أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الرابع المكان والزمان والهوية الإيديولوجية للتطور الحضاري الجديد وشروطه 1-5















المزيد.....


من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الرابع المكان والزمان والهوية الإيديولوجية للتطور الحضاري الجديد وشروطه 1-5


عبدالله اوجلان

الحوار المتمدن-العدد: 1585 - 2006 / 6 / 18 - 06:40
المحور: القضية الكردية
    


3ـ يتم إكمال الهوية الإيديولوجية عن طريق موقف استراتيجي وتكتيكي متكامل يعبر عن ماهية السبل التي أراد بها النجاح للوصول إلى البنية النظرية والبرنامجية. ففي الوقت الذي تعبر فيه النظرية عن وجهة نظرها بشكل واضح وشفاف، فإن البرنامج يكشف عن أهدافه الواضحة والمختصرة المصاغة من النظرية التي تم تمريرها عبر مصفاة النقد. فالاستراتيجية التي تمثل الطريق الصحيح، والتكتيك الذي يعني السير بخطى سليمة، هما اللذان يحددان كيف وبأي الوسائل سيتم الوصول الى هذه الأهداف. إذ أن الاستراتيجية هي فن الاختيار الصحيح بين سائر الطرق المرسومة للوصول إلى تحقيق الأهداف، فهناك طرق مسدودة وهناك طرق مؤلمة ودموية، بالإضافة إلى ذلك فإن الطرق التي تنتهي دون الوصول إلى الهدف ليست قليلة أيضاً، في هذه الحالة تعبر الاستراتيجية الصحيحة عن سبل نجاح الوصول والنقل والنهوض بمسيرة يمكن أن تحقق أو تمكن المجتمع من نيل حقوقه التاريخية، وذلك عن طريق معرفة كافة هذه الطرق الخطرة، وعن طريق إصلاح وتنقيح الأهداف التي يكون الوصول إليها امراً غير واقعي. كثيراُ ما شوهد في التاريخ أمثلة عن المجتمعات والمنظمات المحرومة من سبيل واستراتيجية كهذه، يدخلون في وضع تراجيدي وفاشل وذلك إما بسقوطهم في الطرق المسدودة أو ببقائهم في منتصف الطرق الدموية والمؤلمة. فالاستراتيجية هي الفن الذي سيحول دون ذلك؛ بمعنى آخر هو فن السبيل الصحيح.
الاستراتيجية هي إدارة مسيرة ركض، بل هي ركض ماراثوني ناجح لبلوغ الهدف بأكثر الأشكال واقعية وبأقل الخسائر والآلام، وذلك بالتحديد السليم للقوى الأساسية والاحتياطية، ولأصدقاء الدرب المؤقتين. إن كل مجتمع أو منظمة لم تشكل هذه القوة وتجهل طريقة استخدامها محكوم عليها بهدر طاقاتها الحيوية وبالتشتت والتخلف والانحلال. فتشكيل الاستراتيجية بالنسبة لمجتمع أو منظمة بمثابة تشكيل القدرة الدماغية، ومن المعلوم أن الكيانات التي تشكلت بلا دماغ أو بشكل بدائي ظلت في المستوى البدائي. بالتالي فمن الممكن أن يكون لوجهة نظر أو برنامج نظرية ما معنى بواسطة قوة الادارة الاستراتيجية، وهذا بدوره يُمكن من الوصول إلى قوة اتخاذ القرارات التاريخية والاستراتيجية، وتنفيذها في كافة المراحل الهامة. وإذا اقتضت الضرورة يجب معرفة الادارة الإستراتيجية وذلك بإظهار أسباب فشلها وعدم سيرها بإعادة تطوير الصحيح منها. ويعبر الإطار الاستراتيجي حسب هذا التعريف عن التنفيذ، وذلك بالتشكل المتكامل لمؤسسة الزعامة والقيادة وإيجاد قدرتها الخلاّقة في ذاتها. فالمجتمعات أو كافة أشكال المنظمات المفتقدة لهذه القدرة والتي لا تستطيع تحديد اتجاه سيرها، ولا تعرف فيما إذا كانت سائرة نحو الأمام أو نحو الخلف وتراوح في مكانها، لن تستطيع أن تنجو من التفسخ والانحطاط وستتحول إلى مجرد حطام. وعلى العكس من ذلك فإذا ما اكتسبت المجتمعات أو أي نوع من المنظمات التي تعاني من النقص، هذه القوة حينها يمكنها أن تبدأ بالتحول عن طريق استجماع قواها وتكاملها والوصول إلى الهدف، وستبدأ بتعزيز قواها بنموها من جديد، لذا فالعنصر الاستراتيجي في الهوية الإيديولوجية أمر لا يستغنى عنه، من منطلق أهميته الحياتية وتحقيقه.

تم تناول العنصر الأخير للهوية الأيديولوجية بمصطلح التكتيك، حيث يعبر التكتيك عن الأعضاء والطاقات الواجب امتلاكها للوصول إلى الهدف، وهو يعني كافة أعضاء الجسد باستثناء الدماغ، ومثلما هناك حاجة لعمل هذه الأعضاء بشكل متكامل بتقسيم العمل فيما بينها من اجل الحياة اليومية، كذلك المجتمعات والمنظمات بحاجة لوجود أعضاء مشابهة تعمل بشكل متكامل.
تحاول دولة ما الوصول إلى السياسات الأساسية التي رسمتها بواسطة التنظيمات الموجودة في مجال التشريع والتنفيذ والقضاء وبواسطة التنظيمات الاقتصادية والعسكرية. وتمتلك المجتمعات وسائل شبيهة بهذه الوسائل. فالحاجات والأهداف تحدد الوسائل التي يجب امتلاكها، ويحدد التكتيك أسلوب العمل الذي يجب امتلاكه بالمنظمات الطليعية والجانبية الضرورية من أجل انطلاقة المجتمع الذي يعيش في الأزمة، وتشمل إدارة التكتيك قضايا العنف أو اللاعنف، الهجوم أو الدفاع، بقدرات كبيرة أو بقدرات صغيرة، بسرعة أو ببطئ. إذا ما رغبت إدارة تكتيكية في النجاح عليها السعي الى تقييم واقعي لهذه القضايا، وفي حال العكس هي بمثابة عقل راجح ولكنه يفتقر لكافة وسائل الدعم والتطبيق. ولا يمكن لأي مجتمع سواء أكان في حالة أزمة أو في حالة رخاء أن يعيش دون تكتيك. ويصح هذا على المنظمات أيضاً. فكل مجتمع ومنظمة تفتقر الى القوة التكتيكية أو المواهب التكتيكية محكوم عليها بالخسارة، مهما كانت قوة نظريتها وبرنامجها واستراتيجيتها، وبالتالي فإن على كافة المنظمات الاجتماعية المختلفة أن تحدد الفروع الوظيفية والأنماط التطبيقية الضرورية من أجل الحياة اليومية وذلك على شاكلة الدور الذي تؤديه أعضاء الجسد، أو بالأحرى عليها أن تجري تنظيماً عضوياً، وبعبارة أخرى فهي مضطرة للعمل ولإجراء التحول التنظيمي.
يتضمن التنظيم والممارسة غنىً كبيراً ابتداءً من المجال الروحي حتى المجال العسكري وذلك حسب متطلبات الهدف، وعليه أن يطبق كل شكل يراه مناسباً، ومن الناحية العملية فإنه يتضمن غنى بدءاً من العمليات السلمية وحتى عمليات العنف، بدءاً من العمل الاقتصادي وحتى العمل السياسي. لن تستطيع المنظمات التي لم تحدد وسائلها بشكل صحيح وممارساتها أثناء التوجه نحو الهدف، أن تتفادى الهزيمة والانحراف، ولا يمكن الحديث عن قيادة تكتيكية سليمة تجهل كيف تبدل فيما بين أشكال التنظيم والممارسة عندما تقتضي الضرورة، وتجهل التجديد في حينها، ولا تستطيع أن تقدم أو تبدي وتيرة كافية. وكما هو محكوم على المجتمعات وكافة أنواع المنظمات التي لا تستطيع تطوير قيادة تكتيكية (الوسائل وقوة إدارة الممارسة والعمل اليومي) بالخسارة، كذلك لا يمكن الاعتقاد بخسارة الذين يستطيعون لعب هذا الدور بنجاح. وكما أنه محكوم على كافة نظريات وبرامج واستراتيجيات الهوية الإيديولوجية التي لم تطور أشكال الوسائل والعمليات على نحو كامل بالشلل، وعلى العكس فحتى تمتلك القوى هذه العناصر، عليها ان تتمكن من التطبيق الآني لكافة أشكال الوسائل والعمليات التنظيمية وبالسرعة المطلوبة، حينها سيكون نجاح مسيرتها نحو الهدف أمر لا مفر منه. إن لعب الدور التكتيكي يعني إثبات القوة المعنية لوجودها وحقيقتها على شكل ظاهرة وذلك حسب الهدف.
نستنتج مما سبق أنه مازالت الولادة الإيديولوجية تحافظ على أهميتها، وان الحضارة المعتمدة على المجتمع الطبقي ستتواصل عن طريق تعميق الأزمة العامة في الواقع الملموس للنظام الرأسمالي. ورغم كافة التجارب التي أجريت فقد ظلت بعيدة عن تحقيق ولادة إيديولوجية سليمة. وإن وجود تراكم قوي على الصعيد الذاتي والموضوعي يزيد من فرصة الولادة. حيث يجب تقييم كافة المواقف الإيديولوجية المتطورة ابتداءً من الميثولوجية وحتى الاشتراكية العلمية، في إطار تكامل ديالكتيكي. يجب أن تكون الخطوة الأولى لكل المهتمين بمراحل الولادة هي احترام التراكم الإنساني عن طريق إدراك قدسية كلمة واحدة حتى. إذ أن مواقف الكفر والاتهام تصدر عن الجهل. وليس صحيحاً أن يتم التصديق أو الاتهام بعبارات تقليدية لأي فكر ما لم يتم دراسته بعمق، وهذا الموقف لا يعني السكوت على النقص أو الخطأ. بل على العكس يجب أن يتم الرد انطلاقاً من مقولة "لا يتحقق الموقف القوي إلا مع الحقيقة".

يتحلى الطابع الأساسي لعصرنا وبشكل متداخل، بحضارة مستندة الى المجتمع الطبقي بكافة أزماته وانهياراته، وبخصائص مرحلة انتقالية تتشكل فيها هوية حضارة اجتماعية جديدة. رغم أن الخصائص المتميزة أدت الى نشوب حروب بين هذين العالمين، الا انه ومع ذلك لا يملكان القوة الكافية ليتخطى أحدهما الآخر ويقضي عليه بشكل سريع وقطعي، ناهيك أن هذا النموذج الثنائي المتشكل من الأبيض والأسود يتناقض مع القوانين الأساسية للطبيعة. حيث تمر الطبيعة والحقيقة الاجتماعية التي هي إحدى أشكالها، بحالات تغيير مستمرة بين النهائي واللانهائي، فتقييم الأشكال الاجتماعية وإمتداداتها الحضارية حسب ثنائية الأبيض والأسود الضيقة، سيؤدي إلى انحرافات واخطاء أيديولوجية خطيرة. في الحقيقة يعتبر الأبيض والأسود أقصى قطبي عالم الألوان وهما شاحبين ويتغيران بسرعة. وإن قسماً كبيراً من الحقيقة ومجمل التنوع اللوني موجود بين هذين القطبين. وتكتسب رؤية التحولات الحضارية والاجتماعية ضمن هذا الغنى اللوني أهمية مصيرية من أجل ولادة إيديولوجية صحيحة. فالقول ((سأولد إما أبيضاً أو أسوداً)) يعني سأصبح "اشتراكياً مشيداً أو فاشياً". حسناً فماذا سنفعل بالألوان الأخرى الأكثر ورونقاً وعظمة…؟.
ان الانزلاق الى هذه الضيق باسم الاشتراكية العلمية هو أساس كافة الأخطاء التي تظهر في التطبيق والنهاية ستكون الانهيار. لذا لابد من تحديد انسب الأشكال مع الأخذ بعين الاعتبار وجود القطبين، وهذه من المهام الأساسية للقوى الموالية لولادة الجديد.
شهد الواقع التاريخي للقرن العشرين فرض كلا النقطتين المتطرفتين بكل ثقلهما على الإنسانية، إذ أرغمتا الإنسانية على الاصطفاف وفق نظام الأوامر والتعليمات تحت وطأة القوة النارية التي لم تشهد التقنية مثيلاً لها، وتحت راية إما الأبيض أو الأسود، وعانت الإنسانية من سفك دماء وآلام كبيرة جراء ذلك، ولكن السيرورة الديالكتيكية للحياة التي أضفت كل لون وليس اللون الرمادي فحسب، قد أحبطت هذه الضغوطات. فكلا النظامين؛ سواء أكان من النظام الأسود لحضارة المجتمع الطبقي الذي أمر به الإله المطلق الحاكم القهار، أو نظام "الشيوعية البيضاء" ذو اللون الواحد الذي يعتبر ضد الأول ظاهرياً ولكنه يشبه جوهرياً، وعلى الرغم من وجود التفكير نظرياً وإدخاله حيز التنفيذ احياناً إلا انهما لا يتعديا كونهما أنظمة خيالية لا يمكن لهما الاستمرار.
كما هو الأمر في الطبيعة فان الإنسانية ايضاً ستعيش بتطبيق الغنى اللوني على المجتمع، وبهذا المعنى تكون الميثولوجيا السومرية مقارنة مع الأديان التوحيدية أكثر مرونة وإنسانية، بالطبع فأنها من بعض مناحيها تمثل النظام الأسود للآلهة ـ الملوك، وحتى إذا أجريت دراسة تاريخية لكافة الميثولوجيات والأديان فلن نعثر فيهما على النظام الأسود المطلق، ورغم كافة جوانبهما الدوغمائية، لا تستطيع النجاة من قبول الغنى اللوني.
لقد أكد العلم هذه الحقيقة وبشكل كبير في القرن العشرين، حيث برهنت نظرية تحول المادة ـ الطاقة، ونظرية التطور، تحول الطاقة، الفيزياء الكمية "كوانتوم" ونسبية الزمان والمكان على أن اللونين الأسود والأبيض ليسا نظامين لا يتغيران.
إذا تم النظر إلى الواقع الاجتماعي ضمن هذا الإطار العلمي والفلسفي، سيدرك بان الأضداد تعايشت لمدة طويلة مرتبطة وبحاجة متوازية لبعضها البعض. وان انتصار الديمقراطية المعاصرة في نهاية القرن العشرين ناجم عن طابعها الملائم للواقع؛ وعن الرؤية المسبقة بأن الفلسفة تعتبر الميدان الرئيسي للتشكيل الغني للطبيعة والمجتمع وبأن التحولات التطورية في الممارسة هي الأساس. انها تستمد قدرتها من العلم والفلسفة. وبدأت حضارة الديمقراطية المعاصرة تصبح ملك للإنسانية جمعاء عن طريق استيعابها العميق لقوانين التطور وإخضاع التغييرات الاجتماعية لتأثيرها، لم يحدث هذا الوضع مصادفة، بل هو أحد النتائج الهامة لقدرة العلم، لأن العلم عبارة عن ظاهرة ديمقراطية. فمثلما حافظ المجتمع القديم على وجود بناه المعتمدة على الدوغمائيات، كذلك سيكتسب المجتمع الجديد بعض بناءاته اليوتوبية وسيحافظ على بناه.
انطلاقاً من هذه النقطة نجد أن تناول الديمقراطية المعاصرة باعتبارها مجرد حالة وفاق بين قطبين يعتبر مغالطة كبرى، والأمر الهام الذي يتوجب معرفته، هو رغم وجود موقف ذا قطبين فإنها تعطي حق الحياة لهما ما داما ملتزمين بالمعايير الديمقراطية الأساسية. ولكن من المؤكد أنها تشكل اختلافاً اجتماعياً وغنى لونياً لأوسع جيل. فالديمقراطية المعاصرة تستند على غنى التشكلات الاجتماعية أكثر من كونها وفاق بين قطبين، ويتم تقييمها كنظام يتخذ من احترام أشكال الغنى التي عاشتها المجتمعات عبر التاريخ وستعيشها مستقبلاً، ومن النظر الى التعبير عن أنفسهم بشكل حر وأحيائها على انها أهم مبدأ، وهي تعبر عن القاعدة النظرية الغنية والتطور التطبيقي والتشكل. حيث إنها ليست نظرية تحدد سلطة سياسية بسيطة، إذ لا يمكن اختزالها بسلطة سياسية، لأنها شكل حضاري طويل ومستمر وشامل. إنها نظام يحتوي على العناصر الطبقية من جهة واللا طبقية من جهة أخرى، ولكنه يعتمد على تجدد وإحياء نبراته المختلطة بدون حدود، وبشكل حر أيضاً. أنها النظرية والتطبيق للتطور الحر للحياة. وفي الوقت الذي تعمل فيه على تحقيق هذا فإنها نظام ينكر اللجوء إلى العنف باستثناء الدفاع المشروع ذو التعريف القانوني الواضح. نظام تستطيع فيه كافة الفئات الاجتماعية وخاصة النساء والأطفال كأقدم طبقات مسحوقة التعبير عن نفسها بحرية، وهي نظام لا يعتمد على حل الصراعات الداخلية في المجتمع فحسب، بل ويعتمد على تحليل الصراع المتنامي مع البيئة باستخدام التطور التقني العلمي ويتخذ من تحقيق التغيير والتحول ضمن الشروط السلمية اساساً له.
إننا نكرر ونعيد وضع التعريفات للديمقراطية المعاصرة لأنها تشكل أهم إطار للهوية الإيديولوجية، لقد كتب على راية الهوية الإيديولوجية المسيطرة على القرن الواحد والعشرين عبارة "الحضارة الديمقراطية المعاصرة ". إنها تظهر تحت هذه الراية قدرتها على الاستفادة من البنى القديمة، ووضعها في خدمة المجتمع وبالتالي في خدمة التجديد، وتحت هذه الراية باستطاعتكم أن تعيشوا التاريخ والمستقبل بقدر ما تريدون وأن تصبحوا آنيين بقدر ما تريدون، على أن تعيشوا ذلك عن طريق معرفة القدرة المؤسساتية بالوعي العميق للمعايير الأساسية والالتزام بها لدرجة العبادة واحترامها إلى أبعد مدى. ولكن فإن شخصية الحياة الديمقراطية لا تعني الحياة الأنانية التي أثارتها جنون الربح الرأسمالي كما تشاء، لا يمكن احياء هذه الحياة بفرض طرائقية باثولوجية (مَرَضية) وبشكل اعتباطي، والقول: حياة حسبما تقتضيه يوتوبيات المستقبل المجيدة"، ويمكن أن تصبحوا أفرداً أحراراً كما ترغبون، ولكن يجب أن تبدوا الالتزام بالتاريخ وبإبداعات المستقبل العلمية؛ وألا تكونوا أسرى للدوغمائيات واليوتوبيات.
عندما يكون المرء علمياً حينها فقط سيدرك بان الحياة الحرة ممكنة بالتاريخ والمستقبل، عليكم الا تتخلوا عن الفرد الحر من أجل الدوغمائيات واليوتوبيات، ولا أن تعطوا فرصة للتحول إلى فرد شتوم ومنكر لها. وستدركون أن الفرد الحر لا يمكن أن يعيش إلا عن طريق معرفة القدرات الدوغمائية واليوتوبية ولكن دون الرضوخ لها، وعن طريق الوصول إلى القوة العلمية والفلسفية قدر المستطاع.
هذه الأحكام مكتوبة على الهوية الإيديولوجية التي سنتبناها وهي ليست أحكام اعتباطية أو فرضها القدر، بل هي أحكام علمية وحرة بكل معنى الكلمة.
المجال الهام الثاني للهوية الإيديولوجية بعد الفردية، هو التطور المعاصر للمجتمع المدني، أي ولادته من جديد، وإطلاق اسم الساحة الثالثة "البعد الثالث" على مجال المجتمع المدني سيشكل خطوة اصطلاحية مساعدة، ويمكن القول بأن حضارة الديمقراطية المعاصرة تقوم على ثلاث قوائم وهي: المجتمع الديمقراطي والسياسة والدولة الديمقراطية، لكن دمقرطة المجتمع القديم عملية صعبة وبطيئة وأما دمقرطة الدولة فهي الأصعب بسبب بنيتها التقليدية، والديمقراطية المعاصرة أيضاً تقتضي نضالاً كبيراً لأنها ترغم على الحساسية الديمقراطية. إن الانتفاضات العامة للمجتمع في المراحل الأولى كانت تؤدي إلى ذلك، ولكن الدولة التي تكتسب تدريجياُ تفوقاً عملياً وأيديولوجياً كسرت حدة الفعل المنعكس لدمقرطة المجتمع.
ليس من الصعب تحريف وقمع الأساليب التقليدية. حيث يلعب تخلف شروط الثورة والثورة المضادة التقليديتين دوراً هاماً في ذلك. ويأتي الدور إلى ظهور السياسة الديمقراطية وأشكال وسائلها وعملياتها التي اكتسبت وظيفة ضرورية بين الدولة والمجتمع.
لقد عرفت مجالات المجتمع والدولة في التاريخ بشكل جيد. فعندما كانت قوة تمرد الشعوب تلعب دوراً هاماً كصوت ومطلب للمجتمع، كانت الدولة تطرح بوجودها كنوع من أنواع القدر وذلك كأقدم سلطة؛ وكان يعتقد بأنه لا يمكن تجنب تأثيرها، خاصة وأن انكماش المجتمعات والدول التقليدية التي كانت موجودة خارج مراكز الحضارة الرأسمالية، على سلبياتها وانعكاسها على الخارج كان بمثابة المحرض الأكثر تعصباً، وتتشكل نوعاً من أنواع التوازن المتعصب الجديد، وكان يعتقد بأنه يمكن تحطيم هذا التوازن بالثورة، وقد أكدت بعض الأمثلة الناجحة على نتيجة وهي الإيمان بإمكانية انتشارها، ولكن التدابير التي اتخذها النظام الرأسمالي الإمبريالي حد من تأثير هذا الادارة، ولان دولة المرحلة المتعصبة لم تتمكن من ان تحقق تحولاً ديمقراطياً ذاتياً، ظهرت حتمية الانتقال إلى بعد جديد، علماً أن مفهوم الدولة الموجود حتى في مراكز الرأسمالية، الذي أصبح متعصباً في مرحلة الأزمة وراح يعمل على تخريب البيئة، جعل من تحرك الساحة الثالثة "البعد الثالث" أمراً حتمياً.
إن البعد الثالث، هو مجال السياسية الديمقراطية، وقد بات ضرورياً خلق أداة مدنية من أجل تلبية كل حاجة فرضتها شروط الحضارة التي أخذت شكلاً متشابكاً، هذه الأدوات ليست عبارة عن أدوات ثورة أو أحزمة اتصال قدمتها الدولة للمجتمع، بل هي عبارة عن منظمات مستقلة تقف بين الدولة والمجتمع تاركة بينهما مسافة محددة، وتتبنى هوية خاصة وتأخذ أشكالاً مختلفة حسب الضرورة. انها ليست ضد الدولة وليست عميلة لها، إنما تخضع لسلطة (إمرة) الحاجة. كما انها ليست منظمات اجتماعية أساسية، وليست مؤسسات أخلاقية أو دينية، ويأخذ أعضاءها أشكالاً حسب الوظائف المحدودة التي ينجزونها، وهي منظمات تنتهي مع انتهاء مهامها أو على أقل هي منظمات متغيرة حسب المهام الجديدة، وقد جعل هذا النموذج وجوده مؤثراً كسبيل لابد منه وضروري للجميع من أجل التخلص من التأزم الذي عمقته الثورة والثورة المضادة، وتزداد أهمية هذا البعد يوماً بعد يوم لأن الحاجات تفرض نفسها في كل مجال، بدءاً من المجال الاقتصادي، ومروراً بالثقافي، ومن الرياضي إلى البيئة ومن السلام إلى حقوق الإنسان.
إن تعريف الساحة الثالثة ضمن هذا الإطار غير كاف، إذ أن هذا المجال يحتاج إلى جعل موقعه النظري والتطبيقي أكثر وضوحاً.
يزداد الشعور يوماً بعد يوم بالحاجة إلى نظرية وتطبيق يخصان الساحة الثالثة؛ إذ أصبحت نظريتها وبرنامجها واستراتيجيتها وتكتيكها أمراً ضرورياً الى جانب ممارسة التطبيق العملي من جديد، ويرغم على الانتقال من مفهوم الحزب المعتمد على سماسرة المجتمع أو الدولة بالمعنى التقليدي، إلى تشكيل حزب محدد حسب الوظيفة والحاجات. فكافة المنظمات صاحبة مفهوم السمسرة المشابهة، وفي مقدمتها الأحزاب التقليدية باتت وجهاً لوجه أمام إعادة البناء من جديد بما يتناسب مع نظرية المجتمع المدني.
إن نجاح حضارة الديمقراطية المعاصرة مرتبط بوصولها إلى شكل تنظيم وتطبيق يتناسبان معها وإلى إعادة تعريف دورها ضمن هذا المعنى، وان المجتمعات والدول التي لم تطور الساحة الثالثة ستكون مسيرتها بساق واحدة في الديمقراطية المعاصرة، ولن يستطيع عنصر العنف والنزعة الانفصالية المسببان للكثير من المصاعب ان يخرجا عن كونهما مشكلة إلا عن طريق اكتسابهما للحرية الموجودة في هذا البعد ولعب دورهما فيه، ومن هذا الجانب تشكل هذه الظاهرة التي يمكن تسميتها بالسياسة الديمقراطية خطوة تمهيدية للانتقال من السياسة المتأزمة إلى السياسة المنتجة للحلول، وستتمكن ساحة السياسة الديمقراطية، كأكثر ساحة ساخنة ومنتجة، من إنتاج الحلول كلما كانت مؤسسات المجتمع المدني أكثر تنوعاً ووظيفة وتنسيقاً. فالثورة ليست الطريق الوحيد، وكذلك الثورة المضادة أيضاً. فالطريق المؤدي إلى الحل هو السياسة الديمقراطية التي تتضمن بدائل حلول متنوعة، إذ أن الحياة مع مرور الوقت تدفع بتشكيل وتطبيق مشروع من أجل تطوير المجتمع المدني إلى المقدمة، والمؤسسة أو الحزب الذي يمتلك مشاريع هذا المجتمع المدني ومنظماته وأعماله، سيتمكن من الإسهام المميز في التحول الديمقراطي للمجتمع وللدولة. إن الذي سيحقق هذا العمل هو الأحزاب أو المؤسسات البعيدة كل البعد عن سياسة السمسرة، والمنتجة للقيم والتي تحمل ذلك الى الدولة والمجتمع الديمقراطية. فالتاريخ يلقي بدور التحول على المؤسسات والأشخاص الذين يمتلكون نظرية وبرنامج واستراتيجية وتكتيك من هذا النموذج. فالذين لا يصبحون أداة لمطالب المجتمع الرسمي غير الواقعية، وبمقدار عدم تحولهم الى آلة لضغوطات الدولة، والذين يؤمنون بأنهم سيحققون خدمات مفيدة للمجتمع والدولة بتطويرهم معايير الديمقراطية المعاصرة، هؤلاء هم الذين سيلعبون دورهم التاريخي بنجاح.
إن هذا الدور يعني امتلاك نظرية الساحة الثالثة فرصة إنتاج الحلول في مرحلة الأزمة، في الوقت الذي أصبح فيه مفهوم المجتمع الذي دخل في طريق مسدود ومفهوم الدولة التي تعمقت أزمتها، يشكلان عائقاً في هذه المرحلة، فالنجاح الكبير الذي سيحرزها مجالها النظري والعملي متوقف على القيام بالأعمال الصحيحة والمتكاملة وعلى تلبية متطلباتها.
يتبين من كل هذه الشروحات بأن الحضارة الديمقراطية المعاصرة بعيدة جداً عن ان تشكل مرحلة منظومة مختلفة عن هندسة المجتمع الطوباوي والمغامر المحكوم عليه إما بالتحول الى دولة أو الى منظومة جديدة، إذ لا تعني الحضارة الديمقراطية المعاصرة القضاء على الدولة وتفتيتها، بل تحويلها ببطئ إلى معدات عتيقة وبعد ذلك رميها في مزبلة التاريخ، وهو الصواب وهذا ما سيتحقق. فالحضارة الديمقراطية المعاصرة ليست بدولة متشكلة كأداة قمع جديدة أنشئت بدلاً من أداة الحضارة القديمة، بل على العكس من ذلك فهي أداة تنسيق عامة تعتمد على الجهد المنتج للجميع ولكافة مؤسسات وفئات المجتمع، وتمثل معايير العدالة والحرية على أعلى المستويات وتشرف عليها، ولن تكون لها عصا تضرب ولا سلاح يقتل ولا سجن يزج فيه، ومع مرور كل يوم ومع الاقتراب من اقتسام "كل حسب قدرته، وكل حسب حاجته"، سنصل إلى مجتمع يستطيع رمي آخر بقايا الدولة في متحف الأشياء التاريخية العتيقة. لقد قربت الثورات التقنية العلمية الإنسانية من خيالاتها الواقعية هذه أكثر من أي وقت مضى. ويشكل القديم درعاً للحضارة الديمقراطية المعاصرة وسيكون النصر من حق الكادحين والشعوب المسحوقة لأن التاريخ أدرج ذلك ضمن سياقه.



#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الرابع ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الرابع ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الرابع ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الرابع ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الرهبان السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثال ...
- من دولة الرهبان السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثال ...
- من دولة الرهبان السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثال ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...


المزيد.....




- ألمانيا تعاود العمل مع -الأونروا- في غزة
- المبادرة المصرية تدين اعتقال لبنى درويش وأخريات في استمرار ل ...
- مفوض أوروبي يطالب باستئناف دعم الأونروا وواشنطن تجدد شروطها ...
- أبو الغيط يُرحب بنتائج التحقيق الأممي المستقل حول الأونروا
- الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين لاستئناف تمويل الأونروا بعد إ ...
- مفوض حقوق الإنسان يشعر -بالذعر- من تقارير المقابر الجماعية ف ...
- مسؤول أميركي يحذر: خطر المجاعة مرتفع للغاية في غزة
- اعتقال أكثر من 100 متظاهر خارج منزل تشاك شومر في مدينة نيويو ...
- مسؤولان أمميان يدعوان بريطانيا لإعادة النظر في خطة نقل لاجئي ...
- مفوض أوروبي يطالب بدعم أونروا بسبب الأوضاع في غزة


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الرابع المكان والزمان والهوية الإيديولوجية للتطور الحضاري الجديد وشروطه 1-5