويه نشير إلى أن هذا العقاب الجماعي ما زال متبعا، فنجد ابناء المعارضين للنظام الرسمي العربي، ما زالوا حتى الآن، يعانون، فهناك مضايقات على تنقلهم وعملهم وتوظيفهم وسفرهم، ليس في بدهم فحسب، بل حتى في البلاد التي يلجؤون إليها، نجد هذه العقوبات تنتقل إليهم حيث يلجؤون/ينتقلون إلى دول أخرى، تكون بينها وبين المكان الذي يقطنونه علاقات (أمنة) وتنسيقات.
أما الحياة التي عاشتها "ميسون" فكانت قاسية وصعبة، مما جعلها تتخلى عن أنوثتها: "كانت مجبرة على تدبر حياتها، لم تكن قد عاشت حياتها كفتاة، بل أصبحت ولدا من أولاد الحي، لتستطيع البقاء بينهم... أغلقت على وداعة طفولتها وأنوثتها، ألبستها والدتها من عطايا الناس، ما تيسر من ملابس لتستر جسدها، وقصت شعرها المنكوش دوما كالأولاد، أرادت لها الحياة أن تكون صبيا في جسد فتاة" ص 56و57، من هنا نجد تعاطف السارد مع "ميسون" من خلال حديثه عن حياتها البائسة وحال اسرتها المفتتة، الأب غائب في الجهول، لا هو حي ولا هو ميت، ويلحقه عار (إهمال اسرته)، وأيضا ملاحقة الحكومة له أن ظهر من جديد.
في المقابل كانت علاقة ميسون بمحمد علاقة، متميزة، فتحافظ على سيارته من عبث الأولاد: "...وتقول أنه تكسيب عمها محمد، ويل لمن يقترب منه" ص54، وعندما قامت بربط شاب على عمود الكهرباء ودهنته بالزيت ، لم يجرأ أحد على التقدم لفكه، لكن "محمد" له مكانة خاصة عندها: "..وقد فكت وثاقه بنفسها، وقالت له:
ـ بس عشان عمي بفكك" ص58، وبعد أن علمت بمرضه، قررت أن تخرج من المخيم وتذهب إلى المستشفى لتطمئن عليه: "...قفزت الفتاة المسكينة إلى يده التي مدها باتجاهها والتقطتها، وقبلتها مرارا، لثمتها قدر ما استطاعت، فقربها إليه وقبل جبهتها بحان" ص64، نجد تعاطف السارد مع "ميسون" من خلال قوله "الفتاة المسكينة، وكأنه يريد المتلقي أن يتعاطف معها كما فعل "محمد"، وهذه اشارة أخرى على انحياز السارد للفتيات.
يعرف "محمد" أنها لا تملك أجرة عودتها إلى المخيم، فيقرر أن يعطيها ما تستطيع به العودة دون مشاكل أو مشاكسات، لكن نبلها وأخلاقها جعتها ترفض الخمس دنانير التي قدمها لها، لكن بعد أصاراه تقبلتها، وبعد أن علمت بوفاته تغيرت حياتها وانقلبت رأسا على عقب: "...ولم تغب لحظة عن المنزل، بكته بحرقة، لم تصدقها الناس، تقف لاستقبال المعزين بين ذوي الميت، تسألها النساء اللواتي يحضرن لاجب العزاء، شو بقربلك الميت، تقول عمي محمد." ص66.
بعد أن فقدت سندها وحاميها ومرشدها "محمد" أخذت تتعاطى المخدرات تفتعل المشاكل، فكانت نهايتها موجعة: "...قتلت ذات يوم بطريقة مرعبة، طعنات سكين متعددة، انغرزت في صدرها، من أحد الذين يحملون السكاكين، لم تفلح في ابتزازه، وتعاركت معه، وقتلها بطريقة بشعة، في وسط السوق، أمام جميع الناس" ص67، إذا ما توقفنا عن عائلة "ميسون" نجدها قد انتهت إلى أسوء ما يكون، فالأب غائب في السجون، والأسرة تعاني ومفككة، حتى أن البنت أصبحت تتعاطى المخدرات والسلوك السيء، وكأن السارد أن بهذا الأمر أن يشير بطريقة غير مباشرة ، إلى دور النظام الرسمي العربي في المأساة التي يعيشها الفلسطيني، فحتى الحياة العادية، الطبيعية يفتقدها، وهذا ما يجعله يطالب ويعمل لنحو استعادة ما فقده، استعادة الأرض، الوطن.
الأحداث السياسية
الأحداث السياسية منثورة في العديد من صفحات الرواية، لكن سنختار منها ما هو متربطة بشخصية "قائد المقاطعة بسام بك، ومدير المدرسة صبحي الناشف والطالب المقاتل محمد عبد الفتاح"، الأول يمثل النظام وبطشه قبل احتلال الضفة الغربية عام 67، فهناك اكثر من موقف ظهر فيه، والثاني يمثل المعارضة للنظام، "لا يمكن ذكر المقاطعة، دون ذكر بسام بيك قائد المقاطعة، رآه بكامل هيئته العسكرية، ضابط كبير" ص67، هذه الصورة الخارجية لبسام بك، لكن دوره وهمته في قمع العمل الفدائي والثوري جاءت في هذا المشهد: "محمد عبد الفتاح...حمل رشاشه (أبو صونيه) وقادته جرأته في إحدى الليالي في ليلة عرس ابن أبو يونس أن يتقدم إلى سكة الحديد وفجر القطار الذي يقل الصهاينة، وعاد إلى المخيم منتشيا بنصر كبير، وعندما وصلت أخباره، لبسام بيك قائد المقاطعة أمر باعتقاله" ص210، هذه مهمة رجال الأمن وهذا دورهم.
في المقابل نجد مدير المدرسة "صبحي الناشف ومحمد عبد الفتاح" يقومان بمعارضة النظام وكشف حقيقته ودوره في حلف بغداد، ينهي الأمر بمدير المدرسة صبحي الناشف: "في سوق الخضار في عمان، هذا البعثي المناضل الفذ ومدير المدرسة، انتهت به الأيام عتالا في سوق الخضار" ص 22، هذا حال المعرض في النظام السمي العربي، فالسارد من خلال هذا الخبر يريد أن يؤكد على بطش النظام بكل من يعمل ضده، فهو لا يراعي حرمة ولا ذمة في التعامل مع المعارضين.
أما محمد عبد الفتاح الطالب والثائر: "...صبحي الناشف في توزيع المنشورات.
...والده كان قد خدم في معسكر الإنجليز، في وادي الصرار، قبل النبكة وساعد مع الآخرين من هؤلاء الرجال في المخيم، على سرقة وتهريب صناديق الذخائر، لجماعات الجهاد المقدس، بسام بيك.. تلقى خبر أن محمد عبد الفتاح شاب من المخيم قد هاجم القطار وفجره في بيت صفافا، غضب كثيرا وأمر باعتقاله فورا ليمثل أمامه" ص98، هكذا يفعل النظام الرسمي بالمناضلين.
وهناك مقطع آخر يتحدث عن الاحكام العرفية وطريقة النظام في تعامله مع المعارضين: "...لكنهم ضمنوا فيه محبة واحتراما لهؤلاء القوميين والبعثيين و(البلشفيك) أساتذة جهابذة علموهم فك الحروف وأشعار اللجوء التي ما زالوا يحفظونها عن ظهر قلب...بالأحكام العرفية، الأحكام التي أكلت من لحم البلشفيك إبراهيم يوسف، وغابت الأـجساد في غياهب السجون تسلخها الكرابيج وتكويها الكهرباء، والملح، لقد استدرجت هذا الألم آلاما كثيرة اختزنت في ذاكرتهم" ص24، هكذا كانت أحوال الفلسطيني في ظل الحكم الأردني للبقية فلسطين، قبل هزيمة حزيران، فكيف يمكن لمن يعيش هكذا أوضاع أن يقاوم جيش انتصر على جيوش نظامية تمتلك الطائرات والدبابات!؟، ومع هذا نجد "يوسف" المقاوم والثائر يستمر في إيصال السلاح إلى غرب النهر، ودفع ثمانا باهظا جراء ذلك، فقد عائلته وتفكيكها.
التعدد والتنوع الفكري
من الضروري أن يعكس العمل الأدبي الواقع الاجتماعي للشخصيات الرواية والثقافة التي يحملونها، فقد حدثنا السارد عن مجموعة معارضة لنظام، وجعل شخصية "محمد" بطل الرواية أحدى هؤلاء المعارضين، رغم أنه عمل كجندي، ورغم أن الاسم يشير إلى شخص يعتنق الإسلام، إلا أننا نجده يتحدث بثقافة دينية مسيحية: "يا الله أرجوك أن لا تضعني في هذا الامتحان، أني أفضل الموت قبل ذلك" ص33، فهذا القول قريب في مفهومة مما جاء في انجيل متى: "ولا تدخلنا في التجربة، لكن نجنا من الشرير" لكن اتيانه على لسان "محمد" يشير إلى أنه كان متحرر ثقافيا، من هنا نجد حتى الألفاظ والتعابير تنعكس على ما يقوله، وأهمية هذه العبارة تكمن في أنها تعكس الحالة الاجتماعية للناس، بمعنى آخر أن "محمد" يطلع على ثقافة دينية أخر، ويتعامل مع أشخاص من غير دينه، ويتأثر بهم، فكان هذا الأثر من خلال استخدمه تلك الآية.
السارد من جانبه يشير إلى ثقافة التعدد والتنوع من خلال هذا المشهد: "للمرة الأخيرة خطفت العيون نظرة الوداع، قبلما توارى عنهم، ولوجوا له وغاب، كما غالب يوحنا المعمدان عن المسيح، وكأنه قدر على هذا النهر أن يكون للدموع، والوداع، والفراق" ص40، الجميل في هذا المقطع، ربط الثقافة الدينية بالشخصيات، وهذا خدم فكرة الفراق، وأيضا اشارة إلى مكانة/جغرافية النهر، وعلى أنه يشكل (عائق/حاجز/حدود)، بين الأخوة/الأهل علما بأنه مجرد نهر صغير، ولكن، رغم قسوة الفراق، الأمل كان حاضرا، ففكرة المسيح انتشرت وتوسعت وأصبحت فكرة عالمية، وهذا ما يحمله المشهد، المكان/النهر، الناس/أهل محمد والجندي، القسوة/توارى عنهم، وكانت النتيجة والخاتمة انتشار الفكرة، رغم موت قائلها/حاملها، .
الرواية من منشورات السكرية للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، القاهرة، الطبعة الأولى 2020.



#رائد_الحواري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التغييرات الفلسطينية في رواية -اغتراب- أسامة المغربي
- اخناتون ونيفرتيتي الكنعانية صبحي فحماوي
- خرابيش وجيه مسعود
- الاغتراب في مجموعة الحاجة إلى البحر أمين دراوشة
- المرأة المضطربة في رواية -الغربان والمسوح البيض- منى جبور
- عظمة التاريخ في كتاب -فخر الدين إن حكى- عزيز الأحدب
- ماياكوفسكي الليلة الأخيرة
- المرأة في رواية -هناك في شيكاغو- هناء عبيد
- وتبقى أشجار الكرز تزهر في قلبي دوما -سمير عيسى الناعوري-
- الشعر في ديوان قم واعتذر للبرتقال رضوان قاسم
- كميل أبو حنيش رتل هذا النشيد
- حجر يعبد لطفي مسلم
- كميل أبو حنيش -لعلي أعود نهارا
- عائلة من الروهينغا مصطفى القرنه
- ذاكرة ضيقة على الفرح سليم النفار
- رواية -صناء مدينة مفتوحة- محمد أحمد عبد الولي
- عالم الشاعر سميح محسن في مجموعة -غبار على مرايا البحر-
- إسماعيل حاج محمد وحروف المد
- تفشي الثقافة الهابطة والرجعية
- الفرح في رواية -من أنا- شذى محمد الشعيبي


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - الفلسطيني في رواية كلام على مصطبة ميت خالد أبو عجمي