أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - حديث عن عائشة: بقية الفصل السادس عشر















المزيد.....

حديث عن عائشة: بقية الفصل السادس عشر


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 6527 - 2020 / 4 / 2 - 21:04
المحور: الادب والفن
    


3
قبل عرس ابنة موسي بحوالي ثلاث سنوات، التجأ جلادت بك إلى سورية، هرباً من بطش أتاتورك على أثر فشل ثورة كردية كبيرة. استقر أولاً في قرية على جانب الحدود، تقع في إقليم الجزيرة، ليجد ثمة السلطات الفرنسية قد جمّعت أمثاله من المنفيين وكانوا بغالبيتهم من أسر كبيرة أو آغوات عشائر. تحت ضغط الأتراك، قامت سلطات الانتداب لاحقاً بنقل هذه المجموعة إلى دمشق كي تبقى بعيداً عن الاتصال المباشر مع كردستان الشمالية. تم توزيع أفراد المجموعة على عدة فنادق في مركز المدينة، لحين أن سمع وجهاء الحي الكردي الدمشقي بنبأ تواجدهم بين ظهرانيهم. أحد أولئك الوجهاء، وكان علي زلفو آغا، سرعان ما دعا عدداً من أولئك المنفيين للحلول في داره العامرة، المبنية على نمط العمارة الشامية التقليدية. موسي، وكيل أعمال الآغا، تعرّف هناك على المجموعة وارتبط بصلة خاصة مع بعضهم.
ثلاثة أجيال من البدرخانيين، عقدوا صداقة مع أفراد من آل حج حسين. أولهم كان والد الشاعر، صالح بدرخان، الذي بلغت صلته مع العم أوسمان، زوج السيّدة شملكان الراحل، أنّ هذا أخذ اسمَ ابنه لمولود رزق به. ابنُ الوجيه البدرخانيّ، صالح، صارَ فيما بعد رفيقاً مقرباً لعليكي آغا الصغير حتى فترة انتقال الأول إلى الوطن لخوض الكفاح ضد الأتراك. القدَر، عليه كان في هذا السياق أن يُسجّل سلسلة من المصادفات الغريبة: عليكي آغا الصغير، ما لبثَ بدَوره أن رحل عن الشام متخذاً الطريق إلى موطن الأسلاف كي يستقر ثمة حتى وفاته. جلادت بك، الذي علمنا صلته الوثيقة بموسي، سيقترن فيما بعد بابنة صالح بدرخان؛ روشن خانم. في منزل هذه الأخيرة، تلتقي رابعة في زمنٍ آخر مع امرأة أرملة، هاربة مع ابنها من مدينة بوطان، فتعجب بها ثم تجعل شقيقها حسينو يتقدم للزواج بها وكان بدَوره أرملَ.

***
حًمّى الشام، أصابت رؤوسَ الكثير من الكرد، فتركوا مواطنهم كي يستقروا في مدينة أشبه بالجنّة، وفوق ذلك، ستكون قيامة الله في أرضها وعداً للصالحين؛ كما أكّد لهم رجال الدين. لكن كثيرين لم يفكّروا سوى بالحياة الأولى، وأنها نعيمٌ ورخاء في هذه المدينة. حتى إذا حلوا فيها، أحبطت بقسوة آمال غالبيتهم. أدرك هؤلاء أن من الصعب عليهم الحصول على قطعة أرض، كون الأملاك الزراعية لها أصحابها. علاوة على أن قلة من المهاجرين لهم معرفة بأمور التجارة، وأقل من ذلك مَن يمارسون مهناً. مع ناحية أخرى، لجأ العديد من الكرد إلى دمشق هرباً من حروب حصلت على أرضهم، أو تجنباً من انتقام السلطات بعد فشل ثورةٍ ما. وإذا بهم يجدون دمشق لا تقل فوضى، خصوصاً بسبب تعديات الجند العثماني وأصناف المرتزقة العاملة بخدمة الولاة. هكذا اجتازوا محناً كثيرة، ابتليت بها المدينة: أكثرها شراً، كانت انتفاضة العامّية عام 1830 وما أعقبها من الاحتلال المصريّ. ثم فتنة عام 1860، وللمصادفة أنها اشتعلت أولاً في جبل لبنان على خلفية انتفاضة فلاحين، أسميت " عامّية كسروان ".
الدفعة الجديدة من المهاجرين، وهم لاجئون كما علمنا، عليها كان أن تخرقَ المألوفَ بالنسبة لدافع المجيء إلى الشام. إنهم لم يسعوا إلى خيرات البلد، كذلك لم يهربوا نتيجة امتداد الحرب إلى بلادهم. وإذا كان الأمرُ خشيةً من انتقام الدولة على أثر فشل الثورة الأخيرة ضد الأتراك، فلأنهم شاركوا فيها فعلاً وبعضهم كان على رأس قيادتها. لقد نوهنا في حينه بمسألة توقيت هذه الثورة، وأنا كما لو كانت على موعدٍ مع الثورة السورية الكبرى. كلتاهما أيضاً قادها شيوخ طوائف ورجال دين وزعماء عشائر وضباط سابقون. المفارقة، أن اشتراك كرد الشام النشيط بثورة السوريين، تسبّبَ في تقليص الوعي القوميّ لديهم وبالأخص الجيل الجديد. هذا ما لحظه أبرزُ أولئك المنفيين، جلادت بك، مذ أن حلّ أولاً في إقليم الجزيرة. كونه درسَ في ألمانيا وجابَ دولاً أوروبية أخرى، تهيأ له معرفة طبيعة تفكير الطبقات الحاكمة هناك. هذه المعرفة، أراد أن ينير بها بني قومه في منفاه.
كونه أدرك أيضاً استحالة البدء بعمل عسكريّ جديد ضد الأتراك، انطلاقاً من الأراضي السورية، فضّل جلادت بك الالتفات إلى إحياء الثقافة الكردية وتطويرها، مستغلاً ميل الإدارة المنتدبة لمنح الأقليات أكبر قدر من الحرية كي تضمن ولاءها. وجاهته وثقافته، علاوة على إجادته للغة الفرنسية، ساعدت في تقربه من الإدارة المنتدبة. فلم تمضِ بضعة أعوام على حلوله في العاصمة السورية، إلا وأضحى مديراً لإحدى أهم الشركات الحكومية؛ وهيَ مؤسسة الريجي. نظراً لاحتكاكه برجال الحي الكرديّ، وملاحظته الحالة البائسة للكثير منهم، شجّعهم على توظيف بناتهم ونسائهم في المؤسسة كعاملات ومستخدمات: حليمة، ابنة عمة عيشو، كانت إحدى تلك العاملات واستمرت في الخدمة لوقت إحالتها على المعاش.

4
في أحد الأعداد الأولى من مجلته الأدبية، " هاوار "، الصادرة عام 1932، تكلم جلادت بك عن الحي الكرديّ، المكوّن من أزقةٍ تنحدر مع أخاديد السيل، المتدفقة مياهه من جبل قاسيون لتصب في نهر يزيد؛ أزقة مستقيمة تقريباً، لا يقطع انحدارها باتجاه النهر سوى الجادة الرئيسة، المعروفة باسم عم صلاح الدين؛ أسد الدين شيركوه. لكن الكاتب يُبدي خيبته من الجهل المطبق على الأهالي، وكان يعني بالطبع عدم معرفتهم لغتهم الكردية قراءةً وكتابة. قبل إصداره المجلة بعامين، عكفَ على إعداد أبجدية بديلة عن تلك العربية، متأثراً بخطوة مماثلة قام بها أتاتورك وحققت نجاحاً باهراً.
في مذكراته تحت عنوان، " في سبيل كردستان "، ينوّه قدري جميل باشا باجتماع جرى في أحد البيوت الدمشقية، حضره مع عددٍ من رفاقه اللاجئين فضلاً عن بعض كرد الشام، مسمياً أحدهم؛ وهوَ موسى بك ( موسي نفسه ). الاجتماع، كان قد عقد بطلب من جلادت بك لأجل بحث مسألة تبني الأبجدية اللاتينية للغة الكردية، التي أسهم بها بشكل رئيس. شقيق موسي الأصغر، جمّو، سيظهر اسمه بعد بضعة أعوام مع عنوان سكنه، كأحد المشتركين بمجلة " هاوار "، وكان لما يبلغ بعدُ سنّ العشرين. اللافت في قائمة المشتركين، خلوها تقريباً من اسم أحد أعيان كرد المدينة. في حقيقة الحال، أن الكثير من أولئك الوجهاء ناصبوا صاحبَ المجلة العداء علانية أو خفية: بعضهم نتيجة الوهم، بأنّ " أميراً " مثل جلادت بك، يُمكن أن يسرق منهم مراكزهم الرفيعة. فيما آخرون استمرؤوا الاندماج بالأغلبية العربية السنيّة، فنظروا بريبة وحذر لمحاولة إيقاظ الشعور القومي الكرديّ.

***
في بدء حلول جماعة المنفيين في الحي، وكانوا في ضيافة علي آغا زلفو مثلما علمنا، تم تحذيرهم من مكائد عمر بك شمدين. هذا البك، الذي عمل موسي لديه فترةً كوكيل أعمال، أخذ يتحدث في مجالسه عن أولئك المنفيين بأن غالبيتهم كانوا قطّاع طرق في بلادهم وليسَ لهم من الوجاهة نصيباً. حقده انصب بالدرجة الأولى على جلادت بك، مغتاظاً ولا شك من حمله لقبَ " الأمير ". برغم أن الأخير ترك الحي، ليسكن في الصالحية، فإن ابن شمدين بقيَ يكيد له. مستغلاً علاقته الجيدة بالأوساط الوطنية الدمشقية، المتعززة أثناء الثورة الكبرى، راحَ يشيع بينها مزاعم عمالة جلادت وصحبه للسلطة المنتدبة وأنه يُشجّع الشبابَ الكرديّ على الالتحاق بجيش الشرق، المشكّل من الأقليات المذهبية والأثنية.
ذات يوم، أثارَ موسي مسألة المزاعم تلك مع معلّمه الآغا. كانا في حجرة أعمال هذا الأخير، الكائنة في الدور الأرضيّ من منزله بإزاء الإيوان. رفعَ علي آغا رأسه عن الطاولة، أين وضع السجل الكبير للصادر والوارد، ليعلّق باقتضاب: " لا دخان بدون نار! ". طفقَ وكيلُ الأعمال يحدق بالآغا، كأنه غير مصدق ما سمعه. تحت تأثير تلك النظرة، عاد الأخير ليقول موضحاً: " صديقك الأمير، يدعو المفوضَ الفرنسيّ لرعاية وحضور مباراة بين فريق النادي الكرديّ وفريق آخر من أرمن لبنان. هذا مثال عن أفعاله، التي يقوم بها علانية "
" لكن معظم الوطنيين يشغلون مناصب ووظائف في إدارةٍ، بيد المفوض نفسه؟ "
" نعم، لأنهم أصحاب البلد. أما جلادت بك وجماعته، فإنهم مجرد لاجئين وعليهم احترام مشاعر أهالي البلد، الذي فتحَ لهم صدره وعاملهم كأصحاب مقام رفيع "
" يا آغا، نحن جميعاً أحفاد لاجئين وكذلك أمر الكثير من وجهاء دمشق "
" إذاً، يا بك، عليك الذهاب إلى أولئك الوجهاء كي تخبرهم بهذه الحقيقة! "، رد المعلّمُ بنبرة حاقدة وساخرة في آنٍ معاً. فهمَ موسي، أن الآغا مستاءٌ لكونه سمع أكثر من مرة أحد أولئك المنفيين يدعو وكيل أعماله بلقب " بك ". سارع إلى إيقاف النقاش، مقرراً بينه وبين نفسه أن يترك منذ الغد خدمةَ علي آغا.

***
بعد أيام، عرّجَ موسي على مقهى الكمال، وكان المكان الأثير لصديقه الأمير. كان الوقت مساءً وقد غص المكان بالرجال، والكثير منهم كانوا متقاعدين. على طاولته المألوفة، المطلة على الجادة، جلسَ جلادت بك مع صديقين آخرين، هما قدري جان وممدوح سليم. كان يلوح مندمجاً مع إحدى أغاني أم كلثوم، عازفاً عن المشاركة في حديث جليسَيْه. بقيَ كذلك لحين انتهاء الوصلة الغنائية، وما لبثَ أن انتبه لعلامات معينة على سحنة القادم الجديد.
" خير، ما بك يا موسي؟ "، سأله باهتمام وهوَ يتمعن فيه بعينيه القاتمتين والمفعمتين بالعمق. رسمَ المخاطَبُ ابتسامة متكلفة، ثم أجاب: " خبرٌ سيء؛ لقد أصبحتُ عاطلاً! ". بعدئذٍ سردَ ملخصاً للمحادثة تلك مع معلّمه السابق، مختتماً بالقول: " علي آغا لا يتكلم عن قناعة، وإنما عن تقيّة. إنه لا يبتغي استمرارَ علاقةٍ، يمكن أن تتسبب في إحراجه أمام بعض الأعيان الدمشقيين ممن يسمون أنفسهم بالوطنيين ". تبريره موقفَ الآغا، جعل الأمير يقدّره أكثر. فما لبث هذا أن نظرَ في ساعته، قائلاً لموسي مع ابتسامة مشرقة: " حسين بك الإيبش، صديقنا، كان من المفترض أن يكون بيننا هنا. لكنني أعتقد أنه لن يتأخر، وسرعان ما سيسد جرمه الهائل مدخلَ المقهى! ".
أدرك موسي أنّ جلادت بك سيكلم ذلك الرجل بشأنه، مع علمه بأن لديه وكيل أعمال عجوز خدمه عُمراً. ما أن دارت الفكرة في رأسه، إلا وحسين بك يخيّم على الجلسة ـ كما مارد الحكايات الخرافية، المروية من لدُن حكواتية المقاهي.

5
لم تكن حربُ القرم قد انتهت بعدُ، عندما قرر جد حسين بك إيبش الرحيل عن بلدته، الكائنة في ولاية ديار بكر. في طريقه إلى الشام مع أسرته، كان بمعيته ابنُ عمه، زلفو آغا، وكان هذا يصطحبُ أيضاً أولاده وبعضهم مع عائلاته. مثلما سَلَفَ وذكرنا في مكان آخر، أنهم أولاد كلا القريبين مَن تشاحنا في قضية تجارية، ما أدى لجريان الدم بينهم. على الأثر، نأى والد حسين بك بنفسه عن الحي الكرديّ، بينما عدد من أشقائه اختار الهجرة إلى أمريكا. قرية البيطارية، أين دار آل إيبش، كانت مركز إقطاعيتهم الكبيرة، التي قضمت أراضٍ واسعة من قرى أخرى في الغوطة. ورث حسين بك مركز أبيه، كملّاك كبير، فاستطاع في فترة قصيرة أن يعد من ألمع الوجهاء الريفيين في بر الشام. فضلاً عن ثروته ومركزه، كان الرجلُ مثقفاً يُطالع في نهم بعدة لغات، كذلك اشتهر بكونه من الصيادين الدوليين، الموغلين كل فترة في أدغال أفريقيا، والعائدين مع أحمال من جلود الفهود وأنياب الفيلة وحيوانات أخرى محنطة. في الأثناء كان شقيقه، نوري بك، يتقدم في مسيرته السياسية ولن يتأخر في جني ثمارها ـ كعضو برلمان تارةً، وعضو في وزارة تارةً أخرى.
كذلك كان الحال، لما تعيّن موسي وكيلاً لأعمال حسين بك إيبش. ثم ما لبثَ، بناء على نصيحة معلّمه، أن نقل بيته إلى البيطارية. أفرِدَ لهم مسكنٌ مناسب، يقع بالقرب من دار البك، الشبيهة بقصر منيف. اصطحب موسي سلطانة وولديهما، فيما الأبناء من المرأة الأولى بقوا في منزل الزقاق. هذا كان من حُسن حظ الأخيرين، الذين عانوا ما عانوه تحت سلطة امرأة الأب، الظالمة واللئيمة. شقيقتهم أمّو، كانت متزوجة وتخوض صراعاً يومياً مع بنات حميها. لذلك أوكل موسي إلى والدته الاهتمام بالابنين، الأصغر سنّاً: فوزو، وكانت قد أضحت هيَ أيضاً في سن الزواج بحَسَب عقلية زمنها. أما فيّو، فقد بلغ العاشرة من عُمره. أكبر الأبناء، ديبو، أصبح في سنّ أهلته للتقدم بطلب الانضمام إلى سلك الدرك. مع أنه أعزب ويعيش في منزل أبيه، لم يكن في الوسع الاعتماد عليه في كفالة الأخوين: عدا عن استهتاره وقسوته وأنانيته، بيّن مسلكه عن نوع من الجنون، المستمد ولا ريب عن أمه الراحلة.

***
برغم حالة الأم الراحلة، العقلية، كانت على الأقل تحدب على أولادها، لدرجة اتهامها للزوج ببعثرة المال بدلاً عن إنفاقه على الأسرة. كانت تعني بالخصوص استقبال موسي الدائم للضيوف، بحُكم وظيفته والتي جعلته على صلة بكثير من الناس في داخل الحارة وخارجها. مما يُذكر عن حرصها ذاك، أنها اعترضت مرةً رجلها وكان خارجاً من المطبخ وبيده حلّة كبيرة، يعلوها تل فضيّ من الرز، المتناثرة على أطرافه قطع اللحم الضأن. قالت له محتدة وقد برقت عيناها بلمعان الجنون: " هذا طعام الأولاد، فعُد به إلى مكانه ". أراد أن ينحيها جانباً، لكنها قبضت على الحلّة بإصرار: " أقسمتُ بالله أن ضيوفك لن يأكلوا زادَ أولادي! "، راحت تصرخُ. إنهما يتجاذبان ويتجادلان، إذا بأحدهما يُفلت يديه، لتهوي الحلّة إلى الأرض بما فيها.
الابنُ البكر، ديبو، ورثَ أيضاً شحَّ والدته إنما دونَ حرصها على العائلة. أنانيته وأثرته، ستجعلان مستقبلاً أولادَهُ كالغرباء في منزلهم، ولولا عطف جدتهم لأمهم كانوا هلكوا جوعاً أو تشردوا في الشارع. مع ذلك، أخذ ديبو عن أبيه بعضَ الخصال أيضاً؛ بالأخص الميل إلى المعاشرة والقدرة على اكتساب القلوب. على العموم كان مزاجه دموياً، شغوفاً بالقصف والمجون والطرب. بيد أن معاقرته الخمر، حدّ الإدمان، ستؤثر لاحقاً على خدمته في سلك الدرك وتجعله معرضاً لتأنيب رؤسائه وتأخير رتبته. طرافة طبعه، عليها كان أن تنقذه في كثير من تلك المواقف، علاوة على استفادته من النظرة العامة حول شخصه؛ بوصفه قليل العقل.
وإذاً، كان على سارة مهمة صعبة بوجود حفيدٍ على شاكلة ديبو في منزلٍ خلا من سلطة الأب. رأت أن من الخطر بقاء شقيقيه الصغيرين معه حينَ يؤوب من الخدمة، وراحت تستبقيهما لديها في دارها حتى حلول الليل. مع مرور الأيام، رأت أن وساوسها مبالغٌ فيها؛ كون ديبو من الانشغال بنفسه، أنه لا يشعر بمن حوله ولا يتدخل في حياتهم وشؤونهم. لكنها لم تكن بهذا الاطمئنان، لما نم لعلمها توثق صداقته مع ابنها مستو. في حقيقة الحال، أن صداقتهما نمت على أثر موقفٍ جرى في مشغل النول: سلو، أغلظ ذات مرة الكلام لشقيقه الصغير، العامل عنده، ما جعل هذا الأخير يهرع لمغادرة المشغل دامع العينين. كان ديبو هناك، وقد لحق بعمه المهان إلى الزقاق.
" لن أعود للعمل لديه، وسأرافق أخي حسينو في مناوبات الليل بالبستان "، قال مستو لابن أخيه الذي يكبره بحَوْلٍ على الأقل. شجعه ديبو على ذلك، وما عتمَ أن رافقه في ذات الليلة إلى مزرعة آل شمدين؛ أينَ يخدم العم حسينو كناطور.
مستو، كان مختلفاً تماماً عن صديقه وقريبه، إن كان لجهة الطبع أو المسلك. بيد أن الأضداد تتوافق في الحياة، مثلما يُقال في مثالٍ معروف عن رغبة الأشخاص من ذوي القامة القصيرة في صُحبة مَن هم أطول. هكذا كانت صداقة ديبو، وقد ظل وفياً لها ـ كما سيثبته حينَ لقيَ العمُ الصغير مصرعه في نفس ذلك العام، الذي شهدَ انتقال موسي بأسرته إلى قرية البيطارية.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حديث عن عائشة: الفصل السادس عشر/ 2
- حديث عن عائشة: الفصل السادس عشر/ 1
- حديث عن عائشة: الفصل الخامس عشر/ 5
- حديث عن عائشة: الفصل الخامس عشر/ 4
- حديث عن عائشة: الفصل الخامس عشر/ 3
- حديث عن عائشة: الفصل الخامس عشر/ 2
- حديث عن عائشة: الفصل الخامس عشر/ 1
- حديث عن عائشة: بقية الفصل الرابع عشر
- حديث عن عائشة: الفصل الرابع عشر/ 3
- حديث عن عائشة: الفصل الرابع عشر/ 2
- حديث عن عائشة: الفصل الرابع عشر/ 1
- حديث عن عائشة: بقية الفصل الثالث عشر
- حديث عن عائشة: الفصل الثالث عشر/ 2
- حديث عن عائشة: الفصل الثالث عشر/ 1
- مدام بوفاري، في فيلم لكمال الشيخ
- حديث عن عائشة: بقية الفصل الثاني عشر
- حديث عن عائشة: الفصل الثاني عشر/ 2
- حديث عن عائشة: مستهل الفصل الثاني عشر
- جريمة كاملة
- حديث عن عائشة: بقية الفصل الحادي عشر


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - حديث عن عائشة: بقية الفصل السادس عشر