أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد فرحات - قطار الهلباوي، وموعد مع السقوط! -3-















المزيد.....

قطار الهلباوي، وموعد مع السقوط! -3-


محمد فرحات

الحوار المتمدن-العدد: 6560 - 2020 / 5 / 10 - 00:18
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


هل هي الصدفة حقا، أم ترى أن لا صدفة
على الحقيقة، فيلجأ العقل للقول بها في حال انعدمت أنساق الأحداث من مقدمات وما يتلوها من نتائج، هل قامت الحرب العالمية الأولى لمجرد مصادفة اغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناند مع زوجته بيد طالب صربي، أم لأن سراييفو مشتعلة بدعاوى القومية السلافية المناهضة للقومية الجرمانية، ثم لدعم القيصرية الروسية لتلك الدعاوى ضد الأطماع الجرمانية التوسعية، ثم لصراع دببة الرأسمالية العالمية على المستعمرات، ولحل أزمات الركود الاقتصادي.

فكان الظاهر صدفة، ولكن وراء الصدفة الكثير والكثير من الأسباب المخفاة والمعلنة، وكما كانت الصدفة هناك في سراييفو، كانت الصدفة أيضا هنا في محطة قطارات طنطا، يتأخر القطار، ويقرر الهلباوي عدم الانتظار، صدفة أيضا، ولكنها أيضا حيلة عقلية، فتصرف الهلباوي لم يكن نابعا إلا من خلفية نفسية وفكرية ثم قائمة أولويات، كان البند الأول فيها تحقيق المصلحة والمنفعة الشخصية وفقط، وعليه فتستوي لديه المتناقضات كلها، طالما تواجدت المصلحة، فدافع الهلباوي في تصديه للدفاع عن الفلاحين في البداية، كان لكونه شيخا للمحامين فيتحتم عليه الظهور على ساحة الأحداث في قضية ملتهبة كتلك، الظهور وفقط، والظهور سيحدث سواء دافع عن الفلاحين، أو كان مدعيا عموميا لصالح الإنجليز، أم تراه الاحتراف وفقط والنظر في الأوراق وفقط، وعلام نستبق الأحداث؟

ينظر الهلباوي لوكيله ويأمره بحجز تذكرة إياب للقاهرة، يردد الهلباوي لنفسه "فلنرسل أحد المحامين العاملين في مكتبي وهم بالعشرات، وحضور تحقيق لا يتطلب حضوري شخصيا، ما زالت التحقيقات قائمة، والذهاب للبتانون أمر شاق و عسر. "

ما أن يستقر الهلباوي بمكتبه في القاهرة، إلا ويطلب الدخول عليه كبير ياوران مصطفى فهمي باشا، يطلب من الهلباوي مقابلته بمقر رئاسة الوزراء، يصارحه الباشا برغبة الإنجليز في أن يتولى الهلباوي دور المدعي العمومي ضد فلاحي دنشواي، ومقر المحكمة سيكون في مدينة شبين الكوم ليس في قرية البتانون بطرقها الترابية ومواصلاتها السيئة والشحيحة، وبحسبة موازين القوى والمصلحة، مع الاعتبار أن دولة الباشا رئيس الوزراء قد اختاره هو ولم يختر صهره سعد زغلول، كان فيه الكثير من المغازلة لغروره، وكيده لغريمه اللدود.

وهو قد عاهد نفسه من زمن على عدم الانحياز للجماهير بعواطفها الفوارة، والتي دائما تنتهي إلى العدم، فليقف حيث الكفة الراجحة حيث مزيد من الشهرة والسطوة ومنصب وزير حقانية أو رئيس وزراء ليس ببعيد فالإنجليز لن ينسوا من وقف بجانبهم، والجماهير ستنسى إن عاجلا أو آجلا، فقط بعض الشعارات والحيل، يوافق الهلباوي بل ويخفض أتعابه من خمسمائة إلى ثلاثمائة جنيه .

شكلت محكمة مخصوصة بموجب مرسوم صادر1895 يقضي بتشكيل مجالس عسكرية استثنائية لمحاكمة من يعتدي على جيش الإنجليز، ويحتم المرسوم على البوليس حين تقديم المتهمين إلى القضاء أن يختار محاميا لاثبات التهمة أي "مدعيا عموميا" .

يترافع الهلباوي، ولأول مرة يطالب محامي الظروف المخففة بتطبيق أقصى عقوبة ممكنة، يدعي الفلاحون أن الإنجليز جاءوا ليصيدوا الحمام الذي يعد ملكية خاصة لهم، وأشعلوا النار في جرن القمح ليضيع مجهود زراعته، ثم قتلوا " أم محمد" .

فضربوهم بالشوم ليفر الكابتن بول، فيصاب بضربة شمس، يموت على إثرها، بعد محاولات من الفلاحين أنفسهم لإسعافه وتقديم الماء له حين احتضاره، فأين الجريمة؟ (تزعم بعض الروايات أن الكابتن أخذ يعدو ثمان كيلو مترات في أجواء شديدة الحرارة، حتى سقط الكابتن صريعا بقرية "سرسنا" المجاورة ل"دنشواي"! ).

يترافع الهلباوي، ليصف الفلاحين بالعصابة الهمجية، ويطالب المحكمة بأن تحكم "بأشد عقوبة ليس فقط لمصلحة الروح التي ذهبت وأصابها من الآلام قبل إزهاقها ما أصابها، ولا في مصلحة الضباط الآخرين الذين جرحوا، ولكن في مصلحة الشعب المصري." وطالب القضاة "بأن يرفعوا من قلوبهم كل رحمة، وذلك للظروف السيئة التي وقعت فيها هذه الحادثة."

وأسدى الشكر للاحتلال وما يقدمه لمصر فقد "حرر المصري، فترقى وعرف مبادئ الواجبات الاجتماعية والحقوق المدنية " ثم قنن موقف الضباط الإنجليز، فهم قد"سلكوا مسلكا شرعيا في كل شيء فأخطروا الجهات الإدارية بأنهم ذاهبون للصيد، ودلهم أهالي الناحية أنفسهم على دنشواي، وأخذوا الإذن بالصيد لهم من الأهالي ."

ويصف الميجور كوفين، الضابط الثاني الذي جرح، بأنه "الشهم الذي أقام ثلاثين شهرا، يحارب بشهامة، ويقابل المصاعب فينتصر من واقعة لأخرى من بريتوريا إلى غيرها" وأن هذا البطل قد سلم سلاحه" راضيا بالهزيمة أمام أولئك الفلاحين الهمج الذين لا يعرفون للشهامة معنى، أمام أناس كان يظن أن للشر حدودا تنتهي عندها فخابت آماله كما خابت آمالنا فيهم" فاتهم الفلاحين بأنهم سلبوا ساعة الضابط وأنهم ما اعتدوا عليه إلا بغرض السلب والنهب. "

كان دفاع الهلباوي عن الضباط الإنجليز قائما على أنهم صادقون بالفطرة، أما الأهالي فكاذبون بالفطرة أيضا "فلا غرابة إذا أخذنا بشهادتهم وقد كانت كل كلمة من أقوالهم أمامكم في الجلسة، شاهدة على أنهم نسوا كل شيء إلا العبودية للحقيقة".

ثم استخدم كل مهارته وبلاغته، ليثبت توفر ركن "سبق الإصرار والترصد" معتمدا على واقعة أثبتها أحد الشهود بأن "حسن محفوظ" أحد المتهمين قال للضابط "مش لازم تصطادوا.. وإلا تعرفوا شغلكوا."

"ذلك أن نتيجة تعديهم فسرت معنى كلمة "تعرفوا شغلكم"، وأن خبر وصول الإنجليز كان معروفا للفلاحين وهذا يعني أنهم قد خططوا للترصد بالجنود، وأن التعدي على الضباط لم يكن نتيجة لاستفزاز الموقف، لأن "أم محمد" لم تصب برصاصة طائشة " وإنما أصيبت نتيجة للصراع الذي وقع بين الضباط والفلاحين حول البندقية، فانطلقت الرصاصة وأصابتها، وليس من المعقول أن الضابط سيترك الرجال ويضرب امرأة."

وعن ادعاء الفلاحين ملكيتهم الشخصية للحمام فباطل لكونه يأكل من الأرزاق العامة ولا يقدم له أحد بعينه الطعام، فهو من الأموال المباحة.

وعن حرق جرن القمح فإن الفلاحين هم من أحدثوه عمدا، وألصقوه بالضباط ليبرروا الاعتداء عليهم، ودلل على ذلك بأنه أجرى تجربة بإطلاق النار على الجرن فلم يشتعل "التبن" بفعل رصاصة، وتفسير ذلك أن الفلاحين قد افتعلوا ذلك بأنفسهم لإخفاء دلائل سبق الإصرار، ليختم الهلباوي مرافعته قائلا "نحن أمام محكمة مخصوصة غير مقيدة بالقانون، لأن المشرع لاحظ أنه توجد بعض حوادث استثنائية وأن العقوبة يجب أن تكون على قدر هذه الحوادث وكل الشرائع تثبت أننا محقون في طلبنا، منها القانون الفرنسي، والقانون الإنجليزي، وهذا يقضي بالإعدام دون أن يشترط سبق الإصرار فلكم تطبيقه إذا فرض أن لا إصرار هناك، بل يمكنكم تطبيق قانون أى أمة تجدون فيه مصلحة الأمن العام، والشريعة الإسلامية والقانون الإنجليزي في هذا الموضوع يستويان، ولا يمكن لأحد أن يعترض لأن البلاد إسلامية ."

لم يترك الهلباوي محامي الظروف المخففة ثغرة تنفد منها رقاب المساكين من حبل المشنقة، هل تراه كان يقصد إعدامهم، أم كان يظن أن القضية سياسية في المقام الأول، وستنتهي بحل و انفراجة سياسية ما، أم تراها شهوة الحجاج والبلاغة أنسته أن ملامح أولئك القابعين وراء القضبان فيها الكثير من ملامحه و ملامح أبيه، قد شاهد هذا البؤس يوما بعيدا منحوتا في وجوه إخوانه وأعمامه، قد سمع هذا الأنين يوما ترجعه أمه وأخواته...



#محمد_فرحات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سعد والهلباوي -2-
- رواية أحاديث الجن والسطل إصدار دار ابن رشد ، ومناشدة للجهات ...
- كان لسان الهلباوي؟!-1-
- العود الأبدي بين الفلسفة والرواية
- تماهي يومي مع النشرة
- لعق الخوف
- عاهرتي
- موجز صراع
- اعترافات مرتزق مرح
- تجاعيد 2 ( قصة قصيرة جدا )
- تجاعيد 1
- انفعالية الأصدقاء
- أجازة مرضية لرجل جديد وجيد
- مرثية هذا الشيء اللعين
- الانفعالية : شخصية
- القمار
- تنويعة بوهيمية
- عصر الباكتريا
- وردة الفيولا
- مرثية المريد


المزيد.....




- جملة قالها أبو عبيدة متحدث القسام تشعل تفاعلا والجيش الإسرائ ...
- الإمارات.. صور فضائية من فيضانات دبي وأبوظبي قبل وبعد
- وحدة SLIM القمرية تخرج من وضعية السكون
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /25.04.2024/ ...
- غالانت: إسرائيل تنفذ -عملية هجومية- على جنوب لبنان
- رئيس وزراء إسبانيا يدرس -الاستقالة- بعد التحقيق مع زوجته
- أكسيوس: قطر سلمت تسجيل الأسير غولدبيرغ لواشنطن قبل بثه
- شهيد برصاص الاحتلال في رام الله واقتحامات بنابلس وقلقيلية
- ما هو -الدوكسنغ-؟ وكيف تحمي نفسك من مخاطره؟
- بلومبرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث وجهة النظر الأوكرانية لإنها ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد فرحات - قطار الهلباوي، وموعد مع السقوط! -3-