أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - ليلى والذئاب: مستهل الفصل العاشر















المزيد.....

ليلى والذئاب: مستهل الفصل العاشر


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 6402 - 2019 / 11 / 7 - 19:40
المحور: الادب والفن
    


1
أعوامٌ ثلاثة، كانت قد مضت على رحيل العم أوسمان، حينَ اعتلت ليلو السطحَ كي تحظى بمشاهدة الألعاب النارية بمناسبة حلول القرن العشرين الميلاديّ. كان أطفال المنزل يهزجون ويصرخون مع كل فرقعة لتلك الأسهم النارية، المضيئة سماء المدينة القديمة من جهة حي النصارى. إنها المرة الأولى، يرى فيها الأهالي هذه المفرقعات حدّ أنهم اعتقدوا لأول وهلة أنها حمم قنابل المدفعية. ستعلم من رجلها في وقتٍ لاحق، أنّ وكلاء القناصل الأوروبيين، المنتمي أغلبهم لذلك الحي، هم من جلبوا هذه الألعاب النارية من بيروت وذلك بهدف الاحتفال بالمناسبة.
أربعة عقود، مرت على " طوشة الشام "ـ بحَسَب تسمية الخلق لفتنة عام 1860. بدا أن ذكرياتها الدامية، المقيتة، قد طويت تماماً، لما تجددت هذه المرة بعنف أكبر في قلب الأناضول. جرى ذلك قبل نحو خمسة أعوام، حيث تدفقت على الشام قافلة من العائلات الأرمنية، التي تركت بيوتها تلتهمها النيران، هاربةً من الإبادة على يد المسلمين الأتراك. وفق ما سمعه عليكي آغا الصغير آنئذٍ من عملائه التجاريين في المدينة القديمة، أنّ النازحين تكلموا أيضاً عن اشتراك الفرسان الحميدية، الكردية، في تلك المذبحة وبالأخص في مدينتيّ أضنة ومرسين.
وكان قد نقل ما سمعه إلى صديقه حمّوكي، غمزاً من رغبته القديمة في التطوّع بكتائب الحميدية. فعلّق هذا الأخير، عابساً: " أنا أدرى منك بعقلية أولئك النصارى، الذين بمجرد زرعهم لمعبدٍ في أرض ما، فإنها تصبح جزءاً من أرمنستان! "
" وماذا تقول عن الأتراك، وهم في ذيل قائمة الأمم المستوطنة الأناضول؟ "
" أقول أنهم مسلمون مثلنا، عليهم حق الدفاع عن الخلافة مثلما أن علينا واجب مساندتهم "
" بل إننا والأرمنُ أخوة، يصيبنا ما يصيبهم. لقد عشنا سوية مئات وربما آلاف الأعوام، وكانت بلادنا فيما سبق مزدهرة وآمنة لحين قدوم أولئك الترك من أقاليم التتار في آسيا. أخيراً، كشفوا عن نواياهم الخبيثة تجاهنا، بتقويضهم لآخر الإمارات الكردية في بوطان وبابان "، استرسل عليكي آغا الصغير في الكلام وكان جلّه قد حفظه غيباً نقلاً عن لسان الأمير.

***
سطح المطبخ القديم، أين وقفت امرأة عليكو الصغير مع بقية أهل الدار في تلك الليلة الحافلة، كان لا يعلو عن أرض الديار سوى بمتر واحد تقريباً. ويمكن الوصول للمطبخ، الكائن في القسم السفليّ من المنزل، وذلك عن طريق السلم ذي الدرجات الحجرية السبع. هناك في المطبخ، سبقَ لليلو أن تعلمت على يد امرأة العم الراحل فنونَ الطبخ وأشغالَ الجلي وتحضيرَ الحمّام. شملكان، كونها من مدينة ماردين المعروفة بمطبخها الراقي، كانت على مر الأيام تُبهر من حولها بأكلاتها الشهية، المتبلة بمختلف أنواع الأعشاب المُطيّبة ـ كما حقّ لهم أن ينبهروا يومئذٍ بمرأى الألعاب النارية، لدرجة أن يظنوها من أفاعيل الجان بعدما علموا أنها ليست طلقات مدفعية الأنس.
المرحوم أوسمان، وكان عُمْرُهُ ضعفَ عمر امرأته حينَ تزوجا، أُحيل طبعه الرائق إلى وصفات مطبخ ماردين. مع تقدّمه في السنّ، صار يجد على السفرة جوارش العنبر والمسك ومربى السفرجل ولبن البقر فضلاً عن العسل الحر. قبلاً، في حالة وصوله للثمالة، كان يتباهى أمام الأصدقاء بالحديث عن قدرة احليله غير العادية، وأنه ما يفتأ على نفس الدرجة من الانتصاب منذ أيام شبابه. كان يرفض إفشاء سر وصفات الباه، قائلاً لهم بنبرة ساخرة: " لو أردتم مراجعة العطارين في سوق البزورية، ستحملكم عربتي مجاناً! ". إبان مرضه، سأل أوسمان صديقَهُ الطبيبَ الشركسيّ عن وصفةٍ حصل عليها تخصّ علّة تشمّع الكبد؛ وكانت خليطاً من دهون الشب والبان والناردين. أجابه عندئذٍ الدكتور إسحاق بوضوح، " عليك يا صاحبي مراجعة المستشفى الطلياني، لأن لديهم أمهر الأطباء وأنجع الأدوية ".
سيرحل السيّد أوسمان، حاملاً معه إلى القبر سرّ تلك الوصفات المقوية للباه. كذلك لحقه صديقُهُ، الطبيبُ، تاركاً امرأته الأرملة، التي كانت، كما قيل، من أجمل نساء عصرها. الأرملة، مثلنا سلفَ ونوهنا في مكان آخر من السيرة، ستجمعها علاقةٌ سرية بالابن الثاني للمرحوم أوسمان. صالح هذا، كان يُفرط في الجماع بتأثير نفس الوصفات، العائدة لأبيه. لقد حصل عليها من الحاج حسن، زعيم الحي، وكانت مسجّلة بخطّه العربيّ الجميل في دفتر خاص: الحاج، وكان يصغر أوسمان بعقد من الأعوام على الأقل، يلوحُ أنه احتفظ بالوصفات احتياطاً ولحين بلوغه سنّ التقاعد!

2
على صياح الديك، استفاقَ عليكي آغا الكبير. حينَ تذكّر أنه يوم الجمعة، عادَ وألقى اللحاف على رأسه. ولكنه بعد دقائق، أدرك استحالة عودة الوسن لعينيه. فطن إلى فراغ فراشه من جسد امرأته، وكان قد أدفأه ـ على حدّ تعبير الراحل أوسمان ـ في خلال ليلة الخميس الفائتة! ستمر سنوات على رحيل الرجل عن الدنيا، فكّرَ صديقه، ولا بد أن أقواله الطريفة ما تنفكّ متداولة بين معارفه. من بعيد، يبدو لنا الشخص الراحل أكثر قرباً مما لو كان حياً يرزق. ما يؤكد أن الإنسان لا يذهب تماماً إلى العدم، بل يبقى في الحياة الدنيا بأقواله وأفعاله. ولكن، ماذا عن الحياة الآخرة؟
كان لأوسمان فلسفته الخاصة، تذكّرَ صديقه، أو ربما هيَ مستمدة من شخصٍ على جانب وافرٍ من المعرفة مثل حال ذلك الأمير البدرخانيّ. الخوف من الموت، الذي تطبّعت به شخصية أوسمان قبل علمه بمرضه العضال، كان دافعه للتمتع بملذات الدنيا ما أمكنه إلى ذلك سبيلاً. هذا الخوف، جعله بعدما علم بمرضه يدخل في مرحلة من الهذيان وتشتت الفكر. إذ وصل به الحال حدّ أنه، هوَ الحاج المقترب حثيثاً من القبر، كان يردد أقوال الماديين عن فناء الروح مع الجسد، " لو أننا قبلنا بأنّ كائناً مجهولاً، يُنسب إليه خلق الكون، لكان السؤال الجوهريّ: كيف خلق ذلك الكائن نفسه بنفسه؟ ". كان ينتبه أحياناً إلى مدى توغله في التجديف، فيبادر بالاستدراك قائلاً، " بالطبع، هذا ما يزعمه الماسونيون! ".

***
" ما هيَ هذه الأشغال، التي تجعل امرأة لديها أسرة من ولد وزوج، تستيقظ قبل الديك؟ "، تساءل عليكي آغا الكبير في شفقة ممزوجة بالتهكّم. مع أنّ جوَ الحجرة باردٌ كفاية، في بداية أربعينية الشتاء هذه، فإنه نهض بنصف جذعه كي يفتح النافذة. كان بمقدوره رؤية الثلج، المجلل جبل قاسيون، بمجرد أن يزيح الستارة. ولكنه فضّل أن يرى المنظر دون عائقٍ زجاجيّ، ليبدو طبيعياً تماماً. أولى الأشعة، كانت قد مسّت باللون الورديّ السحابةَ الرمادية، الحاجبة قرص الشمس. الآن، كان هذا الشعاع مسلطاً بلطف على القماش الأخضر لكرم الصبّار الهائل، المستلقي تحت صخور الجبل في أقرب نقطة من السفح. إلى الأسفل، على ضفتيّ أخدود السيل، كان أبناء الموطن الأول، من آل لحّو، قد حرثوا بعناد التربةَ بغيَة استنبات الحبوب من قمح وخلافه. إلا أن الطبقة الكلسية، المغطية جلّ الصخور، كانت قد أحرقت التربةَ والبذورَ بحمم ذراتها البيضاء عند أول عاصفة ربيعية.
" على حماقتهم، فإنهم يشعرون بالعار لو سمعوا أحداً يناديهم بآل زنكَلي!؛ كذلك كان يردد أوسمان في كل مناسبة يرد فيها ذكرهم "، فكّرَ مُبتسماً. ولكن وجهه سرعان ما تجهم، لما عادت صورة صديقه الراحل لتطل عليه من وراء حجاب الآخرة. قال زافراً همّه القديم، المتجدد: " بلى، يبقى الشخص الراحل بأقواله وأفعاله.. وبذريته أيضاً. وأنتَ، يا عليكي، سينقطع ذكرك دونَ أن يحمل أحدهم اسمك، صبياً كان أو بنتاً ". انقضت عدة أشهر على زواجه بالأرملة، ولم تحبل بعدُ مع أن لديها ولداً من رجلها الراحل. حقاً إنه يعامل " معمو " كما لو أنه ابنه، ولكن هذا يذكّره دوماً بحرمانه من الذرية. مع أنّ السيّدة سارة، امرأة الزعيم، كانت قد طمأنت زوجته بالقول: " من خبرتي كقابلة، أعلم أنكما ستنجبان ولداً. ولو كان ثمة عائقٌ وراثيّ لدى رجلك، لما رزق أخوه بثلاثة أبناء ".
ثم حمل عليكي آغا الكبير نفسه على استعادة حدثٍ، متواشج مع سيرة امرأة الزعيم؛ حدث مُحرج، يحمّر لذكره وجهه في كل مرةٍ. من حُسن الحظ، برغم كل شيء، أنّ سارة كانت كتومة، فلم يعلم بالأمر أحد غيرهما فضلاً عن المعنية به. مع أنّ نظرات امرأة أخيه، ليلو، كانت موحية بوصول الخبر إليها وربما عن طريق شملكان. بلى، إن هذه الأخيرة كانت في رأس عليكي آغا الكبير منذ أن أضحت أرملة. للحق، لم يكن قد فكّر فيها مرةً قط حتى حينَ عُرفَ أن رجلها يسيرُ نحو قبره بخطى حثيثة. إنها جميلة وذكية وطيبة، علاوة على ما اشتهرت به في العائلة كربة بيت ممتازة. بيد أنه طلبَ يدها، كونه بالدرجة الأولى مُخلصاً لذكرى صديقه، الذي كان قد بث له مخاوفه بخصوص أسرته في آخر أيامه في الحياة.
رفضت شملكان عرضَ عليكي آغا الكبير، بإبلاغها حاملة رسالته عزوفها عن الزواج. ما لم يكن يعلمه الرجل، ولا حاملة رسالته، أنّ امرأة أوسمان كانت تنتظرُ خاطباً آخر كي تعلنه الرفض أيضاً.. تعلنه ذلك، ولكن ليسَ بغير قليل من الأسف والألم والحسرة.

* مستهل الفصل العاشر/ الكتاب الثاني، من سيرة سلالية ـ روائية، بعنوان " أسكي شام "



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ليلى والذئاب: بقية الفصل التاسع
- ليلى والذئاب: الفصل التاسع/ 2
- ليلى والذئاب: الفصل التاسع/ 1
- ليلى والذئاب: الفصل الثامن/ 5
- ليلى والذئاب: الفصل الثامن/ 4
- ليلى والذئاب: الفصل الثامن/ 3
- ليلى والذئاب: الفصل الثامن/ 2
- ليلى والذئاب: الفصل الثامن/ 1
- ليلى والذئاب: الفصل السابع/ 5
- ليلى والذئاب: الفصل السابع/ 4
- ليلى والذئاب: الفصل السابع/ 3
- ليلى والذئاب: الفصل السابع/ 2
- ليلى والذئاب: الفصل السابع/ 1
- ليلى والذئاب: الفصل السادس/ 5
- ليلى والذئاب: الفصل السادس/ 4
- ليلى والذئاب: الفصل السادس/ 3
- ليلى والذئاب: الفصل السادس/ 2
- ليلى والذئاب: الفصل السادس/ 1
- ليلى والذئاب: الفصل الخامس/ 5
- ليلى والذئاب: الفصل الخامس/ 4


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - ليلى والذئاب: مستهل الفصل العاشر