أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الحاج صالح - اسعاف في الريف














المزيد.....

اسعاف في الريف


محمد الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 6290 - 2019 / 7 / 14 - 14:52
المحور: الادب والفن
    


إسعافٌ في الريف
اسْتُدعيتُ على عجلٍ لزيارة مريضة. كانتْ لهفةُ الرجل الذي أتي لاصطحابي تُوحي بأنّنا قد نلحقُ المريضةً حيّةً، وقد لا نلحقُ. في تلك الأيام لم يكن عددُ الأطباء كثيراً كما هو اليوم، لذلك كانت العياداتُ تغصّ بالزوار، وقرارُ ترك هؤلاء والذهابُ إلى إسعاف منزليّ ليس بالأمر السهل كما قد يتخيّلُ المرءُ، لكنّ الطبيبَ في النهاية سيحسمُ أمره لصالح الزيارة الإسعافية، إذْ من يدري لربّما كانتْ زيارتُه إنقاذاً لحياةٍ. الإشكالُ هو أنّ نسبة "الإسعاف" أي الحالات الحرجة بين ما يُسمّيه الناسُ "إسعافاً!" لا تزيد عن العشرة بالمائة.
كان علينا أنْ نلتفّ في طريق تُرابي حول الجزءِ الشمالي من بلدة "تل أبيض"، وأن ندخلَ في بستانٍ كثيف الشجر. وعلى الطريق الممتدّ إلى المنزل كان جمعٌ من النساء يحثّ الخطا. تلك عادةٌ غريبةٌ فعلاً! ما إنْ يسمعنَ عن مرضِ إحداهنّ حتى يتجمّعنَ للزيارة. يَجلسنَ حول المريضة ويبدأنَ بالهذر والثرثرة. واجبُ الزيارة هذا يكرهُهُ الأطباء، فالأفضلُ هو بكل تأكيدٍ فرضُ عزلةٍ على المريض. لكن هيهات!
بضعُ أشجارِ رمّان تفصلُنا عن حرس الحدود الأتراك. هناك تحت داليةِ عنبٍ وجدتُ المريضة ممددةً على فراش مُرتجلٍ ومُغطاة بغطاءٍ خفيف، تحُوطُها نساءٌ واجماتٌ يرسمنَ على وجوهِهنّ غمّاً وحزناً.
سألتُ: ما بها؟ ما الذي حدث؟ فلم أتلقّ جواباً. سألت مرّة أخرى، ومرةً أخرى لم أتلقّ جواباً. عندئذٍ سألت عمّنْ هي أقرب للمريضة. كانتْ أختُها. هكذا علّمتْنا التجربةُ في الريف. لا تسألْ جمعاً من الناس، فإنّكَ لن تستقبلَ ردّاً. اعزلْ شخصاً واحداً، ثم اسألْله تجدْهُ طيّعاً مُتعاوناً. وهكذا علمتُ من أختِها أنّها وقعت فجأة. كانت تتكلّمُ، وفجأة مال رأسُها وسقطتْ على الأرض.
"استجوِبْ جيّداً أيّها الطبيبُ فإنك ستهتدي. الاستجوابُ الدقيقُ نصف الطريق" هذه كلماتُ أحد أساتذتِنا. ألححتُ بالسؤال عن الظروفِ التي كانت فيها المريضة قبل أنْ يُغمى عليها، فلمحتُ من طرفٍ خفي أنّ لهجةَ الأخت تخفي خلفها شيئاً ما. سألتُ بشكلٍ مُباغتٍ لا يتركُ فرصةً للتفكير: هل كانتْ خائفةً أو قلقةً أو تشاجرتْ مع أحدٍ؟ هنا ارتسمَ ذاك التعبيرُ ليس على وجه الأختِ فقط، وإنما على وجوهِ النساء الحاضرت أيضاً. ذاك التعبيرُ الذي أعرفُهُ جيّداً والذي يعني أنّني وضعتُ يدي على مَكمن الداء. هنّ لن يصرحنَ ولن يقلن شيئاً، فهذه منطقة يحرّمُ فيها الكلامُ. وأنا أعلمُ ذلك. لكنني أعلم جيداً أيضاً أنّهن وضعن المفتاح في يدي.
تأكّدتُ تمام التأكّد عندما شرعتُ بالفحص ولاحظتُ الذبابةَ التي حطّتْ على زاوية أنف المريضة، حيث راحت الذبابةُ تلعّب أطرافها وتمسّدُ أجنحتَها، آنذاك رأيت فمَ المريضة يتكوّرُ ويميل إلى الجانبِ لينفخَ الهواء ويطردَها. لا جدلَ أنّ الغائبَ عن الوعي لنْ يحسَّ بذبابةٍ تتوضعُ على أنفِه.
أكملتُ معاينتي. وليس دون صراعٍ في النّفسِ يتعلّقُ بالأخلاق الطبيّة بين "الصدق" و"الكذب". قررتُ أخيراً أن أكذب كذبةً بيضاء.
قلتُ: سأعطيها حقنةً وسيأتي مفعولُها بعد نصف ساعة... هنا ضبطتُ المريضةَ وهي تختلسُ نظرةً إلى ساعة يدِها من تحت أجفانها المُسدلة... أكملتُ: بعد نصف ساعة ستنهضُ بإذن الله. لكنّها يجب أن لا تتعرّض من الآن فصاعداً لضغطٍ نفسي. يجب أن لا يزعجُها أحد...
نهضت المرأةُ بعد نصف ساعة بالتمام والكمال وتلفّتتْ وهي تقول: أين أنا؟ كأنّي نمت.
كانتْ"المريضةُ!" قد تشاجرتْ مع زوجها اللعوب الذي يشتغلُ سائق شاحنة بين سورية وتركيا والعراق، والذي كثيراً ما سرتْ عنه شائعاتٌ تتعلّقُ بالنساء.
تلك الحادثةُ أجبرت الرجلَ على أن يبقى في البيت بضعة أيامٍ ريثما تصحّ الزوجةُ المكّارة، لكنّها أيضاً منحتْني سمعةَ الطبيب الحصيفِ التي سأستفيدُ منها أيّما استفادة!



#محمد_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أطباء أيام زمان ذهب أمّا أطباء اليوم!
- نُورا
- -خالي- المصابُ بضخامة البروستات
- عمليّةٌ قيْصريّة في غرفة الغسيل
- أنا صوابي براسي
- حكاية من حكاية
- في أول صندوق زبالة
- هناك في الأسفل
- أنا والأفاعي
- حتى تقطيع الخبز
- الحشوة
- غيبهم الزمنُ
- المثقف التقليد، الذي هو أنا
- حكاية. مطر دث
- هل هزمت الثورةُ السورية فعلاً؟
- الشوايا
- بين العاصمة أوسلو ومدينتنا
- لومٌ من بعض الأصدقاء الأكراد
- ملحمة حلب الكبرى أم هي ابراهيم اليوسف
- الساروت والعرعور. جرس إنذار عالي الصوت.


المزيد.....




- تقرير يبرز هيمنة -الورقي-و-العربية-وتراجع -الفرنسية- في المغ ...
- مصر.. الفنانة إسعاد يونس تعيد -الزعيم- عادل إمام للشاشات من ...
- فيلم -بين الرمال- يفوز بالنخلة الذهبية لمهرجان أفلام السعودي ...
- “ثبتها للأولاد” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد لمشاهدة أفلام ...
- محامية ترامب تستجوب الممثلة الإباحية وتتهمها بالتربح من قصة ...
- الممثلة الإباحية ستورمي دانييلز تتحدث عن حصولها عن الأموال ف ...
- “نزلها خلي العيال تتبسط” .. تردد قناة ميكي الجديد 1445 وكيفي ...
- بدر بن عبد المحسن.. الأمير الشاعر
- “مين هي شيكا” تردد قناة وناسة الجديد 2024 عبر القمر الصناعي ...
- -النشيد الأوروبي-.. الاحتفال بمرور 200 عام على إطلاق السيمفو ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الحاج صالح - اسعاف في الريف