أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث حضارة عصر الراسمالية د - الازمة العامة للحضارة وعصر الحضارة الديمقراطية















المزيد.....


من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث حضارة عصر الراسمالية د - الازمة العامة للحضارة وعصر الحضارة الديمقراطية


عبدالله اوجلان

الحوار المتمدن-العدد: 1576 - 2006 / 6 / 9 - 11:52
المحور: القضية الكردية
    


5 ـ إن عصر الحضارة الرأسمالية هو الشكل الأخير لتاريخ الحضارة المستندة الى المجتمع الطبقي، وأهم ظاهرة برزت في مرحلة انهيار هذه العصر، هي استبعاد دور العنف في مجتمعات الثورات العلمية التقنية الكبرى التي تحققت باستثناء ظروف الدفاع المشروع، رغم أن العنف الذي كان وسيلة لسياسات المهيمنين والمستغلين لم يسفر عن شيء سوى الخراب والدمار، وأمام الخوف الذي نجم عن الطابع اللصوصي للملكية الخاصة، وجدت الفئة الحاكمة أمنها وضمان بقائها في ممارسة العنف، فقامت بتقديسه وتمجيده من خلال تضخيم قصص البطولة، لدرجة أن الآلهة التي لم تكن تعرف معنى العنف في الميثولوجيا الأولى أصبحت تحمل صفات العقاب والقهر والشدة مع تطور المجتمع الطبقي وخاصة في العصر الإقطاعي.
إن دور العنف في التحولات المجتمعية أقل بكثير مما يعتقد، فقد لعب العنف دور التحويل والتغيير في مراحل الطفرات النوعية المجتمعية، هذا الشكل من عمليات العنف كان يحقق تحولات نوعية وقصيرة المدى ثم تجري تجاوزها، علماً بأن قسماً كبيراً من ممارسات العنف التي كانت تطبق عبر التاريخ وتكتسب صفة الاستمرارية، هي أعمال إرغامية كانت تمارس الظلم عبر الفتوحات والاحتلال والنهب وما شابه مخلفة الخراب والدمار، وكان يقال بأن هذه الممارسات تتم بأوامر من الآلهة في سبيل إخفاء أهدافها، وكان يتم أطلق اسم الشهيد على الذي يموت، واسم مجاهد على الذي على قيد الحياة لأجل تقديس هذه الممارسة، ويبدو أن ذلك لم يكن كافياً وكانت تتم مكافئة المشارك بإعطائه نصيباً من الغنائم، أجل فالتاريخ كان يكتب بهذا الشكل السافل، وبهذا المعنى يمكن وصف التاريخ المكتوب بأنه تاريخ ملعون، والمقصود به هو الاستدلال على وجوب كتابة تاريخ صحيح يمجد المظلومين لأنهم أبطال العمل والجهد ويمثلون الضمير الحقيقي للبشرية، والدفاع عن الأنظمة التقدمية ونشرها سيكون عظيماً بشرط الصدق في جوهرها.
إن تاريخ الحضارة بعيد عن القيام بتحليل صحيح للعنف، فالآراء الميثولوجية والدينية والفلسفية التي تمجد الطبقة المهيمنة المستغلة والتي تتحدث عن وصول هذه الطبقة الى سدة الحكم، أثرت وطبعت التاريخ بطابعها، ويغدو التاريخ بآرائه هذه مجرد نصوص أدبية تأملية خطيرة تتغاضى عن الظواهر التي يمكن أن تشكل التاريخ الحقيقي، هذه النصوص الظالمة التي قلبت الموازين حيث تغييب دور الأصحاب الحقيقيين للتاريخ، في البدايةً يجب كتابة تاريخ هذا النوع من التاريخ بشكل صحيح، ولن تتم ولادة فرصة لكتابة تاريخ تحليلي إلا إذا تحققت هذه المهمة بنجاح، وأكبر ظلم في التاريخ هو أن يكتب التاريخ اعتماداً على هذا النوع من الإملاءات، والجانب الأكثر سلباً هو التدفق غير الممتع لسلسلة العمليات التي قامت بها الظواهر التي يطلق عليها اسم الشخصيات والمؤسسات التاريخية التي تجعل هذا التاريخ أساساً لها وتتأثر به، إن التاريخ الذي يكتب بشكل خاطئ يؤدي إلى أعمال خاطئة، وعليه فإن التاريخ الصحيح هو أحد شروط الممارسة الصحيحة، وأما مفهوم التاريخ الصحيح فهو الخطوة الأولى في التحليل الصحيح للحضارة.
إن كل ما حاولنا القيام به من خلال هذه المرافعة هو المساهمة في تقديم تحليل صحيح للحضارة وللتاريخ في مرحلة تاريخية هامة ولو بخطوطه العريضة، وعندما يقع ظلم كبير وتآمر واسع في وسط ما، فإن أول ما يجب القيام به هو الكشف عن الجذور التاريخية والحضارية لهذه المظالم وإزالة الأقنعة الخبيثة عن وجوه الذين يعتقدون بأنهم أنجزوا تاريخاً وهم ليسوا أكثر من متآمرين سفلة.
إن المرافعة الإنسانية الكبرى تعني الكشف عن أصحاب المواقف المتآمرة من كافة المراكز الشرقية والغربية، والكشف عن الآراء التي يتسلحون بها وعن نمط حياتهم المنحطة.
لقد أضحت المرحلة التي تشهد عصر الحضارة الرأسمالية لكونه العصر الأخير موضوعاً لكثير من التقييمات، فبينما يقيم أصحاب وجهة النظر المحافظة على أن العصر المعاش هو" نهاية للتاريخ"، يرى أصحاب الفكر الثوري بأن يسموه "عصر الاشتراكية"، فأصحاب الرأي الأول تسلحوا بفلسفة مثالية جامدة ومتحجرة، اما أصحاب الرأي الثاني تسلحوا بفلسفة مادية فظة، وكلاهما بعيدان تماماً عن رؤية وتحليل كافة تعقيدات العصر المعاش، أما المواقف المتعلقة بحضارة ما بعد الحداثة فهي وجهات نظر غير متناسقة وغارقة في الذرائعية ومجريات الحياة اليومية.
إن الموقف الصحيح هو الذي يرى أن الثورات العلمية التقنية هي التي تحدد هذه المرحلة بشكل عميق، وإن المستوى المادي القائم هو أساس التطورات التي تحدد وتحول وتبدل كافة الأنظمة الاجتماعية، ولكن هذا لا يعني أن التقنية بمفردها ستقوم بعملية التحويل، فهنا لا بد من الهوية الإيديولوجية أن تتدخل في المسار، إذا لا يمكن تجاوز النظام القديم أبداً وإظهار الأطراف الجديدة دون تحقيق الولادة الإيديولوجية ويمكن تشبيه هذه العملية بما يلي: لا يمكن لبذرة أن تنبت دون وجود حقل، فإذا ما شبهنا الحقل بالتقنية فإن ذلك يستدعي تشبيه البذرة بالهوية الإيديولوجية.
لقد تشكلت الهوية الإيديولوجية للنظام الرأسمالي مع بداية عصر النهضة الأوروبية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ولن نتحدث عن هذه الفترة تجنباً للتكرار، ثم في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر تحققت أكبر مرحلة تطور للنظام الرأسمالي، حيث تشكلت مؤسساته وتوفرت الفرصة لانتشاره، وقد تطرقنا إلى هذه المواضيع بخطوطها العريضة، وأما القرن العشرين فقد أخذ طابع الأزمة وحروب الاقتسام الجديدة من أجل الخروج من هذه الأزمة، لقد برهنت حربان عالميتان والكثير من الحروب المحلية والإقليمية، أن النظام لن يستطيع الاستمرار بأساليبه القديمة، ولم يستطع النمط القديم لاستغلال العمل من جهة والممارسات الاستعمارية القديمة والجديدة من جهة أخرى أن تخلص نفسها من التجاوز، ولكن هذه الأوضاع لا تعني بداية حضارة جديدة كما تم الإدعاء في تلك المرحلة عند بدء تأسيس عصر الاشتراكية، بل كانت تعني دخول تلك المرحلة إلى مرحلة تحول الإنتاج والانقسام بين الأنظمة، وقد توضحت هذه الحقيقة في نهايات القرن العشرين، وعرفت هذه المرحلة بمرحلة حضارة الديمقراطية المعاصرة.
إن مرحلة الديمقراطية المعاصرة لا تعني نهاية النظام الرأسمالي، إنما تعني أن عصر الهيمنة المطلقة قد ولّى، وانه قد تم الحد من الهيمنة والاستغلال ونمط حياته على مستوى متقدم، ولقد عملت معايير الديمقراطية المعاصرة على كبح جماح النظام الرأسمالي وأرغمته على تقاسم قدرته في الاستغلال والإدارة مع العمال ومع الشعوب كما تريد.
لا شك أن نضال العمال والشعوب لعب دوراً مصيرياً في هذه التغييرات، ومما لا شك فيه أيضاً أن كل ذلك قد حدث بفضل وصول التطور التقني إلى أبعاد متقدمة جداً، فلقد ناضلت الطبقة العاملة والشعوب على مدى تاريخها ولكنها لم تستطع منع الأنظمة والطبقة المهيمنة من تطبيق أقصى أشكال الاستغلال، ولم تكن الهزائم التي لحقت بها سبباً في ذلك، بل ان السبب كان يكمن في التطور التقني الذي لم يكن قد وصل إلى المستوى الذي يسمح له بالتقاسم والمشاركة، ولكن عندما وصلت الثورات التقنية العلمية في النصف الثاني من القرن العشرين إلى مستوى يسمح للطبقة العاملة والشعوب بالمشاركة والاقتسام من جديد في مجال فائض القيمة والسلطات السياسية كان ذلك يعني توفراً للشروط الموضوعية القوية التي تحد من السلطة والاستغلال، وبتوفر هذه الشروط حققت الديمقراطية المعاصرة أكبر قفزاتها.
إن ترتيب الديمقراطية المعاصرة نفسها كهوية إيديولوجية من جهة وكمؤسسة سياسية من جهة أخرى يرتبط أشد الارتباط مع توفر هذه الشروط الموضوعية.
في هذه الحال فان الديمقراطية المعاصرة من زاوية أخرى، تعني تنظيم وتوجيه كافة آليات ومؤسسات الإدارة والاستغلال للنظام الرأسمالي بشكل يسمح للمشاركة والاقتسام مع العمال والمجموعات الشعبية من جديد. أي ان الموضوع في هذا النظام لم يعد يتمحور حول كون النظام الرأسمالي يقوم بالاستغلال كما كان سابقاً وبتحديد شكل الإدارة من طرف واحد، ولم يعد يتمحور حول قيام الطبقة العاملة والشعوب بإسقاط النظام الرأسمالي بالقوة وبناء النظام الخاص بهم حسب النمط الثوري، بل على العكس من ذلك لقد قبل الطرفان بالحد من مصالحهما وأحلامهما المتحجرة ليتم ترسيخ نمط حياة يتناسب مع قواعد دولة الحقوق الديمقراطية، واقتسام فائض القيمة والوفرة وإنتاج القيم الموجودة على كافة الأصعدة الناجمة عن التقنية من جديد ضمن جو من السلام وباستخدام آليات السياسة الديمقراطية، ولأجل ذلك تم الاعتراف بحق الجميع في المشاركة في السلطة السياسية، رغم ظهور الإكراه والتصلب أحياناً إلا انه يفضل استهلاكها وإنهاءها ضمن هذا الصراع والوفاق وحولتها، وبالأحرى أن هذا ناجم عن أنه لا مفر من حروب الفتوحات والهجمات المعتمدة على تقنية الأسلحة التي تطورت إلى درجة يمكنها أن تدمر الإنسانية جمعاء وستلحق الأذى والخسارة بالجميع وهذا أيضاً من نتائج التقنية.
من الواضح إن الرأسمالية لا تستطيع الإصرار على شكلها الكلاسيكي ضمن هذه المرحلة التي اكتسبت أساساً موضوعياً كهذا، حيث وصلت الشعوب بواسطة التقنية من جهة، ومستويات الحرية التي تم اكتسابها بالنضال الذي خاضته الشعوب والطبقات الكادحة من جهة أخرى، إلى مستوى من الوعي والتنظيم الذي لن يسمح لذلك الشكل التقليدي بالاستمرار، فالموضوع هنا لا يتعلق بخيار كيفي بل يتعلق بمرحلة جديدة بلورتها الشروط القائمة، وهي قبول النظام الرأسمالي بالتحول الديمقراطي، إذ أن ضرورات النظام تؤكد أن الربح في مرحلة التطورات التدريجية واقتسام هذا الربح وفق الحاجة أفضل من الربح عن طريق المغامرات الدموية، ولذلك لا يمكن الحديث عن عودة النظام الرأسمالي التقليدي إلى عهد سابق، ولم يعد ممكناً القضاء على هذا النظام عن طريق الثورات.
وبالتدريج كلما تطورت أشكال الحضارة الجديدة تصبح عملية الذوبان ممكنة في هذه المرحلة، ويتم الاقتناع بوجود تحول نموذجي. نؤكد من جديد أن التطورات العلمية والتقنية تشكل أساس كل ذلك، كما أن الجواب الواقعي الذي قدمته هذه المرحلة يعد الأساس الذي جعل الديمقراطية المعاصرة مؤثرة إلى هذا الحد في نهاية القرن العشرين، فإمكانيات التوعية العظيمة التي أكتسبها المجتمع بفضل تقنية الاتصال والمعلوماتية، والقدرة التي اكتسبها المجتمع المدني كونه الساحة الثالثة، وضرورات أن تكون السياسة والدولة منفتحتان على الأقنية الديمقراطية، كل هذه العوامل لا تسمح بإمكانية هيمنة طبقية بمفردها، لأن المجتمع الذي يغدو ديمقراطياً يصبح متعدد الألوان إلى درجة لا يحتمل فيها ثنائية الأبيض والأسود، فلولا وجود العديد من مؤسسات المهن التقنية لا يمكن للإدارة السياسية بمفردها أن تدير أعمال المجتمع ليوم واحد، والأهم من ذلك أن الفرد الذي تحرر لا يمكن إدارته أو التحكم به بمفاهيم الاستبداد والتسلط التقليدية لنفس الأسباب التقنية أيضاً.
وبالنتيجة فأن حضارة النظام الرأسمالي تعمل على تعريف نفسها من جديد ضمن معايير الديمقراطية المعاصرة، وعلى كسب هوية إيديولوجية وبالاعتماد على الوفاق مع الشرائح الاجتماعية التي لها علاقة بكافة المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في تحديد أسلوب للحضارة والإدارة، وهذا يدل على أن عصور الاستغلال والسيطرة بلا حدود قد بقيت في الماضي، وأن التطورات الحضارية الجديدة تدخل إلى جدول أعمال التاريخ. لاشك أن التطور العلمي التقني يشكل أساس الشروط الموضوعية في تحديد علاقات وظواهر الحضارة الجديدة، وتشكيلات الهوية الإيديولوجية الخلاّقة المستندة على هذه الأرضية. ستتطور وستنشر وستتعاظم الظواهر المؤسساتية التي تعمل على تخطي طابع الأزمات الأساسية للعصر.
6 ـ لم تنجح الإيديولوجية الاشتراكية والنظام الاشتراكي المشيد الذي نجم عنها والتي تشكلت ضد النظام الرأسمالي في الوصول إلى شكل حضارة جديدة، ومهما كان السبب سواء أكان نابعاً من الهوية الإيديولوجية، أو كان نتيجة للولادة المبكرة أو نتيجة للأخطاء التي ارتكبت، فإن النظام الاشتراكي المشيد لم يستطع تحويل مطالب الكادحين والشعوب في الحرية والمساواة إلى تطور حضاري، وبالرغم من كل ادعاءاته على هذا الصعيد فإنه لم يستطع الوصول إلى أبعد من تشكيل رأسمالية الدولة، وشهد التاريخ الكثير من التيارات الإيديولوجية والحركات الاجتماعية المشابهة، ورغم الأساس الديني والاعتماد على النظام القبلي، فإن إنطلاقات النبي إبراهيم والنبي موسى تشكل في حالاته الأولى اشتراكية قبلية، ولم تستطع الكيانات القائمة في الشرق الأوسط آنذاك والتي قلبتها الهيمنة الآشورية بشكل خاص رأساً على عقب وجعلتها تغير أماكنها وعملت على خنقها بوحشية، لم تستطع مواصلة وجودها إلا عن طريق أسلوب الحياة الجماعية على شكل طرق صوفية، ناهيك عن أن أنظمة الكهنة في مصر وسومر تشكل أولى الأمثلة المقدسة لاشتراكية الدولة، وقد فتح الطريق الحضاري أمام اقتصاد الدولة بما يشبه النظام السوفيتي، لقد تشكل سابقاً في المجتمع النيوليثي نظام مجتمع مشاعي "كومونة" حول نظام الأب والأم، وعاش هذا النظام الاجتماعي الذي يمكن أن نسميه بالاشتراكية البدائية دون أن يعرف الدولة آلاف السنين، حيث أمنت الإنسانية خميرتها الأساسية من ذلك النظام وبقيت تذكره بمصطلح الجنة الذي يقوم بتغذية أحلام المساواة والحرية باستمرار.
يقدم النبي عيسى والسنين الثلاثمائة الأولى من الحركة المسيحية مثالاً ساطعاً على الاشتراكية الدينية من حيث الفترة والشمولية، فقد استطاع أساتذة تلك الفترة تمثيل الإيديولوجية والتطبيق في شخصياتهم، حيث يندر وجود مثل لها في التاريخ.
تعد الانطلاقة الإسلامية مثالاً مختاراً آخر على النمط المشاعي، فلقد كانت قيم المساواة والاحترام المتبادل موجودة بين الأعضاء بما يشبه نمط العائلة المقدسة، إن حالة الأمة النقية عبارة عن اشتراكية المرحلة الإقطاعية، ولقد ابتعدت كل من المسيحية والإسلام عن اشتراكية الأمة بعد أن شكلتا دولاً وبعد ازدياد الدور الذي لعبته السلالات، وقد عملت الملكية الخاصة المتطورة على تدني الطابع الاشتراكي الذي كان سائداً في البدايات، وأصبح النظام غلافاً إيديولوجياً بسيطاً واجوفاً، وظهرت العديد من المذاهب والطرائق التي واصلت نظام حياتها الجماعي وصفائها الإيديولوجي، والأسلوب الذي تتبعه الكثير من الحركات ذات المظهر الديني في الشرق الأوسط يمثل أسلوب المسحوقين الجماعي ضد نظام الهيمنة والاستغلال، ونظراً لضعف الأساس التقني لم تستطع هذه الحركات أن تتحول إلى نظام حرية ومساواة بديل، وعدم وصول هذه الحركات إلى نموذج حضاري بديل على الرغم من استمرار بعضها لمئات السنين، بل وعلى الرغم من وصولها إلى سلطة سياسية على مستوى دولة، مرتبط اشد الارتباط بضعف الأساس العلمي والتقني، بالإضافة إلى أن جوهر هوياتها الإيديولوجية كان يستند إلى نظام المجتمع الطبقي، لذا لم يتمكنوا من إحياء مطالبهم بالحرية والمساواة إلا في خيالاتهم، وعلى هذا الأساس اتجهوا نحو العشق الإلهي والبشري، وغذوا أحلامهم بالجنة وحافظوا على حيوية شوقهم للأخوة، وتحولوا إلى تقاليد أدبية وأخلاقية قوية.
يجب إضافة المدارس الفلسفية إلى هذه النزعات، حيث لم تتأخر المدارس ذات الأسس الفلسفية في تمثيل الأفكار الاشتراكية القوية، فأسسوا أحزابا فلسفيةً استمرت مئات السنين وقاموا بالعديد من الهجمات العنيفة بكل بطولة وشجاعة، وظهرت حركات اجتماعية تنادي بالحرية والمساواة، ويجب علينا أن لا ننسى هذه الحروب التي تم خوضها لأجل حماية العقيدة والوعي في التاريخ.
لقد تم إحياء حلم اشتراكية مثالية من خلال "اليوتوبيا" و"مدينة الشمس" مع ولادة الرأسمالية، وناضل الكثير من البشر والتجمعات ببطولة وشجاعة ضد الدوغمائيات الدينية، وذلك في سبيل أحلام الحرية التي أنجبت الرأسمالية، فعندما كانوا يناضلون لم يشكوا ولو للحظة واحدة في أنهم يعملون من أجل المساواة والحرية والأخوة وليس من أجل خدمة الرغبات الفردية، فحتى الثورة الفرنسية جعلت "المساواة والحرية والأخوة" شعاراً لها.
ولم تتردد مؤسسات الاشتراكية العلمية كارل ماركس وفريدرك أنجلس في الإعلان عن أنهما بنيا هويتهما الإيديولوجية اعتماداً على الفلسفة الألمانية والاشتراكية الفرنسية وحركة الطبقة العاملة الإنكليزية، ويبين هذا الشرح المختصر أن الطبقة العاملة والشعوب المسحوقة قد ناضلت دائماً منذ المشاعة البدائية للعصر النيوليثي وحتى مرحلة الاشتراكية العلمية، وذاقت أقسى أنواع العذاب وقاومت بكل بطولة وشجاعة في سبيل نظام حياة مشاعية، يعتمد على الأخوة بإيديولوجية تتضمن المساواة والحرية، فإذا لم يستطيعوا تأسيس الأنظمة التي استحقوها فإن السبب يكمن في قلة الإيمان ووهن النضال، بل السبب هو أنهم لم يمتلكوا الشروط التقنية التي تحقق أهدافهم المقدسة آنذاك وهذا ما نسميه بالتأخر التقني الذي حكم عليها بالبقاء في حضارة مجتمع طبقي.
تعد حركة الطبقة العاملة التي تتخذ من "البيان الشيوعي" مرشداً لها آخر حركة لأجل الحرية والمساواة في هذه السلسلة التاريخية، ولقد أدرك كتّاب البيان الشيوعي الطابع الخيالي للحركات التي سبقتهم ، ولهذا حرصوا على أن يكونوا علميين، ولكن هذه العلمية كانت محدودة آنذاك، وكانوا يعيشون في مرحلة نضج النظام الرأسمالي، حيث كان هذا النظام يعيش أول أزماته، بينما ثقته بنفسه لا حدود لها، وكان يعتقد أن التاريخ بدأ به وسيستمر حتى النهاية، وبالرغم من تضمنها الأسلوب العلمي فان الاشتراكية كانت في بدايات تكوينها ولم تنضج بعد، وكانت حركة الطبقة العاملة تعيش مرحلة الطفولة على الرغم من ذلك، ولا يصدر صوت عن حركات التحرر ضد الاستعمار ولم يتردد مؤسسا الاشتراكية اعتباراً من منتصف القرن التاسع عشر عن الإعلان وبكل جرأة عن مواقفهم الطبقية في الإيديولوجية والعملية من خلال الأممية الأولى والثانية، ومواقفهم العلمية هي من أكثر الجوانب التي تستحق الاحترام مع بحثهم عن حقوق العمال في كافة الشروط ودفاعهم عنها، وذلك هو الجانب النبوي في عملهم، وفي مراحل كهذه لا يتم التساؤل حول ما إذا كانت الاستراتيجية مناسبة أم لا، فعندما وقف عيسى ضد نظام روما الرهيب وهو لا يملك سلاحاً سوى الإيمان بربه، لم يكن في وضع يسمح له بالتفكير الاستراتيجي والتكتيكي، ومع ذلك لم يتردد ولو لحظة في إلقاء خطوة لأجل البشرية، والبدء بمرحلة حرية لا نهائية في أقوى لحظة تاريخية، وخطوة كهذه تستحق صفة القدسية، وبهذا المعنى يكتسب مؤسسو الاشتراكية الأبطال وحركات القواعد الاجتماعية الأولى صفة القدسية أيضاً، فالنجاحات السياسية والخسائر المؤلمة تأتى في المرتبة الثانية بعد جوهر العمل الذي تحقق.

إن فشل كومونة باريس أو انهيار الأممية الثانية لم تمنعا الاشتراكية العلمية من الوصول إلى هدفها، حيث تصل مع المرحلة اللينينية إلى قوة سياسية عظمى وتمتلك قدرة دولة، وبالتعريف القديم يتم الإعلان عن انضمام ثلث العالم من البروليتاريا والشعوب المسحوقة إلى عصر الحضارة الاشتراكية، تجري منافسة ناجحة مع النظام الرأسمالي على كافة الأصعدة وفعلاً ولأول مرة في التاريخ يتم تأسيس جمهوريات الحرية والمساواة للمسحوقين، ولكن قبل أن تكمل عمرها المائة وقبل أن ينتهي القرن العشرين تنحل هذه الجمهوريات وتفقد أهميتها التاريخية ويعلن العلماء البرجوازيون بهدف الدعاية عن هذه المرحلة بإفلاس الاشتراكية، وتجري محاكمات للماركسيين على عدة أشكال باعتبارهم خونة، ويقيّم المؤمنون بالاشتراكية هذا الأمر بأنه سقوط الأحلام المقدسة، وأما بالنسبة لذوي الأعصاب الباردة والذين يعملون على وضع مواقف علمية، فقد وجدوا أنه لا يمكن الوصول بسهولة إلى الحلول عبر الحديث عن سقوط الأحلام الكبيرة أو عن طريق المحاكمات الذاتية وتوجيه الاتهام بالخيانة، فالأمر الذي حدث لم يكن يليق بجوهره وبالحلم المطلوب تحقيقه، ولم ينفذ المبادئ بشكل صحيح، فالطريق الذي يسلكه العلم واضح دائماً ويتم الانطلاق منه نحو النجاح، فبدلاً من الفرح أو الحزن حيال ما حدث يجب إجراء محاكمة عقلية بمعرفة مكان وجود الحقيقة كما هي.
لم تخضع التجربة السوفيتية لتحليلات عميقة، والأهم من ذلك أن نتائج الانحلال نفسها لم تتضح حتى الآن، ومازالت كثير من النقاط غير واضحة وكأنها تنتظر مرحلة جديدة، وبالرغم من كل هذا تستوضح الفلسفة والممارسة اللتين كانتا سبباً للفشل، فعندما ننظر بدقة إلى الظواهر التي نواجهها نرى بروز محاكمة جديدة أمامنا ونتساءل: ما الذي تم تطبيقه..؟، هل اشتراكية أم قومية، حرية أم استبداد، مساواة أم رأسمالية دولة. بالتأكيد هذه الأسئلة لا تهدف إلى تقزيم أو التقليل من الأهمية التاريخية للنضال الذي قام به ملايين العمال والكثير من الأبطال الذين حملوا في قلوبهم وعقولهم إيمان ووعي الاشتراكية العلمية بكل قدسية، ولا يمكن أن نقول أن هذا النضال لم يحقق أية فائدة بل على العكس من ذلك، إذ أن التحليل الصحيح لهذه الممارسة هو الطريق السليم للدفاع عن القيم، فعندما نضعه في الغربال العلمي ستظهر أهميته الكبرى، ويعتقد بأنه دون إتمام هذه المهمة بنجاح لا يمكن تحقيق مسيرات ناجحة للوصول إلى أهداف الحرية والمساواة المقدسة.
لقد شهد التاريخ الكثير من التجارب التي أسفرت عن نتائج مخالفة للأهداف التي تم النضال من أجل تحقيقها بسبب المغالطات والأخطاء الخطيرة، ولكن ما دامت البشرية مستمرة في وجودها فإنها ستعرف كيف تحقق التعبير العلمي الأقرب من الصواب لمثل الحرية والمساواة العظيمة، وستسير بخطوات واثقة على الطريق الصحيح الممهد أمامها، وستحقق النجاحات المطلوبة على هذا الصعيد.



#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من دولة الرهبان السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثال ...
- من دولة الرهبان السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثال ...
- من دولة الرهبان السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثال ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...


المزيد.....




- الأردن يحذر من تراجع الدعم الدولي للاجئين السوريين على أراضي ...
- إعدام مُعلمة وابنها الطبيب.. تفاصيل حكاية كتبت برصاص إسرائيل ...
- الأونروا: ما الذي سيتغير بعد تقرير الأمم المتحدة؟
- اعتقال نائب وزير الدفاع الروسي بشبهة -رشوة-
- قناة -12-: الجنائية ما كانت لتصدر أوامر اعتقال ضد مسؤولين إس ...
- الأمم المتحدة تطالب بتحقيق دولي في المقابر الجماعية بمستشفيا ...
- مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان: أعداد الشهداء بين الأبرياء ...
- لازاريني: 160 من مقار الأونروا في غزة دمرت بشكل كامل
- السفارة الروسية لدى واشنطن: تقرير واشنطن حول حقوق الإنسان مح ...
- غرق وفقدان العشرات من المهاجرين قبالة سواحل تونس وجيبوتي


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث حضارة عصر الراسمالية د - الازمة العامة للحضارة وعصر الحضارة الديمقراطية