أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالجواد سيد - مصر المسيحية - تأليف - إدوارد هاردى - ترجمة -عبدالجواد سيد















المزيد.....



مصر المسيحية - تأليف - إدوارد هاردى - ترجمة -عبدالجواد سيد


عبدالجواد سيد
كاتب مصرى

(Abdelgawad Sayed)


الحوار المتمدن-العدد: 6231 - 2019 / 5 / 16 - 21:35
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    







مصر المسيحية
كنيسة وشعب
( 325-641م )


تأليف: إدوارد هاردى

ترجمة : عبدالجواد سيد






















إهداء الترجمة

إلى ذكرى إدوارد هاردى






























محتويات الكتاب :

- مقدمة المؤلف

- مقدمة المترجم

الفصل الأول : الإسكندرية ومصر فى عصر الشهداء

الفصل الثانى: عالما أثناسيوس .

الفصل الثالث: فراعنة الكنيسة/ من ثيوفيلوس إلى ديسقوروس

الفصل الرابع: بقوة نحو الإنشقاق

الفصل الخامس: آخر ضوء لمصر القديمة

الفصل السادس: من فاروس إلى الفاليرون إلى المطار.

قائمة بأسماء البابوات المصريين حتى الغزو العربى.
























مقدمة المؤلف :

إن تاريخ المسيحية القديم فى مصرهو قصة من الإثارة الفكرية والمغامرة الروحية، التى تتخللها قصص من المأساة الشخصية وحتى من الصراع السياسى والعسكرى أحياناً. ورغم أن هناك العديد من المداخل الممكنة إلى الموضوع، فإن العمل الحالى يُركز بشكل أساسى على ظهور شكل من أشكال المسيحية الوطنية فى مصر، بالقوة والضعف التى يُظهرها مثل ذلك التطور فى العصور القديمة والحديثة على السواء. ولكن كان يجب التطرق إلى بعض أوجه القصة ألأخرى أيضاً، مثل تطور الفكر المسيحى والتنظيم الكنسى فى مصر، وتاريخ مدرسة الإسكندرية فى الفلسفة المسيحية والمؤسسة الرهبانية، التى تعتبر أعظم مساهمات مصر فى العالم المسيحى الأكبر، وعلاقة الكنيسة المصرية بحياة مصر اليونانية الرومانية بشكل عام. وقد بُذل هنا مجهود لإستخدام ، ومن أجل تاريخ الكنيسة ، المصادر الوثائقية التى منحتنا إياها مصر بوفرة، بالإضافة إلى المصادر الأدبية العادية. إن الإهتمام الرئيسى لهذا الكتاب هو أيام مجد بطريركية الإسكندرية، أى الفترة من مجمع نيقية سنة 325م، إلى الغزو العربى سنة 641م. وبطبيعة الحال فإن التاريخ المبكر لكنيسة الإسكندرية يُمثل ، وبالضرورة ، مدخلاً للموضوع، كما أن قصة المسيحية المصرية بعد ذلك التاريخ تُمثل خاتمة طبيعية.
لقد أُلقيت فصول هذا الكتاب كمحاضرات فى معهد اللاهوت العام بنيويورك فى فبراير سنة 1950م. وفى إختيار هذا الموضوع كنت مُدركاً لإننى أنضم إلى ميراث فكرى متواصل من خلال مدرسى فرانك جافين، ومن محاضرات جى إن فيجيز سنة 1913م. إن فيجيز الآن هو ، وإلى حد ما ، باحث منسى، حيث كانت إهتماماته تسبق إهتمامات جيله ، فى نواحى عديدة ، وكانت أقرب إلى إهتمامات جيلنا. وكأحد تلاميذ اللورد أكتون فى كمبردج، ثم وككاهن بعد ذلك لجماعة القيامة، فقد وجه الإهتمام إلى أهمية علم اللاهوت وإلى تاريخ بعض المشاكل ، مثل تلك التى يحاول هذا العمل أن يلقى عليها الضوء. وإننى هنا أغامر بالإدعاء بأننى قد حصلت ، على الأقل ، على بعض الإلهام من هؤلاء الكتاب .
إن واجب الإعتراف بفضل مدرسى الزمن الماضى، و الطلاب وأمناء المكاتب وآخرين هو كثير جداً ، بحيث لايمكن ذكره تفصيلاً هنا. ولكن يجب أن أخص بالتقدير أعضاء الجمعية الأمريكية لتاريخ الكنيسة، وأكاديمية كونيكتيكت للفنون والعلوم والذين تفضلوا، فى سنة 1945، وسنة 1949م ، بالإستماع إلى المسودات الأولية لهذا الكتاب. وكذلك إلى أعضاء كل الكنائس المصرية الحديثة، على حسن ضيافتهم أثناء زيارتى القصيرة إلى القاهرة والإسكندرية سنة 1947م.

إدوارد روتشى هاردى
نيو هافن – كونيكتيكت
ديسمبر 1951م.










مقدمة المترجم :

يروى هذا الكتاب قصة مصر فى العصر المسيحى ، كما يروى وفى نفس الوقت، قصة نشأة المسيحية فى بيئتها الفلسفية الإغريقية الرومانية الأولى، وقد صدر فى طبعة ورقية وحيدة سنة 2008م ، وهذه هى طبعته الإليكترونية الوحيدة أيضاً، والتى راعيت فيها التقليل من حجم المداخلات التى قمت بها على النص المترجم فى الطبعة الورقية الأولى ، والتى وجدت، وبعد هذه السنوات، أنها قد تربك القارئ أكثر مما تفيده، مفضلاً ترك القارئ، يتعرف على هذا العالم البعيد وحده ، ليرى بنفسه ، كيف يصنع الدين السياسة، وكيف تصنع السياسة الدين، وكيف تنتج ثقافات العصور عقائدها وحياتها الخاصة. أرجوا أن يكون محل إستفادة، سواء للمهتمين بالتاريخ المصرى، أو للمهتمين بتاريخ ونشاة المسيحية فى رحلتها الطويلة.

عبدالجواد سيد
جاكرتا مايو 2019م































1- الإسكندرية ومصر فى عصر الشهداء

ربما يساعد هذان الزائران الخياليان على تقديمنا لمدينة الإسكندرية ، المدينة العظيمة، كما أصبحت تُعرف بعد ذلك فى العالم القديم. إن الشخصية الرئيسية هى شخصية بطل إحدى ملاحم العشق الإغريقية، لكاتبها أخيليس تاتيوس ( ملحمة كليتيوفون وليوسيب ). كان المؤلف سكندرياً، وربما كتب فى نهاية القرن الثالث أو بداية القرن الرابع، وفى الوقت الذى كانت فيه كنيسة الإسكندرية على وشك أن تخرج من عصر الإضطهاد إلى أيام مجد بطريركيتها. يغلب الفخر المحلى على الرواية عندما يأخذ المؤلف بطله عبر النيل داخلاً به إلى مدينة الإسكندرية وهو يقول( وعندما عبرت البوابة التى كانت تسمى بوابة الشمس ، أخذنى بهاء المدينة، وملأ عينيى بالسرور. كان هناك صفان من الأعمدة المستقيمة تمتد على جانبى الطريق، من بوابة الشمس حتى بوابة القمر، وقد كانت تلك هى الآلهة الحامية لبوابات المدينة. لقد كان هناك الكثير من الشوارع، بحيث يمكن للمرء أن يشعر أنه قد سافر بعيداً، بينما هو مازال داخل المدينة، وبعدما سرت بعيداً بعض الشئ، وصلت إلى مكان سمى بإسم الإسكندر. وهناك رأيت مدينة أخرى، وأصبح الجمال متقاطعاً ، فقد كان هناك صف من الأعمدة فى خط أمامى مستقيم، وصف آخر على الزوايا اليمنى منه).
شعر كليتوفون بالحيرة من محاسن المدينة المتعددة، ووجد من الصعب أن يقرر أي منها أجمل من الآخر، وتسائل إذا ماكان يوجد عدد كاف من الناس فعلاً لسكن مثل تلك المدينة الكبيرة، أو مدينة كبيرة بالقدر الكاف لإن تسع سكنى كل هؤلاء الناس. ومما زاد الأمور إبهاراً، أنه كان قد وصل فى مساء الإحتفال بعيد الإله سيرابس ، الذى يسميه الإغريق زيوس ، وصادف أحد مواكب المشاعل التى حولت الليل إلى نهار. وهكذا وبعد أن أدى عبادته فى المقام الذى ناسبه ، مضى فى طريقه إلى العمل الذى جاء من أجله.
يضع أخيليس تاتيوس قصته ، وبشكل غامض ، فى العصر القديم، ولكن من المؤكد أنه كان يكتب هنا عن الإسكندرية فى زمنه هو نفسه، فهنا يوجد شارعان كبيران، تبرز مقبرة الإسكندر عند تقاطعهما، كأنها أولى المشاهد المميزة . وبعد ذلك يأخذ أخيليس شخصياته إلى حفلة عشاء فى جزيرة فاروس تحت ظلال المنار ذو الشهرة العالمية، والذى يصفه بغموض ساحر، وكأنه جبل قد زُرع فى البحر ، تتوجه شمس أخرى.
وقد تأكدت ملامح المدينة الأخرى من خلال روائى حديث أحضر شاب من الرهبان إلى الإسكندرية فى بداية القرن الخامس إذ يقول( وفى أحد الأمسيات دخلا إلى فم قناة الإسكندرية العظيمة، وأبحرا فى يسر طوال الليل عبر الظلال المزينة بالنجوم لبحيرة مريوط، حتى وجدا أنفسهما، وعندما أشرق الصباح، بين مالايحصى من الصوارى والأرصفة الصاخبة لأعظم موانى العالم. وقد جعل الحشد المتنوع من الأجانب، وضجيج كل الألسن من القرم حتى قادش، وأكوام البضائع الهائلة وأكداس القمح، وهى ترقد بلا سقف تحت السماء فى ذلك الهواء الجاف، والعدد الضخم من سفن الحبوب المحملة إلى روما، والتى ترتفع جوانبها العالية طابق فوق طابق، كأنها قصور طافية بين أبنية حوض سفن داخلى ، كل تلك المشاهد ومئات غيرها ، قد جعلت الراهب الشاب يفكر بأن العالم لايبدو من النظرة الأولى كأنه شئ لا يمكن إزدراءه.
وبعد ذلك يمضى فيلامون ( الراهب ) فى جولة فى المدينة مع أحد معارفه الوثنيين( وخلال الشارع الصاخب والتدفق الدائم للوجوه المنشغلة، وصفوف عربات الجياد والحمالات والحمير المحملة، والجمال والفيلة التى مرت به ودفعته إلى أعلى السلالم ،ومداخل الأبواب عندما كانت تشق طريقها عبر بوابة القمر العظيمة إلى الشارع الفسيح الذى يقع خلفها ، إستمر مرشده يسير لأكثر من ميل أعلى الشارع الرئيسى الكبير، الذى يقطعه فى مركز المدينة وعلى الزوايا اليمنى شارع كبير مماثل، تظهر عند نهاية كل جانب من جوانبه ، وبعد عدة أميال مظلمة وبعيدة فوق رؤوس الطوفان الحى من المارة ، تلال الرمال الصفراء للصحراء، بينما يتلألأ الميناء الأزرق فى شبكة من الصوارى هائلة العدد فى نهاية الأفق أمامهم).
وعند الميناء يتحداه مرشده ويقول(هل صنع المسيحيون كل ذلك ؟ هل بنى المسيحيون ذلك المنار هنا على القرن اليسرى أعجوبة العالم ؟ هل رفع المسيحيون ذلك السد البالغ طوله ميلاً، والذى يصل إلى الأرض بجسريه اللذان يربطان المينائين ، هل بنى المسيحيون هذه الأرض المستوية أو بوابة الشمس تلك الواقعة فوق رؤوسنا ؟ أو معبد القيصرون الواقع على يميننا هنا ؟ إنظر إلى هذه المسلات أمامه ، هل رفعها المسيحيون أو حفروها من قواعدها إلى قمتها بحكمة الأقدمين ؟ هل بنى المسيحيون ذلك المتحف الواقع بعدها ،أو صمموا تماثيله ولوحاته الجصية والذى لم تعد الآن مع الأسف ترجع صدى طنين النحلة الأثينية ؟ وهل كدسوا من الأمواج ذلك القصر الواقع خلفها أو ذلك المخزن ؟ وهل ملأوا معبد نيبتون بهذا النحاس الذى يتنفس، وذلك الرخام الذى يحمر خجلاً؟ هل بنوا ذلك (التيمونيوم) عند الموضع الذى نسى فيه أنطونيوس المهزوم عاره بين ذراعى كليوباترة ؟ ).
لايبدو كينجزلى ( الروائى ) دقيقاً فى وصفه، فإنه من المشكوك فيه إذا ماكانت كل تلك الأبنية مازلت قائمة سنة 415م ، فما كان من الممكن أن نرى فيلة فى الإسكندرية البيزنطية، وكان من شأن السفن المتجهة إلى روما أن تُحمل فى الموانى المواجهة للبحر وليس فى الداخل ،كما كانت بوابتى الشمس والقمر تقعان إلى الشرق والغرب وليس إلى الشمال والجنوب من المدينة. ومع ذلك فما زال وصفه هذا يعبر بشكل رائع عن الإحساس بمدينة الإسكندرية القديمة، وربما لو كنا صاحبنا بطله فى جولته لكنا شعرنا معه فى النهاية، أن ذلك الهدوء الأبدى لهذا الحزام العظيم من الحجر المتناقض، مع تموج الميناء المتلألئ والأشرع المشغولة التى تجمعت داخل البحرخلفه مثل حمامات بيضاء شارعة فى الطيران إلى فضاء لامحدود ، قد أذهله وغلبه وأحزنه. وبالنسبة لفيلسوف وثنى أو ناسك مسيحى، فإن بهاء المدينة المتغير كان مذكراً بإنقضاء مجد العالم وحياته المشتركة ونظامه، بإستثناء لمحة من إنسجام روح أرض الأجداد الحقيقية. (يجب أن نرحل إذن ) كانت صرخة الأفلاطونى الحديث وكذلك الراهب.
كانت الإسكندرية عاصمة وبوابة مصر الرومانية دون أن تكون جزءً حقيقيا من البلاد، فقد كانت قد أُسست كمركز للسيادة الأجنبية على مصر. وقد حافظت على تلك الشخصية خلال حوالى ألف عام من الحكم اليونانى الرومانى. بُنيت الإسكندرية على شريط ضيق من الأرض يقع بين بحيرة مريوط والبحر، بحيث يمكن الوصول إليها بحراً بسهولة من مصر، كأنها كانت تقع على جزيرة خارج الساحل. كان يمكن أن يتحدث أحد الزوار بأنه ذاهب من الإسكندرية إلى مصر، ثم وكما هو الحال الآن ، يجد نفسه فى مدينة عالمية ويشعر بإغراء السؤال ( أين المنطقة المحلية ؟ ) وكان الجواب سهلاً ، فقد كانت منطقة تسمى راكودة، والتى سُميت على الإسم المصرى ألأصلى لتلك المنطقة فعلاً، والذى كان يحتل تقريباً الجزء الجنوبى الغربى من المدينة. وفى راكودة وربما بالقرب من حدها ، كان يقف معبد سيرابيس العظيم ، مقام الإله المصرى الإغريقى ، الذى أنشأه البطالمة الأوائل تعبيراً عن الطموح الإغريقى فى الإلوهية فى شكل قائم ، إلى حدما ، على التقاليد الوطنية المصرية. كان سيرابيس هو إله الإغريق فى مصر أكثر مما كان إلها للمصريين، ولكن عبادته كانت شائعة سواء فى الداخل أو فى الخارج، وكان ، بالتأكيد، إلهاً لمدينة الإسكندرية . مثل السيرابيوم
( معبد سيرابيس) إتجاه المتدينيين الإغريق المتأخرين، وكذلك الفلاسقة نحو وحدانية شاملة سهلة، بينما مثلت هياكل وكنائس المدينة الولاء لإله إسرائيل الغيور.
كانت الجهات المختلفة لمدينة الإسكندرية، تتفق مع العناصر المختلفة لسكانها وحياتها. وقد قسمتها الشوارع المتقاطعة الرئيسية للتخطيط الأصلى إلى أحياء بشكل طبيعى، رغم أنه كان يوجد خمس مناطق عُرفت بالحروف الإغريقية من حرف إيه إلى حرف إى. وربما كانت فاروس ، بسدها الموصل للبر، هى المنطقة الخامسة، أو الهيبتاستاديون، والذى نمى بشكل أكبر خلال القرن الرابع، أو ربما الحى اليهودى القديم فى الشمال الشرقى، الذى كان يُرقم بشكل منفصل. كانت المدينة عبارة عن مستطيل تقريباً تمتد نحو ميلاً من الشمال إلى الجنوب، وأكثر من ثلاثة أميال من الشرق إلى الغرب، بمنحنيى المينائين فى الأمام. وقد غلب النشاط التجارى على الميناء الغربى وجزء من الميناء الشرقى أو الكبير، وكان الجزء الشمالى الغربى يسمى نيبوليس، حيث كانت تتجمع سفن الحبوب المتجهة إلى روما أو إلى القنسطنطينية ، بعد أن أصبحت القنسطنطينية هى عاصمة الإمبراطورية. كانت الأبنية العامة الشهيرة والقصور الملكية تقع فى ذلك الجزء الشمالى الغربى، وخلفها كان يقع الحى اليهودى. كان جوزيفيوس حريصاً على أن يشير إلى أن مايسمى بالدلتا لم تكن ركناً منعزلا بالمقابر، فرغم أنها كانت ملاصقة لنيكروبوليس الشرقية خارج جدران المدينة ، فقد كانت منطقة سكنية مفضلة. وخلف هذه المنطقة كانت تقع منطقة برشيون ، مقر الطبقة الحاكمة الإغريقية، أثناء حكم البطالمة وخلفائهم فى العصر الرومانى.
لسنا نعرف كم كان قد بقى من ذلك البهاء فى القرن الرابع، ومع ذلك فربما ظل هناك ، على الأقل ، أجزاءً من القصور القديمة لسكنى الحاكم الرومانى ، كما كان معبد القيصرون، الذى بدأته كليوباتره ثم إكتمل على شرف الأباطرة ، مازال قائما كعلامة بارزة على ضفة البحر، كما كان الحال فى أيام الكاتب فيلو . لم يكن معبد القيصرون مجرد معبد، فقد كان مجمعاً من المحاكم والحدائق والأبنية المختلفة، وكان فى إسمه كما فى وظيفته ، الرمز الخاص للقوة الرومانية فى مدينة البطالمة. وكان القيصرون أيضاً، المصدر لأهم آثار المدينة ، كالمسلات التى كانت تنتصب أمامه يوماً و فاقته عمراً وإستمرت بعده، ثم فُقدت من مصر فى العصور الحديثة، لتصبح مسلات كليوباترا فى لندن ونيويورك. وإلى الجنوب من المدينة كان يقع ميناء شيديا، مركز الإتصال مع مصر من خلال القنوات التى كانت تربطه بالنيل، وإلى الشرق كان يوجد طريق أو قناة كانت تؤدى إلى مقامات و حدائق منطقة كانوبوس، وإلى الغرب كان يمتد الشريط الأرضى الذى بُنيت عليه المدينة خلال حدائق وكروم العنب فى منطقة مريوط.
عرفت الإسكندرية فترات عديدة من الرخاء والركود فى تاريخها الطويل، وكان القرن الثالث أحد فترات الركود. كانت تأثيرات الأزمة الإقتصادية للعصر قد تفاقمت بسلسلة من الكوارث المحلية، وفى سنة 200م إستقبلت المدينة من الإمبراطور سبتميوس سفيروس إنعاماً بتأسيس مجلس للمدينة، والذى قُدر أن يكون له بعض الأهمية فى المستقبل، ولكن حيث أن نفس الميزة قد مُنحت لمدن الأقاليم فإن تأثيره المباشر كان هو التقليل من المركز المتميز للعاصمة، وربما كان الهدف الأساسى من التغيير، هو نقل كثيراً من أعباء ونفقات الحكومة إلى الحكومات المحلية.
أثر إضمحلال الزراعة فى مصر على رخاء العاصمة وأدى إلى ظهور ظاهرة قطع الطريق، والتى ظلت السلطات تكافحها على مدى القرن دون فائدة. وفى سنة 215م، زار الإمبراطور كاراكالا ، إبن سبتميوس سفيروس ، الإسكندرية وتعامل مع إضطراباتها التقليدية وحرية التعبيرفيها، كتمرد عاقبه بالإعدامات والمذابح والتدمير والحرمان من المميزات الخاصة. وإختفى المتحف الشهير(متحف آلهات الفنون الملحق بالمكتبة) من التاريخ فى ذلك الوقت، وربما أوقف كاراكالا المنح الموقوفة عليه أيضاً. ولثلاثة مرات بعد ذلك فى نفس القرن، عانت المدينة أو أجزاء منها ، من الحصار التام. وفى سنة 262م تمرد الحاكم الرومانى إيميليانوس ، ولم يتمكن الإمبراطور جالينوس من إسترداد المدينة إلا بعد حرب قاسية. وبعد عشر سنوات من ذلك التاريخ، تمكن الإمبراطور أورليان من إسترداد مصر بسهولة من زنوبيا ملكة تدمر، التى كانت قد إستطاعت حكم الشرق الرومانى لفترة من الزمن، ولكن بعد عودته إلى أوربا ثارت الإسكندرية مرة أخرى بقيادة قائد محلى، مما إضطر الإمبراطور للعودة ومحاصرته فى منطقة بورشيون، التى كانت تحميها جدرانها الخاصة. ويروى لنا مؤرخ متأخر كيف أنه كنتيجة لذلك، هُدمت جدران المدينة وفُقدت بورشيون ، والذى قد يعنى أنها قد خُربت أو على الأقل خُرب جزء كبير منها. ومن الواضح أنه سرعان ما أعيد بناء جدران المدينة، لإنه كان هناك ثورة أخرى فى سنة 296م، وفى سنة 297م إستولى الإمبراطور دقلديانوس على المدينة بعد حصار آخر.
وبعد كل هذا ، فلم تعد إسكندرية سنة 300م ، هى نفس المدينة العظيمة التى كانت فى سالف أيامها. ومثل روما العصور الوسطى أو إسطنبول الحديثة، فلا بد أنها كانت قد أظهرت كثيراً من الفجوات بين أبنيتها القديمة. وكان هناك بالتأكيد بعض المساحات المفقودة. ويتحدث جيروم ، الذى زار المدينة سنة 386م، عن بروشيون وكأنها منطقة قريبة من الإسكندرية، كما تصف وثيقة من القرن الثالث معبد السيرابيوم بأنه كان يقع خارج الجدران الحالية. ومن جهة أخرى ، فإن الظروف الأكثر إستقراراً للقرن الرابع أدت إلى بعض النهوض، وجلبت الثلاثة قرون البيزنطية الأولى معها إحياءً للتجارة فى شرق البحر المتوسط ، والتى إستفادت منها الإسكندرية وكذلك العاصمة الجديدة ، القنسطنطينية ، على ضفاف البسفور. وبعد أن حول قنسطنطين جزية القمح المصرى من روما إلى القنسطنطينية، أصبح للإسكندرية أهمية خاصة للإمبراطورية، كمكان لتجمع إمدادات الغذاء الأساسى للعاصمة. وبالتأكيد فقد كان السيرابيوم يوماً أكثر إلتصاقاً بالمدينة فى القرن الرابع ، وعندما إستولى العرب على الإسكندرية سنة 642م كانت بالنسبة إليهم أعظم مدن العالم.
كان لشعب الإسكندرية على مدى تاريخ المدينة القديم شهرة بقابلية الإثارة، والإستعداد الطبيعى للشغب لأى سبب، وحتى بدون سبب أحياناً، فقد كان يمكن لتلك الجموع المتباينة أن تشتعل غضباً ضد حكامها، أو كان يمكن لأى عنصر من عناصر السكان أن يثور ضد الآخر بسهولة. ففى سنة 203ٌ ق.م، شغل العنف والمذابح السكندرية جزءً كبيراً من السنوات الأولى من حكم بطليموس أبيفانس. ويعطينا المؤرخ بوليبيوس وصفا تقليدياً لتلك الأحداث، وأيضاً عن إنطباعه الخاص عن الروح المعقدة العنيفة للمدينة. وقد ظلت الإسكندرية هكذا فى تاريخها اللاحق، فقد عرف يوليوس قيصر وخلفائه السكندريين ، بصفة الغاضبين ، الذين كانوا يثورون أحياناً على ممثليهم، وأحيانا ضد وضع السكان اليهود المميز إلى حد ما. لم تفقد إسكندرية القرن الثالث عاداتها القديمة ، ويقال إن تمرد سنة 262م، قد بدأ بنزاع بين جندى وعبد أحد الحكام عن قيمة حذائيهما. وعندما أصبحت الكنيسة أكثر أهمية، فقد أصبحت أكثر إنغماساً فى ذلك الجانب من جوانب الحياة السكندرية، وعلى مدى ثلاثة قرون راحت الإنقسامات الدينية تخدم كأفضل تعبير عن المعارضة السياسية.

(أمر الإسكندر ببناء مدينة الإسكندرية، التى أصبحت عاصمة مصر فى العصر اليونانى الرومانى ، مباشرة بعد إستيلائه على مصر سنة 333 ق . م ، ويحدد ذلك التاريخ نهاية العصر الفرعونى ، أول وأطول وأشهر عصر من عصور التاريخ المصرى، والذى كان قد بدأ حوالى سنة 3000 ق.م ، بتوحيد الملك مينا شطرى مصر البحرى والقبلى فى دولة واحدة هى الأقدم فى التاريخ ، وبداية العصر اليونانى أو العصر الهيلينستى، و الذى شمل فى الواقع كل منطقة شرق البحر المتوسط، وتميز بتفاعل ملامح الحضارات الشرق الأوسطية القديمة، مع المؤثرات اليونانية الوافدة، والذى جاءت منه تسمية العصر الهيلينستى، وقد بدأ ذلك العصر الهيلينستى فى الواقع بوفاة الإسكندر المفاجئة، بعد رحيله عن مصر لإكمال فتوحاته فى الشرق حوالى سنة 323 ق.م. فبعد تلك الوفاة المفاجئة، تصارع قادة الإسكندر على ميراثه وإنتهى الأمر بتقسيم إمبراطوريته فيما بينهم إلى ثلاث ممالك هيلينستية رئيسية، هى المملكة السلوقية فى آسيا الصغرى، وتشمل سوريا والعراق وتركيا الحالية، والمملكة الأنتجونية التى شملت مقدونيا وبلاد اليونان، والمملكة البطلمية فى مصر نسبة إلى مؤسسها بطليموس الأول قائد حرس الإسكندر الأكبر، وسوف تشكل هذه الممالك الهيلينستية الثلاث تاريخ الشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط على مدى الثلاثة قرون التالية حتى سقوطها فى نهاية الأمر ، واحدة فى أثر الأخرى، فى يد القوة الصاعدة الجديدة القادمة من غرب المتوسط وهى روما، ليبدأ العصر الرومانى على أثر ذلك . فبعد إنتهاء الرومان من إخضاع غرب المتوسط لسيادة روما، بعد إنتصارهم النهائى فى الحروب البونية على هانيبال القرطاجى فى بدايات القرن الثانى قبل الميلاد، راحوا يتطلعون إلى إخضاع شرق المتوسط والقضاء على الممالك الهيلينستية الثلاث، وتمكنوا بالفعل بواسطة قادتهم العظام من أمثال سلا و بومبيوس وقيصر وأنطونيوس و أكتافيوس، من إسقاط هذه الممالك وضمها إلى روما واحدة فى أثر الأخرى ، فى نهاية الأمر، وكانت مصر هى الأخيرة حيث إستولى عليها أوكتافيوس ، أول إمبراطور رومانى ، بعد إنتصاره على كليوباترة السابعة، آخر ملوك البطالمة وحليفها وعشيقها الرومانى أنطونيوس سنة 30 ق.م، وبهذا التاريخ يبدأ عصر مصر الرومانى، والذى سينتهى بنقل العاصمة الرومانية إلى بيزنطة/ القسطنطينية على خليج البسفور سنة 325م ، حيث يبدأ تاريخها البيزنطى، أو تاريخها المسيحى موضوع الكتاب)

وفى سنوات الأزمة تلك فى القرن الثالث ظهرت كنيسة الإسكندرية على مسرح التاريخ كعنصر هام فى حياة المدينة. وينتهى الغموض الذى يحيط بتاريخها الأول بأسقفية ديميتريوس (الأسقف المصرى الثانى عشر 190-233م، الذى يبدأ به التاريخ المؤكد للكنيسة المصرية). وتربط قائمة أساقفة مشكوك فى صحتها وردت فى تاريخ يوسيبيوس المؤرخ القيصرى- نسبة إالى قيصرية بفلسطين- فى كتابه عن تاريخ الكنيسة، (إمبراطورية الله) ، ديميتريوس بتبشير القديس مرقس فى الإسكندرية، و تبلغ فترة ولاية كل أسقف فى تلك القائمة قبل ديميتريوس حوالى عشرة سنوات أو أكثر قليلاً. ومع ذلك فربما يكون جوليان ، سلف ديميتريوس ، شخصية حقيقية فعلاً ، فهو أول شخص فى القائمة يصفه يوسيبيوس بأنه قد ترأس الكنيسة فى الإسكندرية. وتبدو صيغة الجمع ، المستخدمة أيضا ًمع ديميتريوس وخلفائه، وكأنها إشارة إلى تنظيم الكنيسة السكندرية فى جماعات منفصلة تحت كهنتها الخاصين .
لقد كان ذلك التقسيم إلى مايشبه أبرشيات أحد الملامح التى تشاركت فيها كنيسة الإسكندرية الأولى مع كنيسة روما. ومن الطبيعى أن نتوقع أن نجد مثل ذلك التطور قديماً فى أعظم مدينيتين من مدن الإمبراطورية ، بعدد سكانهما الكبير المكون من عناصر مختلفة، ولكن ربما كان هناك تأثير مباشر من روما أيضاً، حيث أن الأسماء المسجلة لأقدم أبرشيات سكندرية - برجايا وديزيا وبيريوس وسيرابيون - هى فى حالات متعددة، وبشكل واضح ، تلك الخاصة بالمؤسسين أو المحسنيين فى حالة مثيلاتها الرومانية تماماً . ولهذه أُضيف بعد ذلك أبرشيتان أقيمتا فى القرن الثالث بواسطة الأسقفين ديونيسيوس وثيوناس، أما أبرشية بوكاليس، التى إشتهرت بعد ذلك اثناء رئاسة آريوس لها ، فكانت تقع فى منطقة بوكولو، على إسم الرعاة الذين سكنوها يوما، إلى الشمال الشرقى من المدينة، وكانت تشتهر أيضا بوجود مقام القديس مرقس بها على ساحل البحر فى ذلك الجوار العام، ومع ذلك فإن ذلك الربط هو تخمينى فقط. وهناك المزيد من الأسباب لإرجاع هذا الربط الخاص بين الإسكندرية وروما لهذه الفترة المبكرة، والذى أثر على تاريخ الأسقفيتين من ذلك الوقت وحتى القرن السابع على الأقل. ويقدم يوسيبيوس بحرص وبالكلمات ( يقولون) الرواية التاريخية التى تقول أن القديس مرقس الإنجيلى - مفسر القديس بطرس - قد بشر فى الإسكندرية. والواقع أننا نميل لإن نقول بأن المسيحية قد وصلت إلى مصر من فلسطين أولاً، ولكن هذا لايمكن إعتباره مؤكداً. كانت وسيلة الإتصال الطبيعية بين مصر وفلسطين عن طريق البحر، وكانت السفن تذهب بسهولة بين الشرق والغرب. وهناك ثمان مخطوطات من الكتاب المقدس، ربما يكون البعض منها نسخ يهودية من العهد القديم اليونانى ، هى الدليل الوحيد على وجود المسيحية فى مصر القرن الثانى، وربما تكون الصورة التى تقترحها قائمة يوسيبيوس بوجود تجمع صغير فقط فى الإسكندرية هى الصورة الصحيحة فى نهاية الأمر. وهناك المزيد من الدليل ، سواء فى الأدب أو فى أوراق البردى ، على ذلك المزيج من المسيحية واليهودية والفلسفة والوثنية، والذى عبر عن نفسه على مستوى أقل فى السحر، وعلى مستوى أعلى فى التأملات الغنوصية الأكثر أهمية. وبرغم كل سحرها فإن كلمات المسيح التى عُثُر عليها فى مدينة أوكسيرينشوس تقف على حدود الغنوصية فى التعبير مثل ( إرفع الخشب وسوف تجدنى، و حرك الحجر وسوف أكون هناك). ومع ذلك فهى توضح بعض المعرفة بالمسيح فى مدينة من مدن الأقاليم المصرية فى بدايات القرن الثانى. والشخصيات السكندرية أو المصرية التى تقف بوضوح على مسرح تاريخ الكنيسة فى منتصف ذلك القرن ليست هى شخصيات الأساقفة الأرثوذكس، ولكنها شخصيتى باسيليدس وفالنتينوس الغنوصيتين، والتى قدمت المسيح فى سياق ليس مسيحياً أساساً ، ولكن غنوصياً.

( الغنوصية هى المذهب الفلسفى الروحى الذى ساد فى مصر فى القرن الثانى الميلادى، وكان يدعو إلى الإبتعاد عن المادة والإلتجاء إلى الروح بمعنى إرضاء الروح قبل الجسد، وذلك من أجل إدراك ذات الله العليا، وهو بذلك قريب الشبه بالمسيحية وقد سهل إنتشاره من إنتشارالمسيحية بعد ذلك).

ففى زمانهما كانت كل الطرق تؤدى إلى روما، وسرعان ماأصبحت تعاليمهما معروفة هناك. وقد يكون الأمر على النحو التالى ، فبعد أن وصلت تعاليم الغنوصية المصرية إلى المدينة الإمبراطورية، إستقبلت الإسكندرية فى المقابل دعماً لتقليدها المسيحى، وكان التنظيم الأبرشى وقصة القديس مرقس هى آثار لمثل هذا الإرتباط المبكر. إن سفر أعمال مرقس الأسطورى، يصور على الأقل النوع الصحيح من الصورة فى تصوير وصول مرقس الإنجيلى من روما، وحضوره إلى الحى اليهودى بالإسكندرية، حيث يلتقى بأول مهتديه وخليفته صانع الأحذية اليهودى أنيانوس أو حانانيا. وإنه من التخمين الطبيعى أن نربط بالإسكندرية أعمال مثل إنجيل برناباس، والذى يبدو أنه يُظهر بعض الإتصال باليهودية المجازية لتلك البيئة. ولكن مثل تلك التخمينات لاتضيف إلى معرفتنا شيئاً كثيراً فى الواقع.
ومهما كانت أهمية الخلفية اليهودية أو البيئة الغنوصية، فإن الكنيسة التى ترأس عليها ديمتريوس كانت جماعة محكمة التنظيم ناطقة بالإغريقية ، وفى هذا الخصوص فقد كانت تتشابه مرة أخرى مع الكنيسة الرومانية المعاصرة. وكما كان الحال فى روما، كان لدى الكنيسة طبقة من المدرسين ، ليست بالضرورة معينة رسميا ، كانت تقوم بالتثقيف فى الديانة المسيحية لجمهور المستفسرين، وفى نفس الوقت كانت تقوم بتقديمهم لسلطات الكنيسة من أجل تعميدهم. كان النشاط الذى ترأسه بانتينوس وكليمنت هو مدرسة للمسيحية مماثلة للمدارس التى كانت تقدم تعاليم فلسفية مختلفة. كان أول دليل خارجى واضح فى تاريخ كنيسة الإسكندرية هو الإضطهاد الذى أعقب زيارة الإمبراطور سبتميوس سفيروس لمصر سنة 202م. ولإن مناسبة ذلك الإضطهاد كانت مرسوماً إمبراطورياً موجهاً ضد المهتدين إلى اليهودية أو المسيحية، فقد أثر بشكل خاص على المهتدين إلى المسيحية ومدرسيهم. وقد إضطر البعض من هؤلاء الأخيرين ، بما فى ذلك كليمنت الرقيق ، إلى الهرب من المدينة، أما الشاب اللامع أوريجن فقد حمته خدعة أمه التى أخفت ملابسه، ولكن أبيه ليونيدس قد أُعدم مع ذلك . وقد أُحضر شهداء آخرون من مصر ومن طيبة كى يلقوا حتفهم فى الإسكندرية. وتُرك أوريجن مُدرسا مسيحياً وحيداً فى الإسكندرية وتلقى تفويض ديميتريوس الرسمى على عمله. وفى مرحلة تالية من الإضطهاد - زمن الحاكم أكويلا - إستشهد سبعة من زملائه وبدا هربه كأنه معجزة، لإنه لم يتردد فى مصاحبة الشهداء حتى اللحظة الأخيرة ، وقد أثار غضب الجمهور الوثنى فى مناسبات عديدة.
وعندما عاد السلام بعد سنوات الإضطهاد ، أصبح أوريجن المدرس شخصية شهيرة فى كنيسة الإسكندرية، مثله مثل الأسقف ديميتريوس تماماً، وقبل إنقضاء زمن طويل أصبح معروفاً فى كل أنحاء العالم المسيحى. لقد كان أوريجن هو الذى زار روما، وكان أوريجن هو الذى أرسل له قادة المناطق الأخرى من الكنيسة الشرقية كى يحل مشاكلهم اللاهوتية. وفى إحدى تلك الزيارات بفترة قصيرة بعد سنة 230م، رسُم أوريجن كاهنا – بشكل غير نظامى - فى قيصرية فى فلسطين. وكان من الطبيعى أن يحول ذلك الأسقف ديميتريوس ضده. إنسحب أوريجن إلى قيصرية، حيث قضى العقدين الأخيرين من حياته ككاهن للكنيسة هناك. مات ديميتريوس بفترة قصيرة بعد إنسحاب أوريجن، وخلفه تلميذ أوريجن وزميله السابق ، هيراقليس - الأسقف الثالث عشر- ومع ذلك فقد ظل ثابتاً فى ذاكرة الناس أن الفيلسوف المسيحى قد غادر الإسكندرية فى ظل ظروف غامضة.
إن تعاليم كليمنت وأوريجن هامة فى تاريخ الفكر المسيحى، وإن أى محاولة لمعالجتها بالتفصيل فى هذا الفصل التقديمى قد تكون عقيمة. ومع ذلك فلابد أن يقال شيئاً عن الأفكار الرئيسية التى كانت تعكس الإهتمامات الدائمة لمدرسة الإسكندرية. كان عمل كليمنت ، ورغم أنه تطرق إلى موضوعات كثيرة ، منظماً حول معالجة الحياة المسيحية، والتى كانت تعكس ، وبلا شك ، برنامجه التثقيفى. وقد قام أولاً بإستدعاء الوثنيين إلى الحوار فى( خطابه إلى الإغريق )، والذى كان يؤثر فى القارئ أو المستمع بسحره، وأيضاً بعرضه القوى حتى يصبح مستعداً للضوء الحقيقى للسر المسيحى. ويقدم المعلم ( كليمنت) المسيح الكلمة على أنه مرشدنا فى الحياة اليومية، ولم يكن كليمنت يطلب منهم التخلى عن ثرواتهم، ولكن الإنصراف عن التمتع بها إلى أشياء أكثر سمواً. وهنا وكما فى عظته ( من هو الرجل الثرى ، من هو الناجى ؟ )، فإن إهتماماته الأخلاقية يبدو أنها تعكس الخلفية الرواقية لأستاذه بانتينيوس. وأخيراً وفى الموضوعات المتفرقة التى عالجها فى( متفرقات) تظهر صورة الناسك المسيحى ، الغنوصى الحقيقى ، كأنها المثال النهائى للإنسان الذى يمر خلال إستنارة الإيمان، ومن طهارة الحب إلى سعادة الحكمة الأسمى. ورغم مصرية كليمنت فقد كان يمثل، بشكل كبير، جعل الثقافة العالمية والتقوى الغامضة للإسكندرية ، مسيحية . أصبحت الكنيسة التى تشكلت بتعاليمه مستعدة لتغيير العالم السكندرى ، بعشقه للطقوس الغامضة، والتفسيرات المجازية. وكما كانت التعبيرات الخارجية للتقوى الغامضة مختلفة فى كليمنت السكندرى وفى آباء الصحراء ، فإنه يوجد أكثر من دلالة على روح النساك فى مدرس العاصمة المثقف. إن الناسك المسيحى هو وارث لشكلين آخرين من الشاهد على العقيدة ، هما الشهيد والفيلسوف المتجول . أما الشهادة، و كما عرض كليمنت نظريتها، فإنها تتوج حياة الغنوصى الحقيقى بالكمال من خلال عمل شهادة أخير قائم على الحب. وتبعا للتقاليد فإنه يؤكد على أنه يجب أن يرحب بها عندما تأتى، ولكن لايجب أن يُبحث عنها لإنه فى النهاية قد أخبرنا الرب أنه عندما أُضطهد فى مدينة فقد هرب إلى أخرى. فنحن نخضع للحيوانات المتوحشة ولكن لايجب أن نثيرها.
أما بالنسبة لأوريجن، فبعد أن حُرم من فرصة الشهادة فقد عاش حياة فلسفية، ينام على الأرض ويمشى عارى القدمين، وهى ممارسة كان كليمنت يحبذها ، لايشرب الخمر، راضياً برداء واحد، وبمجرد ضروريات الحياة,. وقد جذبت طريقة الحياة تلك كثير من تلاميذه، وإستمرت لسنوات عديدة، لكنها خُففت فى أخريات حياته. كان العمل الطائش الذى جعل نفسه به ، حرفيا ، خصى مملكة الله ، نوعا من الحماس الدينى المتطرف حتى بالمقارنة مع تهور بعض الشهداء، وقد أصبح ذلك العمل أحد الأسباب التى عللت عدم نظامية تعيينه كاهناً. وقد إستمرت تلك الحياة التنسكية ، مثل تلك التى عاشها فى أيامه السكندرية ، تثير الإعجاب فى الكنيسة السكندرية. لقد كانت تلك هى الحياة التى قصدها الكتاب القدامى عندما تحدثوا عن الفلسفة المسيحية، أكثر مما قصدوا دراسة الغيبيات أو اللاهوت ، رغم أن الناسك كان يمكن أن يكون لاهوتياً أيضاً. والواقع أن اللاهوت كان هو مجال إهتمام أوريجن الأساسى ، فبينما كان عمل كليمنت أخلاقياً أساساً فى نظامه، فإن مراكز أوريجن ، وبقدر مايمكن أن تسمح أعماله المتشعبة بأن يكون لها مركز واحد مسيطر، كانت هى اللاهوت أيضاُ. وكمعلم كنسى فقد علم قوانين الكنيسة إلى المهتدين المسيحيين، وكفيلسوف ، وبالمعنى الذى نفهمه ، فقد هيأ للعقيدة من خلال الدراسة العامة للفلسفة والأدب، وعرضها فى سياق مابدا له تفسيراً علمياً عقلانياً. ومحفزاً بما قدم له نفسه كأفضل الأفكار السائدة آنذاك ، أى الأفلاطونية الحديثة الوليدة ، فقد طور بعض الأفكار التى أصبحت جزءً من التيار الأساسى للاهوت المسيحى وأفكاراً، أخرى ظلت مجرد تأملات، أو قدر لها أن توصم بالهرطقة. وبوضع العلاقة بين الأب والإبن فى مجال الإلوهية الخالدة، فقد أرسى أسس عقيدة التثليث الأرثوذكسية، وفى نفس الوقت فقد أثار ، وبشكل حاد، مشكلة كيف نحدد العلاقة بين الأب والإبن ،ومشكلة كيف أن الإبن الخالد لله يُمكن أن يتصور وكأنه قد دخل بالفعل إلى عالم الزمان والمكان. وبالنسبة لأوريجن فلم يكن ذلك مشكلة كبيرة، لإنه كان أفلاطونياً بما يكفى لإن يفكر فى العالم المادى وكأنه غير هام نسبياً، أو على الأقل نظام ثان من الواقع. إن الكائن الأساسى هو الخالد، الذى نشأت منه كل الأشياء. إن بعض السقوط فى النظام الروحى مسئول عن هذا العالم الممتزج من الروح والمادة التى نعيش فيه، ولكن خطة الله فى الفداء سوف تعيد كل الأشياء إليه فى الوقت المناسب. ومن زمانه إلى زماننا كان تأثير أوريجن حافزاً وإغراءً فى الفكر المسيحى. ويمكن لنا أن نفهم كل من القراءة المستمرة لأوريجن، والهجوم المتكرر على الأورجينية فى القرون اللاحقة لزمانه، بحيث يمكن لنا أن نتعاطف قليلاً مع إعتراضات المؤمنين البسطاء ، المعبر عنها فى شكل قاس فى الغالب ، والذين إستطاعوا أن يروا على الأقل أن كائن أوريجن الخالد لم يبد لهم كأنه إله إسرائيل وأبو المسيح . وقد توازى تأثير تأملات أوريجن ، بأشكال عديدة ، بمعرفته الواسعة بالكتاب المقدس. ورغم أنه قد فكر فى التاريخ المقدس لكل من العهدين (القديم والجديد)، وكأن أهميتهما العظيمة تكمن فى رمزيتهما للحقائق الخالدة فقد ظل ، مع ذلك، يعتقد أنهما تاريخ حقيقى تستحق تفاصيله الإهتمام بها. ولقد بدأ عمله المحكم على النص الأصلى ونسخ العهد القديم وتعليقاته على كل من العهدين ( القديم والجديد) فى الإسكندرية، ولكنه أكمله فى سنواته التالية فى قيصرية. ثم قام المؤرخون اللاحقون هناك ، فى أنطاكية وفى أماكن أخرى ، بمتابعة دراسته للحقائق الفعلية للكتاب المقدس، وجعلوها تخدم مدخلاً دينياً مختلفاً عن مدخله ، مدخل أكد على حقيقة الحياة الإنسانية للمخلص والتى من خلالها تفتدى حياتنا البشرية. وبقدر مايمكن لنا أن نقول عن المدرسة الصوفية للإسكندرية، والمدرسة التاريخية لأنطاكية فقد كان أوريجن هو مصدر الإلهام لكليهما.
ومهما كان التوتر بين السلطات الأسقفية والأكاديمية فى الإسكندرية فى زمن أوريجن، فسرعان ماإنتهى ذلك بتلاقى ولاياتهما. فقد أصبح هيراقليس، الذى كان أوريجن قد إلتقاه أولاً فى محاضرات أمونيس الأفلوطينى ، مساعده ثم خليفته فى عمل المدرسة التعليمية. وفى أعقاب موت ديميتريوس سنة 233م، تولى هيراقليس الأسقفية. وحتى وكواحد من كهنة كنيسة الإسكندرية، فقد إحتفظ بثوبه الفلسفى وبدراساته الإغريقية، و لذا فقد يمكن لنا أن نفترض أنه وكأسقف فإنه لم يكن رافضاً لمسيحية أستاذه الفلسفية. ولكنا لانعرف شيئاً عنه تقريباً، وبإستثناء أنه قد كان محل تقدير كبير، فقد حدث أنه كان أول الأساقفة السكندريين ممن منحوا، فى أى وثيقة باقية ، لقب البابا الشرفى، والذى كان يشير فى الإستعمال الأول له إلى الشرف والتقدير أكثر من أى مزاعم خاصة بحق السلطة والتشريع. وقد سلم هيراقليس عمل التعليم إلى تلميذ آخر من تلاميذ أوريجن ، هو ديونيسيوس، الذى خلفه فى الإسقفية سنة 249م أيضاً.

( كليمنت وأوريجن فيلسوفان سكندريان من أصل إغريقى، عاشا بين االقرنين الثانى والثالث ، تحولا إلى المسيحية، وترأسا المدرسة التعليمية التابعة للكنيسة، وساهما بشكل كبير فى وضع أولى المبادئ الأساسية للعقيدة الجديدة ، فى السلوك وفى اللاهوت)

كانت فترة السبعة عشر عاما من أسقفية ديونيسيوس (الأسقف الرابع عشر الذى يبدأ معه الدور الكبير للكنيسة المصرية فى الشأن المسيحى المحلى والعالمى - 249-265م)، فترة محنة لكل من مدينة وكنيسة الإسكندرية. ولكن فى سيرته ، بدت أسقفية الإسكندرية فى ذلك الموقف من السلطان على كنيسة مصرية واسعة، وأيضاً فى موقف مؤثر فى الشئون العامة للمسيحية، والتى كانت على وشك أن تحتله فعلاً فى التاريخ اللاحق. وبداية مع ديونيسيوس يمكن لنا أن نرى الأساقفة المصريين فى ذلك المركز المزدوج، الذى كانوا يشتاقون لإحتلاله ، أى مركز الأسقف العظيم فى الكنيسة العالمية، و مركز القائد الوطنى فى مصر.
وفى مصر اليونانية الرومانية، المعروفة لنا أكثر من أى جزء آخر فى العالم القديم، بفضل السجلات التى حُفظت على أوراق البردى ، حكمت طبقة حاكمة إغريقية أو متأغرقة، وسخرت جمهوراً من السكان الناطقين بالمصرية. ويتشابه هذا الموقف مع موقف إنجلترا فى فترتها النورمانية الفرنسية، بما فى ذلك فترة الإحياء الأخير للغة العامية فى شكل مبسط، والذى تأثر باللغة الأجنبية إلى حد كبير. ترتبط اللغة القبطية ، تقريبا ، باللغة المصرية القديمة، بنفس الشكل الذى ترتبط به اللغة الإنجليزية فى العصور الوسطى باللغة الأنجلوسكسونية. وقد بدأ إحياء وطنى تحت حكم البطالمة، ولكن ذلك قد أوقف بإدارة أغسطس وخلفائة الفعالة، والذى أصبح التمييز بين المصريين والإغريق - تحت حكمهم – أكثر حدة. وقد واصلت المدن الإغريقية الثلاث – نقراتيس القديمة، وبطلمية فى طيبة، ومستوطنة هادريان الجديدة أنتينوبوليس – أشكال الحياة المدنية الإغريقية، وكانت مراكزاً للثقافة الإغريقية. وكذلك ، ولمدى أكبر أو أقل ، كانت عواصم النومات التى كانت مصر قد قسمت إليها منذ زمن سحيق . وبالعظمة التى أضفاها عليها لقب ميتروبوليس( أى عاصمة ) إرتدت المدينة المصرية القديمة رداء المدينة الإغريقية. وقد إستمر تشجيع ذلك الإتجاه عندما، ولأسباب تسهيل الإدارة ، قام الرومان بإنشاء حكومات بلدية فى تلك العواصم، وأكمل الإمبراطور سفيروس ذلك التنظيم بمنحها حق تكوين مجالس شيوخ محلية. كان ذلك الإطار متاحاً لتأسيس الكنيسة على نمطه ، مدينة مدينة، تبعا للنموذج الشائع للحياة القديمة.
يمر الزائر إلى مصر بعدد من المدن التى كانت على قدر من الأهمية فى تاريخ الكنيسة. تقسم مصر طبيعياً بين الدلتا ووادى النيل، أو مصر الوسطى ومصر العليا. وفى العصر اليونانى الرومانى كانت نومات الجزء الشمالى من الوادى غالباً ماتنفصل إلى مقاطعة إدارية ثالثة، والتى يمكن لنا أن نصفها بمصر الوسطى. وسوف تكون هذه القطاعات الثلاث تصنيفاً مناسباً.
كانت أول مدينة مصرية تقابلنا عند النزول من سوريا هى مدينة رينوكورورا أو رينوكولورا، وبعدها كان يأتى مركز مدينة بلزيوم الهامة، والتى كانت، وبشكل ما ، توازى مدينة الإسكندرية كبوابة شرقية للبلاد. ومن هناك كان يمكن للمسافر أن يواصل طريقه مبحراً عبر قنوات وبحيرات الدلتا ، رغم أنه إذا ماكان فى عجلة من أمره للوصل إلى ألإسكندرية، أو إلى مصر العليا، فقد كان من الأفضل أن يسافر عبر الحد الشرقى للدلتا حتى قمتها. وهناك كانت قلعة بابليون العسكرية ، التى بُنيت عند نقطة إستراتيجية فى النهر ، قد بدأت تطغى على مدينة ممفيس القديمة ومعابد هليوبوليس. كانت مدن دلتا ، وبشكل عام ، مزدهرة وهادئة، وكانت غامضة لنا فقط، بسبب أن إرتفاع وإنحسار الفيضان كان يحطم السجلات والآثار.وبين الأماكن الهامة كانت مدينة تنيس وتميس فى الشرق، أما فى الغرب فقد كانت مدينة سايس، التى كانت عاصمة لمصر يوما ما ، كما كانت المدينة الأحدث نيقيوس، والتى كان قد أصبح لها أهمية تجارية وعسكرية متزايدة كموقع وسط بين بابليون والإسكندرية. وإلى الغرب من الإسكندرية كانت نومة مريوط، شبه ضاحية تطل بمدنها وقراها على المدينة العظيمة. وخلف ذلك كله كان مازال هناك مزيد من الإقليم المصرى الممتد على الساحل. وأخيراً نمر بباراتونيوم ونصل إلى حدود ليبيا بمركزها فى سيرينا، والمدن الإغريقية الأخرى فى بينتابوليس.
كانت كل تلك المنطقة مسكونة ومزروعة بإستمرار وبأكثر مما كانت فى العصور اللاحقة. كانت سيرينيكا ( برقة)، ورغم أنها مقاطعة منفصلة، مرتبطة بمصر إلى حد كبير. وبعدها كان يمكن لنا أن نعبر إلى منطقة اللغة اللاتينية ، و كما سيكون الحال فى العصور التالية ، من نطاق الكنيسة اليونانية فى مصر إلى نطاق الكنيسة اللاتينية فى إفريقيا.
كان أبرز ملامح مصر الوسطى ، أو الهيبتانوميا ، هو واحة الفيوم العظيمة، والتى كانت ترتبط بوادى النيل، وتروى من فرع من النيل يصب فى بحيرة. وقد كسب البطالمة كثيراً من الأراضى الجديدة عن طريق الإستصلاح والرى، بحيث برر لهم ذلك إعادة تسمية الإقليم بنومة الأرسيونية، وعاصمته بإسم أرسينوى على إسم ملكة بطليموس الثانى. وقد أدى إضمحلال أعمال الرى فى القرن الثالث وماتلاه إلى هجر العديد من القرى، والتى ندين لظروفها بالعدد الكبير من أوراق البردى التى حُفظت فى خرائبها. ظلت الفيوم تحتفظ بأهميتها، التى ربما إكتسبت من مستوطنيها الإغريق الأوائل إنفتاح مؤكد على الحركات الجديدة. إن أحد العلامات البارزة على إنتشار المسيحية فى القرن الثالث، هو إكتشاف بردية عهد جديد من قرية نائية إلى الغرب من البحيرة، وكانت الوحيدة على ذلك الساحل الذى حدث أنه كان يحتوى أيضاً على مقام إله التمساح المحلى للمنطقة. أما أكثر المدن التى كانت معروفة لنا بين مدن مصرالوسطى، وكانت إحدى المدن الرئيسية فى العصر القديم، فهى مدينة أوكسرينشوش التى وفرت لنا مخزناً غنياً من أوراق البردى. أما المراكز اليونانية الرومانية المعروفة بإسم الأنتونيبوليس، والتى عرفت بعد ذلك بمجرد الإسم أنتينوى وبطلمية، كان كلاهما يقع فى الجزء الشمالى من طيبة، بالقرب من المدن ذات الأصل المصرى القديم، ليكوبوليس وهيرموبوليس. ويخفى الإسم هرمس الإسم المصرى توت، كما كان حورس يُعبد فى أماكن اخرى بصفته أبوللو، فى المدينتين المسميتين أبولونوبوليس. وأبعد بإتجاه الجنوب، لم يكن الإله الحامى لمدينة بانوبوليس، هو الإله الإغريقى بان، ولكن الإله المصرى من.
كانت طيبة نفسها قد تفتت إلى مجموعة من القرى المنفصلة، بعد أن كانت مركزاً لثورة ضد البطالمة، ومع ذلك فقد ظلت مصر العليا والوسطى تُعرف بإسم طيبة بشكل عام. وأخيراً وعلى الحد الجنوبى لمصر ، وعند الشلال الأول ، كانت منطقة الفنتين وسين ومزارات جزيرة فيلة ، وهى مواقع كان الواجب فقط يضطر أى رومانى لزيارتها. ومع ذلك ، فحتى القرن الثانى على الأقل ، ظل السواح يسافرون جنوباً حتى طيبة فى زياراتهم للآثار والغرائب المصرية. كانت هذه الآثار ، وبشكل عام ، مقدسة، وذلك لإن العقيدة المصرية القديمة، كانت هى الباقى الرئيسى من ماضى البلاد المجيد.
إنه من الصعب أن نعرف القدر الذى ظلت به العقيدة الوطنية مصرية فى العصر الرومانى، فقد كانت طبقة الكهنة قد فقدت كثيراً من إستقلالها فى زمن أغسطس، عندما تم علمنة إدارة معظم ممتلكات المعابد تحت إدارة موظف رومانى حمل لقب الكاهن الأعلى للإسكندرية ومصر، رغم أنه لم يكن يمارس أى وظائف دينية. وفى زمن الإمبراطور ماركوس أوروليوس، قاد أحد الكهنة ثورة محلية، ولكن ذلك كان قصة إستثنائية. وبعد تغييرات سفيروس، إنتقلت إدارة المعابد إلى طبقة من الكهنة المحليين الكبار، والذين كانوا أقل إهتماماً بالحفاظ على التقاليد المصرية القديمة بأكثر، مما كان حكام البلاد الأجانب. ومن المؤكد أنه سواء فى الشعائر العامة أو العبادة الخاصة وكذلك السحر ، فقد ظل الناس يزورون آلهة البلاد القديمة، التى ظل بعضها باقياً، وبشكل يبعث على الدهشة، إلى نهايات العصر الرومانى تقريباً. ولكن الإنطباع العام الذى يمكن أن نخرج به هو أنه بحلول القرن الثالث، كانت بنية العقيدة المصرية القديمة قد أخذت فى الإضمحلال ، وبدأت طبقتها الكهنية تنسى تقاليدها الدينية، كما ظل العامة يحتفظون فى قالب هيلينستى قليل من العادات فقط، مثل طقوس الدفن أو تقديس بعض المقامات. وإنها لمصادفة ذات مغزى أن يكون آخر إمبراطور يظهر على جدران المعابد هو دقيوس، الذى أطلق أول إضطهاد عام على المسيحيين، مما يعنى إعترافاً بالنمو المتزايد للعقيدة الجديدة.
وهناك تقليد متأخر ليس له قيمة كبيرة فى ذاته ، ينسب فيه إلى ديميتريوس أول تعيين لأساقفة خارج الإسكندرية ، وهو علامة واضحة على إمتداد المسيحية المنظمة ، ومع ذلك فقد يتوافق ذلك تماماً مع الحقائق ، حتى إذا حدث ذلك بالمصادفة. إن تقرير يوسيبيوس عن أن الشهداء كانوا يُحضرون إلى الإسكندرية من كل انحاء مصر ومن طيبة فى زمن الإمبراطور سفيروس يبدو غامضا جداً، بحيث قد يجعلنا نتسائل إذا ماكان ذلك مجرد وصف لأحد الإضطهادات المبكرة فى مفردات الإضطهادات الأحدث. ولكن السنوات التالية قد شهدت بالتأكيد إنتشاراً واسعا للمسيحية فى مصر، والتى يدل عليها الأعداد المتزايدة لمخطوطات العهد الجديد، والتى جاء بعضها من أماكن نائية فى مصر. وبحلول منتصف القرن، أصبح لديونيسيوس مسئولية الإشراف على الجماعات المسيحية المنتشرة بشكل كبير فى كل أنحاء البلاد، لدرجة أنه عندما نُفى فقد ذكر ملاحظة على أنها تمثل مزيداً من المعاناة التى كان عليه أن يواجهها، وهى أنه قد يُنفى إلى مكان نائى لايمكن له أن يلتقى فيه بأى من الإخوة. و تغطى سيرته كثيراً من أوجه المسيحية المصرية والسكندرية.
وتقريباً مباشرة بعد تولى الأسقف ديونيسيوس إنفجر الإضطهاد فى الإسكندرية، وإتسع بعد ذلك بحوالى سنة، بعدما دشن مرسوم ديقيوس الإضطهاد العام فى سنة 250م. ويبدو أن ذلك كان المناسبة التى كان فيها الشعور الشعبى مسئولاً عن بداية حركة معادية للمسيحيين فى مصر، رغم أن العنف سهل الإستثارة المميز للسكندريين كان دائماً حاضراً ليزيد من حدة الإضهاد بمجرد أن يبدأ. ويذكر ديونيسيوس أربعة حوادث إستشهاد ونهب عام للمتلكات المسيحية، والتى يتضح أنها كانت نتيجة للشغب أكثر مما كانت نتيجة لأى إجراء قانونى. كانت العذراء العجوز أبولونيا إحدى هؤلاء الشهداء، والتى أكسبها فكاها المكسورتان بعد ذلك مركز القديس الحامى للذين يعانون من آلام الأسنان. بدأ وصول المرسوم الإمبراطورى إختبار المؤمنيين بالطلب الرسمى لشهادات تثبت أنهم قد قاموا بالتضحية بالشكل المناسب لآلهة الدولة(الوثنية).وإنه من غير المؤكد إذا ماكانت هذه الشهادات كانت تطلب من جميع السكان أو على الأقل من المواطنيين الرومان الراشدين، والذين كانوا قد أصبحوا يعنون آنذاك كل الأحرار من سكان الإمبراطورية، أو فقط من هؤلاء الذين كانوا محل شك بإعتناق المسيحية، أو الإهمال فى أداء واجباتهم المدنية الدينية الأخرى. كانت النتيجة على أى حال هى تحدى عام للمسيحيين من أجل أن ينكروا عقيدتهم، أو يستعدون للشهادة. ويخبرنا ديونيسيوس عن مشاهد حدثت فى الإسكندرية، حدث مثلها فى أماكن أخرى من العالم. فقد جاء البعض يرتعش مذعناً لتقديم القرابين، وآخرون جاؤوا بإحساس من الإشمئزاز لكونهو أكرهوا على إنكار عقيدتهم، وهرب البعض ووهن البعض، بعد أن تحمل الأصفاد والتعذيب لبعض الوقت. ولكن فخر الكنيسة كان فى هؤلاء الذين ظلوا ثابتين حتى النهاية. ويذكر ديونيسيوس ثمانية عشر شهيداً واضحاً أو مجاهراً بالإيمان فى الإسكندرية، والذى يميز أربعة منهم بصفتهم مصريين، وواحداً ليبياً. ومن الصعب إعتبار هذه الأرقام أساساً لأى تقديرات إحصائية، ولكنها مع ذلك تدل على أنه كان هناك أقلية مصرية فى كنيسة الإسكندرية. وقد إتبع ديونيسيوس نفسه المنهج المتفق عليه بعدم البحث عن الشهادة، وعدم تجنبها فى نفس الوقت. ولم تعثر عليه السلطات فى منزله فى الإسكندرية ، لكنها قبضت عليه بعد ذلك عندما ظهر هو ومرافقوه فى مكان آخر، وأحضرته إلى طبوسيرس ، إحدى مدن مريوط الرئيسية. وهناك هرب أحد مرافقوه ، وحرض الحاضرين فى أحد حفلات الزفاف، فهاجموا المنزل الذى كان يحبس به ديونيسيوس ورفاقه، فأثار ذلك فزع الجنود الذين كانوا يحرسونه. ظن ديونيسيوس فى البداية أن بعض اللصوص كانوا يهاجمونهم، لكنه سرعان ماأدرك أن ذلك كان إنقاذاً وسمح لنفسه بأن يُقاد إلى الخارج. ويخبرنا ديونيسيوس أن هناك آخرون كثيرون قد عانوا فى العديد من مدن وقرى مصر، ولكنه يذكر مثالاً واحداً بالتحديد خاص بخادم يدعى آسكريون، قتله سيده عندما رفض تقديم القرابين. وقد إحتفظت لنا أوراق البردى بالعديد من شهادات الإضطهاد، والتى تعكس لغتها المتشابهة ، بوضوح ، شكلها الرسمى، وربما تخدم إحدى تلك الشهادات من أوكسيرنشوس كمثال :
( فإلى هؤلاء القائمين على تقديم القرابين والأضحيات فى المدينة من أوريليوس ثيون إبن ثيودوروس وبانتوميس من المدينة المذكورة، وحيث كنت معتاداً دائماً على تقديم القرابين والشراب للآلهة، فأنا أقوم الآن بأداء نفس تلك الأعمال فى حضورك تبعاً للأوامر. فقد سكبت الشراب، وقدمت الأضحية، وتذوقت القربان معا ، مع إبنى أوروليوس ديسقوروس، ومع إبنتى أورليا لياس. وأطلب منك أن تعطينى شهادة بذلك. السنة الأولى من حكم الإمبراطور قيصر جايوس ميسيوس كوينتوس تراجانوس ديقيوس بيوس فيلكس أغسطس). ( بونى رقم 10).
وعندما إنتهى الإضطهاد ( إضطهاد ديقيوس )إتخذ ديونيسيوس ، مثل كابريان فى الغرب ، رأياً حازماً ولكن معتدلاً فى معاملة هؤلاء الذين إنهاروا أثناء سنوات الإضطهاد، ولكنهم أصبحوا يرغبون الآن فى العودة إلى الكنيسة، فقد سمح بالعفو عنهم، ولكن بعد درجات مختلفة من درجات التعبير عن الندم،خاصة فى ظل شفاعة بعض المجاهرين بالإيمان، من الذين عاشوا بعد سنوات السجن والتعذيب، وبدوا الآن وكأنهم يحكمون مع المسيح. وقد عبر ديونيسيوس عن موقفه فى خطابات لجماعته، سواء فى الإسكندرية او فى مصر، كما إتخذ دوراً واضحاً فى مناقشة ذلك الموضوع فى الكنيسة فى حرية تامة. وقد وجه ديونيسيوس خطاباً عن التوبة إلى مسيحيى أرمينيا، فى محاولة لمنع الراهب الرومانى نوفاشيان من الإنشقاق الذى أطلقه على أسس من مبادئ متعنتة، ومؤكداً تأييده لكورنيليوس، أسقف روما ، ومثنيا فابيوس، أسقف أنطاكية ، وبعده عن حزب نوفاشيان . فكتب إلى نوفاشيان :
(إن المرء يمكن أن يتحمل أى شئ عدا تقسيم كنيسة الله، حتى أن الشهادة من أجل تجنب الإنقسام لن تكون أقل مجداً من الشهادة من أجل تجنب عبادة الأوثان و أنها حتى، فى رأيى ، سوف تكون أعظم، لإنه فى الحالة الأولى فإن المرء يستشهد من أجل روحه نفسه، ولكن فى الحالة الأخرى فإنه يستشهد من أجل كل الكنيسة).
أمر ديونيسيوس بالعفو عن المحتضرين إذا مارغبوا فى ذلك، وخاصة إذا ماكانوا قد أظهروا علامات من الندم قبل ذلك، كما أخبر فابيوس عن قصة تنويرية لمؤمن عجوز يدعى سيرابيون، كان قد إضطر لتقديم القرابين الوثنية أثناء سنوات الإضطهاد، لكن عمره إمتد بشكل معجز، حتى عاش وأصبح لديه الوقت ليرسل حفيده الصغير إلى الكاهن من أجل طلب المغفرة. ولإن الأخير كان هو نفسه مريضاً فى ذلك الوقت، فقد حصل سيرابيون على المغفرة من خلال جزء من القربان المقدس، الذى أخبر الكاهن الولد الصغير أن يأخذه معه وأن يبلله ويسقطه فى فم سيرابيون. لقد كان تناول الكاهن للقربان المقدس فى منزله، وبصفته الراعى المحلى، لمحة مطابقة لحياة كنيسة الإسكندرية.
جلب الإنشقاق معه السؤال عن صلاحية المعمودية الهرطقية، لإن بعض من أتباعها كانوا قد عادوا مرة أخرى إلى الكنيسة، وأحضروا معهم أطفالهم ومهتديهم. كان ذلك الموضوع قد قوبل بشكل اكثر تطرفاً فى حالة المهتدين من الفرق الغنوصية، والذين كان تعميدهم الأصلى مختلطاً ببعض الطقوس الغريبة. وهنا أيضا إتخذ ديونيسيوس موقفاً معتدلاً، يمكن إستنتاجه من القطع المؤثرة من خطابه عن الموضوع لعدد من الأساقفة والكهنة فى روما. فقد دافع عن حق كابريان فى آرائه المتشددة، ولكنه فى نفس الوقت قد طرح مجادلات توضح أن التعميد الهرطقى قد يكون مقبولاً أحياناً. ويبدو أن هدفه كان منع كلا الجانبين من دفع موقفه بخشونة أكبر. ومن الواضح أنه كان مدفوعاً بتعنت نوفاشيان كما كان نصيراً مبكرا لإتجاه الكنيسة الشرقية فى التقدم بإقتصاد وعلى أسس من الإعتبارات العملية، بدلاً من محاولة رسم خطوط متشددة وسريعة فى الوقت الذى يوجد فيه مكاناً للشك المنطقى.
وسرعان مابدأت محن الكنيسة مرة أخرى فى عهد الإمبراطور فاليريان، الذى كان إضطهاده موجهاً بشكل خاص نحو قادتها، وكان يهدف إلى تقويض تنظيمها أكثر من قتل مزيداً من الشهداء. وقد أُحضر ديونيسيوس إلى حضرة الحاكم إيمليانوس مع رفيقه الكاهن مكسيموس، كما أسماه ، وثلاثة من شمامسته وأخ زائر من روما تصادف وجوده معهم، وبعد رفضه لفرصة العفو مقابل تغيير شروط عبادة إلهه ، مع آخرين، تم نفيه إلى سفيرو فى ليبيا، ومُنع المسيحيون من عقد أى إجتماعات أو التجمع فى المقابر. أُعتقل ديونيسيوس فى أماكن مختلفة، بينما أخفى أربعة كهنة وثلاثة شمامسة أنفسهم فى الإسكندرية ، ونجحوا فى مواصلة أعمال الكنيسة بما فى ذلك خدمة المجاهرين بالإيمان ودفن الشهداء، كما كان هناك كاهنان آخران ، أكثر شهرة فى العالم ، هائمان على وجههما فى مصر. وتدل هذه الأرقام على مكانة الكنيسة السكندرية فى ذلك الوقت. إستطاع ديونيسيوس فى منفاه متابعة أداء الخدمات الكنسية، بل وحتى إكتساب مهتدين جدد، وإستمر فى متابعة الشئون الكنسية بواسطة الخطابات، وذلك حتى منح مرسوم العفو من قبل الإمبراطور جالينوس سنة 262م السلام للكنيسة، وإستطاع ديونيسيوس العودة إلى الإسكندرية مرة أخرى.
وبعد ذلك مباشرة تقريباً حدثت ثورة إميليانوس والحرب الأهلية فى الإسكندرية. كان ديونيسيوس قادراً على الإتصال بجماعته عبر الخطوط ، والتى حولت الشارع الرئيسى إلى جبهة قتال لبعض الوقت ، أو كبحر أحمر جديد ، كما أشار ديونيسيوس إلى ذلك فى شكل بلاغى. وجلبت الحرب الوباء فى أعقابها، وسجل ديونيسيوس كيف إعتنى مسيحيو الإسكندرية بالمرضى على حساب تعريض حياتهم للخطر، وفى تلك الظروف مات بعض أفضل رجال الكنيسة والمدنيين كشهداء الإحسان. وخلال كل تلك المحن إستمر ديونيسيوس فى إصدار رسائله الإحتفالية السنوية معلنا تاريخ الفصح مع رسالة السنة، مُرسلاً أحياناً بعض الرسائل المنفصلة إلى التجمعات السكندرية وإلى مصر. كان المسيحيون قد بدأوا حديثاً فى تحديد تاريخ الفصح لأنفسهم، وكانت الإسكندرية وروما هما المكانان اللذان يملكان الإهتمام والمعرفة الضروريان لذلك. كان إسهام ديونيسيوس هو الدفاع عن مبدأ وضع الفصح بعد الإعتدال الربيعى، كما بذل مجهوداً بسيطاً ، غير ملائم ، فى تحديد ذلك التاريخ فى دائرة كل ثمان سنوات. قُدر للمعرفة المسيحية فى الإسكندرية أن تؤدى أفضل من ذلك كثيراً فى المستقبل ولكنها على الأقل كانت قد بدأت تتعامل مع تلك المسألة فى زمن ديونيسيوس.
وفى سنواته الأخيرة بدأ ديونيسيوس فى المشاركة فى المناقشات اللاهوتية لعصره. وقد كتب لمسيحيى سيرينكا ، بقوة ، ضد هرطقة سلابليوس الليبى، الذى أنكر التمييز بين أشخاص التثليث، والذى كانت أفكاره تنتشر بسرعة فى موطنه. وفى هجومه على الخروج عن العقيدة بدا ديونيسيوس وكأنه يميل إلى الخطأ المقابل، وقد وبخ من قبل سميه ديونيسيوس أسقف روما فكتب رسالة أخرى يدافع بها عن موقفه. وفى إصراره على التمييز فإنه لم يكن يعنى إنكار وحدانية الألوهية ولكن ، وبالأحرى ، أن يؤكدها، وكما فى المعتقد المسيحى فإن الله هو بالتساوى واحد وثلاثة. وفى القرن التالى شعر أثناسيوس ببعض الصعوبة فى الحفاظ على أرثوذكسية سلفه، خاصة لإن ديونيسيوس كان قد قبل ، رغم أنه نفسه لم يحبذ ذلك بشكل واضح ، إصطلاح (هوموسيوس)، الذى تبناه مجمع نيقية بعد ذلك من أجل التعبير عن طبيعة الأب والإبن ( من نفس الجوهر). وقد يسجل المؤرخ هذه الحادثة على أنها المثال الأول لتشريع الكنيسة السكندرية فى بينتابوليس، ولابد أنه سيشعر بالأسف لإنه لايبدو واضحاً إذا ماكان ديونيسيوس أسقف روما قد تدخل ، كما اشرنا سابقا، على أساس من مركزه العام، أو بسبب العلاقة الخاصة مع الإسكندرية.
دُعى ديونيسيوس ، وقد تقدم به العمر الآن ، إلى أولى المجامع التى أدانت هرطقة بولس السموساطى فى أنطاكية، والذى يقال أن قد مثل المسيح كمجرد إنسان عادى فى طبيعته. وبسبب عدم قدرته على الحضور أرسل ديونيسيوس رسالة برأيه إلى المجمع آخذا الرأى الأرثوذكسى بشكل قاطع. ثم مات ديونيسيوس فى السنة الثانية عشرة من حكم الإمبراطور جالينوس( 264-265م)، وذلك قبل أن تُحسم تلك المسألة. ويُعتبر أفضل ماحفظ من مناقشات ديونيسيوس اللاهوتية ذا قيمة غير عادية من نواحى عديدة. كان أسقف مصرى يدعى نيبوس قد كتب عملاً بعنوان (ضد المجازيين)، مؤيداً للتفسير الحرفى للكتاب المقدس، وخاصة عن وعود الحياة المستقبلية فى سفر الرؤيا. وقد إنتشرت أفكاره تلك حتى بعد وفاته، وخاصة فى نومة( مقاطعة) أرسينوى. وقد كرم ديونيسيوس ذكرى نيبوس( لإيمانه وعمله وصلواته). ولكن الآن كان سلطان كتابته مازال يحفظ الإخوان الأبسط فى دائرة الآمال المادية فقط ، فى الوقت الذى كان يمكن لهم فيه أن يرتفعوا إلى أشياء أسمى ، لكنهم تقريباً قد وضعوا الأناجيل ورسالاتها قبل الأنبياء والقانون. شعر ديونيسيوس أن عليه أن يفعل شيئا إزاء ذلك. ويعتبر نيبوس هو أول مثال مسجل للناسك القبطى البسيط الخاشع، والتى كانت الحياة المسيحية تعنى بالنسبة إليه معركة يأمل من خلالها أن يكسب طريقه إلى ميادين سعيدة تختلف عن تلك، التى كان أجداده الوثنيون يؤمنون بها. وربما كانت أكثر الصلوات التى شجع بها إخوته المسيحيين هى التلاوة الخاشعة للمزامير أو تصنيف الترانيم المسيحية وخاصة الأخيرة. إستدعى ديونيسيوس كل من كهنة ومدرسى قرى مقاطعة أرسينوى، ومن خلال الحوار الصبور الطيب أقنعهم وأقنع قائدهم كورشيون بأخطائهم. كان ذلك بالتأكيد أسلس حالة من كل حالات المعالجة الكنسية للهرطقة. ومضى ديونيسيوس فى عمله( عن الوعود) يناقش موقف سفر الرؤيا. لم يتفق ديونيسيوس مع هؤلاء الذين رفضوا السفر بصفته عملاً مادياً، ولم يبد أنه هو نفسه قد إهتم به كثيراً ، ولكنه شعر أن كتاباً يحظى بكل ذلك التقدير، لابد أنه يحتوى على معانى أعمق كثيراً مما يبدو على السطح. وفى كل الأحوال فإن الكتاب لم يكن، بالتأكيد ، من عمل الحوارى والإنجيلى يوحنا. وقد أيد ذلك الإستنتاج من خلال مقارنة نقدية للشكل والأسلوب والأفكار بين الأناجيل والرسالات الإنجيلية من جهة، وبين سفر الرؤيا من جهة اخرى، وإعتمد على القصة التى تقول بأنه كان هناك شخصان دفنا فى إفسوس، وكانا يحملان نفس الإسم يوحنا. ففى الأيام المبكرة للمسيحية، فلابد أنه كان هناك الكثير من الآباء الذين أسموا أبنائهم بالإسم يوحنا على إسم يوحنا الرسول، تماماً كما كان يسمى الآن كثير من الأطفال المسيحيين بإسم بطرس أو بولس، وتلك ملاحظة تعطينا معلومة هامة عن إستخدام بعض الأسماء المسيحية بشكل خاص، والتى كانت على وشك الظهور فى ذلك الوقت. إنه من الممكن ان يُقال عن معظم الشهداء والمجاهرين بالإيمان فى الإسكندرية، بأنهم قد عانوا ذلك بسبب رفضهم لعبادة الآلهة، التى كانوا يحملون أسمائها. كانت مناقشة ديونيسيوس لسفر الرؤيا توليف رائع من الإتجاهات المجازية والنقدية لأستاذه أوريجن، حيث أنها كانت تبرر بعضها البعض، وقد جعلت مؤلفها جديراً بمكان فى التيار العام لمدرسة الإسكندرية.
وتعطينا جذاذات ديونيسيوس لمحة عن إنتشار الكنيسة فى مصر، مما يجعلنا نشعر بالأسف كثيراً على فقدان مجموعة الرسائل، التى من الواضح أنها كانت تحت تصرف يوسيبيوس(المؤرخ). فكثير من رسائل ديونيسيوس قد أشير إليها على أنها كانت موجهة إلى هؤلاء الذين فى مصر، أو إلى أساقفة مصريين لم تُذكر أسقفياتهم، ويمكن أن يكون كولون الهرموبوليسى ، والذى إستلم أحد تلك الرسائل عن موقف ديونيسيوس من الذين إنهاروا أثناء سنوات الإضطهاد ، من منطقة هرموبوليس بارفا بالقرب من الإسكندرية، أو هرموبوليس ماجنا فى طيبة. والمنطقة الأولى هى الأكثر إحتمالاً. ولكن الأسقف شيريمون الهرموبوليسى يأخذنا إلى مصر الوسطى على الأقل. وعند زيارته لأرسينوى تعامل ديونيسيوس فقط مع الكهنة والمدرسين ، والذي يمكن أن يكون ببساطة طريقتين لوصف نفس الأشخاص ، ولكنه يدل على إعادة إنتاج مؤكد فى كنائس القرى لتنظيم كنيسة الإسكندرية. ولايظهر أى أسقف فى تلك القصة سوى الراحل نيبوس ، فهل كان هو أسقف أرسينوى وكانت زيارة ديونيسيوس إلى هناك زيارة لأسقفية خالية، أو هل كانت جموع الفيوم المسيحية مازلت بدون أسقف خاص بها؟ وبين مستقبلى رسائل ديونيسيوس ضد سابيليوس الليبى كان الأسقف آمون أسقف برنيس، التى كانت مدينة فى أقصى غرب سيرنيكا، والأسقف باسيليدس أسقف إحدى أسقفيات بينتابوليس. وقد ظل ديونيسيوس نفسه ، ورغم بسطه لإشرافه الرعاوى على مصر كلها، وبينتابوليس، سكندريا خالصا. وقد وجد بعض العزاء عندما نُقل إلى مكان منفى أكثر سوءً فى أن ذلك المكان كان على الأقل أقرب إلى الإسكندرية، بحيث أنه فى الوقت الذى فقد فيه التجمعات المسيحية من مصر، فقد أصبح أقرب إلى أصدقائه فى الإسكندرية.
ربما كان ديونيسيوس ، الباحث والراعى وهادى الهراطقة ومداوى الإنشقاق هو أكثر الشخصيات جاذبية وتنوعا فى سلسلة بابوات الإسكندرية. وحتى فى لحظات الضعف ، مثل جزعه فى طبوسيريس أو تفضيله للصحبة السكندرية فى المنفى، فإن ذلك يضيف لمسة إنسانية لطيفة لشخصيته. وأكثر من ذلك ، فإن سيرته تتميز بتوقعات رائعة للملامح السائدة فى التاريخ اللاحق لأسقفية الإسكندرية، وتلقى ضوءً هاماً على تنظيمها وروحها، ففى الإسكندرية وقف ديونيسيوس كرئيس لمجلس رفاقه الكهنة، لكن ذلك لم يقلل أبداً من إحساسه بسلطته سواء هناك ، أو على أسقفيات مصر الأخرى. ولقد ترك ميراثاً هاماً عن نشاطاته فى كتاباته ، وفى كنيسة ديونيسيوس فربما تكون الكنيسة قد حصلت على مقر خاص لها فى زمانه، والذى أصبح المقر ألأسقفى العادى فى القرن التالى.

خلف ديونيسيوس رفيقه السابق مكسيموس (265-282م)، وخلف ثيوناس مكسيموس (282-301م)، ولكن كان هناك شخصيات أخرى أكثر شهرة وتفوقا بين المسيحيين السكندريين فى زمانهما. وتعكس روايات عديدة المركز المتنامى للمسيحيين فى الحياة العامة للمدينة، فأثناء حصار بوروشيون سنة 273م، كان أنتوليوس شخصية قائدة بين المدنيين المحاصرين، إشتهر بمعرفته العلمية، وكان قد عُرض عليه ترأس منصب رئيس مدرسة أرسطو بالإسكندرية. لقد كان واحداً من الحكام أو على الأقل كان شخصية قائدة فى المجلس، وعندما كانت المؤن فى تناقص فى الجزء المحاصر من المدينة، إستطاع تأمين ممر آمن إلى الخطوط الرومانية لمعظم الغير محاربين من رجال الكنيسة و غيرهم. وعند وصولهم رُحب بهم بالمؤن والمساعدات التى دبرها يوسيبيوس، الذى وكأحد شمامسة ديونيسيوس، كان قد شهد على صحة الإيمان وخدم المجاهرين به فى السجن فى أيام الإضطهاد. وقد أنهى كلا الرجلين سيرتهما كأساقفة للادوشيا فى سوريا (اللاذقية الحالية). كان يوسيبيوس فى طريقه لأحد المجامع المعنية ببولس السموساطى عندما دُعى إلى الأسقفية، اما أنتوليوس فقد اصبح أولاً مساعد أسقف لقيصرية، ثم أختير بعد ذلك ليخلف يوسيبيوس. ترك أنتوليوس تأثيراً دائماً على حياة الكنيسة، حيث كانت تقديراته لتاريخ عيد الفصح على أساس فلكى صحيح لدائرة التسعة عشرعاما القمرية، هى نقطة البداية لكل تقويمات عيد الفصح التالية. لم يكن مركز أنتوليوس السياسى فريداً، فقد إحتل فيلوروموس، وهو أحد ضحايا الإضطهاد الأخير، واحداً من أعلى المراكز فى الإدارة الرومانية، حيث ترأس الجلسات القضائية التى كان يحضرها حارس. ربما كانت التقاليد الكنسية والأكاديمية قد نمت كل منها بمعزل عن الأخرى فى تلك الفترة، حيث لايبدو مكسيموس وثيوناس كشخصات دينية ، وكان رئيس المدرسة الدينية فى نهاية القرن هو أخيلس، والذى كان مرتبطا ببيريوس فى منصب الكاهن مما كان يعنى، وبلاشك، أنه كان مرتبطا بهيئة كنيسة بيريوس . ترك بيريوس ومدرس آخر يدعى ثيوجنستس جذاذات تشير، وبشكل عام ، إلى آراء أوريجينية .
وتبدو الإتصالات واسعة الإنتشار لمسيحيى الإسكندرية فى خطاب من روما يطلب فيه أحد المسيحيين من إخوته فى الفيوم تجهيز بعض المال له عند وصوله إلى الإسكندرية. ويُذكر البابا مكسيموس وثيوناس فى الخطاب، واللذان يمكن أن يكونا هما نفسهما ألأسقفان. ويبدو أنه كان قد إعتمد عليهما فى مساعدة أحد الإخوة المسيحيين فى تجارته. ويبدو أن كنيسة ثيوناس قد بدأت مع هذا ألأسقف، رغم أنها قد إستُكملت أو رُممت بواسطة الأسقف إسكندر بعد الإضطهاد. ويُعتبر بناء تلك الكنيسة خطوة إالى الأمام بصفتها أول بناء كنسى عام واضح يقام فى الإسكندرية. ويبدو أنها قد أقيمت بالقرب من الميناء، وأن بعض بقاياها قد ظل بعد ذلك فيما أصبح يُعرف فى العصور التالية بمسجد الألف عمود. وتبدو تلك الإشارات وكأنها تضع مشاهد أنشطة الكنيسة فى ألإسكندرية فى منطقة الميناء، أو فى الحى اليهودى القديم أو، وإلى حد ما ، فى منطقة بورشيون، وليس بعد فى منطقتى راكودة المصرية، أو فى مركز الحياة العامة بالقرب من الميناء الكبير.
شهد الجيل الأخير للقرن الثالث تطورين مرتبطين كان لهما أعظم الأثر على الكنيسة فى مصر ، وهما ظهور أول النساك، وظهور عنصر مصرى يتكلم القبطية فى الكنيسة المصرية. وقد مرا كلاهما دون أن يلحظهما احد فى بدايتهما ، وذلك رغم أن كتاب أثناسيوس فى القرن التالى (حياة أنطونيوس ) يعرفنا بقصة الشخصية المركزية فى أحد هذين التطورين، وبعض المعلومات الهامة عن التطور الآخر. وقد أشارت أفكار نيبوس بالفعل إلى أن الكنيسة كانت على إتصال بعناصر مصرية من السكان كانت تبدو، وبشكل قاطع، مصرية فى أسلوب تفكيرها أكثر مما كانت إغريقية. لقد كان من الواضح أنها تستخدم اللغة القبطية فى الربع الثالث من القرن الثالث. وترجع فترة شباب القديس أنطونيوس إلى تلك الفترة ، ورغم أنه لم يتعلم الإغريقية أبدا، فإن إنجذابه إلى الصحراء حدث بعد سماعه لتلاوة الكتاب المقدس فى الكنيسة. وربما كانت المرحلة الأولى هى تفسير الدروس إلى القبطية بعد أن قرأت بالإغريقية بنفس الطريقة التى تُقرأ بها الدروس القبطية بالعربية فى العصور الحديثة ، ومن هنا جاء المفسرون الذين نجدهم بين رجال الكنيسة فى إحدى الكنائس الإقليمية المصرية فى القرن الرابع. ومع ذلك فسرعان ماتبع ذلك إنتاج ترجمات قبطية رسمية نظامية للكتاب المقدس، وبحلول القرن الرابع أصبحت اللغة القبطية تستخدم فى الأغراض الدينية كما هى فى الأغراض الدنيوية تماما. ويبدو أن أول لهجة وضعت فى شكل كتابى كانت هى اللهجة البوهيرية للوجه البحرى. كانت الدلتا قريبة جداً من الإسكندرية، لدرجة جعلت منها مسرحاً لتطورات هامة فى اللغة القبطية ، ومع ذلك ، فقد أصبحت اللهجة الساهيدية لمصر الوسطى هى الشكل التقليدى للغة القبطية، وظلت كذلك طالما ظلت اللغة القبطية لغة حية.
كانت مصر الوسطى هى أيضا المهد لأعظم هبات مصر للكنيسة وهى حركة الرهبنة المسيحية. لم يكن العنصر الجديد فى تلك المؤسسة فى القرن الثالث هو قضاء المسيحيين لحياة الزهد ، والتى كانت تعود إلى أزمنة قديمة، ولكن الجديد كان هو الإنسحاب الجسدى من العالم إلى الصحراء. كان الزاهد من ذلك النوع هو الشخص الذى إنسحب أى الناسك أو ساكن الصحراء أو المعتزل، الذى يعيش وحده كراهب. وفيما بعد أصبح ذلك الإصطلاح محدداً فقط بمعنى الراهب، الذى يعيش بعيدا عن العالم، ولكن مع آخرين من نفس نوعه فى حياة مشتركة. وقد وجدت هذه المؤسسة قبل أن يصبح لها إصطلاح فنى، وكانت الإشارات الأولى تتحدث ببساطة عن الراهب بصفة( الرجل الصالح).
بدأ البحث عن مصادر الرهبنة مع الكتاب المسيحيين الأوائل الذين كتبواعن الموضوع، والذين أرجعوه إلى الحياة المشتركة للمسيحيين الأوائل فى أورشليم. وخارج المسيحية ، وجدت سوابق فى مصر لفكرة الإنسحاب من العالم من أجل الإنقطاع للعبادة، خاصة فى الدوائر التى وجد بها إمتزاج للديانة المحلية والفلسفة الشعبية الإغريقية. ففى القرن الثانى قبل الميلاد كان لدى معبد السيرابيوم فى ممفيس نساكه، رغم أن درجة وهدف إنعزالهم كانا غامضين. وبعد قرنين من ذلك التاريخ وصف فيلو إخوة المتدينين من يهود مصر، الذين إنقطعوا فى صوامع على شواطئ بحيرة مريوط من أجل التأمل فى الناموس ، مجتمعين أحياناً لتناول وجبات الطعام والعبادة. ويبدو التماثل فى الموقع والأنشطة، وحتى فى المصطلحات الفنية لبعض من الرهبان اللاحقين لنفس الإقليم واضحاً.وقد إفترض مؤرخو الكنيسة القدامى، من يوسيبيوس فصاعدا، أن فيلو لابد كان يصف الجماعة المسيحية الأولى التى أسسها القديس مرقس. ولكن لايوجد سبب لإفتراض ذلك، أو أى شئ سوى ان فيلو كان يعرف عن نوع من التدين ذو خلفية مشابهة لتدين يهود الإسكندرية ومسيحيى مصر فيما بعد. ويسجل نقش مكتشف حديثاً من بانوبوليس، والتى أصبحت بعد ذلك مركزاً لأكثر اشكال حركة الرهبنة المصرية تنظيما ، تأسيس ووهب مقام وحديقته المحيطة به من أجل الضيافة والتأمل الدينى، من قبل مواطن متقاعد فى زمن ما فى القرن الثالث. ومرة أخرى تقترح متشابهات المؤسسات الديرية اللاحقة نفسها، وذلك رغم أن الأفكار خلف هذه المؤسسة كان أساساً إغريقياً وفلسفياً، ورغم أن الديرية أو حركة الرهبنة التالية فى المنطقة كانت قبطية بشكل واضح. كانت أول حالة مسجلة للإعتزال المسيحى فى صومعة هى حالة الأسقف نرسيس، أسقف أورشليم فى فلسطين فى بدايات القرن الثالث.
وفى مصر أصبح الإعتزال من القرية إلى مقام أوربما إلى الصحراء، كأسلوب من الإعتراض والهرب ظاهرة كبيرة فى القرن الثالث. وربما مثل ذلك نوع من الإضراب أو الإعتراض على الضرائب المرتفعة أو طريقة للهرب من المتابعات المبررة أو الغير مبررة لجامعى الضرائب أو رجال البوليس. كانت مصر الوسطى ، وبشكل خاص ، مناسبة لذلك النوع من الإعتزال حيث كان الجبل العربى ، أى الصحراء الواقعة إلى الشرق من النيل ، تقطعه طرق القوافل المؤدية إلى موانئ البحر الأحمر، والتى كانت تقدم بعض التسهيلات المؤكدة لدخول الصحراء وتجنب الإتصال مع العالم، بينما تظل على بعض الإتصال مع وسائل الحياة الضرورية. ويخبرنا ديونيسيوس أن الكثيرين قد هربوا إلى الصحراء أثناء الإضطهاد الدقيوسى، حيث فنى عدد منهم فى الجبل العربى على يد البدو. وقد هرب شيريمون، أسقف نيبوليس العجوز، وزوجته إلى الجبل العربى ولم يُسمع عنهما بعد ذلك أبداً. وتبدو تلك الحادثة كأنها الأساس لأسطورة لاحقة عن راهب متجول وصل إلى واحة منعزلة، ووجد هناك أسقفاً عجوزاً عاش منعزلاً منذ كان قد هرب من الإضطهاد قبل خمسين سنة ، رغم أن القصة قد حولت بشكلها الحالى إلى زمن لاحق. ولايمكن إعتبار هؤلاء اللاجئين رهباناً رغم أنهم كانوا، وبالمعنى الحرفى للكلمة ، نساكاً وزهاداً. أما من وجهة نظر الحكومة ، فلم يكونوا يختلفون عن الآخرين ممن هربوا إلى الصحراء ليتجنبوا أحكام القانون، ولكن وفى نفس الوقت فقد كان هربهم شاهداً على مصيرهم، لإنه وبسبب خوفهم من عدم القدرة على تحمل مصير الشهداء، فقد فضلوا المنفى على خطر الردة. ومن ثم فقد بدأوا يمثلون مبدأ أن على الناسك أن يخلف الشهيد ، كالمناضل المسيحى والشاهد الأكيد.
وبالرغم من قصة القديس جيروم عن القديس بولس كأول معتزل ، والذى ربما يكون فى أحسن الأحوال شخصية رمزية، وفى أسوء الأحوال متدين محتال، فإن أثناسيوس كان محقاً فى إخباره لنا بأن أنطونيوس كان أول ، على الأقل فى مصر الوسطى ، من إعتزل إلى الصحراء فى قضية الزهد المسيحى. وإذا ماكان أنطونيوس قد وقع أبداً وثيقة قانونية فلابد أنه ، وبلاشك ، كان سيبدو كمواطن رومانى ، ربما يحمل الإسم أورليوس أنطونيوس . ورغم أنه كان وريثاً لإحدى الأسر الثرية فى قرية من قرى مصر الوسطى، فقد كانت لغته هى القبطية، كما كان مصرياً خالصاً فى توجهه. كانت الحياة المسيحية بالنسبة إليه هى معركة بسيطة ضد الشيطان، كان يمكن فيها للنظام والشجاعة أن يحققا النصر. وبعد وفاة والديه -سمع فى أحد الأيام بعض آيات الإنجيل تتلى فى أحد الكنائس( بع ما تملك وإتبعنى وسوف تملك كنوزاً فى السماء- إنجيل متى الآية 19 الإصحاح 21)، وعلى أثر ذلك قام ببيع الثلاثمائة فدان التى كان يملكها، ووهب ثمنها للفقراء، وعهد بأخته إلى عناية جماعة من العذارى(الراهبات) ثم وهب نفسه، وتحت إشراف ناسك عجوز من قريته وجماعة أخرى من المعلمين ، لحياة العمل والعبادة. كان إبتكار أنطونيوس فى هذا الموضوع هو إنسحابه التدريجى إلى حياة الصحراء المجاورة، حيث رحل أولاً إلى المقابر ثم إلى قلعة مهجورة فى الجبل بعيدا عن الأراضى المزروعة. وهناك قضى نحو عشرين سنة( تقريبا من سنة 285 إلى سنة 305م )، فى صراع منعزل مع قليل من الزوار فقط ،من الذين كانوا يحضرون له إحتياجاته البسيطة من أرغفة الخبز، ويستمعون لبعض الوقت عن تحديه للشياطين الذين أحاطوا به فى عزلته. لقد كان معروفاً جيداً لكل المصريين ، المسيحيين منهم والوثنيين ، أن الصحراء كانت مسكونة بالأرواح الشريرة ، ولذلك فقد إعتبر قراره التطوعى بالحياة بينهم عملاً من أعمال الشجاعة العظيمة. كان أنطونيوس مدركاً أيضاً، تماماً مثله مثل مفسريه المحدثين ، أن الإلتماس الشيطانى كان موجهاً مباشرة إلى الجوانب الضعيفة من طبيعته البشرية، وأن الإغراءات التى ظهرت له فى شكل مرئى لحيوانات وحشية أو أشكال إنسانية أو كنوز، كانت بالمعنى الدقيق للكلمة خيالية، رغم أنه قد وصفها فى إصطلاحات شيطانية أكثر منها سيكولوجية. لم يكن أنطونيوس يهرب من الإغراءات العادية التى يواجهها الإنسان، ولكنه كان ينازلها أعزلاً فى معركة منفردة بدون حماية الموانع العادية للحياة الإجتماعية، أو حتى المساعدة العادية لرفقة زملاء الكنيسة. وعندما بدأ أنطونيوس يعلم رهبان آخرين، كان الملمح الخاص لحكمته هو قدرته العظيمة على التمييز. فعلى سبيل المثال ربما يكون الإغراء الشيطانى هو الذى يثير الراهب للصلاة المتواصلة أثناء الليل بحيث لايحصل على حاجته من النوم ، ولكن هناك إشارة تميز الرؤى السماوية عن الرؤى الشيطانية وهى أن الأولى يتوقع منها أن تُهدأ الروح.
ومع بداية القرن الرابع يمكن لنا أن نقول أن الصحراء كانت قد إستعمرت بواسطة الرهبان ، على الأقل فى بعض المناطق مثل المناطق المجاورة لمعتزل أنطونيوس، وهناك ، وكما كتب أثناسيوس بعد ذلك ، كان هناك عالم آخر ، عالم بلا أذى سكنته جماعات من الرجال الذين :
( كانوا ينشدون المزامير، ويحبون القراءة ويصومون ويصلون ويبتهجون فيما يأملون أن يأتى من أشياء ،/ويجتهدون فى الإحسان ويحافظون على الحب والمودة بين بعضهم البعض، فهناك لم يوجد فاعل شر ولا متضرر ولا توبيخات جامع الضرائب، ولكن حشد من النساك إجتمعوا على هدف وحيد هو السمو إلى الفضيلة).
ومع ذلك فحتى ذلك الوقت لم يكن هناك بعد شكل من أشكال التنظيم الديرى ، حيث لم يكن يوجد سوى جمع من الرجال يحركهم هدف واحد. كان أنطونيوس قائدهم ولكنه لم يكن، وبمعنى ما ، أفضل منهم منزلة. ولايمكن لنا أن نقطع بالمدى الذى إنتشرت فيه حركة الرهبنة فى مصر فى شكلها البسيط هذا، أو فى شكلها الأكثر تنظيما بعد ذلك . وهناك إشارة عرضية تدل على أكثر ما تسجله مصادرنا، وهى أن أسقفاً من الصعيد ممن حضروا مجمع نيقية سنة 325م ، قيل أنه قد عاش فى أحد المعتزلات الرهبانية لعدة سنوات، مما يمكنا أن نستدل أنه كان هناك معتزلات رهبانية فى إقليم طيبة قبل ذلك الزمن بوقت طويل. ويدل إسم ذلك الأسقف على حقبة جديدة فى المسيحية المصرية، حيث أنه كان قبطياً ومسيحياً بشكل خاص( بافنتيوس) والذى يعنى فى القبطية( بابنوت)، أى رجل الله وهو إسم من الواضح أنه قد نشأ فى دوائر مسيحية فى عقيدتها ، مصرية فى لغتها.
وفى السنوات التاليةعرفت الكنيسة القبطية عصراً جديداً مع تولى دقلديانوس عرش الإمبراطورية فى سنة 284م ، هو عصر الشهداء. ويحدد حكم دقلديانوس فى الواقع التحول من عصر مصر الرومانية إلى عصر مصر البيزنطية، وذلك رغم أن الأحداث الهامة قد حدثت فى نهايته وليس فى بدايته. وفى سنة 296م ، ثار الحاكم لوشيوس دوميتيوس دومينتنيوس، وفى السنة التالية حضر الإمبراطور بنفسه إلى الإسكندرية وإحتلها بعد حصار طويل. وقد قضى إعادة التنظيم الذى تلى ذلك على الملامح الخاصة التى ميزت إدارة مصر عن باقى الإمبراطورية الرومانية، فقد فقدت عملتها المحلية ونظامها الخاص فى التأريخ بسنوات حكم الأباطرة كأنهم فراعنة ، كما طُبقت فيها سياسة تقسيم الوحدات الإدارية الكبرى إلى وحدات إدارية أصغر، وفصل السلطة العسكرية عن السلطة المدنية ، والتى كانت قد طُبقت فى الأجزاء الأخرى من الإمبراطورية ، مما أدى إلى تجريد الحاكم الرومانى من مركزه كنائب للإمبراطور. وعلى ذلك فقد أصبح هناك ثلاث مقاطعات إدارية كبرى هى إيجبتوس جوفيا فى غرب الدلتا وتقع تحت إدارة الحاكم ، وإيجبتوس هرقليا فى شرق الدلتا ومصر الوسطى، ثم إقليم طيبة فى الجنوب ويحكمهما موظف إدارى يدعى ( بريسايد). وقد كان ذلك يتوافق مع التقسيم الطبيعى للبلاد، والذى كان يسُتخدم بالفعل لأغراض إدارية عديدة أخرى. و لذا فعندما كان يوسيبيوس يتحدث عن مصر وطيبة أو الإسكندرية ومصر وطيبة، فقد كان يعكس الكلام الدارج والإصطلاحات الرسمية فى نفس الوقت. وقد أصبحت القيادة العسكرية فى يد مسئول آخر هو دوق مصر. ومن الواضح أن دقلديانوس قد وضع ثقته فى الطبقة الأرستقراطية المصرية أكثر من حكامهم الرومان. وقد عهدت أحد الملامح الأخرى المميزة لإصلاحاته بالحكومة المحلية، على الأقل ، إلى السلطات البلدية، وعلى ذلك فقد أصبحت مصر مثلها مثل باقى الولايات مقسمة تماماً إلى مدن بأقاليمها. وقد جعل إسترجاع النظام من جمع الضرائب المنتظم أكثر إمكاناً والذى كان قد أصبح ، وفى نفس الوقت ، أكثر بساطة. أصبح الإهتمام الأساسى للحكومة الرومانية فى مصر منذ ذلك الوقت فصاعداً هو تحصيل ضريبة الأرض حبوبا، والتى أصبحت تعرف بالشحن أو الشحنة من أجل تموين مدنها الرئيسية بشكل أساسى. ولذلك الغرض ولأغراض أخرى، تم تقييم جديد للأرض فى سنة 297م، وعلى هذا فقد بدأ فى مصر سلسلة من التقييمات الخمس عشرية أى التى كانت تحدث مرة كل خمسة عشر عاماً. وقد مثل ذلك التقييم تكملة مناسبة للتقرير الرسمى الذى كان يقدمه القناصل. لم يؤد تقسيم السلطة الإمبراطورية إلا إلى زيادة المركز النسبى للكنيسة. كانت سلطة أسقف الإسكندرية قد إمتدت بالفعل إلى خارج مصر فى مقاطعة سيرينا المجاورة. وقد أصبح نظيره المدنى آنذاك ثلاثة حكام بدلاً من واحد وقد إمتد نفوذه إلى كل عناصر السكان فى مصر، بما فى ذلك فلاسفة وعمال الإسكندرية ، والطبقة الإرستقراطية الإغريقية المصرية والفلاحين فى الريف، والنساك فى الجبل العربى وصحراء طيبة. وسوف يصبح الإحتفاظ بكل هؤلاء فى طاعة كنسية واحدة مشكلة فى المستقبل. ولكن الآن فقد أصبحت الكنيسة ، وحتى وهى مازلت أقلية ، تملك إمكانية تواصل أكبر مع كل أجزاء وطبقات مصر أكثر من أى سلطة أخرى. وقد شجع تقسيم البلاد إلى بلديات التنظيم الموازى للكنيسة إلى أسقفيات والتى ، ومع بدايات القرن الرابع ، كانت قد تأسست فى كل مدن مصر تقريباً.
وفى سنة 300 أو 301م، خلف بطرس ثيوناس على العرش الأسقفى فى الإسكندرية. كان بطرس مفكراً دينياً قديراً من المدرسة الأورجينية المعتدلة، ميالاً لإعاقة التأملات الأكثر جرأة لأستاذه وبعض تلاميذه ، ولايمكن أن يقال أكثر من ذلك كثيراً، وذلك على أساس مما حفظ من جذاذات قليلة من كتاباته. وقد إستهلكت سيرته الأسقفية فى إهتمامات أساسية غير دينية، لإنه بعد ثلاث سنوات من رسمه أسقفاً بدأ أكبر وآخر أضطهاد للمسيحيين. كان قرار دقلديانوس بالشروع فى محاولة مخططة لقمع الكنيسة هو ، وبشكل من الأشكال ، إستمرارا لسياسته فى إعادة تنظيم الإمبراطورية، كما كان ، وبمعنى آخر، تراجع عن الإحتياط والحكمة التى تميزت بهما سياسته السابقة. بدأ الإضهاد فى مصر ، وفى أماكن أخرى ، ضعيفاً نسبياً، وذلك بمجرد الإستيلاء على الكنائس والكتب المقدسة وسجن القيادات الدينية. كان صلب القارئ تيموثى فى طيبة ، والذى قيل أنه قد قال أن الكتب المقدسة كانت عزيزة على نفسه كأطفاله ، قد تبع هذه المرحلة من الإضطهاد. وبعد ذلك ، بدأت سياسة عرض العفو على رجال الكنيسة أولاً ، ثم على الآخرين مقابل قيامهم بتقديم القرابين إلى الآلهة الوثنية ، وهكذا تم إعادة طرح ، وكما حدث زمن ديقيوس ، خيار الردة أو الشهادة. وعلى مدى ثمانية سنوات بعد إعتزال دقلديانوس سنة 305م، حكم مكسيم دايا مصر ، أولاً كقيصر ثم كأغسطس، ولإنه هو وحاميه جاليريوس كانا المحرضان الرئيسيان على الإضطهاد بين الأباطرة، فقد شعرت مصر بالوطأة الكبرى من ذلك الإضطهاد. وتعددت حالات الشهادة، وكم كنا نتمنى لو نستطيع تقديم رواية دقيقة عنها، ولكن ولسوء الحظ، فقد تكلم يوسيبيوس فى إصطلاحات عامة عن البطولة التى قابل بها شهداء مصر الدمار والسيف والصلب أو الإلقاء فى البحر، والأشكال الغريبة من التعذيب التى إبتُكرت فى إقليم طيبة. وفى ذلك الإقليم ، حيث يشير المؤرخ بتواضع إلى أنه كان موجودا ، كان يُقدم إلى الموت يوميا عشرة أو عشرين أوفى الغالب مائة إنسان، فهناك أصبح السيف كليلاً وإضطر الجلادون لإراحة بعضهم البعض بالتناوب كما يقول يوسيبيوس. وغالبا ماكان يحدث عندما يصدر الحكم على إنسان أن يندفع آخرون أمام مجلس القضاء ليشاركونه مصيره مسبحين لله. ويضيف يوسيبيوس بشئ من الفخر أن الشهداء من ذوى الثقافة والمكانة فى العالم كانوا أروع ، مثل المسئول الكبير فيلوروموس والأسقف المثقف فيلياس الثموسى. وفى سفر أعمال فيلياس، يمكن أن نشعر بثقة أكبر من تلك التى يمكن ان نجدها فى مثل تلك الوثائق، حيث يصف دفاعه عن عقيدته أمام الحاكم كولشيانوس والمحاولة اليائسة التى قام بها الأقارب والأصدقاء الوثنيون من أجل إنقاذ هذين المسيحيين الغنيين المشهورين. وغالباً ماأدت السياسة ، أو الأمل فى سقوط لاحق ، إلى بقاء المجاهرين بالإيمان فى السجن أو فى المنفى بعد صراعهم الأول. وينطبق ذلك على الأساقفة بافنتيوس وبوتامون، والذين أظهروافى السنوات التالية علامات الإضطهاد فيما أصاب أجسادهم من تشوهات . وقد خدمت الكنيسة، وبقدر ماإستطاعت ، هؤلاء الذين قبعوا فى السجون، لدرجة أنه قيل أن القديس أنطونيوس قد نزل من معتزله فى الصحراء إلى الإسكندرية ليخدم المجاهرين بالإيمان، ورغم أنه لم يُقبض عليه فقد كان مستعداً للشهادة.
ويحتفظ سفرأعمال الشهداء القبطى ببعض الذكريات الحقيقية عن هذا الإضطهاد ، على الأقل فيما يخص أسماء الشخصيات والأماكن. ولكن الحماس التالى للأقباط لتقديس الشهداء، أدى إلى تكاثر الأسماء المشكوك فى صحتها، وإلى صياغة الروايات الأسطورية من المادة العامة، بحيث أصبح من الصعب الحصول على قيمة حقيقية من هذه المصادر لتاريخ الإضطهاد نفسه. ويبدو الحاكم أريانوس ، الذى يصور فى كثير من حالات الشهادة ، على الأقل شخصية تاريخية كحاكم لإقليم طيبة فى تلك الفترة. كانت وقائع الإستشهاد فى مدينة أنتينوى تساوى مايمكن أن نتوقعه فى العاصمة، وقد جعل ذلك من تلك المدينة الإغريقية كأنها مدينة مقدسة، رغم أنها لم تكن نفسها مركزاًمسيحياً هاماً. ويعتبر فيكتور اليكوبوليسى (أى ألأسيوطى نسبة إلى مدينة أسيوط) مثالا جيداً على الشهداء العسكريين، الذين واجهوا مصيرهم عندما فُرضت عليهم العقيدة الرسمية للجيش، والتى كانت مازلت وثنية. ويتبع ميناس السكندرى نفس الطبقة وذلك إذا ماكان ذلك القديس ، الذى أصبح مشهورا جدا بعد ذلك ، قد وُجد تاريخياً بالفعل. وربما يعكس الإزدراء الخاص للسلطات من قبل شهداء طيبة شئ من روح المقاومة الشعبية للحكم الرومانى.
وبعد أربع سنوات من الإضطهاد، بدأ شئ من التراجع وأصبح فى مقدور الأسقف بطرس إصدار التوجيهات من أجل تهذيب هؤلاء الذين ضعفوا أثناء الإضطهاد، وأصبحوا يرغبون الآن فى العودة إلى الكنيسة مرة أخرى. وتعكس تلك الرسالات الإيمانية ، وبشكل عام ، روح من الإعتدال والرحمة. فقد تقرر العفو عن هؤلاء الذين سقطوا من وطأة التعذيب، وذلك بعد إكمالهم لفترة توبة من خلال الصوم الكبير، بينما تقرر وضع ستة أشهر كفترة يُمنح بعدها العفو لهؤلاء الذين كسر السجن نفوسهم ، وثلاثة سنوات كفترة توبة لمن ليس لهم مثل تلك الأعذار. وكذلك تقرر وضع ستة أشهر كفترة يُمنح بعدها العفو لهؤلاء الذيم لم يقدموا القرابين الوثنية، لكنهم إعتبروا وكأنهم قدموها بالفعل من خلال تستر بعض الأصدقاء الوثنيين أو السلطات المحلية. أما العبيد المسيحيين، الذين كانوا قد أُرسلوا ليأخذوا أماكن سادتهم أمام السلطات، فقد مُنحوا ستة أشهر لنيل العفو على أساس أنهم لم يكونوا مسئولين عن ذلك، أما سادتهم ، ولمن أراد منهم التوبة ، فقد أعطوا ثلاثة سنوات كفترة توبة يمكن لهم نيل العفو بعدها عن تلك المعاملة السيئة التى عاملوا بها خدمهم ، بعكس ما أمرت به تعاليم الرسل. أما بالنسبة لهؤلاء الذين جهروا بعقيدتهم المسيحية بعد تراجع مبدأى، فقد تم قبولهم فوراً فى الكنيسة على أساس إحتياجهم لمساعدة الكنيسة، رغم أن من كان منهم عضواً فى طبقة رجال الكنيسة ، قد حرم من ممارسة الخدمة الدينية. ولم يدان هؤلاء الذين إندفعوا بتسرع،ولكنهم أنذروا بأنهم قد تعرضوا ، بشكل خطير ، للإغراء. ومن ناحية أخرى ، فلم يلام هؤلاء الذين هربوا، أما هؤلاء الذين أجبروا على تقديم القرابين بالقوة، فقد إعتبروا كأنهم مجاهرين بالإيمان. وقد نقل الشهداء فى السجن إلى الأسقف أن ذلك قد حدث ، وبصفة خاصة ، لبعض زملائهم فى ليبيا. وبشكل يبعث على الدهشة، فقد بُرئ هؤلاء الذين دفعوا المال من أجل تجنب ضرورة تقديم القرابين، على أساس أنهم قد فضلوا أن يفقدوا ملكيتهم على إنكار عقيدتهم. وقد أيد إعتدال هذه القوانين التقرير القائل، بأن الإنشقاق الذى قاده مساعد الأسقف المتهور، ميليتوس الليكوبوليسى، قد إتخذ كأحد أسسه ، الحاجة إلى نظام أكثر شدة فى معاملة الذين إنهاروا أثناء الإضطهاد. كان ميليتوس يبدو كمساعد بطرس الرئيسى فى الأسقفية، وربما كان قد فكر فى نفسه كنوع من النائب الأسقفى العام، وأثناء الإضطهاد كان يقوم برسامة الكهنة فى الأبرشيات الأخرى بحجة الضرورة. وقد كتب فيلياس وثلاثة أساقفة مجاهرون آخرون رسالة إعتراض على ذلك من سجنهم، فلم يكن هناك حاجة ماسة لمثل هذا العمل تبرر ذلك فى تلك الظروف(خاصة إذا ماكان الوصول إلى أسقفنا الأكبر وأبينا بطرس مازال ممكناً ). ظلت هذه الرسالة محفوظة فى ترجمة لاتينية، أما فى الأصل فربما كان بطرس قد دُعى برئيس الأساقفة والبابا. وذهب ميليتوس لأبعد من ذلك وتدخل فى شئون الإسكندرية معترفاً أنه قد أبعد ممثلى بطرس وعين آخرين فى أماكنهم، ورد بطرس على ذلك بتوجيه جماعته لتجنب ميليتوس حتى يمكن التحقيق فى تصرفه، وقد بدأ ذلك الصدع تاريخ الميليتيين كطائفة منفصلة.
وفى سنة 311م إعترف جاليريوس – خلف دقلديانوس - بفشله، وأصدر وهو على فراش الموت مرسوماً بالتسامح الدينى، أعلنه مكسيمين كارهاً فى إقليمه. وسرعان ماتبدد فرح المسيحيين عندما تجدد الإضطهاد مصاحباً بمحاولات لبناء مؤسسات وثنية ونشاطات، مقارنة بتلك الخاصة بالكنيسة. لم تؤثر هذه السياسة فى مصر بشكل خاص، ولكن الأسقف بطرس ، الذى كان مازال هارباً حتى ذلك الوقت ، قد قبض عليه وتم إعدامه ، بقطع الرأس ، بدون محاكمة رسمية، وبموجب أمر إمبراطورى خاص فى 25 نوفمبر سنة 311م، ومات أساقفة مصريون آخرون فى نفس الوقت. وبهذه الأحداث وصل الإضطهاد ، عمليا ، إلى نهايته. وأصبح بطرس، بصفته أشهر وآخر ضحاياه، يعرف لدى كنيسته بآخر الشهداء أو خاتم الشهداء. وهكذا إنتهت الفترة التى كانت فيها كنيسة الإسكندرية تتحمل فيها شهادتها فى الإمبراطورية الوثنية. وفى سنة 313م هزم ليسينيوس مكسيمين وإستولى على حكومة الشرق فى توافق مع قنسطنطين وسياسته الموالية للمسيحية. وكان على قادة جدد أن يتقدموا ليقودوا الكنيسة فى خضم مشاكل العصر الجديد.





















2- عالما أثناسيوس

كان أثناسيوس هو الشخصية التى غلبت على تاريخ مصر وكنيستها على مدى خمسين عام فى القرن الرابع، بحيث أن قصتها قد أصبحت، وبشكل أساسى، هى قصة أثناسيوس نفسه. وتعتبر السنوات من 325 إلى 375م، هى عصر أثناسيوس، بحيث أنه من الأسهل أن نتذكر شخصياتها الرئيسية على أنهم كانوا معاصرين لأثناسيوس، وليس العكس، لقد كانت علاقة أثناسيوس بعالمين ، هما مصر والكنيسة العالمية، موضوع تلك الفترة.
لقد كان أثناسيوس طفلاً من أطفال الكنيسة، كبيرا بما يكفى لإن يتذكر سنوات الإضطهاد، ولكنه أصغر من أن يكون قد عانى منه. لقد كانت اًشد ذكريات شبابه بهاءً هى إزدهار الكنيسة، فى الأيام التى أعقبت سقوط مكسيمين ، عندما ولأول مرة بدأت تتمتع بالرعاية الإمبراطورية. كان الأسقف إسكندر قد بدأ إعادة بناء وإكمال كنيسة ثيوناس، كما بدأ يستخدمها للقاء رعيته المتنامية، وذلك حتى قبل أن يكتمل بنائها. وتخبرنا الأسطورة كيف أن الأسقف إسكندر قد نظر من النافذة ، عندما كان ينتظر بعض ضيوفه على الغذاء، وبعد الإنتهاء من أداء خدمة دينية خاصة بالإحتفال بذكرى إستشهاد بطرس، رأى أثناسيوس الصغير يلعب وهو يمثل تعميده لزملائه على ساحل البحر، وأن إسكند رفعه كطفل رائع ورجل دين واعد. ولكن العصور والأماكن والشخصيات المذكورة تجعل تلك القصة غير محتملة، ومع ذلك فلابد أن أثناسيوس ، مثله مثل قادة تاريخيين آخرين فى تاريخ الكنيسة ، قد داعب الكنيسة فى طفولته ، وأن ذلك قد صيغ وذُكر فى طرفة بارعة. وعلى أى حال ، ففى سنة 320م ،كان أثناتسيوس قد أصبح شماساً شاباً لامعاً لدى إسكندر،وكان قد إستفاد من كل مايمكن أن يعلمه إياه االمعلمون والكتب المسيحية.
ورغم أنه قد نقحه بعد ذلك، فإن عمل أثناسيوس الدفاعى العقائدى الكبير، ذو المجلدين ، هو من نتاج شبابه. ففى تلك السنوات وقبل أن يتبع عصر الخلاف العقائدى عصر الإضطهاد ، قرع قادة الكنيسة طبول النصر، وأخذهم إغراء الإعلان عن أن الإنتصار النهائى لمملكة الله كان قريباً. وفى الكتب الأخيرة من تاريخ يوسيبيوس، يمكن لنا أن نرى العصر الوسيط ، وقد أصبح مستعداً لإن يصل فى هدوء إلى الميناء، ويحيى الراعى الإمبراطورى للكنيسة كأنه موسى الجديد، أو ربما حتى يوشع وهو يصل بشعب الله المختار إلى الأرض الموعودة. وفى أثناسيوس فإننا نرى الجيل الجديد بعد ثورة معلناً أنه فى غاية السعادة لإن يعيش فى يوم كهذا، وأنه من النعيم أن تكون شاباً. ومثل الرومانسيين المحدثين، والذين أخذنا عنهم تلك الكلمات المقتبسة هنا، فقد كان عليه أن يواجه قدراً كبيراً من خيبة الأمل.
إن الكتاب الدفاعى( ضد الوثنيين) يلخص فى أسلوب قوى نابض بالحياة، الدفاع عن التوحيد الذى حمله اليهود والمسيحيون فى الإسكندرية لحوالى خمسة قرون . فنحن كائنات عاقلة تعيش فى عالم عاقل، فأى شئ أكثر طبيعية من أن ندرك الله الذى خلقنا بعقله، الذى هو العالم الأبدى؟. فالشر والجهل هما حقائق حقيقية ينتج عنها ، بين أشياء كثيرة أخرى ، حماقة وفحش الشرك بالله. إن حرية الإنسان تتضمن حريته من الذنب والخطأ. ومع ذلك فإن خطة الله لعالم منسجم مازلت تشرق ساطعة. وكما صممه فإن الخلق كان يشبه كورس يستجيب لقائده، أوجسداً صحيحاً يستجيب لروحه، أو كمدينة عظيمة مازلت تُحكم بواسطة مؤسسها الملكى. وبالتأكيد ففى إستخدامه لمثل تلك التشبيهات الأخيرة، فقد كان أثناسيوس يفكر فى الإسكندرية والتى كان مؤسسها يرقد فى وسطها فى تابوته الكرستالى (أى الإسكندر الأكبر).

( و يشغل البعض نفسه بالزراعة، والبعض يسرع من أجل جر الماء إلى القنوات، والآخر يسرع لجلب المؤن، وآخر يذهب إلى مجلس السناتو( مجلس شيوخ المدينة)، وآخر يدخل إلى الجمعية التشريعية، ويذهب القاضى إلى مقعده، والحاكم إلى المحكمة، وبالمثل فإن الصانع يجلس إلى حرفته، وينزل البحار إلى البحر، والنجار إلى ورشته، والطبيب إلى معالجته والمعمارى إلى بنائه، وبينما يعود أحدهم إليها، فإن أحدهم يرجع منها، وبينما يمشى فيها البعض، فإن البعض يمشى خارجاً منها ويعود إليها ثانياً. ولكن كل ذلك يحدث وُينظم بحضور الحاكم الواحد وبإدارته).
ولإن مؤسس مدينة العالم هو الواحد الذى لايموت، فعن أخطائنا وحماقاتنا لا بد أن نعود إلى خالقنا ونوافق تصميمه. وكمدافع يؤكد أثناسيوس على خلفيته المشتركة مع أفلاطونى الإسكندرية ، والذين يمكن أن يكونوا قد وافقوا على كل شئ قاله، فيما عدا الإقتباسات التوضيحية من الكتاب المقدس ، ومع رجل الشارع فى زمانه ومكانه. وقد أشار الفيلسوف المسيحى ، أغسطين ، فيما بعد، إلى أن فكرة أن الله الخالد كان معروفاً بواسطة كلمته الخلاقة كانت تأمل فلسفى شائع إلى حد كبير. ولكن بالنسبة لأثناسيوس ، وكلما تقدم فى جدله ، فقد كان يعمل بإستمرار بإتجاه الأرضية المسيحية للكتاب المقدس عن المعتقد المذهل للكلمة وقد تحولت لحماً.
أما الكتاب الثانى ( عن التجسد)، فهو يظل أحد كلاسيكيات العبادة واللاهوت المسيحيين، فقد أُعلن الإيمان بالله، وأُشار إلى الحاجة إلى الخلاص. وأصبحنا على وشك أن نرى كيف نُفذت ، فى الواقع ، الحاجة الضرورية للعودة إلى الله. فبأعمق إحترام لخلقه، فإن الله يفتديه من داخله نفسه. فالإنسان يحتاج إلى مخلص إلهى ومرشد، ولكن ذلك قد يدمر حريته إذا ما ظهر الله للإنسان بقوته، أو فرض إرادته بكلمة أمر. ومن أجل التعامل مع الإنسان كإنسان ، وحتى مع الشيطان دون تجريده من حقه، جاء الله إلى الأرض فى الحياة الإنسانية ليسوع الناصرى، مبدداً جهلنا بتعاليمه، ودافعا دين خطايانا بموته، ومجدداً حياتنا بقوة بعثه حياً. وفى عبارة تقليدية من التقوى السكندري( فقد أصبح إنساناً بحيث يمكن لنا أن نصبح مقدسين مثله). وبالنسبة لأثناسيوس كان صليب المسيح ، وقبل كل شئ ، هو علامة إنتصاره الذى رآه ليس فقط فى القصة المقدسة، ولكن فى العالم المحيط به. فلم نعد نخشى الشياطين، ولم نعد نعتقد فى السحر ، فالمسيح ، نفس الواحد، أصبح يُعبد فى كل أمة ، منتصراً على عبادة الأوثان وعلى حكمة الوثنيين على السواء. إن شجاعة الشهداء وعفة العذارى(الراهبات)، والنساك تعبر عن هذا الإنتصار فى ظهور فضائل جديدة، جعلت حتى الأمم البربرية تضع السيف جانباً. ولابد أن نلاحظ ، ونحن نتنهد ، أن تلك الملاحظة تُرجع ذلك العمل إلى فترة قصيرة من الأمل فى حكم قنسطنطين لإنه، ومن سوء الحظ ، فلم يكن الإنتصار كاملاً بعد . ولكن ، وبشكل عام ، فقد كان أثناسيوس يصف هنا مارآه يحدث أمام عينيه نفسه.
وكما لخص كتاب( ضد الوثنيين ) خمسة قرون من الدفاع اليهودى المسيحى، فكذلك يعتبر (التجسد) نقطة الرحيل لفترة مماثلة أخرى فى اللاهوت المسيحى. إن رسالة الكتاب المركزية هى أن الملك قد جاء حقاً إلى ملكه. وأن كلمة تجسد هى حقاً مقدسة، وأنه حقاً قد أصبح إنساناً. إن هذين ألإفتراضين هما مصدر كل الأرثوذكسية، وكل التطورات الهرطقية عن طبيعة المسيح فى عصر المجامع الكنسية، الذى كان على وشك أن يبدأ. أصبحت فكرة أننا قد خُلقنا ثم أُفتدينا بواسطة كلمة الله، أرضية مشتركة بين المفكرين المسيحيين. ولكن أكانت تلك الكلمة بدون تعديل ، إلهية؟ أو أكان هو كائن أطل عمل الأب المخلوق ذاتياً من خلاله على العالم؟ وهل يستطيع هذا الكائن فوق الطبيعى أن يصبح إنساناً فعلاً ؟ أو أنه عند نقطة حاسمة كانت الإنسانية المصورة فى الأناجيل هى فقط مجرد مظهر؟ أو أكان يسوع إنساناً قريباً جداً من الله كما كان الأنبياء والقديسيين قبله ، ولكن على درجة أعظم فقط ؟ ظهر هذا الحل الأخير قبل ذلك وكان عليه أن يظهر ثانية، وهو البديل الوحيد لأرثوذكسية أثناسيوس، الذى يناسب العالم الغربى الحديث. إنه من الصعب علينا أن نفهم جاذبية الحل الأول، والذى يجعل من المسيح إلهاً ثانويا يظهر على الأرض ، وهو أمر ربما لايبدو صعباً تماماً بالنسبة لهندوسى، ولكن بالنسبة لعصر كانت فلسفته تميل إلى التأكيد على إبتعاد الحقيقة المطلقة فقد كان له جاذبية عظيمة.

وفى اللحظة الحالية، فقد بدا آريوس أكثر مما بدا أثناسيوس، منسجماً مع أفضل أفكار عصره. وليس معروفاً متى خرج كاهن بوكاليس فى معارضة واضحة لتعاليم أسقفه وشماسه. وقد جعلت الروايات اللاحقة كل من الميليتيين والآريوسيين على إتصال ببعضهم البعض منذ البداية ، وهو أمر غير محتمل ، كما إدعت أن أخيلاس خليفة بطرس ، وكان رئيساً سابقاً لمدرسة الإسكندرية التعليمية وإحتل مركز الأسقفية لعدة أشهر بين عامى 312-313م ، قد جعل ، والشك يملأ قلبه ، من آريوس شماساً، وأن إسكندر، وبثقة فى غير محلها ، قد جعل منه كاهناً. كان آريوس مغترباً فكرياً فى الإسكندرية، وكان تلميذاً للشهيد ليوشيان الأنطاكى، والذى كان أتباعه ينادون بعضهم البعض( بالرفيق الليوشيانى)، وكانوا آنذاك فى صعود إلى المراكز الهامة فى العصر الجديد لإزدهار الكنيسة.

( الآريوسية والميليتية هى أكبر حركات الإنشقاق التى أصابت الكنيسة المصرية فى القرن الرابع وتنسب الآريوسية إلى آريوس الكاهن السكندرى ذو الأصل الليبى، الذى رفض الإعتراف بالمركز المتساوى للأب والإبن أى بين الله والمسيح، وإعتبر المسيح كائناً أقل بحكم كونه مخلوقاً، وبحكم كون الأب أسبق فى الوجود وكان لأفكاره وحركته ، وإن هُزمت فى نهاية الأمر، وتغلبت فكرة المساواة بين الأب والإبن بفضل دفاع أثناسيوس بشكل أساسى ، تأثيراً كبيراً على تاريخ الكنيسة، وقد تجدد هذا الخلاف فى القرن الخامس مرة خرى ، ولو بشكل مختلف ، حول فكرة طبيعة المسيح أهى طبيعة إلهية واحدة أم طبعيتين ، بشرية وإلهية . أما الإنشقاق الميليتى، فقد إرتبط بظروف الإضطهاد الذى عانى منه المسيحيون قبل الإعتراف بالمسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية، وكان خلافا مصرياً بشكل أساسى، تزعمه كاهن من أسيوط يدعى ميليتوس، وكان يطالب بالتشدد مع الذين إرتدوا أثناء سنوات الإضطهاد وبضرورة عدم قبولهم فى الكنيسة مرة أخرى ، وذلك ضمن خصائص أخرى تميزت بها حركته ، وقد إنتهى ذلك الخلاف بهزيمة الجانب الميليتى وإنتصار موقف الكنيسة المتسامح فى نهاية الأمر).

كان لاهوت لوشيان تطوراً يسارياً لمعتقد أوريجن عن التثليث، مؤكداً على تبعية الإبن للأب وكذلك ، وبشكل أكبر ، فيما يخص الروح القدس. لم يكن آريوس ألمع أعضاء المدرسة، ولكنه، وبالأحرى ، كان أقدر المروجين لأكثر أفكارها وضوحاً. وبعد بعض المناقشات المبدأية قرر الأسقف إسكندر وباقى رجال الكنيسة عزل الكهنة والشمامسة الآريوسيين، وعندئذ وعندما بدأ الأسقف اللوشيانى يوسيبيوس النيقوميدى ، الذى كان أسقف بيروت سابقاً ثم أصبح أسقفاً للإسكندرية ، فى حشد التأييد لهم فى الخارج ، تم إعادة تأكيد الحكم بتأييد مجلسى مصر وليبيا بحضور حوالى مائة أسقف . وعند هذه المرحلة إنضم قليل من الأساقفة إلى الحزب الآريوسى، وكان فيهم الأسقفان ثيوناس أسقف مرمريكا الواقعة فى شمال غرب مصر، والأسقف سيكوندس أسقف بطلمية فى ليبيا. ومع ذلك فلم يكن الموقعين على قرار العزل مع الأسقف إسكندر من الأساقفة، ولكنهم كانوا كهنة وشمامسة الإسكندرية ومريوط. وقد ظهر أثناسيوس فقط كرابع شمامسة الإسكندرية، ولكنه ربما كان المصمم الأساسى لوثيقة العزل. وتظهر الوثيقة أسلوبه وأفكاره وتتعارض مع إسهاب خطاب لإسكندر، حول نفس الموضوع ، إلى سميه أسقف بيزنطة. وفى المقترحات المرفوضة تبدو الآريوسية بوضوح نادراً ماحققته مرة اخرى. فإن إبن الله عند آريوس هو كائن مخلوق والذى يمكن أن يقال عنه (أنه كان عندما لم يكن). أما الإيمان الذى كان أثناسيوس مستعداً لإن يعيش ويموت به، فلم يكن ذلك الذى يقول بأننا قد خلقنا بواسطة نصف إله أو ملاك كبير. ( بمعنى أنه لم يكن مستعداً للتنازل عن الإيمان بألوهية المسيح).
كانت تلك هى النقطة التى وصل إليها الخلاف العقائدى عندما إنقلب ليسينيوس، زميل الإمبراطور قنسطنطين الشرقى، عليه وإختار سياسة معادية للمسيحية. ولكن لم يُشعر بأى نتائج خطيرة لذلك فى مصر، وفى سنة 324م، أحضرت هزيمة ليسينيوس قنسطنطين نفسه إلى الشرق ، راغباً فى رؤية كنيسة موحدة كالمستقبل لهبته ، والمؤيد الروحى لإمبراطوريته. ولكن ولأسفه الشديد، فقد كانت الكنيسة المصرية الهامة ممزقة بما لايقل عن ثلاثة إنشقاقات. كان آريوس يعتمد على العناصر الإغريقية غير المصرية وحتى ، وإلى حد كبير، غير السكندرية. وكان ميليتوس أكثر قوة فى المناطق الأقل إغريقية من البلاد، رغم أنه كان لديه بعض الأتباع فى الإسكندرية نفسها. وكان هو نفسه أسقف مدينة ليكوبوليس (أسيوط) فى إقليم طيبة، وكان لتوزيع الأساقفة الميليتيين الذى قدمه سنة 327م مغزى هام. ففى الدلتا كان هناك أساقفة ميليتيين فى واحدة من كل ست أو سبع مدن، بينما وكلما إتجهنا جنوباً نجد أن النسبة ترتفع ويصبح هناك أساقفة ميليتنيين فى كل إثنين أو ثلاثة مدن من مدن مصر الوسطى والعليا. كان هناك توازن حقيقى مع الأساقفة الدوناتيين فى شمال إفريقيا.
( الدوناتية هى حركة إنشقاقية أخرى ظهرت فى كنيسة شمال إفريقيا حوالى نفس الوقت).
وفى كل حالة كانت أى حركة إنشقاقية ، تتلمس تأييد أى جماعة وطنية، تنشأ عن نزاع حول نظام الكنيسة، وكانت تأخذ من التشدد الإنضباطى مبدأ مميز لها. وعندما أجبروا على التخلى عن الإسم (الكنيسة الكاثوليكية) إلى خصومهم فإن الميليتيين، مثلهم مثل الدوناتيين ، قد سموا أنفسهم بإسم (كنيسة الشهداء). ويدل وجود حركة ديرية ميليتية كبيرة ومنظمة منذ سنة 330م ، قبطية فى معظمها ، على أن الحركة الميليتية فى بدايتها كان لديها جاذبية أكبر للحماس التنسكى للمسيحية المصرية الوطنية، بأكثر مما تشير مصادرنا.
كان هناك حركة إنشقاق محلية أخرى ، أقل أهمية ، هى حركة الكاهن كولوثوس السكندرى، والذى ربما كان قد إدعى أنه كان يمثل أشد تقاليد الكنيسة السكندرية نفسها. ويبدو أنه كان قد إختلف مع الأسقف إسكندر على خلفية أن معاملة الأخير لآريوس لم تكن حاسمة بشكل كاف، ولذا فقد أقام نفسه كأسقف بديل، وبدأ يقوم بمهمات أسقفية بشكل غير نظامى.
وفى سنة 325م، إتحدت سلطات الكنيسة والدولة فى مجمع نيقية، من أجل معالجة مشاكل كنيسة الإسكندرية، ومشاكل أخرى مشابهة فى طبيعتها. ومثل المجامع الأخرى لذلك العصر، فقد كان مجمع نيقية ذا شخصية مزدوجة ، فمن جهة فقد تكلم كأنه صوت الكنيسة، ومن جهة أخرى فقد عمل كلجنة لتقصى الحقائق بإشراف إمبراطورى تُفرض قراراته فيما يتعلق بشئون منظمة ذات أهمية كبيرة للحكومة، من خلال قوانين مدنية. وفى نيقية كان إسكندر وشماسه اللامع (أثناسيوس) شخصيتين رئيسيتين، وعند النقاط الأكثر أهمية لهما كانا يكتسحان الجميع أمامهما. كان بيان الإيمان الذى تبناه المجمع مجرداً من الآريوسية من خلال العبارة الحاسمة ( من نفس جوهر الأب )، ومن ثم ظل عزل آريوس ومؤيديه سارياً. وقد إزدادت مكانة الإسكندرية من خلال القرار، بأن عادة السكندريين والرومان يجب أن تتبع فى تثبيت تاريخ عيد الفصح. وربما كان ذلك يعنى كل من المبدأ العام بالإلتزام بيوم الأحد بعد التمام الأول لقمر الربيع، وأيضاً بالقواعد الفلكية لحساب ذلك التاريخ، والتى كانت معروفة جيداً فى الإسكندرية. وقد أكدت القوانين التى إعتمدت فى مجمع نيقية بالمميزات التشريعية الخاصة للإسكندرية ، مثلها مثل روما ، مما جعل من إقليمها إستثنائاً من نظام المجامع المحلية الجديد تحت قيادة الأساقفة السكندريين. ففى مصر، وكما كان الحال فى وسط وجنوب إيطاليا ، لم يكن هناك عواصم، وكان بابا الإسكندرية ، مثله مثل بابا روما ، يترأس مباشرة على عدة أقاليم مدنية.
وأخيراً تم التوصل إلى طريقة لإعادة أتباع ميليتوس إلى الكنيسة، والتى إعتبرها أثناسيوس ، بعد ذلك ، أكثر كرماً وليست أكثر حكمة. وقد أُسبغ على ميليتوس لقب أسقف بشرط عدم قيامه بوظائف ذلك المركز، كما تقرر أن يأتى أساقفته ورجال كنيسته بعد رجال إسكندر، وأن يكون لهم حق الإنتخاب إلى المراكز الأسقفية الخالية.
إنتهى المجمع بإحتفالات عظيمة أصبحت هى الذكرى الرئيسية للمناسبة لبعض المشاركين. وقدر للحزب الإمبراطورى ، تشجعه علامات التأييد الصادرة من البلاط الإمبراطورى، أن يكون فى الجيل التالى هو المؤيد الرئيسى للآريوسية فى تعديلاتها المتعددة .

( إختلف الموقف من الآريوسية بإختلاف الأباطرة، ففى مجع نيقية المذكور أيد الإمبراطور الموقف المعارض للأفكار الآريوسية، وتم الإقرار على أن الأب والإبن هما من طبيعة واحدة، ولكن بعض من جاء بعده أيد أفكار آريوس ورفض دفاع أثناسيوس، الذى تعرض للنفى بسبب مواقفه فى الدفاع عن عقيدة نيقية، أو النتائج التى خرج بها هذا المجمع ، وهكذا ظل الموقف فى مد وجزر ولم يحسم أبداً حتى تطور إلى نزاع مماثل أكثر تعقيداً فى القرن التالى عن طبيعة المسيح، أهى طبيعة إلهية واحدة كما كان يقول الجانب المصرى، أم طبيعتين إلهية وبشرية كما كان يقول الجانب البيزنطى، وقد حُسم ذلك الجدل فى قرارات مجمع خلقدونية سنة 451م، التى أيدت مذهب الطبيعتين ضد مذهب الطبيعة الواحدة، وكان ذلك نهاية المطاف بالنسبة للكنيسة المصرية، إذ إنشقت بعد ذلك عن الكنيسة الإمبراطورية فى القنسطنطينية تماماً، وظل هذا الإنشقاق قائماً حتى غزو العرب لمصر سنة 641م).

وعادت البعثة المصرية إلى أرض الوطن ، حاملة معها خطاباً من المجمع إلى كنيسة الإسكندرية، يعلن فى عبارات مزهوة قرارات ذات أهمية خاصة لها. وقد أعلن ميليتوس وأتباعه ، مع ذلك ، عصاة وخضعوا لبعض الضغط من السلطات المدنية. وعلى الأقل فعندما قدم ميليتوس فى النهاية قائمتة المكونة من 29 أسقفاً سنة 327م ، فقد كان معظمهم يقيمون فى مجموعات فى أماكن بعيدة عن أسقفياتهم، مما قد يشير إلى أنهم ربما كانوا منفيين أو معتقلين. مات الأسقف إسكندر بعد حوالى خمسة أشهر من ذلك التاريخ، وإنشق أتباع ميليتوس مرة أخرى ، ربما آملين فى إعادة فتح نقاش عام لشئون الكنيسة عند هذه المرحلة. ولكن عندما إجتمع الأساقفة من اجل إنتخاب الأسقف الجديد ، طالب شعب الإسكندرية بإنتخاب اثناسيوس ، الطيب التقى المسيحى وأحد النساك . وقد مُنحوا ذلك وتم إنتخابه وبدأت أسقفيته فى 8 يونيو سنة 328م.

بدأ رد الفعل المضاد لمجمع نيقية بهجمات شخصية على أشهر مؤيدى تعريف المجمع للإيمان المسيحى. وعلى مايبدو فقد سقط أحد هؤلاء بالفعل وهو إيوستاثيوس الأنطاكى. أما الهجمات ضد أثناسيوس فقد بدأت ، تقريبا ، بمجرد أن تولى مركزه كأسقف. ومع ذلك فقد بدأ أثناسيوس بتكريس نفسه لواجباته كقائد مصرى، كما بدأ بتفقد مناطق سلطته الأسقفية. وفى سنته الثانية ذهب إلى طيبة، وكان فى تلك الزيارة أن سأله أسقف تنتيرا أن يرسم المنظم الديرى باخوميوس إلى درجه كاهن. كان باخوميوس قد أسس حديثاً أول دير له فى منطقة تابينيسى، وكانت الخدمات الدينية التى تُعقد هناك بواسطة رجال الكنيسة الزائرين تُقدم أيضاً للرعاة المقيمين فى الجوار. ولكن باخوميوس، والذى كان لديه واجب مختلف، قد تهرب من ذلك الشرف وإعتزل حتى رحيل أثناسيوس. ومع ذلك ، فقد إبتدأ ذلك الإتصال البسيط ، علاقة أثناسيوس برهبان النظام الباخومى، والذين أصبحوا بعد ذلك من أشد أنصاره ولاءً. وفى سنة 330-331م، إستدعى أثناسيوس إلى المحكمة للإجابة على أولى الإتهامات فى سلسلة الإتهامات الطويلة التى وجهت إليه. ولكن فى السنة التالية إستأنف زياراته إلى بينتابوليس وأماكن أخرى فى ليبيا، وفى سنة 333-334م، تفقد أيضاً مناطق الدلتا. وفى سنة 334م، هبت العاصفة ولم يعد أثناسيوس سيد عصره مرة أخرى. ولكنه كان قد إكتسب شهرة لبطريركيته لم ينلها أحد من قدامى أساقفة الإسكندرية.
إرتبط كفاح أثناسيوس وقصص منفاه بتاريخ مصر بشكل خاص، وبتاريخ الكنيسة والإمبراطورية الرومانية بشكل عام. إن ما قد يذُهل دارس هذه الأحداث هو الطبيعة العامة والسياسية للتهم التى وجهت إلى أثناسيوس، فلم يمكن قبل إزاحته عن الطريق القيام بأى محاولة لعكس القرارات الدينية التى إتُخذت فى مجمع نيقية ، وفى الوقت الذى تم فيه الوصول إلى تلك المرحلة، فإن نمط الحملة المعادية للأثناسيوسية كان قد تحدد . فبين السنوات 340-360م، عندما كانت الصيغ التوفيقية تُجهز لكى تحل محل عقيدة نيقية، فقد كان قد أصبح واضحاً بشكل كاف، بأنه لايمكن التوقع أبداً بأن يمتثل أثناسيوس لتلك السياسة، ولم يكن هناك معنى لإن يطلب منه أن يفعل ذلك. وفى السنوات الأخيرة من حكم قنسطنطين هوجم أثناسيوس بصفته شخص ذو تأثير خطير فى مصر، يمكن إتهامه، وبشكل مقبول، بأنه يتدخل فى تنفيذ القوانين كما قام الأباطرة اللاحقون بإتخاذ إجراءات ضده على نفس الخلفيات.
وفى المرحلة الأولى ، كانت القوى المعادية لأثتاسيوس هى تجمع من الآريوسيين المستترين يقودهم يوسيبيوس النيقوميدى خارج مصر، أما داخل مصر فقد كانوا من أتباع ميليتوس. وقد وفرالأخيرون الشكاوى المحلية وأيدهم الأولون بتأثيرهم فى الدوائر الرسمية. كان ميليتوس قد مات لكنه ترك بعده أتباع له. وفى سنة 330م رفض أثناسيوس إطاعة أمر إمبراطورى بقبول آريوس وأتباعه فى الجماعة المسيحية، بعد إلتماس غامض بحجة أن الكنيسة قد قررت أمرهم. ثم قام ثلاثة أساقفة ميليتيون برفع دعوى قضائية متهمين إياه بفرض ضريبة من الملابس الكتانية على مصر، وربما قد تم تدبير ذلك من خلال تحريف تفسير الإجراءات الخاصة بإدارة المنح الإمبراطورية للكنيسة من المداخيل المصرية. وعند وصوله إلى قاعة المحكمة، التى عقدت فى نيقوميديا فى ذلك الوقت، وجد أثناسيوس إتهاماً آخر أكثر تحديداً يتضمن إرساله كيساً من الذهب إلى فيلومينوس المتمرد. إستطاع أثناسيوس تبرئة نفسه وعاد إلى الإسكندرية يحمل خطاب ثناء من الإمبراطور.
وتصاعدت الحملة اليوسيبية الميليتية ضد أثناسيوس إلى حد إتهامه بالقيام بأعمال عنف ضد الميليتيين فى مصر أدت إلى مقتل الأسقف أرسينيوس، وإلى سوء معاملة شخص يدعى إسكيراس قيل أنه كان كاهناً فى إحدى قرى مريوط . ويرتبط تاريخ هذه الإتهامات، تقريباً، بحوليات التفتيش، والتى تعتبر مصادرنا الرئيسية لها هى ملفات العزل والخطابات وقرارات المجامع الكنسية ووثائق أخرى، جمعها أثناسيوس معاً فى السنوات الأخيرة من حياته. وتعطينا الوثائق المكتشفة حديثاً لمحة عن الجانب الميليتى قبُيل عقد المجمع، الذى دُعى إليه فى قيصرية سنة 334م، والذى رفض أثناسيوس، بعد بعض تردد، حضوره، وأيضا عن المجمع الذى عُقد فى صور سنة 335م، والذى عمل ضد أثناسيوس فى نهاية الأمر.
ففى سنة 335م، سُجن عدد من رجال الدين الميليتيين، ومنهم أسقفين أو ثلاثة، وضربوا فى معسكر خارج الإسكندرية أو فى المدينة نفسها، ومع ذلك ، فقد كان أحد الضحايا هو ألأسقف إسحاق ، أسقف ليتوبوليس، والذى كان قد أتهم بدوره بالقيام بضرب بعض خصومه. وربما كان كل حزب قد إستطاع ، أحياناً ، تأمين إستخدام الطرق القديمة للعدالة المصرية فى مصلحته. وأثناء التجهيز للمؤتمر أرسل أثناسيوس أحد الشمامسة إلى كل أنحاء إقليم طيبة للبحث عن الأسقف أرسينيوس ، فدخل إلى الأديرة الميليتية مما يدل مرة أخرى على أن السلاح المدنى كان تحت تصرفه، أو على الأقل أن الناس كانوا يعتقدون أنه كذلك. وفى صيدا أُخرج أرسينيوس والذى كان قد وجد أخيرا مختبأً فى تلك المدينة. كان دفاعه عن الموضوع المريوطى معقداً وكاملاً ، فلم يكن إسكيراس راهباً ولم يكن فى الكنيسة، ولكن راقداً فى فراشه فى منزله ، عندما زاره مكاريوس راهب أثناسيوس أثناء جولة تفقدية، ولم يكن هناك حتى أى كنيسة فى القرية. أرسل المجمع لجنة أحادية الجانب للتقصى، وعند عودتها صوتت لصالح عزل أثناسيوس. كان مجمع صيدا تجمعاً كبيراً للأساقفة، الذين كانوا فى طريقهم لتدشين كنيسة قنسطنطين الجديدة فى أورشليم. ومن الواضح أن المجمع قد إعتبر نفسه ، مثله مثل مجمع نيقية ، مخولاً للحديث بإسم الكنيسة كلها ، كما أنه عمل أيضاً كهيئة تقصى حقائق للإمبراطور. ولكن عندما ظهر أثناسيوس ومتهموه الرئيسيون فى القنسطنطينية، فقد أسقطت التهم السابقة بهدوء. وُدفع بتهمة سياسية خطيرة جديدة، هى التهديد بالتدخل فى إبحار أسطول الحبوب التى تعتمد عليه المدينة الإمبراطورية، وتسائل أثناسيوس (كيف يمكن لمجرد مواطن مسكين أن يقوم بمثل ذلك الأمر ؟) وأجاب يوسيبيوس ( إنك غنى ويمكن أن تفعل أى شئ).
قرر قنسطنطين أنه لابد أن يكون هناك بعض النيران خلف كل ذلك الدخان، فأرسل أثناسيوس إلى منفاه الأول فى تراير( فى غالة)، وبعد موت قنسطنطين فى سنة 337م، إستطاع أثناسيوس العودة ولكن سرعان مابدأ الهجوم عليه مرة أخرى. لم يكن هناك إجراءات قانونية جديدة، ولكن الإتهامات القديمة قد إستؤنفت، ودُفع بمقالة أن العزل المجمعى، الذى لم يعترف به أثناسيوس، لم يكن قد ألغى. ويمكن أن نجمع بعض تلميحات من الدعاية الآريوسية الميليتية بين نساك مصر من التحذيرات الموجهة( من قبل حزب أثناسيوس) إلى الرهبان ضدهم ، والتى يبدو أنها تعود إلى تلك الفترة بشكل خاص. وفى سنة 338م حضر أنطونيوس نفسه إلى الإسكندرية ، والذى كان فى ذلك الوقت قد إنسحب إلى معتزل خاص فى الصحراء الداخلية، ولكنه كان مازال على إتصال بجماعته التى تجمعت خارجه ، وذلك كى يؤكد للمدينة تأييده لأثناسيوس. صاحب زيارة أنطونيوس القصيرة كثير من الإهتداء والشفاء، وصاحبه الأسقف مكرماً عند رحيله. وفى سنة 339م ، ومع ذلك ، أمر قنسطنطيوس، إمبراطور الشرق، بأن يُطرد أتباع أثناسيوس من الكنائس. لقد قيل آنذاك أن أثناسيوس قد أساء إستعمال منحة الإمبراطور، وذلك ببيع القمح الممنوح من قنسطنطين للأرامل التى ترعاهم الكنيسة فى مصر وليبيا. كانت الإجابة عن ذلك ألإتهام هى أن الأرامل قد إستلمن مستحقاتهن، وأن الأسقف لم يبع كل القمح والتى بدت وكأنها إعتراف أنه قد باع بعضه بالفعل. وهذه المرة لم ينتظر أثناسيوس حتى يُقبض عليه، ولكنه رحل إلى روما حيث كان يمكن الإعتماد على مساعدة البابا وعلى مساعدة قنسطانز أخو الإمبراطور قنسطنطيوس، والذى كان قد ساعده أثناء نفيه فى غالة (فرنسا الحالية). وفى تلك الفترة رسم الأسقف سيكوندوس بيستوس، وهو أحد اتباع آريوس الرئيسيون ، كمرشح لأسقفية الإسكندرية، ولكنه ربما يكون قد تراجع كى ينأى بنفسه عن المخاطرة، أو ربما أنه لم يكن مقبولاً ، وبدلاً منه تم رسم آخر يدعى جريجورى فى أنطاكية ثم حضر إلى الإسكندرية تحت حماية الحاكم الرومانى.
وفى روما كسب أثناسيوس تأييد البابا جوليوس فى مجلس عُقد ، حيث عقد الكاهن فيتو إجتماعاته، كما وصف ذلك أثناسيوس ، وهى طريقة سكندرية للحديث عن أى من الكنائس الشرفية لروما. وكتب الأساقفة فى مصر يدافعون عن أثناسيوس وقبل الخطاب البابوى مقالاتهم عن الأريوسيين، الذين حضروا نيابة عن بيستوس، وأكد على أن الأمور ذات الإهتمام العام للكنيسة وخاصة تلك التى تتعلق بأسقفية الإسكندرية لايجب أن تُحسم بدون الإشارة إلى روما. ومع ذلك فلم ينتج شئ فورى عن هذا، وإنشق مجلس الشرق والغرب، الذى إجتمع سنة 343م، إلى قسمين ، وقام الأساقفة الغربيون والمصريون فى سارديكا بإبراء أثناسيوس مرة أخرى. وقد إنُتهزت تلك المناسبة لمناقشة بعض المشاكل المتعلقة بتحديد تاريخ عيد الفصح ، والتى ستنشأ فى السنوات التالية، بحيث كان يمكن للإسكندرية وروما أن تتفقا على تلك المسألة. ومرت ثلاث سنوات أخرى قبل الوصول إلى إتفاق بين الأباطرة، مما فتح الطريق لعودة أثناسيوس منتصراً إلى أسقفيته.
كانت القوة المتزايدة لتأييد أثناسيوس فى مصر هى تطور مميز لتلك السنوات، فأثناء غيابه قام كهنة الإسكندرية بإدارة الكنيسة وأذاعوا الإعلان السنوى عن عيد الفصح إلى البلاد. وحتى فى تلك السنوات، فقد عاد بعض القادة الميليتيين إلى الكنيسة، بما فيهم أرسينيوس نفسه، والذى سيأخذ مكانه فى المستقبل كأحد أساقفة أثناسيوس. عاشت تلك الطائفة لكنها لم تعد مرة أخرى مصدراً هاماً للمعارضة المحلية. ورغم أن الإسكندرية كانت تستطيع دائما إثارة العامة ضد أو لصالح أى قضية، فقد كان مؤيدو أثناسيوس قد أصبحوا الآن مهيمنين إذا ما تركوا وشأنهم. وقد أُخبرنا كيف أنه ، فى أحد مناسبات العودة تلك ، ربما الأولى أو الثانية ، إندفع المواطنون للترحيب به، وهم مجتمعين فى طوائفهم الحرفية وتقسيماتهم الأخرى ، كما لو أن النيل كان يتراجع على نفسه حتى ميناء النهر فى شاريوم، حيث تخرج قناة الإسكندرية من الفرع الكانوبى للنهر. أما خارج الإسكندرية فلم يعد هناك حاجة لإن يُلتفت إلى أى معارضة محلية. فقد ذهب الهجوم على أثناسيوس إلى حد بعيد جعل منه بطلاً وطنياً.
تبع ذلك عشرة أعوام من السلام النسبى، وهو العقد الذهبى لأثناسيوس، عندما إحتل كرسيه الأسقفى فى إمتلاك كامل لكل صلاحياته. كم كان الحماس عظيماً ، كما يقول ، والذى فيه وهبت الحشود نفسها للزهد، وأفاض الناس فى أعمال الخير الحقيقية. ويبدو أنه كان خلال تلك الفترة أن عاد المبشر فرومنتيوس من عمله فى مملكة أكسيوم، كى يكرس أسقفاً واضعا بذلك الأساس للكنيسة الأثيوبية، التى تعتبر أول إمتداد للبطريركية السكندرية خلف الحدود الإمبراطورية. ومع نمو الكنيسة فى الإسكندرية أصبحت المبانى القائمة غير كافية مرة أخرى، وكما هو الحال فى المدن الكبيرة الأخرى، فقد تحركت المنح الإمبراطورية كى توفر كنيسة إمبراطورية جديدة. وفى ظل إمبراطور مسيحى لم يعد معبد القيصرون مرغوباً فيه، وكان يجب أن يحول إلى الأغراض الكنسية، ومن ثم فقد وفرت كاتدرائيته العظيمة، التى يحتويها فنائه، والتى كانت قد سميت على إسم هادريان وأخيرا ليسينيوس، قاعدة مناسبة لكنيسة مسيحية. كان إعادة البناء مازال جارياً فى سنة 355م، عندما إضطر أثناسيوس، ومن أجل إستقبال كل تلك الحشود، إلى إستخدام البناء الذى لم يكن قد إكتمل أو دشن بعد من أجل صلوات عيد الفصح. ولكن يمكن أن نشك فى إذا ماكان قنسطنطيوس قد رغب فعلاً فى أن يتمتع أثناسيوس بأبهة خدمة القداس فى كاتدرائية إمبراطورية.
وفى سنة 350م قُتل قنسطانز على يد المغتصب ماجننتوس، ثم جعلت هزيمة ماجننتوس فى سنة 351م من قنسطنطيوس حاكما وحيداً للإمبراطورية، وبمجرد أن أصبح حراً فى أن يفعل ذلك بدأ فى تأمين ألأساقفة شبه الآريوسيين فى الأسقفيات الرئيسية، وكان إختبار ولائهم هو إستعدادهم للمساهمة فى عزل أثناسيوس. جاءت التغيرات العقائدية بعد ذلك، وبعد أن لم يعد أثناسيوس هناك ليشهد على عقيدة نيقية فى الكنيسة الثانية للإمبراطورية. ومرة أخرى إستؤنف نموذج الإتهامات السياسية. كان أثناسيوس قد أضغن قنسطانز ضد قنسطنطيوس أثناء منافيه الأولى ، او بشكل متناقض ، قد كان قد تراسل مع ماجننتوس. ولكنه إعترض بأنه على العكس من ذلك، كان قد عبر عن ولائه من خلال صلواته الحارة من أجل الإمبراطور.وعندما إزدادت العلاقات سوءً ، تبع ذلك خطاباً مشكوكاً فيه يستجيب فيه إلى طلب بالحضور إلى البلاط والذى لم ينفذه أبداً، ولم تُستقبل بعثة الأساقفة المصريين الذين ذهبوا لرؤية قنسطنطيوس فى ميلان. أعطى إستخدام الكنيسة الغير مكتملة فى القيصرون الذريعة لتهمة أخرى، هى التعامل مع هبة إمبراطورية بغير الإحترام اللائق. وفى سنة 356م بدأ الدوق سريانوس فى تجميع القوات بالإسكندرية، وطلب رجال الكنيسة والسلطات البديلة تأكيداً منه بأنه ليس لديه أى تعليمات لمهاجمة أثناسيوس. ومع ذلك فقد فعل، وفى 8 فبراير هاجم كنيسة ثيوناس حيث كان الأسقف يترأس صلاة مسائية، وبأمره للشماس بأن يبدأ تلاوة المزمور رقم 136 بلزمته التى تقول (ورحمته تدوم إلى الأبد)، أمن أثناسيوس إنسحاب الحشد. وعندما إندفع الجنود إلى داخل الحرم، كان رجال أثناسيوس ورهبانه قد نقلوه بالقوة فيما بدا كأنه معجزة . وهكذا بدأ منفاه الثالث.
وعلى العكس من المنفيين السابقين، فإن ذلك المنفى لم يُجبر أثناسيوس على مغادرة وطنه، رغم أن الإجراء الرسمى ضده كان أقسى حتى مما سبقه. وعلى مدى ست سنوات ظل مختفياً فى جزء أو آخر من أجزاء مصر أو ليبيا. ولكنه كان فى معظم الوقت ، وبلاشك ، مختفياً فى الصوامع المظلمة فى الصحراء، و أحياناً فى الأديرة الباخومية فى إقليم طيبة، رغم أنها كانت بادية جداً للعيان، بحيث لايمكن البقاء فيها طويلاً، وأحياناً كان يتجرأ بالعودة إلى زيارة الإسكندرية نفسها. وبعد جيل من ذلك التاريخ ، تحولت تلك الزيارات إلى قصص عن كيف أن عذراء( راهبة) من الإسكندرية قد أخفت الأسقف فى منزلها ، أو فى مقبرة ، لمدة ست سنوات. لم تعد قبضة أثناسيوس بذلك الثبات على جماعته المصرية، كما كانت عندما كان هارباً رومانسياً من القوة الإمبراطورية. وبعد أن فشلت السلطات فى الوصول إلى أثناسيوس قامت بما يمكن القيام به من أجل إيجاد بديل له. وفى يونيو تم تسليم الكنائس إلى الآريوسيين، وتجمع الوثنيون فى هجوم عنيف على معبد القيصرون، حيث ضحوا ببقرة صغيرة جلبت الماء إلى الحدائق ، رغم أنها كانت الجنس الخطأ للطقس المقصود. وإقُتحمت المنازل والمقابر بذريعة البحث عن أثناسيوس. وخارج الإسكندرية أرسل حوالى ثلاثون من مؤيديه فى الأسقفية إلى المنفى أو أُجبروا على الهرب. وفى سنة 357م، وصل جورج القبادوقى كأسقف للإسكندرية. ورغم خشونة شخصيته فقد كان نشطاً قديراً، وقد لعب دوراً بارزاً فى شئون الحزب الآريوسى. كانت تلك هى الفترة التى بُذلت فيها الجهود لإقامة أساقفة آريوسيين فى أماكن أخرى فى مصر، خاصة من المهتدين الجدد أو من الميليتيين أتباع ميليتوس، كما يقول أثناسيوس، بإستثناء قلة من الهراطقة الشيوخ مثل سيكوندوس فى بينتابوليس. أصبحت المجموعة القليلة من الآريوسيين تسيطر على شئون الكنيسة فى الإسكندرية، وتعرض كثير من رجال الكنيسة والعامة للإهانة أو الضرب بسبب مقاومتهم.
وفى منفاه وجد أثناسيوس الوقت والفرصة لسلسلة من الكتابات الهامة التى لخصت موقفه تجاه الآريوسية. وقد حدد موقفه، بإحترام، فى ( دفاعه إلى قنسطنطيوس)، ثم و بحرية أكبر فى ( تاريخه عن الآريوسيين). أما( دفاعه عن فراره) فقد ناقش سلوكه الحالى، وقد عالجت (الخطابات ضد الآريوسيين) المسألة اللاهوتية. و عند نهاية منفاه كان أثناسيوس يجهز هجوماً على المجامع الآريوسية فى سيلشيا وأرمينيا حوالى سنة 359م، مع مراجعة لكل المعتقدات الآريوسية أو شبه الآريوسية، التى كانت قد صدرت خلال العشرين سنة الماضية، بالمقارنة مع تلك النيقية التى تمثل بساطة الإنجيل. ويتبع ( حياة القديس أنطونيوس) إلى نفس الفترة ، والذى كان قد مات بفترة قصيرة قبل أن تبدأ تلك المشاكل، وهو عمل كان يمثل بلا شك فترة راحة من الصراع، ولكنه أيضاً قد مكن أثناسيوس من أن يرسم صورة الراهب الأرثوذكسى المخلص.
وفى كتابات تلك الفترة أعطى أثناسيوس أكمل تعبير عن آرائه فى علاقة الكنيسة بالدولة، والتى كانت ، وبشكل عام ، تشبه المسيحية اللاتينية، أكثر مما تشبه المسيحية الإغريقية كما تطورت بعد ذلك. فقوة الإمبراطور كانت مقدسة فى مجالها الخاص، ولكن ذلك المجال لم يكن ليمتد إلى الشئون الداخلية للكنيسة. كان أحد الإعتراضات على مجمع صور هو أن جلساته قد ترأسها كونت إمبراطورى وليس سلطة كنسية، كما أن قنسطنطيوس قد زاد الأمور سوءً بجمع الأساقفة للمصادقة على قرارات كانت قد إتخذت بالفعل فى القصر. وبصرف النظر عن العلاقات التى تراها الدولة مناسبة مع الكنيسة، فإنه يجب على الكنيسة أن تحتفظ بحق إتخاذ قراراتها الخاصة وبحق إختيار قادتها. إنها إهانة كبيرة ، أن يُرسل الأساقفة من أماكن بعيدة و كأنهم موظفين مدنيين. وكلما تقدم الجدل بدأ أثناسيوس يفكر فى قنسطنطيوس، كأنه المسيح الدجال أو على الأقل نذيره المناسب.
ومن خلال هذا يمكن أن نرى صوت الوطنى ورجل الدين فى نفس الوقت، خاصة عندما أكد على نقطة أن مصر قبل فسادها الحالى كانت وطناً للأرثوذكسية السليمة. كان بابا الإسكندرية، مثله مثل بعض بابوات روما فى العصور الوسطى، ميالاً للنظر إلى السلطة الإمبراطورية بعين الشك القائمة على التجربة. وأصبح الإتجاه نحو الإستقلال تقليديا بين خلفائه إذ كانوا يرفضون أن يسيطر عليهم إمبراطور، حتى ولو كانوا يعتبرونه أرثوذكسياً مثلهم. ومن الواضح أن أثناسيوس قد حدد المسألة الأساسية فى الجانب السياسى للخلاف الآريوسى ، فهل كان على الكنيسة أن تسقط فى نمط العقيدة الإمبراطورية أم كان عليها أن تحتفظ بقواعدها ومعاييرها الخاصة؟ لم تكن السياسة والدين بعيدين عن بعضهما البعض كما يمكن أن نتصور، لإن هؤلاء الذين لم يكن المسيح بالنسبة إليهم إلهاً حقيقياً ، كانوا أكثر إستعداداً للسماح بالتفوق العملى للقوة المقدسة للإمبراطور على جسد المسيح أى على الكنيسة. وربما لم يكن من قبيل المصادفة أن أرثوذكسية نيقية كانت مرتبطة بقضية الإستقلال الكنسى.
وأثناء ذلك لم يكن موقف الأسقف جورج فى الإسكندرية سهلاً ، فقد إتهم بأنه كان يوماً ما مقاولاً حكومياً مشكوكاً فى نزاهته ، وأنه قد عمل فى مصر فى مضاربات تجارية متنوعة خاصة فى نترات البوتاسيوم وورق البردى، والذى ربما كان فى الواقع مجرد محاولة لتطوير الصادرات من ممتلكات كنيسة الإسكندرية. وبعد ثمانية عشر شهرا ثار السكندريون ضد جورج فى يوم عيد السنة المصرية الجديدة فى 28 أغسطس سنة 358م، وأشعلوا النيران فى كنيسة ديونيسيوس. وبعد شهر من ذلك الحادث فكر أنه من الأفضل له مغادرة المدينة، وإستولى الأثناسيون على الكنائس. وبعد شهرين تدخلت الحكومة مرة أخرى وأعادت إقامة أساقفة آريوسيين. ومع ذلك فقد ظل جورج خارج البلاد مهتماً إلى حد كبير بالمجامع الإمبراطورية لهذا الوقت، وذلك حتى 26 نوفمبر سنة 361م، وعند هذه المرحلة تغير الموقف بشكل غير متوقع بتولى الإمبراطور الوثنى ، جوليان. وصلت تلك الأنباء إلى الإسكندرية متزامنة مع أخبار عودة جورج تقريباً. وقد إختار جورج تلك اللحظة غيرالمناسبة ليعبر عن سخريته من زخارف مقام مُهمل للآلهة ميثرا، والتى كان موقعها قد مُنح له من أجل بناء كنيسة، لكى يغيظ كل السكندريين المخلصيين لها، بتلطيخ مقام الروح الحارسة للمدينة. وعندما أُعلن جوليان إمبراطوراً ألقى بجورج وبإثنين آخرين من ممثلى قنسطنطيوس غير المشهورين فى السجن، ثم وبعد عدة أسابيع أخرجهم حشد من العامة من سجنهم وقتلهم. ويتفق كل من المؤرخين المسيحيين والوثنيين أن المهاجمين المباشرين لجورج كانوا وثنيى المدينة، رغم أنه ، وكما لاحظ أحد الكتاب الوثنيين، لو كان قد تعامل مع المسيحيين بشكل أفضل فربما كانوا قد عملوا على حمايته.(المقصود لو كان تعامل مع الأثناسيين بشكل أفضل).
وفى ظل حكم جوليان نُسى تدخل قنسطنطيوس من أجل حزب مسيحى ضد الآخر، وربما أمل الإمبراطور أن سياسة عدم التدخل قد تشجع الإنقسام بين الجاليليين ، كما كان يسمى المسيحيين. وقد حدث هذا فى إفريقيا بالفعل حيث إستأنف الدوناتيون، وبعد أن منحوا الفرصة، نشاطهم. ولكن فى أماكن أخرى، كان هناك تحرك سريع بإتجاه القبول العام لموقف نيقية، الذى ساهم فيه أثناسيوس بشكل كبير، خلال الثمانية أشهر من السلام التى قضاها فى الإسكندرية سنة 362م. وفى الإسكندرية إجتمع مجلس صغير ولكن هام من إيطاليا والجزيرة العربية ومصر وليبيا، أى الأساقفة المنفيين من الخارج مع البابا أثناسيوس ومساعديه. كانت سياسة المجلس هى المصالحة بين كل الذين كانوا مستعدين للقبول بعقيدة نيقية، مع التغاضى عن الأمور الشخصية أو الإختلافات فى المصطلحات الفنية. وأخيراً تم توحيد حزب نيقى جديد أو حزب أرثوذكسى جديد على هذا الأساس ، نال تأييد الكنائس المحافظة فى آسيا الصغرى وسوريا و الكنائس الإغريقية المتحدة واللاتينية.
ولكن تلك السياسة أُجهضت فى ذلك الوقت بسبب أن لوسيفر الكاجليارى، والذى كان يوصف بأنه كان أثناسيوسى متطرف، قد أسرع إلى أنطاكية ورسم بولينوس ، قائد المجموعة النيقية المتشددة هناك ، كأسقف فى معارضة لميليتوس شبه الآريوسى السابق. وبذلك طال الإنشقاق أسقفية الشرق الثانية. وقبل مضى وقت طويل إختار الإمبراطور جوليان سياسة وثنية أكثر وضوحاً جعلت من المزيد من المناقشات بشأن الشئون الكنسية أمر غير عملى فى ذلك الوقت. كان تعامل جوليان مع الإسكندرية فظاً غريباً، فقد وبخ المواطنين ، برفق ، لتعجلهم تحقيق العدالة فى قضية الأسقف جورج، ولكنه أمر الحاكم بأن يؤمن له مكتبة جورج القيمة، والتى كان يعرفها جيداً، حيث كان قد إستعار منها كتباً فى أيام طفولته الغير سعيدة فى قبادوقيا. لم يرغب جوليان فى عودة أثناسيوس إلى سابق نفوذه، وقد أمر بطرد ذلك الرجل الصغير، المثير للمتاعب مع ذلك، من الإسكندرية ثم ومن مصر كلها، لإنه كان يُعمد حتى النساء الإغريقيات الوثنيات ذات المكانة فى عهده . وإعترض المجلس البلدى فوصلته محاضرة عن تقاليد مدينتهم، فحيث أسست بواسطة الإسكندر، وإعتنى بها من قبل سيرابيس، فما كان يجب أن تنجذب إلى الخطأ الجاليلى ( أى المسيحى). وأمر بأن تُرسل مسلة ساقطة إلى المدينة الإمبراطورية، فربما يمكن أن تذكر الزوار السكندريون بمدينتهم، كما فعلت عندما وصلت إلى هناك أخيرا بعد ثلاثين سنة. وربما كان إرسال تمثال إمبراطورى أكثر فائدة للسكندريين من المسلة، لإنهم لم يكونوا يستطيعوا قراءة الهيروغلفية، وكان الأشخاص الذين يؤمنون بالخرافات، من الرهبان فى الغالب، يجلسون القرفصاء حول قمتها.
تعامل أثناسيوس مع الأوامر الإمبراطورية بقليل من الإحترام لإنه، ومنذ ذلك الوقت لم تعد أوامر الإمبراطور ضد مصرى شهير تؤثر كثيراً خارج المدينة. إنسحب أثناسيوس من الإسكندرية وتقدم ببطء صاعداً فى النهر بدون بذل محاولة كبيرة للإختفاء. وترتبط قصة لقائه بقارب محمل بالجنود وإجاباته على سؤالهم عن أثناسيوس بالكلمات الغامضة( أنه ليس بعيداً) بهذا المنفى، رغم أنها يمكن أن تعود أيضاً إلى المنفى السابق عليه. وعندما وصل إلى طيبة رحب به ثيودور، رئيس الباخوميين ، معظماً إياه، وأخبره بأنه كان هناك بالفعل هاجس بينهم بأن جوليان قد قتل فى فارس. وقيل أيضاً أن ديديموس، المدرس السكندرى الأعمى، وآخرين كان لديهم مثل تلك الهواجس، والتى ماكانت لتذكر لو لم يؤيد الحدث قولهم. وسرعان ماتأكد الخبر( أى مصرع ألإمبراطور جوليان على يد الفرس)، ومر أثناسيوس من خلال الإسكندرية ليقابل الإمبراطور الجديد ، جوفيان ، فى أنطاكية حاملاً معه مشاكل الكنيسة إلى هناك.
وهنا بدا كأن متاعب أثناسيوس قد وصلت إلى نهايتها تقريباً. كان لدى الآريوسيين مرشحاً مستعدا لأسقفيته هو لوشيوس، ولكنه لم يحصل على أى تشجيع من جوفيان. ومع ذلك فبعد حكم جوفيان القصير وصل الإمبراطور الآريوسى فالنز إلى السلطة فى الشرق، وحاول إحياء سياسة قنسطنطيوس، فأمر الأساقفة الذين كان قنسطنطيوس قد نفاهم بأن يتركوا أسقفياتهم مرة أخرى. وتقريباً وكنوع من التأدب تجاه السلطات المدنية، إنسحب أثناسيوس إلى منزل فى الضواحى لعدة أشهر فى سنة 365م، كانت التقارير خلالها ، وبشكل واضح ، تصل إلى البلاط بأن ذلك الأمر الإمبراطورى لايمكن تنفيذه ، فعليا، فى الإسكندرية. وأخيراً قام الحاكم والدوق بالبحث بشكل رسمى عن منزل الأسقف فى كنيسة ديونيسيوس. وفى 31 يناير سنة 366م، وصل أمر إمبراطورى معيداً أثناسيوس إلى مكانه ، ومنذ ذلك الوقت فصاعداً تركه فالنز وشأنه. وفى سنة 367م ظهر لوشيوس مرة أخرى وحاول المطالبة بحقوقه، ولكن ألقى القبض عليه من قبل السلطات و أخرج من المدينة. ورغم أن الآريوسية كانت مازلت شائعة فى أماكن أخرى، فقد تُرك أثناسيوس فى سلام فى السنوات الباقية من حياته.
وأثناء سنوات الصراع والسلام أيضاً كان نمو الكنيسة المصرية فى إستمرار، وإنتشر معها أوضح ملامحها ، أى مؤسستها الديرية. كان النساك الذين تجمعوا حول أنطونيوس جماعة بالمعنى العام للكلمة فقط، فقد كانوا يعترفون بالسلطة الأخلاقية لمن هم أكبر منهم سناً، وقد دربوا المهتدين الجدد بنوع من نظام التلمذة المتدرج، ولكن الراهب الفرد المستقل كان هو الوحدة الأساسية. وبعد إنتهاء فترة تلمذته لم يكن يعد مديناً لأى أحد بأى طاعة أخرى. إستطاعت مثل تلك الحركة الديرية أن تؤسس وتنتشر بسرعة فى مصر السفلى وفى ضواحى الإسكندرية نفسها. كان عهداً شخصياً يصنع الراهب أو الراهبة. وعادة لم تكن الراهبة ولا الراهب مضطرين لإن يكونا من النساك، ولكنهما كان يمكن أن يعيشا حياة التنسك فى المنزل، أو مع جماعة صغيرة من الرفاق. وهناك أمثلة نموذجية من التاريخ الديرى مثل تابع أنطونيوس، بولس البسيط ، والذى كان قد دربه لمدة ثلاث سنوات ثم أقام صومعته الخاصة وعاش فيها، وكذلك دوروثيوس الطيبى الذى عاش على ساحل البحر بالقرب من الإسكندرية، وشغل نفسه ببناء صوامع صخرية للرهبان الآخرين كى يعيشوا فيها ، أو الراهبة بيامون التى عاشت مع أمها وإتخذت من نسج الكتان وسيلة لعيشهما وحصلت على مكان لها فى التاريخ، من خلال منعها لنزاع بين قريتها وقرية أخرى على توزيع مياه الفيضان. وتعطى رسالة( عن العذرية )، المنسوبة إلى أثناسيوس والتى تعود إلى ذلك الوقت تقريبا، توجيهات مباشرة عن كيف يجب أن تكون حياة العذراء( الراهبة )، المتفانية، ولكن ليس المعتزلة مع ذلك. كان يجب عليها أن تقرأ الكتاب المقدس فى المنزل وتواظب على أداء الصلوات اليومية، وترتدى ملابس مناسبة عندما تخرج إلى الكنيسة، أو لأداء أى عمل لها. وعليها أن تتناول عشاءً خفيفاً بعد الساعة التاسعة، بمعنى أنها يجب أن تراعى حمية صوم دائمة، ربما مع نساء مسيحيات أخريات. ومن المستحسن أن تمتنع عن الخمر، ولكن إذا ماكانت مع بعض الراهبات الأخريات اللاتى لاترعين تلك القاعدة، فإنه من الأفضل أن تتناول قليلاً منها كى تتجنب التعالى. وأيضاً وإذا ماكانت رفيقاتها من النساء المتقدمات فى العمر يميلون للثرثرة عند الشرب، فإنه من الأفضل أن تقدم لهم المثل الطيب. ويجب أن لاتتحدث عما تقوم به من أعمال الإحسان والضيافة، وإذا مامر بها رجل صالح (راهب)، فيجب أن تستقبله وتستمع إلى وعظه.
كان النظام الديرى الباخومى مختلفاً تماماً عن ذلك النظام الغير رسمى، فقد كان باخوميوس جندياً فى جيشى قنسطنطين وليسينيوس، وكانت أول مرة يلتقى فيها بمسيحيين عندما رحبت بوحدته مجموعة مضيافة من مؤمنيهم. وبعد تسريحه من الجيش إعتنق باخوميوس كل من المسيحية، ونظام الحياة التنسكى فى نفس الوقت، وقد حدث ذلك أولاً تحت إشراف راهب يسمى باليمون. أصبح باخوميوس قائداً لمجموعة من المعتزلين، نمت منهم جماعة إتفقت على أن تختار حياة مشتركة، وأن تتبع توجيهاته. كان ذلك حوالى سنة 323م، وقد مثل بداية الجماعة التعاونية أوالشكل التعاونى من الديرية. وفى وقت ما إحتل باخوميوس معبداً مهملاً للإله سيرابيس وإتخذ منه معتزلاً . وقد أدى ذلك إلى بعض الأفكار ذات العلاقة بناسك سيرابيس القديم، والذى كان قد عاش قبل قرون فى جزء آخر من البلاد. لكن تأثير تجربته العسكرية كان أكثر إحتمالاً لإن الدير الباخومى، وكما تطور، قد وصل إلى شئ يشبه النمط العسكرى. كان الرهبان يرتبون فى مجموعات فى منازل منفصلة لكل منها رئيس يتبع الأب الأكبر للدير.
كان كل رئيس يقوم بالتدريس والتأديب فى منزله الخاص، وفى المساء والصباح كان هناك قداس مشترك، وكان طقس العشاء الأخير يؤدى فى المناسبات الإعتيادية فقط . وأحياناً كانت دورة العمل والصلاة تحدث فى الوحدات الأصغر. وفى بعض الحالات كان الرهبان يرتبون فى المنازل تبعا لشخصياتهم، وفى حالات أخرى تبعاً لحرفهم. وكان النظام يتنوع أحياناً تبعاً للإحتياجات المحلية. كان الدير الباخومى النموذجى عبارة عن جماعة صناعية ، تعيل نفسها بنفسها، وتفى بإحتياجات المنطقة حولها وتقوم حتى بالتجارة عن بعد. وقبل أن يموت باخوميوس فى سنة 346م، كان هناك إحدى عشر مؤسسة من ذلك النوع ، تسعة للرجال وإثنان للنساء ، كلها فى طيبة الجنوبية، بين لاتوبوليس وبانوبوليس. إنه من الطبيعى أن يستخدم الإصطلاح ( نظام)، لإن النظام له ملامح لم تعد للظهور فى الديرية مرة أخرى حتى ظهور النظم المتطورة للعصور الوسطى اللاتينية، برئيسها العام و نظام التفتيش الدورى، وإمكانية نقل صغار الرؤساء فى إجتماع سنوى. ورغم قسوة النظام كما يبدو من خطوطه العريضة، فقد تلون بالرأفة الإنسانية لمؤسسه، والذى إشترط، على سبيل المثال، أن المريض يجب أن يحصل على كل الرعاية والإهتمام الممكن. إن كل القصص المتعلقة بباخوميوس تنطوى غالباً على شئ من التفهم أو الرحمة، أو شئ من التعبير الإنسانى الواضح عن الحماسة. وهكذا أُخبرنا بأنه قد رفض أن يشترى القمح لدير بأقل من سعر السوق فى وقت مجاعة، وذات مرة وبعد أن أقام محراباً جميلاً قام بهدمه خشية أن يكون مشتتاً للفكر. وبين أقصى الإتجاهين كان هناك درجات متعددة أخرى من النظم الوسطية. فقد كان يمكن للنساك الذين يعيشون بالقرب من بعضهم البعض أن يجتمعوا للعبادة وبعض الأنشطة الجماعية الأخرى، كما كان هناك أديرة جماعية منظمة بشكل أقل صرامة من نظام الدير الباخومى.
كان الدير الميليتى أحد تلك النماذج، وقد حصلنا على بعض لمحات عنه فى سنة 334م وسنة 335م، من نزل الرهبان فى هاثور فى نومة سينوبولايت فى مصر الوسطى. كان رئيس الدير هو العجوز باجيوس، والذى كان يساعده مجلس من الرؤساء، وعند مغادرته إلى مجمع قيصرية فى سنة 334م، عين أخاه سيرنتيوس كممثل له وذلك بموافقة الإخوة. كان من سلطة سيرنتيوس أن يدير شئون الدير ويعين مشرفيه، ولكن بدون إحداث أى بدع جديدة ، خاصة فيما يتعلق بالرهبان الراغبين فى ترك الدير ، إلا بموافقة مجلس الدير. كان لتلك الجماعة نظام محدد ،وكانوا يمتلكون قدر كاف من الممتلكات، بحيث أن التعيين فى الدير كان يستحق التنفيذ فى وثيقة قانونية رسمية. وتظهر وثائق أخرى من نفس الأرشيف الجماعة وهى توزع الدعوات إلى الصلاة فى كل أديرة مصر العليا، وكذلك وهى تحصل على طلبات لصنع عباءات الرهبان وتستلم هبة من القمح والفواكه والزيتون من متصدق، وكذلك وهى تنظم تبرع لصالح تاجر خمور سابق صودرت ملابسه، وحتى أطفاله، لدفع ديونه وضرائبه.ٍ ومن ثم فإن فكرة أن تتبع أثناسيوس لأرسينيوس، يقدم لنا سلسلة من الأديرة الميليتية أو النزل الرهبانية، تتأكد هنا بشكل قوى. وبلا شك فقد كان هناك أديرة مشابهة للجماعة الأرثوذكسية وكانت مثل تلك الجماعة على إتصال بحياة البلاد بأشكال عديدة. لم يكن الناسك يستطيع أن يكون نشطاً جداً ولكن أيضاً لم يكن من الضرورى أن يكون منعزلاً فى صومعته. وكان يمكن للزوار والمراسلون أن يخاطبونه من أجل الصلاة أو التوجيه الروحى أو العلاج، ومن ثم فقد كان الراهب وليس الكاهن العادى، هو من قد يقوم بوظيفة الراعى والمرشد الروحى. وقد إستلم ناسك غير معروف يدعى بابنثيوس عدداً من مثل تلك الخطابات ، إكتُشفت ونُشرت حديثاً.
وبحلول منتصف القران الرابع إنتشرت الحركة الديرية بشكل كبير فى كل أنحاء مصر، وبدأ قادة الجيل الأول لها فى الرحيل، ففى سنة 346م، توفى باخوميوس تاركاً حوالى خمسة آلاف عضواً فى نظامه . كان أحد مقلدى أنطونيوس البارزين هو آمون، والذى كان قد بدأ مستوطنة ديرية على الحد الجنوبى الغربى للدلتا على جبل نيتريا، أى فى الصحراء الواقعة فى المنطقة المسماة بنيتريا بالإغريقية وبرنودى بالقبطية. وفى وقت وفاة آمون رآى أنطونيوس رؤيا لروحه وهى تُحمل إلى السماء بواسطة الملائكة. وقد عاش أنطونيوس نفسه عمراً طويلاً ولكن ربما ليس تماما إلى 105 سنة، كما ينسب إليه. ومع ذلك فإن هذا ألأمر أو شئ قريب منه ، ليس مستحيلاً لإن حياة الزهد يكون لها فى الغالب تأثير وقائى على من يعتاد عليها. وبوفاة أنطونيوس فى سنة 355م، كانت الديرية ( حركة الرهبنة ) قد تأصلت فى مصر تماماً، وبدأت فى الإنتشار فى أماكن أخرى من الشرق. وعندما ذهب أثناسيوس إلى روما سنة 340م، فقد إصطحب معه راهبين شابين هما أمونيوس وإزيدور، وبذلك يكون قد جلب معه التطورات الجديدة للزهد المسيحى إلى معرفة الكنيسة الغربية أيضاً.
وبرغم إنتشار شهرتها فقد ظلت الحركة الديرية المصرية مؤسسة قبطية فى المقام الأول. لم يكن أنطونيوس أو باخوميوس على معرفة بالإغريقية، وكانا يحتاجان إلى مساعدة المترجمين من أجل الحديث مع الناطقين بالإغريقية ممن لايعرفون القبطية. وقد وجد أحد السكندريين، والذى كان قد قضى ثلاث سنوات كمهتدى جديد فى أحد الأديرة الباخومية فى سنة 350م، نفسه موزعاً على المنزل الإغريقى الذى كان يتجمع به العدد القليل من الناطقين بالإغريقية. وفى أى قائمة للرهبان كانت الأسماء المصرية والأسماء المأخوذة من الكتاب المقدس، خاصة من العهد القديم والتى كانت مشهورة بين المصريين، تبدو ملفتة للنظر. ولهذا الدليل دلالته، ولكنه يتطلب كثيراً من التحليل قبل أن يمكن لنا التطرق إلى الإنطباعات العامة خلفه. ومثلاً يجب أن نتذكر أن إسم مثل سيرابيون هو إسم إغريقى مصرى وليس قبطياً، وذلك بينما يحتمل أن تكون الأسماء اللاتينية فى مصر تعود لشخصيات قبطية أكثر منها إغريقية، نتيجة لتوسيع المواطنة الرومانية إلى قطاعات عريضة من السكان خلال حكم الإمبراطور كاراكالا. أما أسماء العهد القديم فربما تكون الإشارة الأكثر تأكيداً على الخلفية القبطية لأصحابها، لإنها غير عادية حتى فى الدوائر المسيحية ذات الثقافة الإغريقية.
وتبدو شخصية أنطونيوس المصرية بشكل أكثر وضوحاً فى رؤياه عن يوم القيامة بعد الموت. فقد رأى هيئة سوداء ضخمة واقفة تحاول الإمساك بالأرواح التى ترفرف حولها فى شكل طيور، فتهرب الطيور الصالحة بينما يُمسك بالشريرة، منها ويلقى بها فى هوة الجحيم. ويبدو هذا التصور كأنه مستوحى من أحد الصور، كما ان تصور الروح كطائر هو تصور يشترك فيه انطونيوس مع أسلافه ( المصريين) قبل العصر المسيحى.
و يجعل إرتباط أثناسيوس بالرهبان المصريين وتأييدهم له من المحتمل انه كان على معرفة باللغة القبطية، لإن مثل تلك الصداقة والحماسة من النادر أن توجد بواسطة مترجم. ويعتبر الكتاب الإغريقى ( حياة باخوميوس)، وهو أقدم وأفضل رواياتنا عنه، أنطونيوس وباخوميوس وأثناسيوس، القادة العظماء الثلاثة للكنيسة المصرية فى ذلك العصر، ويبدو حريصاً على إظهار ان كل منهم كان يكن تقديراً كبيرا للأثنين الأخريين. ولايوجد هناك سبب حقيقى فى الشك فى صحة كتاب أثناسيوس(حياة أنطونيوس)، لإن أوراق البردى قد أزالت أى أسباب للشك فيما يتعلق بوجود الحركة الديرية قبل سنة 340م. وإنه بطبيعة الحال عمل من أعمال سير القديسين وقد أعطانا ، بشكل واضح ، مثال أثناسيوس عن الراهب بالإضافة، إلى معلومات عن موضوع الرهبنة. كان الراهب الذى يمكن لأثناسيوس الموافقة عليه أرثوذكسيا بشكل صارم، مخلصاً لكهنوت الكنيسة، ومسلحاً بتعاليم بسيطة ولكن مناسبة عن العقيدة والسلوك المسيحيين. ويمكن أن نقرأ( حياة أنطونيوس) كدليل للنساك والذى كان بلا شك أحد أهدافه، وفى كلمات أحد المعاصرين( فقد وضع فى شكل رواية قوانين الحياة الديرية). ويكشف العديد من رسائل أثناسيوس أوجه هامة من تعامله مع الرهبان، فهو يُحذر آمون ، ربما آمون النطرونى، من الفكرة المانوية (نسبة إلى عقيدة مانى الفارسى التى تقول بالطبيعة الثنوية للوجود من خير وشر، والذى يمثلهما النور والظلام) بأن الوظائف الطبيعية للجسد هى شريرة فى ذاتها، وأنه يجب على الراهب أن يدرك أن كل من الزواج والعذرية هى وظائف جليلة فى الكنيسة، رغم أن الأخيرة قد تكون أقسى وأروع. وخلال منفاه الثالث وجه أثناسيوس بياناً إلى الرهبان ضد الآريوسيين. وقد رحب بإنتخاب الرهبان إلى المراكز الأسقفية عارضاً مبادئه فى هذه المسألة فى سنة 355م، فى نداء لشخص يدعى دراكونتيوس من أجل قبول أسقفية هيرموبوليس بارفا. كان يجب على الرهبان أن يشتركوا فى عمل الكنيسة النشط عندما يستدعون إلى ذلك بشكل قانونى، حيث أن توجيه المؤمنين وإكتساب المهتدين الجدد كان عملاً عظيماً تماماً مثل إنضباطهم الزهدى، والذى كان يمكن لهم أن يتابعونه فى حالة حياتهم الجديدة إذا ما أرادوا ذلك . ومن الواضح انهم لم يعتبروا المركز الدينى نفسه شيئاً سيئاً لإنهم كانوا يحتاجون إلى كهنة لخدمة جموعهم فى الصحراء. كان النساك أحياناً يحرمون أنفسهم من وسائل النعيم العادية ولكن الجماعات التعاونية وجموع الرهبان الأقل رسمية، لم تكن تفعل ذلك. وأطاع دراكونتيوس وأصبح واحداً من مؤيدى أثناسيوس المخلصين فى الهجوم الآريوسى الذى تلى ذلك. وهكذا إستدعى بابا الإسكندرية الزاهد الحركة الديرية إلى خدمة الكنيسة مرة أخرى، والتى كانت قد بدأت ( حركتها ) بأخذ بعض أشد المؤمنين حماساً بعيداً عن الحياة العامة.
وفى سنوات السلام النسبى بعد سنة 363م، تابع أثناسيوس إهتمامه بالشئون العامة للكنيسة.ولسوء الحظ فقد فشل فى الإنضمام إلى باسيل أسقف قيصرية لإنهاء الإنشقاق الأنطاكى، ولكن بعد سنة 366م ببعض الوقت، فقد أيد أسقف روما الجديد ، داماسوس ، بخطاب إلى أساقفة إفريقيا، طالبا تأييدهم لعقيدة نيقية. أما آخر كتاباته العقائدية، فقد عالجت المسائل التى ظهرت فى المراحل الأخيرة من الخلاف الآريوسى. وفى سلسلة من الخطابات إلى صديقه وزميله سيرابيون دافع عن إلوهية الروح القدس، والتى كان الآريوسيون، وحتى بعض من لم يكن على إتفاق كامل معهم، ينكرونها. وقد طور صديقه الأسقف أبوليناريس من اللاذقية فى سوريا، والذى كان سكندرياً مقيماً فى سوريا، كما كان آريوس أنطاكياً مقيما فى مصر، فكرة أنه فى المسيح قد أخذت الكلمة المقدسة مكان الروح الإنسانى، أو على الأقل كانت تلك هى الفكرة التى أخذها الآخرون منه. وقد تعرض أثناسيوس لتلك الأفكار ولتصورات أخرى عن طبيعة المسيح فى خطاب إلى الأسقف إبيكتيتوس أسقف كورنثيا. وهنا تبدو مساهمة أثناسيوس فى المرحلة التالية من المناقشة الدينية أكثر وضوحاً، وذلك فيما يخص العلاقة بين الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية فى المسيح، حيث جعل من عقيدة نيقية تقضى بأن القداسة التى نراها فى يسوع هى حقا إلهية. وفى دوائر عقيدة نيقية كانت الستينيات والسبعينيات من القرن الرابع هى فترة من التوضيح والتأصيل. كان صديق أثناسيوس وممثله الموثوق فى مدرسة الإسكندرية، ديديموس الأعمى، أو كما كان معجبوه يحبون أن ينادونه ديديموس المتنبئ، حيث كان يرى بعين عقله مايستحق الرؤية، أكثر نشاطا فى هذا العمل من الأسقف نفسه. وقد أكسبه عماه وحياته الزاهدة حرية من إضطهاد الآريوسيين، وتسامح من قبل الأرثوذكس لبعض أفكاره الأورجينية عن الروح والوجود. وقد إقترب ديديموس من روح أوريجن وإهتماماته أكثر من أى مفكر دينى لاحق آخر. فبجانب قدر كبير من التعليقات على الكتاب المقدس فقد كتب تفنيد للمنوية( عقيدة مانى الفارسية)، ودفاع عن الروح القدس، ورسالة عن التثليث. وقد أسست الأخيرة للكتاب الإغريق مصطلح الوجودات الثلاثة فى ذات واحدة، والذى أصبح الصيغة الثابتة للأرثوذكسية. وتظهر الإهتمامات الفكرية الدينية لفترة ديديموس فى بعض الصلوات، التى ربما كانت قد أُضيفت إلى طقوس القديس مرقس السكندرية حوالى ذلك الوقت. وإنه من المثير أن نرى تأليفه فى الصلاة من أجل الإستنارة ، والتى تسبق قراءة الدروس الخاصة بهذه الشعيرة فى موقف مشابه للصلاة القصيرة فى الطقوس الغربية:

( آه ياسيدى وربى يسوع المسيح ، الكلمة المماثلة للأب الأبدى الذى أصبح مثلنا فى كل شئ ماعدا الخطيئة، وذلك من أجل خلاص جنسنا. فهل ترسل الآن ياسيدى نورك وحقيقتك وتنير عيون عقلنا لفهم وحيك الإلهى، وتجعلنا سامعين مناسبين له ، وليس فقط سامعين ولكن أيضاً فاعلين للكلمة).

أضيئت سنوات أثناسيوس الأخيرة، تماماً مثل سنوات شبابه فى عهد الأسقف إسكندر قبل زمن طويل، ببناء كنيسة للجمع المسيحى المتنامى. وقد أعيد القيصرون إلى الكنيسة فى سنة 365م، لكنه أحرق فى سنة 366م فى هجوم نسب إلى الوثنيين ، ثم أعيد بنائه فى ظل رعاية إمبراطورية وأعيد إفتتاحه سنة 368م. وأخيراً أصبحت حدود قيصر المقدسة ، وبشكل دائم ، كنيسة الإسكندرية العظيمة. وفى سنة 369م بدأ أثناسيوس بناء كنيسة جديدة فى منديديوم، وكانت جزءً من منطقة الميناء، وقد إفتتحها فى السنة التالية. وقد سميت بإسمه ثم وفى الأجيال التالية تغير الإسم تدريجياً من كنيسة أثناسيوس إلى كنيسة القديس أثناسيوس. وفى 2 مايو من سنة 373م، مات المقاتل العجوز وبعد أيام قليلة فقط تم رسم بطرس، أحد كهنته القدامى، كخلف له.
وبالنسبة لعصره وأيضا بالنسبة للأجيال التالية ، كان أثناسيوس واحداً من تلك الشخصيات المسيطرة، التى كانت تجذب أو تنفر، ولكن الناس ماكانوا يستطيعون أن يكونوا محايديين حيالها فى أى حال. وقد أرجع أحد الوثنيين المعاصرين قدرته الدائمة على مقاومة القوى الشريرة، ربما، إلى السحر. أما النقاد المحدثين فإنهم قد يرونه جافاً ضيق الأفق، لكن لايستطيع أحد منهم أن لا يثنى عليه كمقاتل نبيل فى سبيل القضية التى كان يعتقد أنها عادلة.
ومن المؤكد انه كان قد إقتنع أن المهرطق الطيب الوحيد كان مهرطقاً سابقاً. ولكن ومع تسليمه بهذه النقطة فقد كان مستعداً لإن يكون كريماً مع الناس، ومنفتحا على تفسيرات الأفكار مع هؤلاء الذين يتفقون معه على النقاط الأساسية. وبعد أقل من عقد على وفاته أعلن جريجورى نزيانزين على المنبر فى القسطنطينية( وفى مديح أثناسيوس سوف أكون مادحاً للفضيلة ) وقال فى تأبينه أنه كان فيلسوفاً وراعياً وحاكماً ومجاهراً بإيمانه ومصالحاً وعماداً للكنيسة فى عصره. وفى التاريخ المصرى يقف أثناسيوس بشكل مساوى ، موجهاً وموحياً للحياة المتنوعة للكنيسة، ضامناً ولاء العناصر المتعددة من سكان مصر المسيحية. إن مأساة تاريخ الإسكندرية التالى هى أنه لم تتوفر له أبداً مثل تلك القيادة مرة أخرى.









3- فراعنة الكنيسة
من ثيوفيلوس إلى ديسقوروس

مثل تاريخ البطريركيات فى الكنيسة الشرقية، سلسلة من النظائر الهامة لتلك الممالك التى حكمت نفس الإقليم فى الفترة الهيلينية. فمن بين خلفاء الإسكندر ، كان السلوقيون فى أنطاكية قد حققوا مركزا قيادياً لكنهم فقدوه تدريجياً بإنفصال أجزاء من إمبراطوريتهم الغير متماسكة، وبالإنشقاقات الداخلية. وبنفس الشكل بدأت كنيسة أنطاكية بتفوق كبير، ولكن غامض، على مساحة كبيرة، ثم بدأت تفقد جزءً بعد جزء من تلك المساحة، حتى إنحصرت فى النهاية فى قيادة الكنيسة السورية الممزقة بالإنشقاقات تماماً ، كما إنحصرت مملكة السلوقيين فى أيامها الأخيرة فى مجرد مملكة سوريا التى تمزقها الحرب الأهلية. وفى القرن الخامس حققت كنيسة أورشليم إستقلالها عن أنطاكية، حيث تمكن اليهود تحت حكم المكابيين من الإنفصال عن السلوقيين. ولكن النظير الأقرب لكل ذلك كان هو مصر، فقد حكم البطالمة مملكة مترابطة إنطلقوا منها ليأخذوا لهم مكاناً متفوقاً فى السياسات العليا للعالم الهيلينيستى، وبالمثل فقد حكم أساقفة الإسكندرية كنيسة مصرية مترابطة، وإنطلقوامنها ليأخذوا لهم دورا قيادياً فى شئون الكنيسة العالمية. فلأربعة مرات على الأقل بين السنوات 380-450م، مُثلت كنيسة الإسكندرية بما يمكن أن نسميه أسطول حربى كنسى فى القنسطنطينية أو إفسوس، تماماً كما حكم الأسطول البطلمى فى أيامه العظيمة بحر إيجة. وفى كل حالة كانت النتيجة النهائية هى الهزيمة بواسطة القوى الغربية ، والتى كانت تمثلها فى التاريخ القديم مقدونيا وروما، وفى التاريخ الأحدث، كنائس روما والقنسطنطينية.
كانت النتيجة الفورية لوفاة أثناسيوس هى الهجوم الآريوسى الأخير على الإسكندرية ومصر، فقد وصل الأسقف لوشيوس تحت حراسة القوات الإمبراطورية وبرفقة وزير المالية الإمبراطورى( الكونت ماجنوس - كونت الهبات المقدسة)، و تكررت مرة أخرى مشاهد الثورة والغضب فى كنائس الإسكندرية، وهرب الأسقف بطرس إلى روما. أما خارج العاصمة فقد كان رهبان وادى النطرون هم أكثر من عانى، وربما كان الهجوم عليهم مرتبطاً بمنشور إمبراطورى صدر آنذاك كان يأمر بالقبض على المواطنين الأثرياء الذين يتهربون من أداء الواجبات البلدية بحجة إنتمائهم إلى جماعات الرهبان ، أو بمصادرة أملاكهم. كان هذا القانون، وبشكل ما، فضلاً ، لإنه قد إعترف بالعرف الذى وفر للرهبان الإعفاءات التى منحها قنسطنطين وخلفائه لرجال الدين المسيحى. ومثل كثير من التشريعات الرومانية المتأخرة، فقد كان قابلاً لكثير من التفسيرات، وربما كان غامضاً بشكل متعمد، ولكنه كان يبدو موجهاً إلى طبقة النساك الأثرياء ، والتى وإن كانت واضحة ومعروفة فلم تكن كبيرة العدد، والذين عاشوا حياة الزهد ولكنهم لم يتخلو عن أملاكهم مع ذلك. ويدل إهتمام الكونت ماجنوس بهذا الأمر على شئ من الإرتباط بالخزانة الإمبراطورية. وقد تحدثت المصادر الكنسية أيضا عن محاولة للقبض على الرهبان سليمى البنية من أجل الجيش، رغم إمكانية وجود بعض إلتباس هنا مع كلمة ميليشيا فى معناها العام فى خدمة الدولة، وربما تعاونت السلطتان، فكان على ماجنوس أن يفرض سلطة القانون ضد هؤلاء الذين لم يعترفوا بلوشيوس كأسقف لهم. وقام الجنود وقد وجدوا الرهبان فى عملهم ، يصلون ويعالجون المرضى ويطردون الأرواح ، و كما ذكر مؤرخ لاحق ، بتفريق مستوطناتهم فى ذلك الوقت. وتم نفى قيادات رهبان وادى النطرون وحوالى إثنى عشر أسقف إلى فلسطين. وقد رفض راهب مصرى يدعى موسى ، كان قد إختير كأسقف مبشر لملكة البدو، الذهاب إلى لوشيوس والإعتراف به، مما إضطر الإمبراطور المرتبك أن يرسل إلى الجبال - الصحارى طلباً لأساقفة أرثوذكس كى يرسمونه. وفى خلال سنة أو سنتين كان فالنز قد شُغل بخطر القوط على الحدود الشمالية، وعندما إنتهى تأييده للقضية الآريوسية إنهارت تلك القضية فى الإسكندرية، وهرب لوشيوس إلى القنسطنطينية وعاد بطرس إلى أسقفيته حوالى سنة 375-376م. وبعد هزيمة ووفاة فالنز فى سنة 378م، قام إبن اخيه جراتيان بتنصيب الأرثوذكسى الأسبانى ثيودوسيوس إمبراطوراً على الشرق. ومنذ ذلك الوقت فصاعداً أصبحت عقيدة نيقية هى العقيدة الرسمية لحكام القنسطنطينية، حتى نهاية الإمبراطورية، والتى يمكن أن نسميها إعتباراً من ذلك الوقت ببيزنطة.

( أى أنها قد أصبحت العقيدة الأرثوذكسية الرسمية للإمبراطورية، ونذكر أن عقيدة نيقية كانت ترفض الأفكارالآريوسية وتعتبرأن الإله الإبن والإله الأب من نفس الجوهر، ولاتعترف بتفوق الأب على الإبن كما كان آريوس وأتباعه يقولون، وبذلك يكون الصراع قد حسم أخيراً فى عهد الإمبراطور المذكور ثيودوسيوس بإنتصار الأرثوذكسية النيقية على الآريوسية، ولكن خلاف جديد سينشب فى القرن التالى عن طبيعة المسيح أهى طبيعة واحدة أم طبيعتين، وسوف يكون له أثر على كيان الإمبراطورية والكنيسة أعمق كثيراً من أثر الخلاف الآريوسى).

وبدأ ثيودوسيوس سياسته الكنسية بتعريف علمانى بسيط للأرثوذكسية، فقرر أن الأساقفة الذين سيعترف بهم هم هؤلاء الذين يؤمنون بالتثليث كما علمه داماسوس أسقف روما وبطرس أسقف الإسكندرية، ومع ذلك فلم يكن من السهل إعادة تأسيس الكنيسة فى القنسطنطينية نفسها. فبرغم تفرقهم إلى طوائف، فقد كان الآريوسيون مازالوا يسيطرون على مواقع كثيرة، وكان أنصار عقيدة نيقية مجرد بقية متفرقة، وكانت طائفة النوفاشيين البيزنطية المحافظة تجتذب كثيراً من التأييد والتعاطف.
حضر جريجورى النازيانزومى، الأخ الكفء والرقيق لباسيل، والذى كان فى ذلك الوقت أسقفاً بدون أسقفية، إلى القنسطنطينية بالتأييد العام لأنصار أرثوذكسية نيقية بمن فيهم الأسقف بطرس أسقف الإسكندرية. وهنا تولى القداس فى كنيسة القيامة، أنستاسيا ، إلى أن إستطاع بعد وصول ثيودوسيوس فى سنة 380م ، نقل جمعه المتنامى إلى الكنيسة الكبرى. وفى أحد أيام الآحاد أثناء تلك الفترة ، ربما فى صيف سنة 379م، شعر جريجورى بالإبتهاج لرؤية بحارة أسطول القمح المصرى يتجاهلون الأسقف الآريوسى، الذى كان مازال قائماً، ويتحولون بشكل جماعى إلى كنيسة أنستاسيا. وقد رحب بهم جريجورى بأحد إندفاعاته البلاغية، والتى صور فيها جوزيف الرزاق، الأسقف الراحل ، والذى كان مجرد إسمه يعنى الخلود، وبطرس الجديد، فى إتحاد يبعث على السرور والإعجاب. فبعد أن أطعموا المدينة بحمولتهم، حضروا إلى المكان الصحيح من أجل طعام الروح ، والذى قدمه لهم جريجورى فى تفسير صاف من العقيدة الأرثوذكسية. ولنفس تلك الفترة يعود تأبينه لأثناسيوس. لم يكن مجد كنيسة الإسكندرية عالياً مثلما كان تلك الأيام، ولسوء الحظ فلم يكن مرشح بطرس لأسقفية القنسطنطينية هو جريجورى، ولكن كان مدعياً غريباً هو مكسيموس الكلبى، والذى كان يتمتع بقدرة مميزة على فرض نفسه على قادة الكنيسة منذ اللقاء الأول. كان بطرس يسانده وقد رحب به جريجورى كزميل، وفيما بعد وعندما طُرد من القنسطنطينية، إستطاع لبعض الوقت الحصول على تأييد أمبروز الميلانى. وفى عملهم كمندوبين ، تقريباً ، للبابوية الشرقية، قام ممثلو بطرس بإتخاذ خطوات غريبة من أجل إقامة مكسيموس أسقفاً فى القنسطنطينية. كان هناك ثلاثة أساقفة فى الأسطول المصرى، وبمساعدة البحارة إقتحموا كنيسة أنستاسيا ليلاً وبدأوا خدمة رسامة مكسيموس. وعندما قاطعهم البوليس عند الفجر، إضطروا إلى إنهاء عملهم فى منزل خاص. وعند عودتهم إلى الإسكندرية ، حيث كان تيموثى قد خلف بطرس فى بداية سنة 380م ، كانوا هكذا قد تركوا طائفة أخرى فى العاصمة. تسبب هذا الخطأ الجسيم فى ضربة قاصمة لمركز كنيسة الإسكندرية. وإفتتح المجمع الشرقى الذى عُقد فى القنسطنطينية سنة 381م ، وعرف بعد ذلك بإسم المجمع المسكونى الثانى ، بدون حضور مندوبين مصريين. وقد أعلن ذلك المجمع بطلان كل الأفعال التى نُفذت من أجل مكسيموس، أو التى قام بها هو بعد ذلك وإعترف بجريجورى أسقفاً للقنسطنطينية، وبعد تنحيه أقاموا نيكتاريوس خلفاً له، والذى أعلن قانونه الثالث، أنه وحيث أن القنسطنطينية كانت روما الجديدة، فإن كنيستها يجب أن تحظى بشرف المركز الثانى بعد كنيسة روما القديمة. كان الخاسر الفورى من ذلك القرار هو أسقف الإسكندرية. وقد أُشير إلى تصرفاته الحالية آنذاك فى القرار الثانى للمجمع أيضاً، والذى نص على أن أساقفة كل أبرشية مدنية يجب أن يقصروا أنفسهم على شئون الكنيسة فى أبرشيتهم ، وعلى سبيل المثال، يجب أن يقصر أسقف الإسكندرية نفسه على شئون الكنيسة المصرية.
كان كلا من بطرس وتيموثى، والذى يقال انهما كانا أخوين ، كهنة فى عهد أثناسيوس، ومن الواضح أنهما كانا قد وصلا إلى منصب الأسقفية فى عمر متقدم. وقد مثل ثيوفيلوس، الذى خلف تيموثى فى سنة 385م، جيلاً جديداً، رغم أنه كان قد خدم كشماس فى عهد أسلافه، وبهذا الشكل فقد كان ذا خبرة فى شئون الكنيسة. كانت الإسكندرية مثلها مثل روما تختار أساقفتها فى العادة من بين هؤلاء الذين خدموا فى إرتباط وثيق مع أسلافهم، مكونة بذلك نوع من الملكية الكنسية المدربة على منظور وسياسة ثابتين. وحوالى ذلك الوقت كان هناك كثير من المتغيرات تجرى فى النظام المدنى والعسكرى فى البلاد، مما رفع من مركز الأسقف النسبى بعد ذلك، فقد فُصلت ولايتى مصر وليبيا عن أبرشية الشرق الكبرى، إلى أبرشية مدنية منفصلة. وقد ترأس حاكم مصر تلك الأبرشية وتمتع باللقب الشرفى ( أوجستاليس)، والذى أصبح لقبه العادى بعد ذلك. ولكن سلطته فى الإشراف على الولايات الأخرى لم تكن هامة جداً، حيث إستمر تقسيم الولايات. وبنهاية القرن أصبحت مصر الوسطى ولاية منفصلة تسمى أركاديا تكريما لإبن ثيودوسيوس وخلفه، وقسمت كل من مقاطعات مصر( إجيبتوس) وأوجاستامينيكا وطيبة ، إلى قسمين. وهكذا وبينما توازت السلطة التشريعية للحاكم مع تلك الخاصة بالأسقف، فقد كان مازال هناك تقسيم أكبر للسلطة المدنية عنه من السلطة الكنسية. وفى المسائل العسكرية كان هناك تقسيم مماثل. كان دوق مصر فى الإسكندرية محدداً بقيادة حاميات غرب الدلتا، وكان على كونت مصر فى الشرق ودوق طيبة فى الجنوب ودوق ليبيا فى الغرب أن يتعاونوا معه. وتقلص الجيش المصرى، بشكل متزايد، إلى مجرد سلسلة من الوحدات الصغير،ة والتى لم تكن أكثر من ميليشيا محلية، ومن ثم فلم يكن يحفظ البلاد من الغزو سوى غياب خطر حقيقى فقط. و لذا فعندما كان يحدث فى بعض الأحيان أن يلجأ أنصار الكنيسة إلى السلاح، فلم يكن هناك قوة فى مصر يمكن لها أن تتصدى لهم بسهولة. وأصبح القانون يعترف الآن، ومع السلطات التشريعية المدنية والعسكرية ، بالسلطات التشريعية الكنسية. وبجانب سلطته على نظام الكنيسة ومركزه كمحكم لهؤلاء الذين يفضلون محكمته على المحاكم المدنية، فقد تمتع الأسقف وفى المسائل العادية، بسلطة التشريع المدنى والجنائى على رجال الكنيسة والرهبان. ويشير أول قانون يعترف بهذا إلى مصر بشكل خاص. وقد شهدت السنوات الأولى من عهد الأسقف ثيوفيلوس، فى خضم حالة من الفوضى ، سقوط الوثنية العامة فى الإسكندرية، ففى عهدى أثناسيوس وبطرس كانت جموع المدينة العظيمة مازلت منقسمة بين العقيدة القديمة و العقيدة الجديدة. كانت الوثنية هى الأقوى، على الأرجح، فى أقصى الطرفين، الأرستقراطية الإغريقية لمنطقة برشيون ، والمصريون فى راقودة. ولكن فى المنطقة الأخيرة، وبالقرب من معبد السيرابيوم الكبير ، كان هناك كنيسة كُرست بعد ذلك إلى القديس بطرس، آخر الشهداء. ولإن الكنائس فى تلك الفترة كانت تسمى بإسم مؤسسها، فمن المحتمل أنها كانت الكنيسة التى بناها بطرس الثانى الأقل شهرة. كان الأداء العام للشعائر الوثنية قد حُظر تحت حكم قنسطنطيوس، رغم أن ذلك التشريع لم يُنفذ بسبب معارضة الشعور المحلى له. وكان من الطبيعى أن يلغيه جوليان، لكن الأباطرة التالون قد إتبعوا سياسة عدم التدخل بأكثر من سياسة التسامح. كان ثيودوسيوس يرغب فى القبول العام بالمسيحية، لكنه لم يأخذ فى البداية أى إجراء ضد الوثنيين الباقين فى الشرق، وفى حدود سنة 383م إعترف قانون وجه إلى الحاكم الرومانى بوجود منصب الكاهن الأكبر فى مصر، بشرط أن لايفرض المنصب على هؤلاء الذين تلقت ضمائرهم مبادئ العقيدة الحقة، ولكن فقط على الوثنيين الذين قد لاتساورهم حيرة الضمير فى القيام برعاية المعابد والإحتفال بالأعياد. ومن جهة أخرى ، فقد أغلقت المعابد فى أماكن متعددة حيث لم يعد لها حاجة. وفى الإسكندرية مُنح ثيوفيلوس معبد سابق للإله ديونيسيوس أو أوزوريس من أجل تحويله إلى كنيسة، وأقيم عرض عام للموضوعات الإباحية والهزلية لطقوسه السرية. وقد اثار ذلك العمل حشد من العامة الوثنيين ضد مسيحى الإسكندرية، فإحتلوا السيرابيوم وجعلوه قلعة لهم وقتلوا عدداً من خصومهم وأجبروا آخرين على تقديم القرابين الوثنية. وإستعاد الحاكم والدوق النظام بموجب هدنة تركت السيرابيوم لملكية الوثنيين بينما رُفعت المسألة إلى الإمبراطور. أعلن الإمبراطور عفواً عاماً، ومنح المسيحيين الذين قتلوا مرتبة الشهداء، وتم العفو عن خصومهم بشرط تخليهم عن قلعتهم (أى السيرابيوم). وبعد عدة سنوات من ذلك التاريخ سمع الطلاب فى مدينة القنسطنطينية التقية، وقد إنتابهم الفزع، أحد معلميهم للفسلفة، وهو يخبر كيف أنه فى شبابه قد قتل تسعة مسيحيين بيديه. ومع ذلك ، فقد كانت النتيجة الفورية فى الإسكندرية هى سقوط السيرابيوم. وحُطم المقام العظيم وإقيم فى مكانه كنيسة سُميت على شرف إسم أركاديوس ، إبن الإمبراطور. وأغلقت الأوامر الإمبراطورية أيضاً المعابد الأخرى، التى كانت قد بقيت فى الإسكندرية، ربما كأحد البنود التابعة لتشريع سنة 391-392م، والذى حرم إقامة الشعائر الوثنية فى نهاية الأمر.
ومن الواضح أن القوانين ضد الوثنية كانت قد فُرضت فقط عندما أصبحت المسيحية هى العقيدة السائدة، وهو ما يبدو أنه قد حدث فى مصر فى خلال القرن الرابع. ولابد أن هناك كثير من المبشرين الذين قد يُنسب إليهم إنتشار الإنجيل فى الريف. كان الأسقف ورجاله يعملون فى كل مدينة، وكانت جماعات الرهبان فى القرى مراكز لهداية المقاطعات الريفية. ويقال أن أثنين من كبار الرهبان اللذان كانا قد نفيا من وادى النطرون فى سنة 374م، قد أرسلا إلى إحدى الجزر التى لايوجد بها أى مسيحيين، وأنهم قد جعلا من منفاهما شيئاً جيداً بتحويل السكان إلى المسيحية. كانت المعابد تهجر بأكثر مما تحطم، رغم أننا نسمع عن بعض الرهبان وهم يقودون الهجمات ضدها.
تعرض ثيوفيلوس للنقد من قبل معارضيه بسبب إستغراقه فى المشروعات البنائية ، وهو هوس فرعونى بالحجر ، كما يقول واحد من هؤلاء الذين عانوا منه فى السنوات اللاحقة. ولكن النقاد الأصليين كانوا من الرهبان بشكل كبير، والذين كانوا ينظرون إلى أى بناء ، بإستثناء ماكان ضرورياً منه، بعين الريبة. وقد أجاب أصدقاء ثيوفيلوس بأن النمو السريع لكنيسة الإسكندرية قد تتطلب أبنية إضافية. وظل ثيوفيلوس يُذكر بالكنائس التى سماها على شرف إسم الإمبراطور ثيودوسيوس وإبنيه، وكانت كنيسة ثيودوسيوس، بصفة خاصة، عظيمة البهاء كما يمكن أن نتوقع. وفى الصحراء جنوب غرب الإسكندرية، أسس ثيوفيلوس بإسم الإمبراطور كنيسة القديس ميناس فوق مقبرة شهيد غير معروف قدر له أن يتمتع بشهرة عظيمة بعد ذلك. وفى كانوبيس أقيم مقام مماثل للشهداء سيروس وجون، وهكذا اخذت أماكن الحج المسيحية مكان الأماكن الوثنية، التى كانت تجذب الزوار فى الماضى سواء للعبادة أو للترفيه فى رحلاتهم إلى خارج العاصمة.

( شهد عهد ثيوفيلوس وعهد خلفه كيرلس أكبر حملة على الوثنية فى تاريخ مصر المسيحية تم خلالها تحطيم جزء كبير من المعابد والآثارالوثنية).

كان الجيل الأخير من القرن الرابع هو الفترة الكلاسيكية للديرية المصرية. كان هناك، تقريبا، نوع من السياحة التجارية إلى الصحراء المصرية، والتى يبدو أنها كانت منطقة الجذب الرئيسية للزوار الأجانب فى ذلك الوقت. كان باسيل القيصرى، الذى جاء إلى مصر حوالى سنة357م، أحد أوائل هؤلاء الحجاج، وقد رجع ليستخدم تجربته تلك فى تأسيس حركة ديرية فى آسيا الصغرى. وقد قضى الراهب الإيطالى رفينوس بعض سنوات فى مصر خلال العقد الثامن من القرن الرابع ، وإستمع إلى ديديموس فى الإسكندرية كما زار رهبان الصحراء.
وفى سنة 375م، وصلت العقيلة الرومانية الشهيرة، ميلينيا، إلى وادى النطرون مع ريفينوس فى حاشيتها، ورُحب بها بحضور عام للآباء يرأسهم أسقفهم إزيدور المعترف ، أسقف هيرموبوليس. الذين كانوا هناك فى زمن الهجوم الآريوسى، وإنضموا إلى المنفيين فى طريقهم إلى فلسطين حيث خدمتهم ميلينيا، والتى كانت مازالت صغيرة بما يكفى لمثل تلك المغامرة، فى ثوب العبيد. وبعد عشرة أعوام من ذلك التاريخ زار جيروم مصر فى طريقه للإستقرار فى بيت لحم، رغم أنه من المشكوك فيه أن يكون قد سافر خارج الإسكندرية. وفى صفحات بالاديوس والذى يسجل تاريخه( تاريخ لوزياك )، تجاربه خلال عشر سنوات من الإقامة فى مصر من سنة 389م إلى سنة 399م، يمكن لنا أن نتتبع الخطوط العريضة لنوع من رحلة ديرية كبيرة. وبعد أن تعلم على يد أهل الإسكندرية الأتقياء، إنتقل للتدرب على يد الرهبان المعتزلين خارج المدينة، فعبر بحيرة مريوط وصعد مع القناة، ورغم أنه لم يذكر ذلك، حتى وصل إلى وادى النطرون. وهناك قضى معظم الفترة الباقية من إقامته فى مصر، حيث أبحر مع النهر حتى مدينة ليكوبوليس وزار جون الناسك، والتى حظيت هداياه النبوية ونصائحه الروحية بشهرة عالمية فى ذلك الزمن. كان ذلك هو المدى الذى يمكن للزائرين الأجانب أن يذهبوا إليه بإرادتهم، وعلى ذلك فإنهم يكونوا قد عرفوا عن المراكز الديرية الباخومية من خلال شهرتها فقط. وربما تبدو الرحلة الموصوفة فى كتاب( هيستوريا مناكوروم)، مجرد صورة أدبية، ولكنها على الأقل كانت تقصد أن تكون مقبولة. فهى تصف كيف أن جماعة من أورشليم قد صعدت مع النهر حتى مدينة ليكوبوليس، ولكن ليس لأبعد من ذلك بسبب خطر عصابات اللصوص. وفى طريقهم ذهاباً وإياباً، زاروا المستوطنات الرهبانية فى كل مركز فى مدينة أنطونيوس وهيراقليوبوليس فى إقليم طيبة، و فى أوكسيرينشوس وأرسينوى فى الصحراء الشرقية لمصر الوسطى، حيث كان أسلاف أنطونيوس قد سكنوا حول ممفيس وبابليون وفى وادى النطرون وتفرعاته أقصى الشمال. ومن الواضح أنهم قد دخلوا من الشرق وليس من طريق الإسكندرية الغربى، وفى طريقهم رأوا رهبان ديولكوس فى شمال شرق الدلتا. ويذكر جون كازيان، الذى كان فى مصر حوالى سنة 400م ، كثيراً من مناقشاته الديرية أو لقاءاته مع رهبان ديولكوس أو بلوزيوم، رغم أنه فى النهاية قد جذبه الرحيل إلى وادى النطرون أيضاً. كانت الرهبنة الجماعية أكثر إنسجاماً مع مصر الجنوبية، كما كانت الرهبنة الفردية أو الإنعزالية مع الشمال، وذلك رغم وجود نساك فى الجنوب وجماعات رهبانية فى الشمال أيضاً. ويبدو أن تلك الميول قد إستمرت عبر القرون، إذ يقال أنه حتى اليوم وعندما يذهب أبناء الريف للبحث عن أرزاقهم فى القاهرة، فإن مواطنى مصر العليا هم الأكثر ميلاً للحصول على وظائف فى المشاريع الكبيرة، بينما يميل الشماليون إلى إقامة أعمال صغيرة خاصة بهم.
وفى العقد الثامن من القرن الرابع أُسس دير باخومى فى كانوبوس بالقرب من الإسكندرية نفسها يسمى الميتانويا أو( دير التوبة )، وهكذا وكما لاحظ جيروم، فقد غير ذلك إسم وشهرة منتجع السرور الوثنى. جذب الميتانويا أعضاءً من الإغريق وحتى من الرومان أنفسهم، والذين ترجم لهم جيروم قانون الدير إلى اللاتينية. لم يتوسع الدير كثيراً فى المكان الذى أقيم فيه، ولكن مؤسسات أخرى تبعت مبادئه العامة. وقد قدر لأحد تلك المؤسسات أن يكون ذا أهمية كبيرة فى القرن التالى، وهو الدير الأبيض الذى أقيم بالقرب من بانوبوليس ، وكان مؤسسة قبطية تماماً أُسست على القواعد الباخومية بواسطة راهب يدعى جول، بناه حول الجماعة التى تجمعت حول صومعة أحد النساك. وفى الشمال كان هناك جماعات منظمة، ولكن الناسك المنفرد او التجمع الغير رسمى للنساك كان هو السائد. كان وادى النطرون هو أشهر المراكز وكان يسكنه، فى أيامه العظيمة، حوالى خمسة آلاف راهب. وكان، بشكل ما، يمثل جماعة تعاونية. و فى المركز كان هناك كنيسة كان كاهنها يُعتبر نوعاً من الرئيس، وكان يقع بالقرب منها نزل للضيوف ومخابز وحتى حوانيت كانت تُباع فيها الخمور. كانت جماعة وادى النطرون تميل للإعنماد على نفسها وللإكتفاء الذاتى من خلال عملها نفسها، وكان نسج الحصير من أوراق الشجر أوالكتان عملا شائعاً، حيث كان يمكن أدائه مع الصلاة. وعندما قدمت ميلينيا ثلاثمائة جنيه من الفضة للأب فامبو، إستمر الأخير فى عمله وأمر خادمه أن يرسل الهدية لمن هو أكثر إحتياجاً من رهبان مصر. كان أشهر راهبان فى تلك المنطقة هما مكاريوس المصرى، ومكاريوس السكندرى. كان السكندرى هو أكبر رهبان مستوطنة تسمى سيليا، وكانت عبارة عن مجموعة من الصوامع فى الصحراء الواقعة خلف وادى النطرون نفسه، حيث عاش معه بالاديوس لفترة تسعة أعوام. وفيما يشبه روح المنافسة لدى المصارع، كان يهدف إلى أن يقلد ويتفوق على أى مأثرة من الزهد سمع عنها. وكما أُخبرنا ، فقد رأى فى باخوميوس ماكان ينشده. وبعد أن سمع عن الأعمال العظيمة لرهبان تبنيسى، إنتقل مكاريوس إلى هناك كمبتدئ بلا إسم وتفوق على كل من فى الدير. وبعد أن تعرفوا عليه ، قال له باخوميوس ( لقد علمتنا بما يكفى ونحن نشكرك ويمكن لك أن ترحل الآن). أما مكاريوس المصرى، فقد كان أقل من فردى النزعة. فقد بدأ مستوطنته الرهبانية فى سيت بين مستنقعات وادى النطرون، كما تسمى اليوم، لكنها كانت فى ذلك الوقت مازالت أبعد فى داخل الصحراء، و كان لها مزية مواردها المائية الخاصة. كانت حياة الزهد والصلاة التى عاشها كثيراً ماتعترضها جموع الرهبان والناس العاديين، الذين كانوا يأتون لزيارته للعلاج أو التوجيه. وسرعان مانشأت بعد وفاته أربعة تجمعات رهبانية فى سيت.
لقد كان هناك مميزات وعيوب فى موقع وادى النطرون، فقد كانت بعيدة عن الإسكندرية بما يكفى لجعلها مركزاً حقيقيا للرهبنة الصحرواية، ولكنها مع ذلك كانت قريبة منها بما يكفى لجعل الوصول إليها سهلاً وهو موقف مزدوج جعلها تُدفع، ولسوء الحظ، إلى التدخل فى الشئون العامة للكنيسة والدولة. وقد جلب إرتباطها بالإسكندرية، عنصر فكرى وتأملى واضح إلى حياتها كان غريباً عن التقاليد المصرية الخالصة. وقد عبرت الحكمة الديرية القبطية عن نفسها فى طرائف الآباء المقدسين، أو فى القواعد العملية الصارمة مثل تلك الخاصة بباخوميوس، والتى تظهر فيها المبادئ العامة بمجرد التضمين فقط . نظم باخوميوس الحياة المشتركة ولكنه لم يناقش أساسها النظرى، كما فعل باسيل أو بندكت. ومن الواضح أن الباخوميين لم يشعروا دائماً أنهم كانوا مستعدين للتعامل مع العقل الإغريقى النشط ، وعندما سمع آمون السكندرى ، وبعد ثلاثة سنوات فى طيبة، أن أمه كانت تبحث عنه فى أديرة مصر الشمالية، أخبره رؤسائه أن أقاربه كانوا أناساً طيبين، وأنه لايجب أن يتجنبهم وأن وادى النطرون ربما كانت الأفضل له. إن مناقشة المزايا النسبية للعزلة وللحياة المشتركة هى موضوع رئيسى فى الأدب الديرى القديم، ولكنها تأتى فى الغالب من أجانب يراقبون مصر أكثر مما تأتى من المصريين أنفسهم. ومن المؤكد أن باسيل وبندكت كانا يفضلان نظام الحياة المشتركة( نظام الدير الجماعى)، بينما كان كاسيان يحتفظ بنوع من التوازن بين النظامين الفردى والجماعى. وقد علق جيروم على مخاطر العزلة بقوله أن الناسك التقى ربما يعلو فوق الحياة الجماعية، لكن الراهب الجوال أو الراهب الزائف قد يسقط تحتها بسهولة.
وفى زمن ثيوفيلوس إزدهر بين رهبان وادى النطرون مزيج من الزهد والتأمل، كان له أكثر من مجرد إرتباط ظاهرى بإسم أوريجن. كانت الشخصية المركزية هى إيفاجيروس البونتيسى، والذى كان قد كُرس شماساً فى القنسطنطينية بواسطة الأسقف جريجورى، ولكن روحه المضطربة قد قادته إلى الصحراء لمحاربة الجسد الذى لم يستطع التغلب عليه فى المدينة. وأخيراً إنسحب إلى سيليا، وأعان نفسه على الحياة بالعمل كناسخ للكتاب المقدس. وقد عالجت أعماله الخاصة، وبشئ من الإستفاضة، مشاكل الرهبان وشكل أتباعه ومعجبوه نوع من المدرسة حوله. وقد يوجد بعض غرابة فى أن يظهر من الصحراء عمله المعنون( ستمائة سؤال تكهنى). وقد كان الإخوة الطوال الأربعة والذين جاؤا إلى الصحراء من خلفية ذات تعليم وثقافة بين أصدقائه ومعجبيه، وربما كانوا من أتباعه أيضاً. وقد أخبرنا بأن واحداً منهم ،هو أمونيوس ، كان يعرف عن ظهر قلب ليس فقط العهد القديم والعهد الجديد، ولكن صفحات عديدة من أعمال أوريجن والكتاب السكندريين اللاحقين التابعين لمدرسته. وقد تبع بلاديوس أيضا مدرسة إيفاجيروس أثناء إقامته فى سيليا وقد أثنى ، بلا تردد ، على أعمال أوريجن كدليل للمؤمن.
إنه من الصعب تقدير العدد الكلى للرهبان والراهبات فى ذروة الحركة الديرية، وكذلك نسبتهم من المجموع العام للسكان. ويتحدث كتاب ( هيستوريا موناكوروم) عن عشرة آلاف راهب وعشرين ألف راهبة تحت رئاسة أسقف أوكسيرنشوس، ولكن هذا الرقم مقدم بشكل مفزع ومستحيل تقريباً، وهو يبدو كافياً لتحويل المدينة إلى نوع من المدينة المقدسة، يملأ فيها الرهبان الشوارع ويفوق عددهم عدد الناس العاديين ، وهو مظهر، مع ذلك، لايمكن الشك فيه من واقع أوراق البردى التى جاءت من مدينة أوكسيرنشوس القرن الرابع. وتتحدث مصادرنا عن رهبان فى كل مكان فى مصر، ولكن من الواضح أنهم كانوا أكثر فى الجماعات الشهيرة القائمة عل حافة الصحراء مماكانوا ، على سبيل المثال، فى وسط الدلتا. وتبلغ أرقام بلاديوس حوالى 7500 راهب وراهبة فى الإسكندرية ووادى النطرون، وأكثر من ذلك العدد فى مناطق طيبة التى زارها. وبين مئات أسقفيات مصر ربما يمكن تقدير العدد الرهبانى بينهم، وفى أقصى إرتفاع له بمليون ومائتى ألف راهب وراهبة من مجموع سكان لايقل عن سبعة ملايين ونصف المليون، كما قدر المؤرخ جوزيفيوس عدد سكان مصر فى القرن الأول الميلادى. وربما كان هناك ناسك واحد ، رجل أو إمرأة ، بين كل عشرين من مجموع السكان المسيحيين، والذى كان قد بلغ حتى ذلك الوقت حوالى نصف عدد السكان الكلى. ومن المؤكد أن تلك كانت حركة ذات نسب لانظير لها فى التاريخ المسيحى، وذلك رغم أنه فى البلاد البوذية قد يصل عدد الرهبان أحياناً إلى مثل تلك النسب. وقد جادل النقاد القدامى والمحدثون على السواء، بأن البلاد لابد وأنها قد أصيبت بضعف قاتل نتيجة لفقدانها لجزء كبير من قواها العاملة. ومع ذلك فإن هذا ليس تفسيراً حقيقياً تماماً لذلك الموقف القديم. فقد كان الجيش الرومانى فى مصر قد أصيب بضعف كبير بسبب عوامل اخرى أكثر من نقص المجندين، وفى لحظات متعددة من التاريخ كانت قوى الرهبان تتجمع للدفاع عن مصالح أكثر أهمية للمصرى العادى من الحفاظ على السلطة الرومانية، أما الخسائر الإقتصادية فقد كانت تعوض بطرق عديدة. كان النساك يعملون فى العادة من أجل إعالة أنفسهم بطريقة أو بأخرى، وكان كثير من الأديرة الجماعية عبارة عن جماعات صناعية. وبالنسبة للرهبان ومؤيديهم، كان هناك إعتبارات أخرى أكثر أهمية. كان الرهبان يعتقدون أنهم كانوا يحرسون أسوار مصر ضد أعداء روحيين أكثر خطورة من هؤلاء الذين كانت الجيوش الرومانية تستطيع حمايتهم منهم. وكان هؤلاء الذين يساهمون فى مساعدة الناسك أو الدير، يعتقدون أن حياة الصلاة كانت مساهمة حقيقية فى الرخاء العام للبلاد. وربما كنت المساهمة الأكبر للرهبان المصريين بالنسبة للكنيسة بشكل عام، هى الفهم العملى للأخلاقيات والسيكولوجيا التى طورها قادتهم وعبروا عنها فى تقاليد من التعاليم الروحية والتى تميزت، بشكل عام ، بالمعقولية والحس السليم. وقد حُفظت تلك التقاليد، فى شكلها الأصلى، فى مجموعات( أقوال الآباء)، والتى وصلت إلينا فى جميع اللغات التى كانت تستخدمها الكنيسة القديمة. وقد قدم بلاديوس ومؤلف ( هيستوريا ميناكوروم)، هذه المادة فى شكل أكثر تعقيداً قليلاً. وقد عالجها جون كاسيان بشكل منهجى وجعل من نتائجها ميراثاً دائماً للكنيسة الغربية. ويرجع التصنيف السيكولوجى لمنابع الفعل والتى نعرفها ، بشكل مرتبك نوع ما على أنها الخطايا القاتلة السبع ، إلى مبادئ كاسيان فى خطاباته إلى إيفاجريوس. وتستعرض مشاورات كاسيان كثيراً من الأساس العملى للمبادئ، وتضيف إليها سلسلة من المناقشات التقليدية للسلوك المسيحى وحياة الصلاة، والتى تجعل منه شخصية هامة فى تاريخ الثيولوجية الأخلاقية والتنسكية والصوفية. طور كاسيان التجربة الديرية العملية إلى مبادئ إيجابية لتطهير الروح، تبدأ بالخوف من الرب وتنتهى بكمال المحبة. ثم عاد مرحاً إلى الأرضية العامة للتحذير الذى نسبه إلى أنطونيوس نفسه، وهى أن أهم فضيلة بالنسبة للراهب ليست هى الإنكار الذاتى ولا الحماسة فى العبادة، ولكنها النعمة الإلهية فى حسن التمييز. وفى نفس المزاج جمع بلاديوس قصصاً عن رهبان سقطوا من فرط الحماس مثل بطليموس، الذى ذهب إلى بقعة أكثر قحولة خلف سيت، وعاش هناك لمدة خمسة عشر عاماً بلا موارد مياه، عدا ماكان يجمعه فى أوعية من ندى الشتاء الثقيل. وفى تلك الحالة من العزلة إستبد به الغرور وأصبح متشرداً فى كل أنحاء مصر منقطعاً للنهم والسكر. إنه من الممكن أن نرى بريق فى عين مكاريوس السكندرى وهو ينصح أحد الرهبان ، الذى وهب نفسه كلية للصلاة ، ورغم ذلك فقد كان من الصعب عليه أن يصل إلى الحد الذى يريده بثلاثمائة صلاة يومياً. كان مكاريوس يعمل من أجل طعامه ويتحدث مع الإخوة كلما كان ذلك ضرورياً، ولم يكن يشعر بأى تأنيب للضمير فى وصوله لمائة صلاة فقط يومياً.
وحتى فى ميدان الفضائل العملية فإن سجل آباء الصحراء، لم يكن فارغاً تماماً كما يُعتقد أحياناً، ففى تأسيس نموذج للطبيعة الشخصية، فقد أدوا خدمة لجيلهم ولكل الأجيال المسيحية. كما أنهم لم يكونوا غيرمستعدين لإن يجدوا الفضيلة خارج وظيفتهم. ويوجد نموذج متكرر من قصة تُخبر عن راهب أُخبر فى أحد الرؤى، أنه كان هناك من هو أكثر منه تقوى فى أحد القرى أو المدن. وعند ذهابه إلى هناك وجد راعياً أو ربما صانع أحذية تقى، أو ربما طبيباً منقطعاً لعمله، والذى كان يخدم الرب فى عمله اليومى ويجد من الوقت، مع ذلك، مايكفيه لأداء الصلاة. ومن ناحية أخرى ، فإن الناس العاديين لم يكونوا يعجبون دائماً بالرهبان لإنجازاتهم الروحية العميقة، فقد كانوا فى الغالب مهتمين أكثر فى هبة الشفاء وأنواع أخرى من أنواع المعجزات، التى كان يأتى بها الرهبان، أو التى كان يُعتقد أنهم يأتون بها. ومع ذلك فلا يمكن لنا تمييز ذلك بشكل قاطع، فقد جذب جون الليكوبوليسى ، على سبيل المثال ، جموعا بُنى من أجلها رواقاً بالقرب من صومعته ذات الثلاث غرف، كان يُفتح فى أيام السبت والأحد، وكان بعض ممن يأتون لمشاهدة معجزات النبى متحمسين فى نفس الوقت لزيارته كمرشد للأرواح.
كانت مأساة الديرية المصرية هى فشلها فى التوسع إلى أشكال أخرى من التعبير، بسبب تمسكها الثابت بمبادئها الأساسية، وهو فشل أدى فى النهاية إلى الركود. ويعود جزء كبير من هذا الفشل إلى تأثيرات الخلاف الأوريجنيستى( نسبة إلى أوريجن)، فمن بدايات صغيرة فى فلسطين وفى وادى النطرون، إنتشر ذلك الخلاف إلى القنسطنطينية عن طريق الإسكندرية، وبشكل دائم أضعف من أتباع إيفاجريوس فى مراكز الديرية المصرية. وقد كان هناك إشتباكان مبدأيان، كان أحدهما هو النزاع الذى نشب بين جيروم المجادل وأبيفانس الشكاك القبرصى من جهة، وبين جون أسقف أورشليم و روفينوس الذى كان يقيم فى دير ميلينيا فوق جبل الزيتون من جهة أخرى. كان ذلك نزاعا محليا، وأكاديميا أيضاً، عن صحة إستخدام أعمال أوريجن. وكان النزاع الثانى هو قصة التجسد فى مصر. وقد ضمن ثيوفيلوس فى خطاب عيد الفصح لعام 399م، توجيهاً عن الطبيعة الرمزية لبعض تعبيرات الكتاب المقدس المرتبطة بالله، مثل يداه ووجهه وعيناه وغيرها. كان الرهبان الأقباط البسطاء معتادين على التفكير فى الله كأنه ذا شكل يشبه شكل الإنسان ، وكان حزنهم شديداً عندما تم إنكار ذلك بشكل جازم. ويخبرنا كاسيان أن خطاب الأسقف قد قُرئ فى واحدة فقط من التجمعات الأربعة فى سيت، ويضيف قصة عن راهب تقى بسيط كان قد أقنع أخيراً بخطأ معتقد التجسد، لكنه قد عبر عن شعوره بعد ذلك صائحاً( لقد أخذوا ربى منى ولم يعد لى الآن من أضع يدى عليه). وقد هُدد ثيوفيلوس نفسه بواسطة بعثة من الرهبان الغاضبين فى الإسكندرية، ولم يستطع تهدئتهم إلا بإستخدام بعض الكلمات الغامضة( عندما أراكم كأننى أرى وجه الله)، وبوعد منه بشجب كتابات أوريجن المسيئة.

( يتحدث المؤلف فى تلك الفقرة عن أهم أحداث عهد ثيوفيلوس، وهى الخلاف حول افكارأوريجن مع أسقف القنسطنطنية جون كريسستوم، وخلاصة الأمر أن ثيوفيلوس نفسه كان قد إلتزم بمبدأ أوريجن بعدم التصوير المادى للذات الإلهية أثناء صراعه ضد الوثنية، ولكن هذا المبدأ لم يناسب كثير من جماعات الرهبان المصريين، والذين كان ثيوفيلوس حريصاً على إرضائهم، حيث كان الكثيرين منهم يعتقدون فى تشابه صورة الذات الإلهية مع الإنسان، وهنا بدأ ثيوفيلوس يحول موقفه المتمسك بمبادئ أوريجن فى عدم التصوير المادى للذات الإلهية إلى نقيضها، وهذا ماجلب عليه غضب الراهب إزيدور والإخوة الأربعة الطوال، وكانوا مصريين ولكن من ذوى خلفية ثقافية إغريقية، فهربوا إلى القنسطنطينية حيث رحب بهم أسقفها جون كريسستوم، وكان بدوره من مؤيدى أفكار أوريجن بعدم التصوير المادى للذات الإلهية، وهكذا دخل الجميع فى مواجهة مع ثيوفيلوس الذى إتهمهم بالهرطقة والخروج عن مبادئ الكتاب المقدس، والتى ذُكر فيها أن الله قد خلق آدم على شاكلته، وقد إنتهى الخلاف بنفى جون كريسستوم ووفاته بعد ذلك وإنتصار ثيوفيلوس مؤقتاً، ويلاحظ أن أفكار ومبادئ أوريجن سوف تظل دائما مصدر إلهام وجدل عبر تاريخ الكنيسة كله).

وخلف تلك الأحداث كان هناك رد فعل الرهبان المصريين الأكثر بساطة، ضد النساك الأكثر ثقافة فلسفية من ذوى الخلفية الإغريقية أو السكندرية. كان الموت قد جرد كلا المدرستين من القيادات البارزة التى كان من الممكن أن تصل إلى تفاهم مع بعضها البعض. كان ديديموس الأعمى فى الإسكندرية وإيفاجروس البنطوسى وكلا المكاريوسيين فى الصحراء( مكاريوس السكندرى و مكاريوس المصرى)، قد ماتوا قبل سنوات قليلة. وقد كان يمكن للمسألة أن تمر لو لم يتطرق إليها ثيوفيلوس لأسباب شخصية. فمن بين رفاقه الموثوقين كان إزيدور ، إسبتارى الإسكندرية، ورفيق أثناسيوس فى روما قبل ستين عاما مضت. وقد إستخدمه ثيوفيلوس فى مهام حساسة فى الدبلوماسية الكنسية، وقد قام حتى بتقديمه كمرشحه لأسقفية القنسطنطينية فى سنة 398م، ولكن تغلب نفوذ البلاط ، مع ذلك ، فى صالح جون الأنطاكى البليغ، الذى نعرفه بإسم جون كريسوستوم، والذى إضطر ثيوفيلوس أن يرأس القداس فى يوم رسمه. كان الإخوة الطوال الأربعة( أربعة من أشهرالرهبان فى ذلك الزمن)، أصدقاء لإزيدور، وكان ثيوفيلوس قد جعل واحداً منهم، وهو ديسقوروس أسقفاً لهرموبوليس، ووظف إثنين آخرين منهم فى الإسكندرية، ولكنه، وبشكل مفاجئ، إنقلب على المجموعة كلها فى سنة 400م. وتأتى رواياتنا من أعداء أوعلى الأقل نقاد ثيوفيلوس، وربما كان هناك أكثر مما يبدو هنا من أقوال. فقد إختلف ثيوفيلوس وإزيدور أولاً حول مسائل إدارية، قيل أنها تضمنت مسألة ميراث إستلمته كنيسة الإسكندرية فى ذلك الوقت، وعما إذا كان من أجل أعمال إزيدور الخيرية أم من أجل مشروعات الأسقف البنائية. قام ثيوفيلوس بحرمان إزيدور من الكنيسة، وعندما تشفع له الإخوة الطوال، إتهمهم أيضاً كهراطقة أورجينيين. وقد أدى ذلك الموضوع إلى عنف مادى فى وادى النطرون، وإلى سجن الرهبان الأورجينيين، وإلى هجوم على صوامعهم. وفى تلك الظروف هرب حوالى ثمانين راهباً يقودهم إزيدور والإخوة الطوال إلى فلسطين. وهناك قابلهم جيروم بالعداء، وتم تعقبهم بموجب إدانة رسمية من ثيوفيلوس ومجلسه. وتقدم لنا الوثيقة التالية التقرير الرسمى لإتهامات ثيوفيلوس( لقد مزج الأورجينيون الزهد المبذر بالتأملات الخاطئة عن علاقة الإبن بالأب و كذلك التوقعات المستقبلية للأرواح الإنسانية والشياطين، وقد أربكوا النظام الكنسى بالتدخل نيابة عن إزيدور، الذى تعيلهم ثروته الآن، وبمحاولتهم جعل الأسقف خارج الكنيسة فى وادى النطرون).
وفى سنة 401م، رحل اللاجئون إلى القنسطنطينية وإستقبلهم الأسقف جون بحفاوة، ولكنه لم يسمح لهم بالدخول فى جماعته بسبب إدانتهم من قبل أسقفية أخرى. ومع ذلك فقد أعطى ذلك الفرصة لثيوفيلوس لإن يضع نفسه على رأس المعارضة لجون، والذى كانت إدارته الصارمة للكنيسة قد جعلت منه غير محبوب فى بعض المناطق. وعند هذه المرحلة بدأت مسألة الأورجينية ومسائل الإخوة الطوال تختفى من المشهد فى خضم صراع البطاركة. وفى منتصف سنة 403م، وصل ثيوفيلوس إلى القنسطنطينية فى حاشية من الأساقفة المصريين، وحياه بحارة أسطول القمح فى الميناء. كان مجمع أوك الذى عُقد فى خلقدونية، و نادى بعزل جون يتكون فى معظمه من أساقفة مصريين، حيث حضره تسعة وعشرين عضوا مصرياً، من مجموع الستة والثلاثين عضواً الذين حضروا المجمع. وتم نفى جون ولكن سرعان ماتم إستدعائه فى خضم حماس شعبى إلى إسطنبول. وعاد ثيوفيلوس ومؤيدوه أو بالأحرى هربوا إلى مصر. ومع ذلك فقد تجددت المعارضة لجون، وبواسطة وفد من مصر إقترح ثيوفيلوس إجراءً يستند إلى أساس فنى يقضى بأن جون قد تم عزله بواسطة المجمع، وأن المجمع لم يعيده رسمياً . وتم نفى جون مرة أخرى، وإلى الأبد هذه المرة، فى عيد الفصح لسنة 404م، وتم وضع كنيسة القنسطنطينية فى يد خصومه. وبدا من الواضح أن الإسكندرية قد حققت نصراً على الأسقفية المحدثة المنافسة، ومع ذلك فقد كان ذلك مجرد نصراً ظاهرياً. كان رد الإعتبار لذكرى جون فى القنسطنطينية مجرد مسألة وقت، فقد كانت مسألته قد تركت بعض الذكريات الغير سعيدة هناك. وفى روما إعترف البابا إنوسنت ، والذى كان جون ومؤيدوه قد طلبوا مساعدته، بعدالة موقفه، كما قام لبعض الوقت بقطع الصلات مع أسقفيات الشرق بسببه. كان الإنقطاع الأول بين الإسكندرية وروما نذيراً للإنفصال القادم.
وفى تلك الأثناء بدا أن الخلاف الأصلى فى وادى النطرون قد نسى، وكان إثنان من الإخوة الطوال وهما أمونيوس وديسقوروس الهيرموبوليسى قد ماتا فى القنسطنطينية، حيث عُظمت مقبرتيهما هناك كأنها مقابر القديسين. وعاد إزيدور والإثنان الآخرون إلى جماعة ثيوفيلوس فى مجمع أوك، على اساس من إعتذار عام، وعادوا معه إلى مصر، فقد كان الرهبان مستعدين دائماً لإن يقولوا(سامحنى ) كما إشتكى أحد المؤرخين المعاصرين الموالين لجون كريسستوم.
وبعد فترة قصيرة مات إزيدور فى سلام، وعاد من بقى من الإخوة الطوال إلى صومعتهما. ودلت كل المظاهر على أن كنيسة الإسكندرية قد عادت إلى طبيعتها، وحتى ثيوفيلوس فقد إستأنف دراسته لأعمال أوريجن، وعندما سئل عن ذلك قال، أنه يعرف كيف يلتقط الأزهار ويترك الأشواك. ولم تعد مرارته فى الفترة الباقية من حياته موجهة ضد الأورجنيين، ولكنها كانت موجهة ضد الجوناتيين ، الأنصار الشخصيين لجون لكريسيستوم. وعاد بلاديوس إلى مصر فى زيارة ثانية سنة 406م، ولكن كمنفى هذه المرة. وكان قد أصبح أسقفاً فى بيثنيا وواحداً من أقوى مؤيدى جون كريسستوم. وبعد أن ساعد فى حمل طلب جون للمساعدة إلى روما عاد إلى الشرق مع بعثة بابوية، ولكن البعثة لم تصل القنسطنطينية أبداً، حيث أعيد الأعضاء اللاتين إلى أوطانهم وتم نفى الإغريق منهم. كانت وجهته هى سين( أسوان)، عند أقصى حافة الإمبراطورية، ولكنه إستطاع بعد فترة التحرك بحرية أكبر وعاد إلى مدينة أنطونيوس حيث قضى أربعة سنوات فى رفقة رهبان عاصمة إقليم طيبة. ولكن كان شئ من المجد قد ذهب عن الديرية المصرية، رغم أنه كان مازال لديها بعض شخصيات رائعة. كان أرسينيوس، المعلم السابق للأباطرة الشباب الذين خلفوا ثيودوسيوس ، راهباً فى سيت، ثم ولسنوات عديدة راهباً فى كانوبوس، بعد أن دُمرت سيت بواسطة بدو الصحراء. ولكن الأيام العظيمة ذات الشهرة العالمية كانت قد إنتهت. وعاد بلاديوس إلى أسقفيته أو ربما لأسقفية أخرى فى آسيا الصغرى حوالى سنة 417م، وكتب عن تجاربه المصرية، وكذلك فعل كاسيان فى أديرة مرسليا. لم تعد الديرية المصرية تجذب مثل تلك الأعداد الكبيرة من الزوار، وأصبحت بمرور الزمن مؤسسات مصرية جامدة. وبعد قرنين من ذلك التاريخ كان إيفاجيروس مازال يُذكر فى سيليا ، ولكن فقط كمنشق سكن صومعته المهجورة شيطان، دفع أحد الرهبان الأجانب الذين تجرأوا على سكناها إلى الإنتحار.
وقد تمثل التنوع والحيوية ، اللذان كانا مازالا قائمان فى الكنيسة المصرية مع ذلك ، فى ثلاثة شخصيات جاؤا من الأركان الثلاثة للبطريركية، التى كان لها مركز متفوق فى حياة ثيوفيلوس. ومن الغريب أن ثيوفيلوس كان يرتبط بأقرب الروابط الشخصية بالشخص الذى ربما يبدو أنه كان يملك أقل الأشياء المشتركة معه، وهو سينسيوس أسقف سيرين. لم يكن سينسيوس فيلسوفاً بالمعنى الحرفى للكلمة، لكنه كان على الأقل رجلاً مهذباً مثقفاً درس الفلسفة. وكمواطن بارز، فقد كان قد خدم بلده الأم فى مجالات عديدة، بما فى ذلك بعثة إلى القنسطنطينية إستوحى منها مقالاته الأخلاقية والسياسية. ويتضمن نتاجه الأدبى تراتيل أفلاطونية جديدة إلى الله، ومداعبات لطيفة مثل( تأبين الصلع). وفى نوع من الإختيار كان اكثر شيوعاً فى الغرب عنه فى الشرق، قام مواطنو بطلمية بدعوته ليكون أسقفاً لهم ، رغم أنه ربما لم يكن قد عُمد ، بعد بصفته أشهر وأقوى مواطن لتلك المنطقة. كان لدى سينسيوس تحفظات على كل من معتقد ونظام الكنيسة. فقد تردد فى هجر زوجته ، تلك التى وحده بها الله والقانون وأيدى ثيوفيلوس المقدسة، كما أنه لم يستطع قبول قيامة المسيح بالشكل المتعارف عليه، ولكن فقط كسر مقدس. وبشكل ما فقد تم التخلص من تلك الوساوس أو أمكن تحملها وتم رسم سينسيوس أسقفاً فى سنة 409م، وخلال أسقفيته القصيرة والمضطربة، أظهر نفسه كقائد قدير لمقاطعته، وكممثل قوى لأسقفية الإسكندرية. وكنوع من المدافع عن الشعب قام الكاهن الفيلسوف بإستخدام ردوع النظام الكنسى ضد الحاكم الظالم ، أندرونيكوس، وأصدر ضده حرمان كنسى درامى وفعال. وربما كان تحوله الشخصى إلى المسيحية، قد أعقب ترقيته إلى الأسقفية. وربما كانت حاسته الدرامية قد مكنته من إستخدام العبارات المسيحية بشكل مقنع ، ولكن آخر تراتيله ، والتى تحولت من مجردات الأفلاطونية الحديثة إلى توسل بسيط إلى يسوع من أجل العفو والسلام ، تقترح شيئاً أعمق. وكما كان الحال قبل رسمه أسقفاً، فقد طُلب منه تنظيم المقاومة ضد غارات قبائل الداخل ، والتى كانت وكما وصفها ، معارك ملحمية. وفى آخر مرة سُمع عنه حوالى سنة 413م، كان يستعد لإن يموت بين خرائب الموقد والمذبح. ولكنه ربما قد نجى من ذلك المصير. عاشت مدن سيرين وربما إستردت بعض من رخائها، وبعد قرنين على ذلك التاريخ كان سينسيوس مازال يُذكر على أنه الأسقف الفيلسوف الطيب.
وعلى الجانب الآخر من الأسقفية المصرية حمل سكندرى عالم، تقاليد الناسك المثقف. كان إزيدور الراهب ورئيس الدير فى بلوزيوم ، يتبع روحياً مدرسة أنطاكية الأرثوذكسية بإهتمامها بالمعنى الحرفى للكتاب المقدس، وتطبيقه فى الحياة العملية. وقد كان أحد كبار المعجبين بجون كريسيستوم، والذى إستطاع الدفاع عن قضيته حتى عندما كانت قد أدينت رسمياً من قبل معظم الكنيسة الشرقية. وتجيب مراسالاته الواسعة على العديد من المشاكل المتعلقة بالكتاب المقدس، والمشاكل العملية أيضاً. كان إزيدور يرتدى، أحياناً، عباءة النبى لشجب دنيوية أسقفه نفسه، و كان يتصرف كالصديق المخلص لكل بابوات الإسكندرية المتعاقبين. وفى ذروة الهجوم على جون كريسستوم ، كان يرى مصر، كما فى أيامها القديمة، عدوة لموسى العصر، يقودها فرعون الجديد ، ثيوفيلوس ، بهوسه للحجر والذهب.
كان هناك شخصية قوية مماثلة فى الجنوب ، هى شنودة الأتريبى ، رئيس الدير الأبيض، والذى كان أباً مصرياً ذا تميز وأصالة حقيقيين. وفى وقت ما من العقد التاسع من القرن الرابع ، ربما أثناء ولاية الأسقف تيموثى ، كان قد خلف عمه بجول فى تلك المؤسسة المتزايدة الأهمية. وتحت قيادة شنودة دخل على التقاليد الباخومية تفسير صارم . تعامل باخوميوس مع الدير كأنه معسكر، أما شنودة فقد جعله سجناً تقريباً. كان النظام صارماً، والحياة قاسية، وكان التأكيد على العمل حتى على حساب الصلاة، والذى لم يكن محبذاً خارج الصباح المحدد، أو قداسات المساء والعشاء الأخير فى أيام السبت والأحد و فترات قصيرة من التعبد. ومع ذلك فقد كان هناك حوالى ألفى راهب فى أتريب، ومثلهم تقريباً من الراهبات فى المنازل المخصصة للنساء فى الدير، وعلى هذا فلا بد أن الحياة الديرية ، وكما أدارها شنودة، كان لها جاذبيتها أيضاً. ويتلخص موقفه فى جوابه المختصر إلى تجمع صغير من الأساقفة فى مدينة أنطونيوس، والذى كان يناقش كيف يمكن أن يُنظر إلى الرهبان الذين وهبوا أنفسهم كلية للعبادة، وعاشوا على صدقات المؤمنيين. وقد أجاب شنودة ( لا ، لقد قال الحوارى، إذا لم يعمل إنسان فلا تدعه يأكل ، وهذا هو التعليم الكامل ). أما فى تعامله مع الناس العاديين، فقد كان شنودة أكثر تساهلاً ، وحتى مستعداً لإلقاء عظة صغيرة فى أى إحتفال يرغب فيه الناس فى العودة إلى منازلهم سريعاً. لكنه كان دائماً الأب الكبير للكنيسة القبطية ، الذى يشجب خطايا الرهبان والعلمانيين على السواء، ويدين الظالمين من رفاقه أبناء البلد الواحد ، ويقود الهجوم على ماتبقى من مزارات وثنية فى الريف، وحتى فى عظة عيد الميلاد يظل عقله فى تركيزه على رسالته الصارمة فيقول :

(وأى كان من يؤذى أخيه، بحيث يجعله يصرخ ضده ، فإن هذا الذى يولد اليوم لن يتجاهل تلك الصرخة. دع الرجل المتكبر ، إذا ماكان يعتقد فى ذلك ، ينظر إلى الله خالقنا ملتفاً فى قماط وراقدا فى مزود( يقصد المسيح عند ولادته )، ودعه يدرك منزلته الدنيا ، لإنه إنسان ، ودعه يترك كبريائه. دع القاضى القاسى وذلك الغير رحيم على الفقراء، أو حتى على خدمه أنفسهم، يفكر فيه هو الغنى حقاً، والذى رغم انه كان سيداً للجميع قد أصبح فقيراً من أجلنا، وأنه من أجل الإنسان قد جُعل خادماً).

ويقترب هذا كثيراً من كيف فهم شنودة الفكر الدينى السكندرى، فمن المؤكد أنه قد قبل أساسيات الأرثوذكسية السكندرية، ولكن المصدر الأساسى لعقيدته كان تأمله الشخصى فى ألإنجيل القبطى.
كان الإنسانى المثقف من سيرين، والمفكر الدينى الزاهد من بلوزيوم، والراهب القبطى الأمين من أتريب، قد مثلوا قوى فى الكنيسة المصرية إستطاع أثناسيوس ضمهم معا ، و كان هو نفسه يملك شيئاً مشتركاً مع كل منهم. ولكن ثيوفيلوس وهؤلاء الذين جاؤا بعده كانوا أقل نجاحاً. ربما كان تغيرمواقف ثيوفيلوس لايعود فقط إلى الخسة التى رآها نقاده فيه، ولكن أيضاً إلى تعاطفات منقسمة داخله. وبالنسبة للقارئ الحديث لتاريخ الكنيسة فإن كراهيته لكريسستوم هى عبأه الأثقل، وأن صداقته لسينسيوس هى حسنته الرئيسية. وفى سنة 412م، تقول لنا مصادرنا أنه قد دخل فى غيبوبة مرض النوم ثم مات بعد ذلك. وروت التواريخ الديرية بعد ذلك كيف أنه على فراش موته قد فكر فى العالم الذى كان قد إنسحب من قاعة الدرس بالقصر إلى معتزل فى سيت وتمتم ( كم أحسدك يا أرسينيوس ، لقد كنت دائما منتبهاً إلى تلك اللحظة). وبعد فترة قصيرة على قوله المفترض هذا كان إنتخاب خلفا له قد بدأ.
كان الإثنان المرشحان لخلافة ثيوفيلوس هما رئيس شمامسته ، تيموثى ، وإبن أخيه ، كيرلس ، وكان الأول خلفاً طبيعياً رسمياً، والآخر خلفاً شخصياً. ومع ذلك فقد كان تيموثى مثقلاً بتأييد الدوق أبندانتيوس ، والذى لم يكن يعتبر ميزة فى الإسكندرية ، وعلى هذا فقد تم إختيار كيرلس. وقد بدأت أسقفيته بمنازعات مع السلطات المدنية كادت أن تصل تقريباً إلى حرب أهلية فى الإسكندرية. وقد قورن موقف كيرلس بموقف القادة السكندريين خلال الفترة الرومانية المبكرة، فمثلهم ، فقد كان مشوشاً بمندوبى روما وباليهود والذين كانت حقوقهم ، ورغم محدوديتها ، قد بدت وكأنها إمتيازات يضمنها الإنعام الإمبراطورى. كان كل من كيرلس والحاكم أوريستس، مصممان على أن يرىا من هو سيد المدينة. وفى البداية إستخدم كيرلس سلطته على الكهنة كى يغلق الكنيسة النوفاشية، وربما إعتبر هذا هجوم سكندرى على طائفة بيزنطية. كانت النوفاشية فى الإسكندرية إستيراداً من القنسطنطينية، حيث كان النوفاشيون قد إزدهروا هناك، ولم يكن قد سُمع عنهم من قبل فى مصر. وصلت الأحداث المأساوية ذروتها سنة 415م، وقبض أوريستس على مدير مدرسة يدعى ، هيراكس ، وعذبه وكان المذكور مؤيداً متحمساً لكيرلس، وكان هناك أيضاً قتالاً بين اليهود والمسيحيين، وبدأ كيرلس فى طرد اليهود، ولكن لم يكن واضحاً إلى اى مدى وبأى سلطة قد فعل ذلك، وفى نفس الوقت قام رهبان وادى النطرون بمهاجمة أوريستس ، الذى أنقذه السكان، ومات راهب كان قد ألقى حجر على أوريستس من جراء التعذيب. وحاول كيرلس أن يقيمه شهيداً، ولكن ذلك التقديس الغريب لم ينجح، وإنتهى النزاع بإعدام هيباثيا المثقفة فى معبد القيصرون نفسه. كانت هيباثيا متهمة بإثارة أوريستس على الأسقف، وبأنها كانت رئيس الحزب الوثنى. ومن المؤكد أنها كانت شخصاً ذا نفوذ،فقد كان تلميذها المخلص سينسيوس ، والذى ولحسن حظه لم يعش ليرى ذلك اليوم ، عندما يريد فعل شئ، فقد كان يكتب خطابات التوصية أحياناً إلى ثيوفيلوس وأحيانا إلى هيباثيا. وفى كلمات كاتب معاصر فإن هذا الأمر قد جلب عاراً كبيرا ليس فقط على كيرلس، ولكن على كل الكنيسة السكندرية، كما أ نه لم يحقق أى مصداقية كبيرة لأوريستس والذى كان فى النهاية مسيحياً أيضاً.

( كان مصرع هيباثيا على يد الرهبان الذين مزقوا جسدها إرباً بقطع الفخار، ثم أحرقوه فى معبد السيرابيوم من أهم أحداث عهد كيرلس، لإن هيباثا كانت من عجائب زمانها جمالاً وعلماً وثقافة، ولكن مقتلها على هذا النحو كان جزءً فى نهاية الأمر من الحملة عل الوثنية، التى بدأت فى عهد سلفه ثيوفيلوس، كذلك كان إصراره على رفض إعادة الإعتبار لذكرى جون كريسستوم، رغم توسلات العديد من القيادات الدينية لذلك العصر ، لمحة أخرى مميزة لسيرته وأسلوبه المتطرف، وقد شهد عهده بداية ظهور الخلاف حول طبيعة المسيح ، أهى واحدة أم إثنين، مع نسطوريوس أسقف القنسطنطينية، وهو الخلاف الذى سيؤدى إلى إنفصال الكنيسة المصرية عن الكنيسة الإمبراطورية فى القنسطنطينية بشكل تام ونهائى، والذى سيستمر حتى غزو العرب لمصر سنة 641م).

كان السلام الذى أعقب ذلك فى الإسكندرية ، وإلى حد ما ، سلام الندم والتبصر. وفى السنة التالية خفض مرسوم إمبراطورى عدد جنود فيلق الباربولانى، والذى كان عمله إعانة المرضى ودفن الموتى ، ولكنه كان يعمل كنوع من الميليشيا الكنسية، إلى 400 فرد وجُرد الأسقف من سلطة الإشراف عليه، ولكن فى سنة 418م زيد عدد الجنود مرة أخرى إلى ستمائة وعاد إلى سلطة الأسقف.
كان كيرلس ، مثله مثل ثيوفيلوس، شخصية معقدة ، نعرف عنها من أعدائها بشكل أساسى أو على الأقل من نقادها. وحتى مؤيديه الثابتين فى الشئون الكنسية وأنصاره الأقباط الأوفياء، لايبدو أنهم قد شعروا بذلك الحب الشخصى الذى أثاره فى نفوسهم بعض أساقفة الإسكندرية السابقون واللاحقون. كان كيرلس أيضاً هو آخر ممثل عظيم لمدرسة الإسكندرية الفكرية الدينية ، صعباً كما يمكن أن يكون تصور المزيج من المفكر الدينى العميق والمخلص والسياسى النشط ، وأحياناً حتى المجرد من المبادئ. وفى مسح حصيف لعلاقات كيرلس مع واحد من خصومه، كتب جون هنرى نيومان فى القرن الأخير( لاأعتقد أن كيرلس نفسه كان سيحب أن تؤخذ أعماله التاريخية كمقياس على طهارته الداخلية، وإنه فيما يخص خدماته إلى الفكر الدينى (فربما نعتبر القديس كيرلس خادماً عظيما للإله، بدون أن نعتبر أنفسنا مضطرين للدفاع عن بعض المراحل من سيرته الكنسية).
ورغم ذلك فإن هناك إرتباط مؤكد فى أن الوحدة هى المبدأ الأساسى فى الفكر الدينى لكيرلس والهدف النهائى لممارسته الكنسية، ( فرب واحد وعقيدة واحدة ومعمودية واحدة ) ربما يكون هو نصه المفضل، كما أن الإعتراف بمسيح واحد هو المعيار لأى مناقشة ثيولوجية. ومع ذلك فإنه لم يرغب، وبأى شكل، فى إنكار أو إخفاء إنسانية المسيح الكاملة. كانت المصطلحات المسيحية فى تلك المنطقة مازلت مائعة وكان كيرلس معتاداً على إستخدام الإصطلاح ( طبيعة) و الإصطلاح (شخص) للإشارة إلى المخلوق الواحد المتماسك، والذى هو إله قد أصبح إنساناً. وقد أدت بعض الكتابات الأبولونية ، والمنسوبة بشكل غير صحيح إلى أثناسيوس، إلى أن يقبل كيرلس بعبارة( طبيعة واحدة مجسدة لله الكلمة )، كما فعل أسلافه وأن يعطيها الثقل الإضافى لنفوذه. ولكن على الأقل وفى مناسبات نادرة فقد كان مستعداً لإن يتكلم عن تلازم قريب للطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية فى المسيح ، كما يقول على سبيل المثال :

( إن الكلمة التى خرجت من الإله الأب قد سميت إنسان ، ورغم أنه وبالطبيعة إله فقد إكتسى لحماً ودماً مثلنا. فهكذا قد رؤى من قبل هؤلاء الذين كانوا على الأرض ، و غير ناسيا لما كان ، فقد إفترض لنفسه طبيعة بشرية مثلنا ، كاملة كما تعتبر نفسها ، ولكن فى طبيعته البشرية فقد ظل إلهاً أيضاً وسيداً للجميع ، بالطبيعة وفى الواقع منجباً من الله الأب ).

وبالمصطلحات الفنية للثيولوجيا الإغريقية كان كيرلس يؤكد على واقع الحقائق البسيطة للعقيدة المسيحية، أى الفعل الإلهى فى المزود (حيث ولد المسيح)، والصليب وحضور الله فى حياة يسوع الإنسانية، وهكذا ومن خلال الذى نعبد ونحب ، فقد حضر فينا أيضاً. لم يحاول كيرلس تجنب متناقضات الإنجيل والتى عرضها فيما بعد حتى فى لعنات عقائدية رسمية. وقد قام الشخص الإلهى للإبن بالأعمال الإنسانية، وعانى معاناة يسوع الإنسانية، ولذا فإن لحمه الذى نستقبله فى العشاء الأخير هو إلهياً ومانحاً للحياة. ولإن لحمه مقدس فنحن أيضا متحدين بالله فعلاً، ومحولين بواسطة إتحادنا المقدس معه. وفى ثيولوجيا الإتحاد تلك توجد لحظات تحتجب فيها إنسانية يسوع الحقيقية، وهى على كل حال اللحظات الأقل. إن حركة عقل كيرلس تتضح بشكل رائع فى تعليقاته على نص ( بكى يسوع) :

( والآن ولإن المسيح لم يكن فقط إلهاً بالطبيعة، ولكن أيضاً إنساناُ، فقد إشترك فى المعاناة مع الآخرين من البشر، وعندما بدأ الحزن، وبشكل ما، يثار داخله وبدأ جسده المقدس يميل للبكاء، فإنه لم يسمح له بأن يستغرق فى ذلك بدون كابح كما هى العادة معنا )،

ولكن دموع الله المخلوق على شاكلة الإنسان، لايمكن أن تكون من أجل لازاروس فقط :

( فمن المؤكد أن كاتب الإنجيل وقد رأى الطبيعة المجردة من الدموع تبكى ، قد دُهش ، لإن المعاناة كانت غريبة عن الجسد وغير ملائمة للإلوهية. يبكى الرب وقد رأى الإنسان الذى خُلق على شاكلته وقد شابه الفساد ، فربما يضع بكائه نهاية لبكائنا. ولهذا السبب فقد مات أيضاً فربما يمكن بهذا تخليصنا من الموت، ولهذا السبب فقد سمح لجسده أن يبكى قليلاً رغم أنه كان بطبيعته مجرداً من البكاء وغير قادر على أى حزن).

كانت تلك هى التعاليم التى رعتها الإسكندرية، والتى وجدت أنطاكية وروما أنه من الضرورى تصحيحها أو عل الأقل تكملتها.
أما سيرة كيرلس الكنسية التى تلت تلك المرحلة فهى تتبع قليلاً فقط تاريخ الكنيسة فى مصر، فقد قاوم إعادة الإعتبار لذكرى كريسيستوم بقدر ماإستطاع، والواقع إنه، وبرغم توبيخات إزيدور، فمن المشكوك فيه إذا ماكان قد قبل ذلك فعلاً . وعندما إعتلى واعظ متحمس آخر من أنطاكية العرش الأسقفى فى القنسطنطينية سنة 428م، كان كيرلس مستعداً فقط لإن يستفيد من طيش نسطوريوس ، الأسقف الجديد فى القنسطنطينية. كان كل من الأسقفين مذنباً برفضه لإن يفهم الآخر. كانت ثيولوجيا كيرلس أكثر تفوقاً ولكن إنتصاره فى مجمع إفسوس سنة 431م، كان يعود إلى بعض الفطنة السياسية. فبعد أن أبحر إلى إفسوس مع عدد كبير من الأساقفة المصريين، وقد مُنح حق تمثيل ألأسقفية الرومانية بالإضافة إلى أسقفيته إندفع كيرلس إلى المجمع قبل أن يستطيع أصدقاء نسطوريوس الوصول من أنطاكية. وبواسطة وسائل تأثير متعددة ، بعضها لايمكن تمييزه بسهولة عن الرشوة ، أقنع البلاط بأن يسمح بأن يعتمد نتائج مجمع كيرلس، وبأن يتجاهل تلك الإتهامات التى يحملها جون الأنطاكى ضده. وبعد أربع سنوات من ذلك التاريخ، كان السلام الكنسى قد تم فى الواقع على جثة نسطوريوس، فقد ظل ملعوناً من قبل الكنيسة، وأُرسل إلى المنفى فى مصر، بينما قبل كيرلس تقرير عقائدى من الأنطاكيين يؤكد على أن الإتحاد فى المسيح هو إتحاد لطبيعتين ، كلاهما كاملاً وتاماً. ونُقل نسطوريوس من مكان إلى آخر فى مصر العليا ، فمن الواحات إلى الفنتين إلى بانوبليس حيث يمكن أن يكون قد إلتقى بشنودة والذى كان ، وتبعا للأسطورة القبطية، قد سحره فى إفسوس. عاش نسطوريوس عمراً طويلاً مكنه من أن يتعزى بالأخبار التى جاءت من مجمع خلقدونية-451م ، بأنه قد أثبت الحقيقة الإنسانية للمسيح، والتى كان قد حاول الدفاع عنها عبثاً. ولكن بينما كانت سنوات كيرلس الأخيرة سنوات سلام، فقد كان لدى نيومن الأمل بأن تكون سنوات ندم وتوبة أيضاً.
كانت الكنيسة التى تركها كيرلس خلفه مؤسسة هامة تستحق اللقب الفرعونى، الذى ما كان من الممكن أن يتجنبه أساقفة الإسكندرية. وقد جعلت السلطة التشريعية المباشرة على أسقفيات مصر وبينتابوليس من البطريركية أكبر وأقوى وحدة كنسية فى الشرق. لم يكن هناك تدخل من المطارنة أو من مجامع الأقاليم، رغم أنه أحياناً فى بينتابوليس أو طيبة، كانت الأسقفيات المجاورة تجتمع فى مؤتمر، وكان يمكن لقائد مثل سينسيوس أن يحصل على تفويض خاص كنوع من المندوب البطريركى. كان بابا الإسكندرية، مثله مثل أخيه الرومانى، يعين مساعديه بنفسه، رغم أنه كان يستطيع توجيه ثلاثة من الأساقفة المحليين ليأخذوا مكانه إذا ماكان ذلك ضرورياً. وقد أضيف إلى القوة الكنسية تأثير الثروة التى كانت تملكها الأسقفية. كانت كنيسة الإسكندرية تحصل على هبات من الحكومة، ربما لأهداف خيرية، وقد بنت أيضاً ثروتها من خلال المواريث والهدايا، مثل تلك التى أحاطت بمناسبة نزاع ثيوفيلوس مع إزيدور. وتتحدث وثيقة تعود إلى سنة 390م، عن قارب يعود إلى كنيسة الإسكندرية الكاثوليكية فى ميناء شاريوم النيلى، والذى ربما كان يخدم التجارة العامة أو إحضار الحبوب المخصصة للكنيسة. وفى مصر القرن الرابع أدى النهوض من الركود الإقتصادى السابق إلى نمو ملكيات خاصة ذات أحجام متنوعة. كانت طلبات الحكومة الملحة ، والتى كانت مثل كل حكامها الرومان تنظر إلى مصر، بشكل أساسى، كمصدر للدخل ، قد شجعت صغار الملاك على وضع أنفسهم تحت حماية الملاك الأكبر والأكثر نفوذاً أو حتى على أن يصبحوا مستأجرين منهم. وبعد محاربة نظام الحماية ذلك لعدة سنوات خضعت الحكومة له عملياً فى سنة 415م ،مما يثير التساؤل عما إذا كان لذلك علاقة بأحداث الإسكندرية فى نفس تلك السنة. أصبح الإعتراف بالحماة كملاك يتم إذا ماإستطاعو تأمين الوفاء بالإلتزامات العامة، كما أصبح يُعترف بالألقاب الفردية التى كان أصحابها يحملونها منذ سنة 397م، بينما سمح لكنائس الإسكندرية والقنسطنطينية بالإحتفاظ بالأراضى التى كانت قد حصلت عليها منذ تاريخ أقرب من ذلك.
يعتبر القرن الخامس فترة غامضة فى تاريخ مصر العام، ولكن من المؤكد أن الإستقلال المحلى المتنامى والنفوذ المتزايد للزعماء المحليين كانا تطورين هامين، ففى القرن الرابع، وكما توضح القائمة المرفقة بكتاب أثناسيوس (الخطابات العيدية)، كان كبار الموظفين مجرد موظفين مدنيين أرسلوا من أقاليم أخرى، كما كانت القوانين تقتضى. أما الآن فقد كانوا فى الغالب من الأرستقراطية المحلية يتبعون البلد، وعلى إستعداد للتكيف مع مؤثراتها ، وقد كان أندرونيكوس، خصم سينسيوس والذى كان أول بلدى يحكم سيرين ، مثالاً على ذلك الإتجاه، وإن لم يكن مثالا سعيداً. وبين القوى المصرية الصاعدة أخذ البطريرك مكاناً كبيراً، كما أخذ كثير من الأساقفة المحليين وبعض الأديرة ، مكاناً محترماً. كان ذلك يمثل مصدراً هاماً فى بعض الأحيان، فمثلاً عندما غزت قبائل البليمى طيبة من الجنوب، قدم دير شنودة المسور ملجأً ومخرجاً لآلاف اللاجئين الذين تخلى عنهم الكونتات الإغريق . وقد فتح الدير مخازنه وإستأجر أطباء من أجل المرضى، ودفن الإثنين وتسعين متوفى ووفر ما كان يحتاج إليه الأربعة وخمسين مولوداً الذين ولدوا أثناء الأشهر الثلاثة الذين قضاها اللاجئون مع الرهبان. لقد كان ميراثا ضخماً، وبشكل ما، مضطرباً ومقسماً، ذلك الذى إستطاع ديسقوروس كبير شمامسة كيرلس، والذى من الواضح أنه قد خيب آمال أبناء إخوته فى مواصلة السلالة العائلية، الولاية عليه بعد، وفاة كيرلس سنة 444م.





4- بقوة نحو الإنشقاق
تصاعد الخلاف اللاهوتى

ربما لم يكن ديسقوروس ، سواء فى الشخصية أو فى السياسة ، مختلفاً كثيراً عن كيرلس ولكن الحظ أو قلة المهارة السياسية قد جردته حتى من مجرد نجاح ظاهرى. ففى بداية أسقفيته كتب له حتى ثيودور صديق نسطوريوس فى أدب، كما ضرب ليو الرومانى المثل على التحالف الرومانى السكندرى، بتقديم نصيحة عملية إليه بأنه لايجب أن يتردد فى تكرار القداس فى الإحتفالات الكبيرة، إذا ماكان حجم الجمهور يتطلب ذلك. ولكن المعركة الثيولوجية السياسية سرعان مافُتحت. ففى القنسطنطينية ظل كبير الكهنة أوتيتش متمسكاً بثيولوجيا كيرلس فى أكثر أشكالها تطرف ، ضد أسقفه فلافيان. فقبل الإتحاد كان يمكن التحدث عن طبيعتين للمسيح، ولكن بعد الإتحاد لم يعد هناك سوى طبيعة واحدة. وفى مجمع محلى سنة 448م، وجد فلافيان نفسه مضطراً لإن يصر على عبارة جديدة هى( طبيعتى المسيح)، وذلك كى يدافع عن إنسانية المسيح الحقيقية، بنفس الشكل الذى أضاف به مجمع نيقية فقرة جديدة إلى العقيدة التقليدية، كى يؤكد على إلوهية المسيح الحقيقية. وجاء ديسقوروس لتأييد إيوتيتش. وتجمع معظم الشرق خلفه لتجديد إنتصار كيرلس على نفس الأساس فى مجمع عُقد فى إفسوس سنة 449م، والذى عُرف فى التاريخ الأرثوذكسى اللاحق بإسم مجمع اللصوص. فبمساعدة الرهبان والبارابولانى سيطر ديسقوروس على الجلسات، وسيطرت الإسكندرية على الكنيسة مؤقتاً. تم عزل أسقف أنطاكية، وأسقف القنسطنطينية، ومات الأخير بعد عزله بفترة قصيرة، بسبب سوء المعاملة. أصبحت أورشليم بطريركية مستقلة، ولم يستطع المندوب البابوى سوى الصراخ والهرب، ولكن وكما يحدث فى التراجيديا الإغريقية فإن العقاب يتبع الفخر دائماً. كان ليو أسقف روما، قد أعطى تأييده الثيولوجى إلى فلافيان بالفعل فى كتابه الكبير بشأن الطبيعتين المتحدتين للمسيح. وفى سنة 450م، خلف الإمبراطور الجندى مارشيان الإمبراطور الضعيف ثيودوسيوس الثانى، وطالبت السلطة الإمبراطورية والسلطة البابوية معاً بنقض ماكان قد حدث فى إفسوس.
وعُقد أكبر المجامع المسكونية القديمة فى خلقدونية الواقعة عبر البسفور من القنسطنطينية فى سنة 451م. وفى ذلك المجمع تم رفض قرارت مجمع اللصوص( مجمع إفسوس)، وتم الإعتراف بما جاء فى كتاب ليو عن طبيعتى المسيح، على أنه أرثوذكسى متفقاً مع العقيدة المسيحية التقليدية، كما تم تضمين أفكاره الرئيسية فى تعريف عقائدى يعترف بوجود المسيح فى طبيعتين، بدون خلط أو تغير أو تقسيم أو إنفصال. وتم تقديم ديسقوروس أسقف مدينة الإسكندرية العظيمة للمحاكمة وتم عزله ، ليس بسبب الهرطقة ولكن لسلوكه الغير قانونى. كان أبرز متهميه هم أربعة من رجال الدين السكندريين الساخطينٍ، وقد إتهمه البيان الذى قدموه بسوء السلوك الشخصى وبالإستيلاء، بإسم الكنيسة، على أملاك تتبع أقارب ورفاق لسلفه. وقد قال أحدهم أنه كان يعتقد أنه هو، وليس الحاكم الرومانى ، الحاكم الحقيقى لمصر. وبعد تلك العقوبة الغير مسبوقة فى تاريخ كنيسة الإسكندرية أُرسل ديسقوروس إلى المنفى فى كانجرا حيث مات هناك سنة 454م.

( كان ديسقوروس هو آخر اسقف مصرى معترف به من قبل كل الكنيسة المصرية، وبعد وفاته سيصبح هناك صراع دائم على الأسقفية السكندرية بين أسقفين على الأقل، احدهما مصرى مونوفيزيتى، والآخر بيزنطى خلقدونى، وسوف يتعمق هذا الإنقسام بشدة على مدى السنين وسوف يتحول إلى إضطهاد شديد من قبل السلطة الإمبراطورية، سوف يصل إلى حد الحرب المعلنة فى العقود الأخيرة التى سبقت غزو العرب لمصر)

كان سبعة عشر أسقفاً مصرياً قد حضروا مع ديسقورس مجمع خلقدونية. و تعلل ثلاثة عشر منهم بأنهم لايستطيعون إتخاذ أى قرار رسمى إلا بالتوافق مع أسقفهم، وعلى ذلك فقد كانوا مضطرين لإنتظار إقامة خلف لديسقوروس، حتى يعطوا موافقتهم على قرارات مجمع خلقدونية. ولكن أربعة من زملائهم تغاضوا عن ذلك، وإتفقوا مع الأغلبية، ثم أبحروا إلى الإسكندرية لإقامة أسقف جديد. كان لدى المرشح المختار، بروتوريوس، فرصة جيدة لمصالحة الكنيسة مع ذلك الموقف الجديد. فبصفته كاهن الإسكندرية، فقد كان شديد الإرتباط بديسقوروس حتى اللحظة الأخيرة، كما كان مسئولاً عن الكنيسة أثناء غيابه، ومع ذلك ، فقد بدا فى منصبه الجديد كأنه ممثل القوى الأجنبية فقط. كانت الثورة التى أعقبت ذلك موجهة ضد الحكومة وضد الأسقف الجديد بنفس القدر، وكما قال أحد شهود العيان( فقد تحرك الناس ضد الحكام وأحرقوا السيرابيوم حيث كان الجنود قد لجأوا هربا من الثوار). وعلى الفور تم إرسال مزيداً من القوات من القنسطنطينية، ولكن حتى على ذلك النحو، فقد كانت التنازلات السياسية للمدينة هى ثمن تسامحها مع بروتوريوس. لقد كان سكندرياً مخلصاً فى قلبه، كما أظهر دفاعه القوى ضد راعيه ليو أسقف روما عن صحة التقويم السكندرى لتاريخ الفصح لسنة 455م. ولكن لم يكن هناك فرصة لقبوله الحقيقى فى مصر، وإستمر يعيش فى ظل حراسة.
وتكشف الأحداث التى تلت ذلك فى جانبها السياسى المواقف المختلفة للعناصر ذات النفوذ فى مصر. ظل السكندريون يحتفظون بإستعدادهم القديم للنزول إلى الشوارع لأى سبب أو حتى بدون سبب، وفى العادة فقد كانوا فى جانب البطريرك الوطنى، ولكن خلافاتهم كانت تسبب أحياناً تشويه سمعة قضيتهم الوطنية. كانت مصر القبطية تقف بصلابة خلف أساقفة الإسكندرية عندما يكونوا ثابتين ، ومع ذلك فقد كانوا مستعدين للتخلى عنهم إذا ماأظهروا أى إستعداد للتنازل. كان هناك حزب ثالث لابد من أخذه فى الإعتبار، وهو الطبقة الأرستقراطية المصرية الصاعدة، والتى لابد أن نضيف تجار الإسكندرية إليها. وبسبب علاقاتها مع مصر والإسكندرية والقنسطنطينية، كانت تلك الطبقة ترحب بأى فرصة للتسوية كما كانت ميالة، إلى حد ما، لتأييد السياسة التى تساندها الحكومة الرومانية. ومن الطبيعى أن ممثلى الحكومة فى مصر كانوا يأتون من تلك الطبقة، لإنه فقط فى الحالات الطارئة كان الأجانب يرسلون من الخارج ليحكموا البلاد. ومن ذلك الوقت فصاعداً ، أصبح الخيار أمام الأباطرة هو ذلك الخيار الصعب بين إقامة أسقف خلقدونى فى الإسكندرية ليكون مرفوضا فى مصر، أو القبول بالقادة المحليين فى الكنيسة على حساب إضعاف سيطرتهم على البلاد. وعلى مدى قرنين تقريباً حاولوا أن يجدوا طريقاً وسطاً ولكنهم نجحوا فقط فى دفع الجزء الأعظم من الكنيسة المصرية نحو الإنشقاق. وفى محاولة وضع ذلك التحليل السياسى المبدأى عن الإنشقاقات فى مصر، فإننا لايجب أن ننكر بعض الأهمية للنزاع المذهبى المجرد. فقد ناسب الإقرار بطبيعة واحدة للمسيح كل من ممثلى الثيولوجيا السكندرية والمسيحيين الأقباط، ولكن ربما لأسباب مختلفة.
كانت المونوفيزية، وكموقف ثيولوجى إغريقى، هى تطور أحادى الجانب لتعاليم كيرلس، وحتى لتعاليم أثناسيوس وآباء الكنيسة القدامى .

( المونوفيزية هى مذهب الطبيعة الإلهية الواحدة للمسيح الذى تبناه المصريون ومعهم السوريين فى نهاية الأمر، ويبدو من الواضح هنا أن كل ذلك كان تطوراً طبيعياً للموقف الفكرى الذى تبناه المصريون منذ أيام اثناسيوس، فى إصرارهم على التأكيد على المساواة بين الأب والإبن ضد تعاليم آريوس، التى كانت تؤكد على ضرورة تفوق الأب على الإبن بحكم أنه كان الأسبق إلى الوجود . وربما كان آريوس يخشى أن يتم تأليه المسيح فى النهاية بشكل كامل وهو ماحدث بالفعل بعد ذلك، فمع تطور الجدل الدينى عبر السنين ظهرت فكرة الإتحاد بين طبيعتى المسيح الإلهية والإنسانية، وهنا ظهر الإتجاه المونوفيزى فى كنائس الشرق ووصل بذلك الجدل إلى نهايته الطبيعية، فقالوا أنه بعد حدوث ذلك الإتحاد فقد تغلبت الطبيعة الإلهية للمسيح على طبيعته البشرية وبذلك أصبح إلها واحداً، وهذا هو المقصود بالمونوفيزية مذهب الطبيعة الواحدة أى الطبيعة الإلهية الواحدة للمسيح، ومع ذلك فإن الجانب الرومانى وقطاع كبير من الجانب الإغريقى البيزنطى أى كنيستى روما و القنسطنطينية، لم تقبلا بذلك وظلا على موقفهما، بأنه حتى بعد الإتحاد فقد ظل المسيح من طبيعتين بشرية وإلهية متحدتان، ولكن دون أن تذوب أحدهما فى الأخرى تماماً، فهو إله من أبيه وبشر من أمه، والواقع أن كل طرف من أطراف ذلك النزاع كان يعبر عن موروثه التاريخى والثقافى الأعمق، فقد كان المصريون وفى نهاية الأمر يعبرون عن موروثهم التاريخى العميق فى عبادة ملوكهم أو فى عقيدة الملك الإل،ه كما كان والرومان والإغريق يدافعون أيضاً عن موروثهم التاريخى الثقافى العميق فى رفض تأليه البشر، وقد أضيف إلى ذلك عنصر قومى عميق الجذور أيضاً، فقد كان المصريون يعبرون ، ومن خلال خلافهم العقائدى مع القنسطنطينية، عن رفضهم للحكم الأجنبى، وهكذا سارت الأمور حتى نهايتها بخروج قرارات مجمع خلقدونية الإمبراطورية سنة 451م، والتى أكدت على طبيعتى المسيح، والذى ماعاد المصريون يقبلون سوى بطبيعة واحدة له، وهكذا أصبح كل خلقدونى مهرطقاً ملحداً بالنسبة إليهم، وإستمر صراعهم منذ ذلك التاريخ فصاعداً ضد كل ماهو خلقدونى، ومن جانبها لم تدخر القنسطنطينية وسعاً فى سبيل فرض مذهبها الخلقدونى عليهم بكل الوسائل، بما فى ذلك السجن والتعذيب والقتل حتى وصلت الأمور فى النهاية إلى تسليم المصريين بلادهم للعرب، أوعلى الأقل تركها تسقط فى أيديهم حقداً على البيزنطيين، وعلى ما إقترفوه فى حقهم من أجل فرض عقيدة خلقدونية عليهم ).

وفى الواقع فإن المسيحية الناطقة بالإغريقية كانت تميل بقوة فى هذا الإتجاه، وكان كثير من الأساقفة الشرقيين فى خلقدونية غير متحمسين لقبول تعاليم ليو أسقف روما. لم يكن الأقباط مهتمين بشكل خاص بتلك التمييزات الدقيقة للثيولوجيا الإغريقية، كان إيمانهم فى المخلص المقدس الذى، وكما كانوا يذكرون بفخر، قد خطى أو على الأقل قد حُمل فوق تربة مصر (المقصود هنا هو المسيح فى قدومه طفلا مع عائلته إلى مصر). كانت كل الأخبار التى تسربت إلى داخل العقل القبطى عن عقيدة خلقدونية، هى أنها قد قسمت المسيح وعزلت أسقفهم المقدس. وسرعان ما طورت الثيولوجيا المونوفيزية تمييزات دقيقة خاصة بها، والواقع أنه وكما فى حالة الفتنة الآريوسية، فقد كانت التزكية الأخيرة للأرثوذكسية هى بساطتها الأعظم وإستعدادها للتقدم. وبرغم العقبات اللغوية فإن المونوفيزيين الناطقيين بالسريانية، قد ترجموا كثيراً من الثيولوجيا المونوفيزية الإغريقية إلى لغتهم، والتى قد حُفظت فيها إلى حد كبي، ولكن لم يكن هناك طلب أو حاجة لترجمتها إلى القبطية.
وفى السنوات الأولى بعد خلقدونية كان هناك خلقدونى أرثوذكسى ، أو كما كان يعرف محلياً، حزب بريتورى ذا بعض القوة فى الإسكندرية. وبصرف النظر عن قاعدته السياسية والإجتماعية، فمن المؤكد أن بعض أعضائه كانوا من أتباع ثيولوجيا الطبيعتين من حيث المبدأ أو كانوا يٍحركون من قبل سلطة مجمع عام، حتى ضد بطريركهم. وخارج الإسكندرية كان بروتوريوس مؤيداً من قبل عشرة أو إثنى عشر أسقفاً و كذلك رهبان كانوبوس الباخوميين. كانت بعض المستوطنات الديرية منقسمة، ففى سيليل كان هناك قدر كاف من كلا الحزبين بحيث كانا يتعبدان فى كنيستين، وغادر راهب واحد على الأقل سيت، والتى كانت فى تلك الأثناء فى حالة إضمحلال بسبب غارات جديدة من الصحراء ، وذلك كى ينضم إلى رهبان فلسطين الأرثوذكس. و فى موازاة كانوبوس على الجانب الآخر من الإسكندرية، كانت إيناتون، الدير الواقع على المعلم التاسع، قد أصبحت معقل مينوفيزيتى.
لم يتمتع البيريتوريون، وبرغم إحترامهم، بتأييد الجماهير. وفى سنة 457م مات الإمبراطور مارشيان، وسمح للمنفيين بالعودة بما فيهم بعض رفاق ديسقوروس. وفى تلك اللحظة من عدم اليقين كان الدوق وقواته خارج المدينة. وسيطر المعادون للبريتوريين على القيصرون، وأقاموا أسقفاً منافساً ، هو تيموثى، بشكل متسرع وغير نظامى إلى حد كبير.
كان الأسقفان اللذان ترأسا القداس هما جريجورى البلزيومى، وبطرس الإيبيرى، الذى كان أميراً راهباً، وكان قد أصبح لتوه أسقفاً على منطقة ميومة بالقرب من غزة، وكان ، بشكل ما، يمثل المونوفيزية العالمية. وقد حجب لقب تيموثى (القط) ، والذى يقال أنه قد نشأ من تسلله من صومعة إلى أخرى، من أجل كسب التأييد لقضيته، حقيقة أنه كان رجلاً ذا مكانة وكاهناً للإسكندرية، وواحداً من مؤسسى الثيولوجيا المينوفيزية. عاد بريتوريوس بصعوبة إلى القيصرون، ولكن خمسة مرشحين فقط أُحضروا إليه من أجل تعميد الفصح القادم، بينما فى كنائس تيموثى فقد كان الموظفون قد أرهقوا من جراء تسجيل أسماء الأطفال. لم يعش بروتوريوس كى يرى الإحتفال، ففى يوم الجمعة الحزينة نفسها ثار معارضوه ضده، وفى مثل نفس الظروف التى تُذكر بمصرع هيباثيا، قُتل بريتويوس فى بيت المعمودية، وسحب جسده فى شوارع المدينة. وبرغم تلك الأحداث، فقد أمل الوجهاء والشعب فى الإسكندرية عندئذ فى أن يصبح تيموثى مقبولا بشكل عام ، ولكن عدم قدرته على إقناع رفاقه بقبول البريتوريين السابقين مثل عقبة فى ذلك. وقام الإمبراطور ليو بالإقتراع على الأسقفية بالمراسلة، وأمن موافقة عامة لخلقدونية وإدانة لتيموثى. مثل مصر فى ذلك الإقتراع أربعة عشر أسقفاً بريتورياً كانوا مازالوا على قيد الحياة. وأرسل تيموثى إليروس إلى المنفى. وأقيم مكانه ، وربما عمدا ، تيموثى آخر ، كان راهباً من كانوبوس يلقب بالقبعة المتمايلة أو بالقبعة البيضاء، والذى يبدو أن له علاقة بغطاء رأسه أو بطبيعته اللينة، وهذه هى المرحلة التى أحضر فيها الخلقدونيون( المصريون) بأنسفهم راهباً هادئاً ليكون قائدهم فى مصر. وتُرك تيموثى فى سلام حتى وفاة الإمبراطور فى سنة 474م، قانعاً بدماثة خلقه، ولم يقم بأى محاولة كبيرة لتقديم قضيته الخلقدونية معتبرا ذلك، وبلاشك، أمراً ميئوسا منه. أما مصر، خارج الإسكندرية، فيبدو أنه قد تركها وشأنها، والواقع أن موقفه المتسامح قد أربك مؤيديه ومعارضيه على السواء.
( كان تيموثى القبعة المائلة خلقدونياً مصرياً وليس بيزنطياً، فقد كان هناك بين المصريين أيضاً حزب خلقدونى محدود، وهذا ماجعله يحاول إرضاء الطرفين المصرى والبيزنطى، وجعل شخصيته تبدو محيرة بالنسبة للمؤرخين).

وفى سنة 474م خلف الإمبراطور زينو الإمبراطور الراحل ليو الأول، لكن سرعان مافقد زينو السيطرة على الإمبراطورية على مدى حوالى سنتين لصالح متمرد يدعى باسيليكوس. وتحول الأخير إلى الموقف المضاد فى الكنيسة كما فى الدولة، وعلى ذلك فقد إنتصرت المونوفيزية مؤقتاً فى الشرق. ورُحب بتيموثى أليروس فى القنسطنطينية، خاصة من قبل السكندريين المقيميين فى المدينة، ومثل أسلافه فقد ترأس مجمع فى إفسوس حيث تبرأ المجمع من عقيدة خلقدونية، ومن منحها الأسقفية الإمبراطورية سلطة تشريعية على كل آسيا الصغرى. وعاد تيموثى أليروس إلى الإسكندرية منتصراً، بينما إنسحب منافسه إلى ديره. وسرعان ماإستعاد زينو سلطته، ومع ذلك فقد كان لديه كثيراً من الأمور الأخرى التى تشغله عن تيموثى. ورغم أن أبطالها كانوا رجالاً أقل حجماً، فإن الدراما هذه المرة لم تكن لتختلف كثيراً عن أيام أثناسيوس الأخيرة، بالمونوفيزيين والخلقدونيين فى مراكز كان يحتلها آنذاك النيقيون( نسبة إلى مجمع نيقية)والآريوسيون( نسبة إلى آريوس). وعند وفاة تيموثى خلفه رجل دين سكندرى(مونوفيزيتى) بارز آخر هو بطرس مونجوس، الملقب بالمتلعثم، لكن ذلك كان كثيراً للغاية بالنسبة لزينو، والذى أصر على إعادة تيموثى القبعة المائلة( الخلقدونى) من معتزله من أجل قليل من السنوات الغير سعيدة الأخرى على العرش البطريركى. مات تيموثى القبعة المائلة فى سنة 481م، وأصبح السؤال آنذاك هو إذا ماكان يجب الإعتراف ببطرس مونجوس،أو إقامة منافس خلقدونى آخر بدلاً منه؟.
ترأس جون تاليا ، وكان راهب من كانوبوس يخدم ككاهن للإسكندرية، بعثة حضرت إلى القنسطنطينية لتأمين موافقة زينو على الحل الأخير، وقد وعد أن لايطمح فى المنصب لنفسه. ومع ذلك فقد إنتخب أسقفاً، مما أثار شكوكاً واضحة حول تصرفه ذاك، وأفقده تأييد الحكومة والذى، كان يمكن وحده أن يمكنه من البقاء أسقفاً فى الإسكندرية. هرب جون إلى روما، حيث تخلى هناك عن مطالبه فى أسقفية الإسكندرية، وأنهى أيامه أسقفاً لمدينة نولا فى كمبانيا. وقد أعاد وجوده فى إيطاليا، مع ذلك، تأكيد العلاقة الرومانية السكندرية، وأعطى وعداً بالتأييد الرومانى للحزب الخلقدونى فى الإسكندرية حينما يكون هناك واحد.
وفى تلك الأيام كانت إيطاليا، من الناحية العملية، مستقلة تحت حكم إدواكر، كما ستكون فيما بعد تحت حكم ثيودريك، ومن ثم فقد كانت روما القديمة خلف الأفق السياسى للقنسطنطينية. حاول زينو أو مستشاروه الكنسيون تنفيذ سياسة حل وسط فى الشرق، وصدرت صياغة رسمية عن الوحدة( الهينوتيكون) فى سنة 482م، والتى ظلت تُمثل العقيدة الإمبراطورية للحكمين التاليين. وقد أعلنت تلك العقيدة أن رخاء الإمبراطورية قد إعتمد على الصلوات المشتركة لرجال الكنيسة والناس العاديين والرهبان، ولكى تؤمن الوحدة المرجوة فى الكنيسة والدولة فقد أعادت التأكيد على عقيدة نيقية، كما أقرها مجمع سنة 381م، ومجمع سنة 431م، وإعترفت بالمسيح كإله حقيقى وإنسان فى شخص واحد، ولكنها لم تذكر شئ عن الطبيعتين، وأدانت كل من علم بغير ذلك فى خلقدونية، أو فى أى مجمع آخر. وقد أدانت كل من نسطوريوس وإيوتيتش، كبشى الفداء لكلا الحزبين ، و كما جاءت، فقد كان يمكن أن يوقع عليها كل من المونوفيزيين المعتدلين، أوالخلقدونيين المعتدلين. وبقبوله لهذه الوثيقة وبالموافقة على قبول البريتوريين إلى طائفته، حصل بطرس مونجوس على الإعتراف الإمبراطورى.
كان الغموض البارع لصياغة الهينوتيكون يهدف إلى تعزيز الوحدة، ولكنها قد أحدثت الأثر المعاكس، ففى روما قد بدت وكأنها هجوم على خلقدونية وليو، والتى قد تجاهلته من أجل كيرلس، وأدت إلى جيل من الإنشقاق بين روما والقنسطنطينية، وفى الإسكندرية قسمت الكنيسة إلى مالايقل عن أربعة أو خمسة أحزاب، وهُوجم بطرس داخل كنيسته نفسها لإنه، لم يكن قد أدان خلقدونية رسمياً، ولكنه ببساطة تجاهلها. ثم أصدر اللعنة المطلوبة لكنه ظل مرفوضاً من قبل بعض الأقباط الأكثر عنادً، لإنه إستمر فى تواصل مع بعض الكنائس الشرقية الأخرى مثل كنيسة القنسطنطينية، التى ظلت على موقفها السابق من الهينوتيكون. وبقيادة أحد أساقفة طيبة ، وهو تيودور الأنطونيوسى، إنشقت تلك الجماعة عن البطريرك، وكونت طائفة عديمى الرأس، التى سُميت هكذا لإنها لم تذهب إلى حد إقامة بطريرك خاص بها. وقد عاشوا لعدة سنوات كإتجاه دائم داخل الجماعة المونوفيزية، أكثر من كونهم طائفة منفصلة. وهكذا توازى هؤلاء الذين لم يذهب بطرس من أجلهم بعيداً بالقدر الكاف، بهؤلاء الذين ذهب من أجلهم بعيدا جداً، أى البريتوريين الباقين ، وقد أصبح البعض منهم الآن إنفصالياً فى الإسكندرية.
ومع ذلك فقد كان معظم مصر يؤيد بطرس وسياسته المينوفيزية الأساسية، وقد دفع الإمبراطور زينو وخلفه أنستاسيوس( 491-518م)، بعقيدة الهينوتيكون أكثر فأكثر إلى المعنى المينوفيزيتى، لكن أساقفة القنسطنطينية قد وقفوا دون أى رفض إيجابى لعقيدة خلقدونية. مات بطرس فى سنة 490م. كان خلفاؤه المباشرون غامضين فى التاريخ، لإن موقفهم كان ثابتاً لدرجة لم تحدث معه أى أحداث بارزة فى الإسكندرية. وهناك إغراء بأن نسمى أثناسيوس الثانى، و يوحنا الأول والثانى، وديسقوروس الثانى، رجالاً صغاراً كانوا يحملون أسماءً كبيرة، ولكنا لانعرف عنهم الكثير. كان يوحنا الثانى، الذى أصبح بطريرك فى سنة 507م، راهباً من نقيوس فى الدلتا، ومن ثم فقد كان يمثل إنقطاعاً فى تسلسل سيطرة رجال الدين السكندريين، وربما كان يُظهر أيضاً التأثير المتزايد للعنصر القبطى فى الكنيسة. وقد بذل جهداً كبيرا لتأمين إدانة محددة لخلقدونية من القنسطنطينية، ولكن عندما فشلت محاولته تلك فقد ظل على تواصل مع الأسقفية الإمبراطورية، ولو بقلب غير مخلص.
وتعكس أحداث أسقفية ديسقوروس الثانى، وهو إبن أخ تيموثى أليروس ، موقف المونوفيزية بصفتها الكنيسة الرسمية فى مصر. كان تنصيبه أسقفاً قد تم سنة 517م، تحت رعاية السلطات الرومانية المدنية، ولكن عندما إعترض الناس على ذلك، فقد تم تنصيبه مرة أخرى من خلال مراسم كنسية مصرية بدون حضور السلطات الإمبراطورية. توالت الإضطرابات وتطورت إلى إعتراضات سياسية، وأحداث شغب قُتل فيها ثيودوسيوس القيصرى. ذهب ديسقوروس الثانى إلى القنسطنطينية مع بعثة من الرهبان للشفاعة فى المدينة. كانت مثل تلك التدخلات المدنية هى أبرز وربما أنبل وظائف الأسقف البيزنطى، ويمكن هنا أن نتذكر الحالة التقليدية لفلافيان الأنطاكى، والذى كان غيابه فى بعثة مماثلة إلى القنسطنطينية سنة 386م، هو مناسبة عظات كريسيستوم الشهيرة عن التماثيل. وبوقت قصير بعد هذه الحادثة وصل زائر ودود من الغرب إلى الإسكندرية هو مكسيميان الرافايينى، الأسقف الإمبراطورى المستقبلى، الذى تكلم عن العادات التمردية للسكندريين، وعن الأسقف الشجاع الذى كان على إستعداد لإن يضحى بحياته من أجل شعبه. كان هناك حوالى أربعين حالة إعدام، ولكن مهمة الأسقف نجحت فى تجنيب المدينة أى عقاب جماعى محتمل، ومع ذلك فقد كان الناس يصيحون مستهزأين بديسقوروس فى شوارع القنسطنطينية، بسبب إعتقادهم أنه قد جاء للترويج للقضية المونوفيزية. عاد ديسقوروس مسرعاً إلى ألإسكندرية حيث أعاد ضم كثير من طائفة عديمى الرأس إلى الكنيسة. ثم خلفه تيموثى الثالث( 517- 535م)، الذى إمتدحه ماكسيميان على إدارته الممتازة.
ورغم أنهم قد بدوا كشخصيات غامضة على صفحات التاريخ، فإن هؤلاء الأساقفة كانوا ذا أهمية فى عصورهم ، كانوا رؤساء لمؤسسة كنسية ظلت متماسكة فى مصر،وشخصيات ذات تأثير فى الشئون العامة للكنيسة الشرقية. وصلت المونوفيزية إلى أقصى تأثير لها فى الأيام التالية للإمبراطور أنستاسيوس، عندما أصبح سفيروس أقوى ثيولوجى الحزب المونوفيزيتى بطريرك لأنطاكية فى السنوات 512(-518م، فمن المؤكد أن المونوفيزية كانت تستحوذ فى ذلك الوقت على الإسكندرية وأنطاكية، وكانت المعارضة لها قد خمدت فى القنسطنطينية وأورشليم. وهكذا أسست سياسة الإمبراطور زينو إتحاداً غير مستقر فى الكنيسة الشرقية، على حساب المعارضة الدائمة لروما. ولكن حتى فى عهد أنستاسيوس فقد فُتحت المفاوضات من أجل إعادة الإتحاد مع روما، وحتى الممثلين الرسميين لبطريرك الإسكندرية فى العاصمة قد قاموا بإيماءة فى ذلك الإتجاه، مقترحين على البابا أنستاسيوس فى روما(515-517م) أن بعض شرح كتاب ليو ربما يجعل ذلك أكثر قبولاً للشرق. كان منظورهم عن العالم الكنسى مختلفا ًعلى البسفور من ذلك المنظور الذى كان على النيل. كانت التسوية الرسمية مازلت قائمة فى العالم الإغريقى، ولكن الإضطراب المتزايد فى القنسطنطينية والجزء الغربى من الإمبراطورية بدأ يعبر عن تداعى تلك التسوية.
وأثناء تلك السنين كانت مصر تشق طريقها الخاص فى أمور أخرى أيضاً، عدا الأمور الكنسية. وربما كان تعامل زينو مع بطرس مونجوس، جزءً من محاولة لكسب مودة مصر من خلال منحها قدراً كبيراً من الإستقلال، ويبدو أنه كان فى حكمه أن أهملت دعاوى التقسيم التام لمصر إلى بلديات. عاد التقسيم القديم فى نومات إلى الظهور تحت إسم بجاركى، يحكم كل منها بجارك، كان يُختار فى العادة من الوجهاء المحليين. وبإستثناءات عرضية فى الإسكندرية كانت المناصب البلدية العليا فى أيدى مصرية، بما فى ذلك مثل تلك المراكز الهامة، كدوق طيبة والذى أصبح يشرف آنذاك على الإدارة المدنية للمقاطعة أيضاً، وكان يمثل نوع من نائب الإمبراطور على الجنوب. وفى بعض الأحيان كان بعض المصريين يرتفع إلى مناصب ذات اهمية فى الشئون الإمبراطورية، مثل باتريشيان أبيون الذى كان رئيس بعثة أنستاسيوس إلى الفرس فى سنة 503م، والذى كانت قد أهديت إليه واحدة من أعمال سفيروس الخلافية الأولى. أعطى زينو مزيداً من القوة لعلاقاته مع مصر بكرمه مع مؤسساتها، فقد وهب منحة لرهبان سيت وأعطى مقام القديس ميناس، الباهر، رتبة المدينة. وحتى هؤلاء الذين تأسفوا على موقفه الكنسى، فقد ظلوا يذكرونه لفترة طويلة كحاكم خير كريم .
تطورت العلاقات الدولية لمصر فى ذلك الوقت مع الإخوة المونوفيزيين خارجها، وبشكل من الأشكال فقد جعل العداء المشترك للحزب المناوئ، المصريين والسوريين قريبيين لبعضهما البعض عن ذى قبل. وبعد سقوط بروتوريوس بدا أن الخلقدونيين قد إختفوا من سيليا وسيت. وربما يكون ذا مغزى أن المجموعة الإغريقية( أقوال الآباء)، تختتم بمعاصرى المجمع (مجمع خلقدونية سنة 451م). وبدلاً من الإتصالات الإغريقية واللاتينية، أصبح هناك إتصالات متبادلة بين المراكز الديرية المونوفيزية فى مصر وسوريا. وهكذا ذهب راهب بارز من سيت يدعى أشعيا من هناك إلى وادى الأردن، حيث أصبح رئيساً لدير أسسه بالقرب من غزة بعد ذلك، وهناك كان تلميذه المفضل وخليفته هو بطرس المصرى. تحرك بطرس الإيبيرى فى الإتجاه الآخر، وكان واحداً من أوائل سلسلة طويلة من المونوفيزيين الذين أتوا من سوريا إلى مصر، سواء للإستمتاع بإعتزال أكثر هدوءً، أو ليأخذوا دوراً نشطا فى الشئون الكنسية. وفى النهاية أصبح هناك مستعمرات سورية فى الأديرة المصرية، وحتى دير سورى فى سيت ظل محتفظاً بشخصيته الأجنبية لفترة طويلة.
وتعتبر سيرة سفيروس الأنطاكى مثالاً آخر على تلك الإتصالات العالمية، كما أنها تقدم معلومات جانبية مثيرة عن حياة ذلك العصر. كانت عادة القرن الرابع فى تأجيل المعمودية مازلت قائمة فى موطنه بسيديا. ورغم أن سفيروس كان حفيداً لأحد الأساقفة الذين حضروا مجمع إفسوس، فلم يكن قد عُمد بعد عندما حضر ليدرس الفنون الحرة فى الإسكندرية فى العقد التاسع من القرن الخامس. لم يكن مصرع هيباثيا قد قضى على دراسة الفلسفة والأدب فى الإسكندرية، أو حتى إستمرار الوثنية الأدبية فى الدوائر الأكاديمية. كان هناك معلمون وثنيون ومسيحيون فى الإسكندرية ، كانوا يأخذون تلاميذهم فى جولات إلى المعابد السرية، أو إلى الأديرة المجاورة على التوالى. وفى إحدى المناسبات نشب شجار طلابى معقد نتيجة لإهتداء طالب من شاريا كان أخوه الأكبر راهباً فى إيناتون، بينما كان أخويه الأخريين من وجهاء الوثنيين فى بلدهما. وفى ذروة المشكلة حث بطرس مونجوس رهبان ميتانويا، وحشد من الطلاب على الإشتراك فى هجوم على معبد سرى بالقرب من كانوبوس، وبالطبع كانت تلك مسألة خطيرة لكنها حملت بعض مظاهر صخب الطلاب. وإتهم سفيروس بعد ذلك بأنه كان وثنياً فى شبابه، وأنه ربما كان مازال يأخذ وقته لإتخاذ قرار الإهتداء. وقد كذب كاتب سيرته الثرثار، زكريا، ذلك بقوله أن سفيروس قد حضر عظته الأولى، وأنه قد هلل لها إستحساناً بصوت مرتفع ، رغم أن ذلك ليس مؤكداً تماماً. ومضى سفيروس ليبدأ دراسة القانون فى بيروت، وبينما كان هناك إعتنق كل من المسيحية والحياة الديرية، وقد أدت قدراته الفكرية والعملية، إلى إستدعائه من ديره الفلسطينى ليخدم القضية المونوفيزية فى القنسطنطينية، ومن هناك تم إختياره لأسقفية أنطاكية سنة 512م.
قدمت لنا الوثائق المنشورة مؤخراً لمحة عن الحياة الداخلية للنظام الديرى الباخومى حوالى ذلك الوقت، ففى حوالى سنة 509م أو 524م، كان أبا أندرو، مندوب جورج رئيس دير ميتانويا، فى طريقه صاعداً فى النيل. و من الواضح أن أندرو المذكور كان راهباً عجوزاً، لإنه كان ينادى جورج بصفته إبنه الروحى وبصفته رئيسه فى نفس الوقت. وقد قدم تقريراً عن سوء إدارة أبا جيرميا فى دير ستراتونيكيس، فأثناء السنة الماضية كان جيرميا قد أوقع هذا الدير فى الديون بقدر هائل، وبناء على ذلك قام أندرو وكونت يدعى جون ، وكان صديقا علمانياً للنظام، وربما كان راعياً للدير، بالتحقيق فى تلك المسألة. كتب أندرو من دير أفروديتو ، الذى ربما كان يقع بالقرب من بابليون، وإنتهز إثنان من رهبان الدير هذه الفرصة ليضمنوا رسائل بالتحيات الشخصية لجورج بصفته أبيهم الروحى. وأضاف أحدهم أيضا تحيات إلى الأب المشترك والأم المشتركة، والذي من الواضح أنهما كانا الرئيسين العامين لأديرة النظام الباخومى، و كانا فى كانوبوس فى ذلك الوقت. وكا لاحظ الناشرون، فإن رئيس دير ميتانويا يبدو وكأنه نوع من الرئيس الإقليمى لشمال مصر، أو ربما للأديرة التى تأسست بواسطة مقره. وتدل العلاقات الشخصية المتداخلة أن اللمسة الشخصية التى خفف بها باخوميوس وخلفاؤه المباشرون من شدتهم، كانت مازلت قائمة فى النظام بعد حوالى قرنين من تأسيسه. وتسجل الوثائق من قرية أخرى من أفروديتو فى إقلم طيبة وجهاً آخر من عمل دير ميتانويا، فقد تمتع بمنحة كريمة من الحبوب من مداخيل أفروديتو، والتى ربما كانت هبة أخرى من هبات زينو، وقد حصلها الدير على قواربه الخاصة من خلال مشرفين رهبان. كان القبطى العادى فى ذلك الزمن يجد فى التعلق بقديسى وشهداء الكنيسة المبررات التى وجدها أجداده فى عبادة آلهتهم. كانت حياة القديسين الأكثر أسطورية هى القصص الشعبى للأقباط، وكانت تعنى أحيانا ، على الأقل ، التسلية بالإضافة إلى التثقيف. ظهرت التقوى القديمة بوجه جديد فى الأدعية مثل ذلك الذى كُتب على قطعة من ورق البردى :

(آه يارب راعينا القديس فيلوكسينوس ، هل ترغب فى أن نأخذ أنوب إلى مستشفاك؟ إظهر قوتك ودع تلك الدعوة تستجاب).
ويظهر مزج العقائد بشبه العقائد المألوف فى السحر المصرى فى مثل تلك التعاويذ( ساعدنا أيها المسيح ، وهذا المنزل ، آمين).

وهناك نماذج أخرى تبدو مسيحية تماماً فى أسلوب إنشائها، ولكنها شبه سحرية فى إستخدامها كما فى حالة المزمور رقم 91 بوعده فى الحماية الإلهية، الذى كتب على شكل تعويذة أو نص من نصوص العهد الجديد عن القدرة الشفائية للمسيح، وقد إستخدم لأغراض مماثلة مختلطة بتوسلات القديسين والأدعية الخاصة. وفى قطعة بردى هامة كُتبت عن يسوع وهو يشفى كل مرض بعناية فى شكل سلسلة من الصلبان بعنوان (إنجيل الشفاء).
وبذلك أصبح مقام القديس ميناس قبلة العالم القديم، وأصبحت مياه نبعه المقدس تُعبأ فى زجاجات خاصة، وجدت فى أماكن عديدة. وقد كشفت حفائر مدينة القديس ميناس عن ورش تلك الصناعات الدينية بالإضافة إلى الكنيسة ونبعها، رغم أنه لم يبقى شئ من تمثال ميناس والجمل المرتبط بأسطورته، والتى ظلت تبهر زوار المكان حتى زمن متقدم فى العصور الوسطى. ومن الآثار اللطيفة التى وجدت فى ذلك الموقع ، والتى ربما كانت تمثل هدايا تباع لحجاج أو زوار ذلك المكان ، نجد عصا غزل نُقش عليها عبارة( فلتكن بركات القديس ميناس معك أيتها المرأة الجميلة).
لم يكن لدى كنيسة القرن السادس إعتراض على مثل تلك الأشكال من التدين، ولكنها كانت مدركة لمخاطر سوء إستعمالها، ومن المؤكد أنها لم ترغب فى أن تصبح تلك الأشكال الإستثنائية من العبادة هى المحتوى الكلى لها. كانت العظات التى توزع باللغة القبطية فى الغالب عبارة عن ترجمات، أو ترجمات مزعومة من أصول إغريقية، ومن ثم فقد كانت تفتقد إلى التطابق الفورى مع الموقف الفعلى التى يمكن أن نجدها فى أعمال شنودة مثلاً. ولكن معظمها كان يُمثل تفسيرات بسيطة للكتاب المقدس، وإلتماسات صادقة لإطاعة القانون الأخلاقى والحياة المنضبطة فى صحبة الكنيسة. ومن ثم نجد عظة منسوبة إلى أثناسيوس تفسر القصة الرمزية للعمال فى كرم العنب، على أنهم يمثلون تاريخ شعب الله وعلى أنها تؤدى إلى توسل من أجل الصعود إلى سفينة الخلاص. إن المجدافين الموجهين لهذه السفينة هما العهد القديم والعهد الجديد، وصاريها هو الصليب، ودفتها أيادى ترتفع بالدعاء، وشراعها هو قوة الله، ويقف الأساقفة على المجدافين الموجهين ومعهم يسوع على مقبض الدفة ، ورجال الكنيسة هم البحارة، والركاب هم المؤمنيين من الناس، أما الجهة فهى أورشليم الجديدة. وتنعكس الإهتمامات العملية لكنيسة الإسكندرية فى الشفاعات التى تُمثل جزًءً كبيراً من صلاة العشاء الأخير لطقس القديس مرقس، والذى ربما يكون قد أخذ شكله النهائى فى القرن الخامس.
إن الدعاء للمسافرين بالبحر أو البر أو النهر أو البحيرة، وكذلك تقديم الصلوات من أجل المطر أو الفيضان الخير لهى أمور عقائدية مصرية مميزة. وبنفس الشكل تميزت العقيدة السكندرية بالدعاء للإمبراطور والجيش والحكام والمجالس والأطفال والجيران. وفى الظروف المتغيرة للقربان الكنسى، كان يمكن للخلقدونيين أو المونوفيزيين أن يدعوا للمدينة المقدسة والمدينة الملكية، بالإضافة إلى مدينتهم الخاصة، وأحيانا يكون هناك مكان للدعاء للإمبراطور أيضاً بأن يظل قلبه متعلقا بالكنيسة. وقد سجُلت طبقات الكنيسة فى القرن الرابع والخامس إلى (أساقفة وكهنة وشمامسة وشمامسة مساعدين وقراء ومنشدين ورهبان وعذارى دائمين راهبات) وأرامل وأناس عاديين).
وبصعود جستين إلى الإمبراطورية فى سنة( 518 -527م)، تغير الموقف الكنسى العام. كان الإمبراطور الجديد جندياً قديماً فترك شئون الكنيسة إلى إبن أخيه المثقف جستنيان، والذى بدأ على الفور سياسة الإتجاه نحو الغرب. أُعلنت عقيدة خلقدونية وسط حماس شعبى فى القنسطنطينية، وفُرض قبولها فى معظم أنحاء الإمبراطورية. هرب سفيروس من أنطاكية ولجأ مع آخرين من المونوفيزيين المخلصين إلى مصر، الذى جعلها ولائها الشديد لبطريركها بندقة من الصعب كسرها، فُترك البطريرك الجديد تيموثى الثالث وشأنه. كان تيموثى فى ذلك الوقت هو البطريرك المونوفيزيتى الوحيد المسيطر على أسقفيته ولكنه لم يعد، مثل سلفه، شخصية قائدة فى طائفة عالمية يعترف بها الإمبراطور. وفى سنة 519م، أعيد توحيد كنيستى القنسطنطينية وروما، وإقترح البابا هورميسداس أن مندوبه ، الشماس ديسقوروس، الذى كان جستنيان يفكر فى إرساله إلى أنطاكية، قد يكون مرشحاً أفضل لأسقفية الإسكندرية لإنها كانت موطنه الأصلى، ولإنه كان قد خدم هناك ويعرفها جيداً. ربما كان ديسقوروس قد حضر إلى إيطاليا قبل نحو ثلاثين عاما مع جون تاليا، أو ربما كان مرتبطاً بالمندوبين السكندريين فى القنسطنطينية، والذين كان قد تطور لديهم مشاعر موالية للغرب مؤخراً.
ولكن حتى وفاة تيموثى فى 535م، كانت كنيسة الإسكندرية قد تُركت فى سلام. ومع ذلك فقد أدخل اللاجئون، بذلك الميل إلى الإنشقاق الموجود دائما بين المنفيين، إلى مصر إنشقاقات بين المونوفيزيين، كانت البلاد خالية منها حتى ذلك الوقت. كان سفيروس الأنطاكى أعظم ثيولوجى مايمكن أن نسميه الأرثوذوكسية المونوفيزية، والتى كانت تتحدث دائماً عن إتحاد الله والإنسان فى المسيح بنفس الأسلوب، الذى كان يستخدمه أتباع خلقدونية، بإستثناء إعتقاد ثابت أن عبارة( فى طبيعتين) كانت أسلوب غير مناسب للتعبير عن ذلك الإعتقاد.كان ديسقورس فى منفاه يتبعه تيموثى أليروس، قد حدد المبادئ التى طورها سفيروس بالتفاصيل ( فالمسيح من نفس مادة الأب كإله، ومن نفس مادتنا كإنسان، ولكن الإنسانية التى يفترضها قد إتحدت مع الإلوهية فى شخص واحد وطبيعة واحدة) وهى مصطلحات لم يقدم هؤلاء الثيولوجيون أى تمييزات عملية بينها. وقد كتب سفيروس وهو يعلن لجون الثانى السكندرى توليه أسقفية أنطاكية( فنحن نلعن هؤلاء الذين يقولون، وبعد ذلك الإتحاد الذى لايمكن وصفه، أن ربنا يسوع المسيح هو من طبيعتين). ومع ذلك فإن المدرسة السيفيرية كانت مازلت تؤكد على ان المسيح قد أصبح إنسانا كاملاً ، مجرداً فقط من الخطيئة. وبالنسبة لآخرين بدا أكثر منطقية أن يقال أن الإنسانية التى شكلت طبيعة واحدة مع الإلوهية لابد أنها قد أستثنت من القيود الإنسانية أيضاً ، فما كان يمكن لها أن تخضع لتلف الجنس البشرى، رغم أنه ومن خلال تجديد أفعاله التفضلية، فقد تكرم المسيح بالجوع والعطش من أجلنا. ولذا فما كان يمكن أن يكون جسده المقدس ، وبحكم الطبيعة، عرضة لتحلل القبر حيث أُنقذ من ذلك ، وكما إتفق الحزبان فى الواقع ، بواسطة قيامته من الموت. كان قائد هذه المدرسة هو جوليان الهاليكارناسى. وهكذا فبالنسبة للجوليانيين فقد كان السفيريون يعبدون مخلصاً قابلاً للتلف، ومن ثم فقد كانوا يوصفون( بعباد التالف)، وبالنسبة للسفيريين فقد كان الحزب الآخر يحول إنسانية المسيح ، ولو بمهارة، إلى مجرد مظهر، ومن ثم فقد كان من الممكن أن يسموا بالخياليين.
وبدا أن الخلاف بين سفيروس وخلقدونية أخذ يقلل من نفسه إلى تمييز صغير، والذى مثله ومثل الخلاف الآريوسى عند مرحلة معينة، كان يمكن التعبير عنه بحرف واحد. وكما لاحظ مؤرخ من القرن السادس، فقد إختلف الحزبان حول إذا ماكان المسيح من طبيعتين، أو فى طبيعتين، حيث أن كل عبارة قد تضمنت العبارة الأخرى. أما المفسرين المحدثين فقد خلصوا بالمثل إلى أن المونوفيزية السيفيرية، كانت فقط مختلفة قليلاً فى التعبير عن العقيدة الأرثوذكسية (الخلقدونية)، أو أن المونوفيزية لم تكن بشكل عام هرطقة بالفعل، ولكنها كانت هدف إنفصالى. فمن المؤكد أن سفيروس كان قريبا للغاية، فكريا، من معاصريه الخلقدونيين الجدد مثل ليونتيوس البيزنطى، والذى وازن الثيولوجيا الليونية عن الطبيعتين فى المسيح، بتحليل إضافى عن طبيعة الإتحاد بين الله والإنسان. والواقع أن سفيروس وليونتيوس ربما كانا متعاونيين فى العمل الثيولوجى لذلك العصر، ومع ذلك فقد كان سفيروس نصيراً مخلصاً عنيفاً للحزب المونوفيزى، وكان يشعر ببعض الضيق بالإعتراف بأنه فى أيام أنستاسيوس كان قد إنضم إلى طائفة بعض الكنائس، التى لم تكن قد رفضت خلقدونية وكل أعمالها صراحة. ورغم ذكاء موقف المدرسة المونوفيزية، فما كان يمكن إنكار أنها حزب معارض للخلقدونية. ومع ذلك فقد كان يبدو دائماً أن هناك إنقسام أوضح بين سفيروس وجوليان، أكثر مما يوجد بين سفيروس ومعارضيه الخلقدونيين، ولكن ظل الإصرار المونوفيزيتى فى التأكيد على إتحاد الله بالإنسان، وعدم ذكر أى إزدواجية فيه تميل إلى دفع كل المونوفيزيين فى الإتجاه الذى أصبحت فيه الجوليانية هى النتيجة الطبيعية. وقد يعتقد البعض أن المسيحية الإغريقية كان لديها ميل طبيعى فى هذا الإتجاه فى كل الأحوال، وأن فقط الصياغة المستعصية( فى طبيعتين) والحس السليم القوى للثيولوجيا الرومانية ومدرسة أنطاكية القديمة قد منعت شيئاً مثل الجوليانية أو، على الأقل، شكلا من المونوفيزية، لإن يصبح هو الموقف العام للكنيسة الشرقية. ومن المؤكد أن الجوليانيين كان يمكن أن يجدوا إستباقاً لبعض أفكارهم عند كيرلس وأثناسيوس، وفى الآباء المصريين الأقدم حتى كليمنت السكندرى. وكما لاحظ معلق معاصر(يمكن لنا أن نفهم كيف أن المعطيات الإجمالية التى شكلت أثبت أساس لمدرسة لاهوت مدرسة أنطاكية عن طبيعة المسيح، قد قدمت نفسها ، إلى درجة ما ، إلى أساتذة مدرسة الإسكندرية بصفتها صعوبات تتطلب حلاً).

( يمكن تلخيص الفرق بين أفكار سفيروس وأفكار جوليان بأن سفيروس وبرغم إيمانه بإتحاد الله والمسيح فى طبيعة واحدة، قد ظل يؤكد على تمام طبيعة المسيح البشرية وهو فى ذلك لايختلف كثيراً عن الخلقدونيين، بينا كان جوليان يرى أنه بإنحاد الله والمسيح كان من الطبيعى أن تذوب الطبيعة البشرية فى الطبيعةالإلهية فى نهاية الأمر).

وحتى مسيح سفيروس فقد كان يبدو أحياناً أنه ليس إنساناً حقاً، ولكن ككائن إلهى يؤدى سلسلة من الأعمال الإنسانية، وهو الموقف الذى طوره جوليان بشكل أكثر ترابطاً. ورغم أن تعاليم سفيروس أصبحت هى الأرثوذكسية الرسمية للكنيسة القبطية، فإن الموقف الجوليانى ظل له جاذبيته فى الدوائر المونوفيزية. وهكذا نجد مؤرخ قبطى من القرن السابع، كان يعتقد انه من أتباع ثيودوسيوس تلميذ سفيروس، يحتفظ فى الواقع بالموقفين ويضع نفسه على الجانب الجوليانى. لقد كان هناك إحياء غريب لهذه الخلافات فى العصر الحديث فى الكنيسةالإثيوبية، ففى سنة 1690م، عُقد مجمع عن نفس الموضوع، وبعد ثلاثين سنة من ذلك التاريخ صدر إعلان بمثابة إعتراف إمبراطورى على بوابة قصر الإمبراطور فى جوندار أن العقيدة الحقيقية تقول بأن :

( إله كامل وإنسان كامل وبالإتحاد مسيح واحد، يتكون جسده من مادة نفيسة تسمى الباهرى ليست من نفس طبيعة مادتنا أو مشتقة من طبيعة أمه ).
وبالكاد أكثر أرثوذكسية كان الإيمان المنافس الذى قبل به أبونا القبطى ( إله واحد من الأب فقط ، متحدا بجسد إنسانياً تماماً ، من نفس مادتنا ، وبذلك الإتحاد أصبح مسيحاً ).
كان كلا من سفيروس وجوليان مفكريين دينيين إغريق، وقد جعلت حادثة نفيهما فقط من خلافاهما حادثة فى تاريخ كنيسة الإسكندرية. وقد بدأ جدلهما عندما كان كلاهما ضيفاً فى دير إيناتون. وبمجرد أن نشب ذلك الخلاف فقد أثار مشاعر لم يكن فى إستطاعة الأسقف تيموثى الثالث، أو لم يكن ضمن إهتمامه، تهدئتها. وقبل مضى وقت طويل أصبحت الجوليانية هى عقيدة الراهب العادى ورجل الشارع العادى. وغلب الجوليانيون على المستوطنات الديرية فى سيت، وإضطر سفيروس لإستخدام نفوذه مع الدوق أريستوماكوس للحصول على تصريح لرهبان مدرسته لإقامة كنائس وأبراج ملاجئ، والتى كانت فى ذلك الوقت هى المبانى الدائمة الوحيدة لجماعة ديرية مصرية. وفى سنواته الأخيرة كانت المقرات الرئيسية لسفيروس فى مصر تقع فى منطقة إكسيوس فى الدلتا، حيث كان رجل علمانى يسمى دوروثيوس يحميه هو ورهبان مدرسته. أصبح سفيروس يقيم آنذاك فى منزله فى الإسكندرية أقل مما يقيم فى القنسطنطينية، حيث شارك فى العديد من المفاوضات شبه الرسمية بين المونوفيزيين ومندوبى الإمبراطور.أصبح جستنيان إمبراطوراً فى سنة (527- 565م)، وشرع فى مباشرة السياسة الغامضة التى إستمرت خلال حكمه بتأييد خلقدونية، ولكن مع الإستمرار فى محاولة بعض التفاهم مع المونوفيزيين فى نفس الوقت. كانت زوجته ثيودورا، وحتى وفاتها فى سنة 548م، هى وكيل الإتصالات المونوفيزية، ويبدو من الأكثر مناسبة أن نفترض أنه كان هناك بعض التفاهم بين الزوجين الإمبراطورين عن إفتراض أن ثيودورا كانت تعمل فى تعارض حقيقى مع زوجها، رغم أنها ربما كانت تعبر عن أفضلياتها أيضا. ولم تتغير السياسة كثيراً بعد وفاتها مما يدل على أن جستنيان نفسه، على الأقل - كان يرى مميزات فى أن يظل على إتصال بالطرفين.
عبرت الجوليانية السكندرية والكنيسة المصرية عن نفور شعبى من تأثير العناصر الكنسية والعلمانية، التى كان لها إتصالات قريبة مشبوهة مع بلاط القنسطنطينية. ظهر الإنقسام علانية بعد وفاة تيموثى الثالث سنة 535م. كان كلوتيشيوس، أحد حجاب ثيودورا، فى موقف يسمح له بالحث على إختيار خليفة له يناسب الإمبراطورة، وربما يناسب زوجها أيضاً. شارك الحاكم ديسقوروس والدوق أريستوماكوس والوجهاء ورجال الكنيسة فى إختيار الشماس ثيودوسيوس، الذى كان تلميذاً لسفيروس فى الثيولوجيا. ولكنه عندما ظهر أمام الجمهور ليدير مأتم سلفه، ويضع نفسه على العرش الأسقفى بأخذ طيلسان القديس مرقس من عنق البطريرك الراحل، حدثت ضجة بين الجمهور. أصبجت الجوليانية هى شعار الإعتراض الوطنى، وتم تنصيب رئيس الشمامسة جاينوس، بتأييد مابدا كأنه قائمة بكل العناصر فى المجتمع المصرى، كبعض رجال الكنيسة وملاك أراضى المدينة والطوائف المهنية والجنود والنبلاء وكل الولاية.
ومع ذلك فقد كان إنتصاره قصير العمر. وصلت قوات من القنسطنطينية تحت قيادة الجنرال نارسيس، وبعد بعض المعارك العنيفة فى شوارع الإسكندرية، حيث كانت حتى النساء تلقى فيها بالأحجار من فوق الأسطح ، تم رد ثيودوسيوس ونُفى جانيوس إلى سردينيا.
لم يخرج أحد من ذلك الأمر بكثير من المجد أو الفائدة سوى نارسيس ، فقد نال على الأقل مجد ذلك الإنتصار العسكرى فى الإسكندرية، ولكن مهما كان للمونوفيزيين من مصالح سرية فى القصر الإمبراطورى فى القنسطنطينية، فقد كان هناك شئ غير طبيعى عن القوة الإمبراطورية وهى تُفرض على كنيسة، يعتبرها الإمبراطور مهرطقة، بطريرك يُمثل أقل أشكال هرطقتها شعبية ( يعنى الشكل السفيرى حيث كان الشكل الجوليانى أكثر شعبية). ولكن فقد كان جستنيان آنذاك فى منتصف عقده العظيم فى إحياء الإمبراطورية الرومانية الأرثوذكسية. كان قد أعاد إسترداد أفريقيا لتوه، وكانت محاولة إستعادة غزوإيطاليا قد بدأت بنجاح وتم إرساء السلام على الحدود الشرقية، كما كان يجرى الإعداد لإصدار المجموعة الضخمة للقانون الرومانى، وبالمثل كان ذلك البناء العظيم لكنيسة الحكمة يرتفع على ضفاف البسفور فى خرائب الكنيسة الأولى التى دُمرت فى ثورة نيقيا سنة 532م. ماذا كان أكثر طبيعية من أن تُخرج الأمور فى مصر من حالة الفوضى التى كانت قد سقطت فيها ، إبتداءً بتنصيب بطريرك أرثوذكسى فى الإسكندرية؟.

( يقصد بطريرك مونوفيزيتى سفيرى يقترب فى رؤياه مع الخلقدونيين، ولذا يمكن إعتباره أرثوذكسى وذلك بعكس الجوليانيين الذين تختلف رؤيتهم أو لاهوتهم كثيراً عن عقيدة خلقدونية).

لم يكن لدى ثيودوسيوس أى تأييد فى ذلك الوقت سوى الجيوش الإمبراطورية، وكان من الصعب أن يرفض دعوة للعودة إلى القنسطنطينية. ويذكر التاريخ أنه قد عُرض عليه الإعتراف به كبطريرك بتأييد إمبراطورى كامل إذا ماقبل عقيدة خلقدونية. وليس من المستحيل أن يكون مثل ذلك العرض قد تم، لكن لم يكن من شأن ذلك أن يمثل تغيير ثيولوجى كبير، أما سياسياً فربما كان يبدو تحولاً طبيعياً، وقد قامت به أسرة واحدة على الأقل من الوجهاء المصريين. ففى سنة 533م قدم النبيل ستراتيجوس إبن آبيون ، ببساطة، تحول عائلته إلى العقيدة الإمبراطورية، كمثال لمجموعة من الأساقفة السوريين الذين كانوا قد أحضروا إلى القنسطنطينية لمؤتمر ثيولوجى حيث قال لهم :

( أنتم أنفسكم تعرفون أن أبى آبيوس ذو الذكرى المجيدة، وهو نفسه مواطن بولاية مصر وأحد أتباع طائفتكم وطائفة السكندريين، قد تردد فى الإتصال بالكنيسة العظيمة المقدسة التى أسست فى تلك المدينة، ولكن الأباطرة عظيمى التقوى والإيمان قد أقنعوه بجدل أن الأساقفة الأكثر تبجيلاً ، والذين كانوا قد إجتمعوا فى خلقدونية، لم ينقلوا لنا أى عقيدة أو إيمان آخر أكثر من ذلك الذى كان قد إتفق عليه فى نيقية والقنسطنطينية وإفسوس، وأيضاً فقد أقاموا الإيمان وأدانوا نسطوريوس وإيتوتيتش اللذان كانا يدخلان هرطقات جديدة ، وبعد إقتناعه بذلك فقد تواصل مع الكنيسة المقدسة).

عانى أبيون من الخزى والعار خلال السنوات الأخيرة من ولاية أنستاسيوس، وهكذا كان كل المستعدين للإصغاء إلى إقناع المبشرين الإمبراطوريين فى سنة 518م. كان أبيون قد إحتل هو وإبنه وحفيده مناصب هامة فى أثناء حكم جستن وجستنيان، و بنوا لأنفسهم ممتلكات فى مصر. ومع ذلك فلم يكن من الممكن توقع ليونة مماثلة من أساقفة ملتزمين بمواقفهم، ورفض ثيودوسيوس مثل تلك الإغراءات. شهدت سنة 536م كثيراً من القدوم والخروج لرجال الكنيسة فى القنسطنطينية. ففى بداية السنة حضر سفيروس للإجتماع بثيولوجى الإمبراطور، وبدلاً من أن يهدونه هدى هو البطريرك أنثيموس إلى المونوفيزية، ومن ثم شرع أنثيموس فى تبادل خطابات الطائفة مع سفيروس وثيودوسيوس. ولكن فى الربيع وصل البابا على رأس بعثة من الملك القوطى فى إيطاليا، وشارك فى عزل أنثيموس وإقامة خلفه ميناس، ثم مات بعد ذلك بفترة قصيرة فى 22 إبريل. وعقد ميناس، الذى كان مؤيداً مخلصاً لسياسة جستنيان الرسمية ، مجمعاً فى القنسطنطينية، أعاد فيه تأكيد إدانة قيادات المونوفيزيين. وإنسحب سفيروس إلى معتزله فى مصر متبوعاً بقرار بالنفى. وبنهاية السنة وصل ثيودوسيوس من الإسكندرية.، ولبعض الوقت تم إحتجازه فى قرية ديركون فى أعالى البسفور، ولكنه مالبث أن ظهر بين مونوفيزيى بلاط ثيودورا، وبدأ منفاه المريح فى القنسطنطينية، والذى إستمر لبقية حياته.
وفى ذلك الوقت أصبح واضحاً أن شعار( لاعبث فى الإسكندرية)، قد أصبح هو شعار سياسة الإمبراطور. كان بولس الباخومى، رئيس دير كانوبوس، فى القنسطنطينية بصدد نزاع مع رهبانه، فقبل الترتيبات التى رفضها ثيودوسيوس. وهكذا وبعد خمسين سنة أصبح هناك مرة أخرى مرشح خلقدونى مصرى لأسقفية الإسكندرية. لم يمكن تنصيب بولس فى كنيسته نفسها ، كما كان يجب أن يكون ، ولكن الإحتفال قد جُعل، وبقدر الإمكان ، كعمل من أعمال الكنيسة العالمية. ترأس ميناس القداس و حضر الإحتفال المندوب الرومانى ومندوبا كنيستا أنطاكية وأورشليم . وهكذا ، وكما ظل الأقباط يتذكرون لزمن طويل ، أصبح من المعتاد منذ ذلك الوقت أن يُرسم بطاركة الإسكندرية الخلقدونيين أو الملكانيين خارج مصر( نسبة للمذهب الملكى أو الإمبراطورى المؤيد لعقيدة خلقدونية)، ثم يرسلوا إلى مصر مما يعلن الحقيقة العملية بأنهم كانوا ممثلين لقوة أجنبية.
مثل بولس خيبة أمل لحماته. فقد إستطاع السيطرة على الكنائس الرئيسية فى الإسكندرية، ولكن ظل المونوفيزيون يسيطرون على الكنائس القديمة، كما ، قاموا ببناء كنائس جديدة فى المناطق الأكثر مصرية فى المدينة، مثل كنيسة المبشر بمنطقة السيرابيوم وكنيستا القديس كوزماس والقديس دميان. كان بولس قاسياً ظالماً ولم يستطع كسب أى تأييد شعبى، كما لم يستطع توظيف السلطات الهائلة التى مُنحت له بإزاحة أو الأمر بإزاحة المسئولين المدنيين الذين لايتعاونون معه. وقد أراد العمل ضد القائد العسكرى دوق مصر المدعو إلياس. أرسل الشماس سيوس، المشرف على كنيسة الإسكندرية، خطاب تحذير باللغة القبطية إلى إلياس لكن الخطاب وقع فى يد بولس، الذى ربما يكون سيوس قد نسى أنه كان مصرياً أيضاً. قرأ بولس الخطاب وبناء على طلبه قُبض على سيوس وأودع فى سجن الحاكم حيث مات قتلاً أو نتيجة للتعذيب. كانت نتيجة تلك الفضيحة هى سقوط كل المسئولين المعنيين، سواء المدنيين أو الكنسيين. وعُزل بولس سنة 539م، بواسطة مجلس أو ربما بمحكمة كنسية عُقدت فى غزة فى فلسطين برئاسة المندوب بيلاجيوس، وبمساعدة بطريرك أنطاكية ومندوبى القنسطنطينية والأسقفيات الشرقية الأخرى، وهو نفس نوع التجمع الذى كان قد نصبه أسقفاً.
كان خلف بولس راهباً فلسطينياً يدعى زويلوس، والذى كان أكثر مناسبة منه، ولكن ليس أكثر نجاحاً بدرجة ملحوظة. وقد وصل إلى الإسكندرية فى صحبة حراسة مسلحة وتمكن من البقاء هناك لعدة سنوات، ولكن بعد سنة 540م بدأ الإمبراطور جستنيان محاولة جديدة لمصالحة المونوفيزيين، أو على الأقل بعض منهم، وذلك بإدانة ثلاثة ممثلين مشهورين من الجانب الآخر، هم أودور معلم نسطوريوس، وبعض كتابات ثيودوريت، وإيباس خصمى كيرلس، والذى كان قد أعيد له الإعتبار شخصياً فى خلقدونية. أما الخلاف الخاص بما عرف (بالفصول الثلاثة )، فقد أثر فى الكنيسة المصرية بشكل غير مباشر فقط. ولم تدرك الدوائر المونوفيزية تماماً فكرة أنه كان هناك محاولة لتقديم تنازل لها ، فبين الأقباط كان قد سُمع فقط إشاعة تقول بأن جستنيان كان يصلح بعض أخطائه رغم أنه قد ظل خلقدونياً. تذبذب زويلوس حول(الفصول الثلاثة)، وكذلك كان فيجيليوس الرومانى، وفى النهاية رفض قبول المرسوم الإمبراطورى وهكذا، وبعد أن جُرد من تأييد الجانبين ، أُجبر على أن ينسحب من الإسكندرية فى سنة 546م، وبعد خمس سنوات من ذلك التاريخ، وبينما كانت الإستعدادات تجرى من أجل إدانة الفصول الثلاثة فى مجمع عام أزيح زوليوس من منصبه، أو ربما أُمر بأن يستقيل بموجب أمر إمبراطورى بسيط ، والذى لم يكن من خيار أمام، فى أى من الحالتين، سوى قبوله.
كان أبوليناريس، خلف زويلوس ، مثل غيره من رجال الكنيسة الإمبراطوريين فى ذلك العصر، موظفاً مدنياً سابقاً أو ربما جندياُ. كان إهتمامه الأول هوأن يشارك بصفة بطريرك الإسكندرية فى مؤتمر القنسطنطينية، الذى أدان الفصول الثلاثة سنة 553م. وقد ظلت روايات غريبة مختلفة عن سلوكه فى الإسكندرية، فقد ظل أرثوذكس الجيل التالى يتذكرونه بصفة الأب الطيب أبوليناريس، و تحدثوا بقصص عن أعماله الخيرة، وقد تحدث مؤرخ قبطى لاحق عنه كرجل طيب من جماعتهم تقريباً، ومن ناحية أخرى هناك قصة تروى عن وصوله إلى الإسكندرية بصفته العسكرية، وحشده للناس فى كنيسة حيث خلع ردائه العسكرى، وكشف عن ردائه الكنسى، ثم بدأ يقرأ عليهم عقيدة خلقدونية، وعندما بدأ الناس يعترضون على ذلك أمر بقتلهم جميعاً. ورغم تفاصيلها التى لاتصدق، فربما تعتبر هذه القصة خير تعبير رمزى عن إتحاد القوى الكنسية والعسكرية خلف البطاركة الإمبراطوريين فى ذلك الزمن.
وفى حدود وقت وفاة أبوليناريس سنة 570م، كان الخلقدونيون قد تحكموا تماماً فى الإسكندرية، رغم انهم ربما ظلوا، مع ذلك، أقلية من السكان. أما خارج الإسكندرية فلم يكن حجم تواجدهم معروفاً، ففى الضواحى كانت ميتانويا فى كانوبوس خلقدونية، ولكن إيناتون كانت معقلاً قوياً للمونوفيزيين. وعلى أمل الوصول إلى تفاهم مع رهبان الإسكندرية المونوفيزيين، وجه جستنيان أحد خطاباته الثيولوجية إلى رهبان إيناتون، فى محاولة أخيرة من محاولات عديدة لتقرير العقيدة الخلقدونية فى شكل تصالحى. لكن هذا الشرف لم يسفر عن نتيجة معروفة، ففى إقليم طيبة فرض جستنيان رئيس دير خلقدونى على دير بيبو الباخومى الكبير، وهى حادثة سُجلت فى حياة رئيس الدير السابق وحياة راهب من رهبانه، ممن كانوا قد تركوا الدير معترضين، وأسسوا لأنفسهم مستوطنات ديرية جديدة. ومن الممكن أن يكون ذلك النجاح قد تحقق من خلال تأثير رهبان كانوبوس فى النظام، لكن يبدو أن ذلك لم يدم لوقت طويل، ومن ثم ظهرت ميتانويا وبعض المناطق التابعة لها على الأقل كوحدة مستقلة. وفى مجمع سنة 553م، صاحب أبوليناريس أربعة من رؤساء الأسقفيات المصرية ، ربما إسمياً فقط ، ومع ذلك فقد كان العديد من الأسقفيات مراكزاً للتأثير الإغريقى والرسمى، مثل أنتينوى فى طيبة وبطلمية، سواء تلك التى فى صعيد مصر أو تلك التى فى سيرينا . وربما كان هناك ، على الأقل ، تجمعات خلقدونية فى مثل تلك الأماكن. وفى مناسبة أخرى إستدعى أبوليناريس بسرعة ثلاثة رهبان من جبل سيناء، ليكونوا أساقفة لبابليون وأسقفيتين أخريين مجاورين، وهى أيضاً أماكن ربما كان للكنيسة الرسمية فيها بعض قبول. ولكن من الواضح أن الأسقف الجديد لبابليون وجد القليل ليفعله، ولم يشعر بأى تردد فى الإنسحاب لمعتزله. ومع ذلك فقد كانت الإسكندرية تفترض مظهر مدينة إغريقية أرثوذكسية (خلقدونية)، على الأقل فى المناطق الرسمية حول منطقة القيصرون، بصرف النظر عن غرابة عدم الإعتراف بالتجمعات المتواجدة فى الأجزاء الأكثر مصرية من المدينة. وقد منع أبوليناريس أو أقنع السلطات المدنية بمنع الأساقفة المونوفيزيين من الظهور فى العاصمة.
لم يتراجع ثيودوسيوس فى منفاه المريح عن الإعلان عن حقوقه، والواقع أنه بعد وفاة سفيروس سنة 538م، فقد كان قد أصبح الرئيس الإسمى للحزب المونوفيزيتى. لقد كان فى تلك السنوات أن تطور صراع الأحزاب إلى إنشقاق، وذلك منذ أن بدأ تعايش بطاركة الإسكندرية من الخلقدونيين والمونوفيزيين التنافس التوارثى، الذى إستمر حتى اليوم. لقد كانوا مازالوا من حيث المبدأ متنافسين على نفس المنصب، ولكن فى الواقع فقد كانوا رؤساء لجماعتين مختلفتين. وقد ظل موقف جستنيان الحقيقى تجاه تلك الحالة غامضاً. لقد كان يُقيم بطاركته فى الإسكندرية ، وبالإبقاء على ثيودوسيوس فى المنفى، فقد كان يهدد المونوفيزيين فى مصر بالقضاء التدريجى على هرطقتهم، وقد جعلت حياة ثيودوسيوس الطويلة من ذلك مشكلة عملية خطيرة. ومن ناحية أخرى، فقد كان من الواضح تماماً أن جستنيان كان مهتماً بإقامة رجاله فى الإشراف على الإدارات المدنية والإقتصادية لأسقفية الإسكندرية، أكثر من إهتمامه بحشد حملة ضد الكنيسة القبطية. وقد كان ميالاً لتبديل تقسيم دقلديانوس للسلطات بين المسئولين المدنيين والعسكرين، بتقسيم مماثل بين السياسيين والكنسيين، على أن يكون كلاهما تحت إشرافه. وفى تنظيمه ذاك كان يتوقع أن يعمل الأسقف كمندوب للإمبراطور، وأن يتمتع بحقوق هامة فى الإشراف والتصحيح على السلطات المدنية. كان تدخل بطاركة الإسكندرية الخلقدونيون فى الشئون المدنية، يبدو وكأنه نموذج لذلك التنظيم فى حالة عمله. كانت كنيسة الإسكندرية تتمتع بثروة هائلة فاقت فى أهميتها ومغزاها نطاقها المحلى، ويقال أن بولس الطابينسوتى( الباخومى) قد إعتزل من منصبه ومعه ثروة هائلة، أمل بواسطتها فى تأمين إعادته مرة أخرى. وفى وقت تولية أبوليناريس أمر الإمبراطور بإجراء تحقيق فى إدارة الممتلكات التى كان يديرها الراهب إيوستاتيوس، والذى كان من الواضح أن زولوس لم يكن قادراً على السيطرة عليه. سُجن إيوستاتيوس فى الإسكندرية ثم نجح فى الهرب إلى القنسطنطينية، حيث تمكن هناك من تطهير إسمه، وكسب التعاطف والإهتمام الكافى لجعله يُعين بطريرك لأورشليم، وربما يكون جستنيان وخلفاؤه قد شعروا أنه ليس من سوء الحظ تماماً أن مثل هذين المصدرين من القوة، نفوذ وثروة أسقفية الإسكندرية، وولاء السكان المصريين، كانا فى أيادى مختلفة.
تغير توازن السلطات فى مصر، إلى حد ما، بموجب مرسوم جستنيان رقم 13 لسنة 538م، أو ربما سنة 553م. وقد ضم ذلك التشريع منصبى الدوق والحاكم فى منصب واحد ومنذ ذلك الوقت فصاعداً، ربما أصبح إسم ذلك المسئول الجديد هو الدوق الأغسطى. وقد أزال ذلك التشريع تماماً وحدة الأبرشيات المدنية، بإستثناء التجميع السنوى لضريبة الحبوب فى الإسكندرية. وأصبح كل من الأقاليم الخمسة، وهى مصر وأجستامينكا وأركاديا وطيبة وليبيا تحكم بواسطة دوق يتمتع بصلاحيات مدنية وعسكرية، ويخضع فقط للسلطات البعيدة فى القنسطنطينية. وقد أضعف ذلك، بشكل ما، من موقف البطريرك الإمبراطورى فى الإسكندرية، لإنه قد أصبح لديه آنذاك زميل سياسى واحد بدلاً من إثنين، ولكنه قد قوى من موقف منافسه المونوفيزيتى، لإن نفوذه أصبح يمتد على أقاليم متعددة شبه مختلفة تقريباً. إن أحد الأسباب المبررة لذلك المرسوم هى أن شئون مصر لم تكن معروفة تماماً فى القنسطنطينية، ولكن التغيرات التى أحدثها بدا أنها قد زادت أكثر مما قللت من الإتجاهات الإنفصالية للأقاليم خارج الإسكندرية. وفى وثيقة قانونية تعود إلى تلك الفترة إعترف الإمبراطور أن مشيئته ليست مطاعة فى إقليم طيبة بسبب معارضة الزعماء المحليين، كما أن حوادث تاريخية عديدة من نفس الفترة تعطى نفس الإنطباع عن الأحوال المصرية.
وعندما أصبح قادراً أو مستعداً لإن ينشل نفسه من خموله، قدم ثيودوسيوس إسهامات هامة فى سبيل إحياء الحزب المونوفيزيتى. ولكن من الواضح أنه لم يكن مسموحاً له أن يقيم أساقفة فى دائرة سلطته التشريعية. ولكن السلطات كانت تتجاوز أحياناً عن فعله ذلك فى المناطق التبشيرية خارج الإمبراطورية، فحتى نشر المسيحية المونوفيزية كان من شأنه ان يحمل معه بعض النفوذ الإمبراطورى ، ومثل بعض السياسيين الفرنسيين المحدثين ، فإن جستنيان لم يعتبر سياسته الكنسية بالضرورة مادة للتصدير. وقد عملت نحو 540 بعثة سياسية ودينية معاً بشكل غريب فى تثبيت الإستقرار على حدود مصر الجنوبية. كان معبد إيزيس فى فيلة مازال مفتوحاً، وكان يمثل آخر مقام عام للوثنية، وذلك من أجل القبائل القاطنة خلف الحدود، والتى كان مسموح لها بالدخول إليه بموجب معاهدة. ومع ذلك فقد كانت قبائل البليمى، التى كانت تنهب البلاد البلاد حتى أعالى النهر فى القرون السابقة، قد بدأت تضعف. وإنتهت غاراتهم بعد بدايات القرن السادس وأصبح النوبيون الودودون أكثر قوة وإستطاعوا فى النهاية طردهم إلى الصحراء. كان النوبيون خاضعين بالفعل لتأثير أسقف مبشر يقيم فى فيلة يدعى ثيودور، ومن ثم فقد أرسلوا آنذاك بعثة تطلب مزيداً من المعلمين المسيحيين. وصلت البعثة إلى ثيودوسيوس فى معتزله بالقنسطنطينية، فقام تحت رعاية ثيودورا بإرسال بعثة دينية، وعين كاهناً من عائلته يدعى جوليان أسقفاً لها. كان ذلك بمثابة خرق مباشر للتسوية الدينية الرسمية، ومن ثم فقد تم إرسال بعثة أرثوذكسية منافسة بإسم الإمبراطور. ولكنهم صادفوا صعوبات غامضة فى طيبة بخصوص أوراق السفر والمواصلات، وكان الدوق هناك، وبرغم أدب، متقاعساً. وهكذا فعندما وصلوا بين النوبيين كانت بعثة جوليان قد سبقتهم، وربطت المهتدين الجدد بثيودوسيوس وكنيسته. عمل جوليان بإجتهاد، كما أخبرنا، رغم أنه قد عانى الكثير من حرارة النوبة، وكان مضطراً لإن يقضى فترات الظهيرة جالساً فى كهف مبلل فى قميصه الداخلى. ورغم أن قصة البعثة المنافسة قد وصلتنا عن طريق أحد أفضل المؤرخين، فربما لايجب أخذها حرفياً. فلابد أن جستنيان كان يعرف أن دوق طيبة كان يتعاطف مع الكنيسة المصرية الوطنية، وأنه كان هناك فرصة محدودة فقط لتحويل النوبيين إلى أى شكل من أشكال المسيحية سوى ذلك السائد فى الإقليم المجاور، ولذا فربما كانت بعثته المنافسة مجرد محاولة لإنقاذ ماء الوجه وليست محاولة جادة. كانت نتائج البعثة مرضية بشكل كبير بالنسبة للأطراف المعنية. إختتم نارسيس سيرته المصرية بتفتيش الحدود وإغلاق معبد فيلة، الذى لم يعد هناك حاجة إليه. ونمت الكنيسة النوبية وإزدهرت وظلت حتى وقت متقدم فى العصورالوسطى معيناً هاماً للكنيسة القبطية فى مصر. وخلال الزمن الذى إستمرت فيه ، فى الواقع، فقد كانت أكثر أهمية كفرع من بطريركية الإسكندرية عنها من كنيسة إثيوبيا البعيدة، والتى كان قد تم الوصول إليه عن طريق بعثة عرضية فقط، وكانت مملكتها فى ذلك الزمن أكثر إتصالاً بالجزيرة العربية أو سوريا عن طريق البحر الأحمر، أكثر مما كانت مع مصر.
وفى نفس السنة 543م، قام ثيودوسيوس بتعيين أسقفى آخر ذا أهمية تاريخية أكبر. كان التابع العربى الأمير الحارث قد طلب أسقفاً لقبائله العربية، فأرسل له ثيودوسيوس أسقفاً يدعى ثيودور، كما إنتهز تلك الفرصة ليعين كاهن نشط يدعى يعقوب أسقفاً للرها. لم يزر يعقوب بارادى، كما عرفه التاريخ، أسقفيته إلا فى النادر، ولكنه مارس نوع من العمل الجوال فى عالم الكنيسة الشرقية. فكان يظهر ويختفى بطريقة غامضة، ودائماً ماكان يُتبع دون ان يُعثر عليه أبدا، فأحيا معنويات المونوفيزيين المحبطة بسبب مغامراته من أجل قضيتهم، وأعاد بأفعاله تلك تكوين جماعتهم مرة أخرى. وترك خلفه جيلاً جديداً من الأساقفة والكهنة، وبمفرده تقريباً حول حزباً محبطاً إلى طائفة ذات عزم وتصميم. كانت مصر ضمن عملياته، رغم أنه وبدافع الإحترام للبطريرك الغائب، قد أقام عددا قليلاً فقط من الأساقفة للبلد، لم يكن كافياً لإنقاذ حياة كنيستها من الفوضى المتفاقمة. و قبل وفاة جستنيان فى 565م ، كان قد أصبح واضحاً بقدر كاف أن الإمبراطور، و بينما كان قد إستطاع زرع بطاركة أرثوذكس فى الإسكندرية وأنطاكية، فإنه لم يستطع تحطيم المونوفيزية المصرية والسورية، لقد إستطاع فقط أن يدفعها إلى موقف الطائفة المنشقة التى حملت، فى كل من هذين البلدين، التقاليد السياسية لكنيستها الوطنية.






















5- آخر ضوء لمصر القديمة

وصلت إلينا صورة الأجيال الأخيرة لمصر الرومانية، بواسطة مجموعة رائعة من الكتاب، ألقت ضوءً ساطعاً على الحياة فى مصر والإسكندرية بشكلها المسالم أحياناً والرهيب أحياناً أخرى. كان المؤرخ المونوفيزيتى جون الإفسوسى هو مرشدنا خلال الأحداث الغريبة، التى وقعت فى العقد الثامن من القرن السادس، ويلتقط الأسقف القبطى حنا النقيوسى بعض أوجه التاريخ المحلى. وفى تلك الفترة بدأت حياة البطاركة الأقباط تحتوى على قيمة المصدر المعاصر، و كان أحد نظائرها هى حياة جريجورى العظيم. زار الراهب الفلسطينى جون موسكوس الإسكندرية أكثر من مرة مع صديقه صفرونيوس ، وإعتمد كثيراً على تجاربه هناك فى مجموعته المرحة من النوادر الدينية التى تدعى( الروضة الروحية). وفيما بعد كتب جون وصفرونيوس سيرة حياة مختصرة للبطريرك القديس جون المتصدق، والتى أضاف إليها كاتب آخر ملحقاً نابضاً بالحياة فيما بعد. ولإن دليلنا الوثائقى يأتى بالضرورة من الأقاليم فقط، حيث حُفظت أوراق البردى والنقوش، فإن تلك الإضافة من الدليل الأدبى عن حياة الإسكندرية لهى ذات قيمة بشكل خاص.
وفى العقود الأخيرة من القرن السادس، إستقرت أمور الكنيسة فى الإسكندرية إلى حالة تشبه الهدنة. وقد خلف البطريرك الخلقدونى أبوليناريس فى سنة 570م ، رجل عسكرى متقاعد يدعى جون، والذى كان وبرغم خلفيته العسكرية، رجلاً مسالماً وأسقفاً هادئاً. وفى كلمات المؤرخ القبطى( إنه لم يضطهد الأرثوذكس، أى الأقباط، ولكنه مجد الله فى وسط شعبه ). ومع ذلك ففى سنة 580م، قُبض على جماعة من رجال الكنيسة المونوفيزيين، وأرسلوا إلى القنسطنطينية، بناء على شكوى من جون المذكور. ومن الممكن أن هؤلاء قد تنافسوا بشكل علنى أكثر مما يجب مع الكنيسة الرسمية.
مات ثودوسيوس الكاهن الأكبر، الذى كان قد ظهر فى الإنتخابات الأخيرة المتنازع عليها، فى المنفى بشكل طبيعى تماماً كما يبدو، حيث كان فى عمر متقدم . أما الآخرين فقد قضوا سنة فى حبس غير قاس ، قطعته بعض المناقشات فى بعض المناسبات مع بطريرك القنسطنطينية، لكنهم حرروا بعد ذلك بناء على طلب الأمير العربى المنذر، وشاركوا فى مؤتمر مينوفيزييتى غير ناجح عُقد فى سنة 580م، ثم عادوا إلى الوطن فى سلام. كان خلف جون،( إيولوجيوس 581-608م )، راهباً سابقاً وكاهناً لأنطاكية، وكان من الناحية الكنسية أهم بطريرك فى الولاية الأرثوذكسية فى الإسكندرية منذ إحيائها. وفى القنسطنطينية كون صداقة شخصية مع المندوب الرومانى فى العاصمة الإمبراطورية، الشماس جريجورى، الذى أصبح فى سنة 590م البابا جريجورى العظيم. وربما كان إيولوجيوس قد قضى بعض الوقت فى القنسطنطينية، عندما ذهب إلى هناك كى يُرسم أسقفا ، أو ربما كان هناك بالفعل لبعض أمور كنيسة أنطاكية قبل ترقيته إلى الأسقفية. وتختلط ملاحظة لطيفة من المودة الشخصية بالأعمال الرسمية فى مراسلات الأسقفين، فبالإضافة إلى التبادل المناسبى للآثار فقد كان جريجورى، يرسل أيضاً، بين الحين والآخر، إلى إيولوجيوس هدايا من الخشب من أجل صناعة السفن لكنيسة الإسكندرية. وببساطة كما كانت عاداته، فقد أعطى بعض الإهتمام إلى نوعية الخمر، الذى كان يشربه، وطلب بعض منه مباشرة من الإسكندرية. أشعر إيولوجيوس جريجورى بنجاحه فى تحويل بعض السكندريين إلى العقيدة الأرثوذكسية( أى عقيدة خلقدونية )، وإستلم منه فى المقابل أخبار البداية الناجحة للبعثة الرومانية إلى الإنجليز. وبالنسبة للزائر الخلقدونى من الخارج ، كانت الإسكندرية تبدو كمدينة أرثوذكسية، رغم أنه قد يكون مدركاً بشكل غامض أن هناك هراطقة فى مكان ما حوله. ربما لم يتخطى الزوار الإغريق أمثال جون موسكوس وصفرونيوس حدود الجزء الرسمى والإغريقى من المدينة. كان الإنقسام بين الإغريق والمصريين يقع بأكثر أو أقل عبر الخطوط القديمة، كانت الكنائس الكبرى الواقعة بالقرب من الميناء فى أيادى خلقدونية، بينما كانت المقامات القبطية مثل الأنجيليين والقديس كوزماس ودميان تقع بالقرب من السيرابيوم، أو داخله أو بالقرب من راقودة القديمة. كان البطريرك الخلقدونى، ورغم كل عظم مركزه، مجرد قس بالنسبة للعناصر الرسمية البيزنطية فى الإسكندرية. كانت التحولات الدينية مثل تلك التى ذكرها إيولوجيوس تمثل مجرد تقوية لهذه العناصر ليس أكثر. وفى عهده بنيت كنيسة جديدة واحدة على الأقل، وأهديت إلى القديسة مريم، كما اطلق عليها أيضاً إسم كنيسة دوروثى، الذى ربما يكون إسم المانح. ومع ذلك فقد كان مازال هناك إمكانية لحدوث ضغط رسمى على الجانب الخلقدونى. وفى حوالى وقت نهاية سيرته أثار إيولوجيوس إحساس منافسيه الأقباط بالخطر، حيث أنه كان يظهر فى الإسكندرية بجرأة شديدة متحدياً حق المونوفيزييين فى إمتلاك أى كنيسة هناك. ولكن لم يبد أنه قد تابع تلك المسألة إلى حد بعيد، و كانت قوة ونفوذ الجدل فقط أكثر من أى عنف من جانبه، هو الذى جعل الأقباط يتذكرونه على أنه كان مؤذياً لقضيتهم. وربما كانت السياسة أيضاً تهم البطريرك الخلقدونى مثلها مثل العقيدة تماماً، فعلى الأقل لمرتين أخذ إيولوجيوس دوراً بارزاً فى الإضطراب المدنى الذى عصف بمصر فى عهده، رغم أن ذلك لم يكن تماماً بمبادرة منه نفسه، كما ساعد ذات مرة فى الترتيبات للقبض على أحد القادة الخطرين المستقلين، ومرة ثانية ولوقت قصير كان الشخصية الرئيسية فى المدينة، عندما كان الحكام يغيرون فى وقت من أوقات الأزمة. عاش إيولوجيوس أثناء حكم الإمبراطور موريس، وأثناء معظم سنوات خلفه المغتصب فوقاس.
خلف إيولوجيوس بطريرك يدعى ثيودور، والذى يبدو أنه كان مجرد صنيعة من صنائع فوقاس. قُتل ثيودور فى سنة 610م، عندما أُخذت الإسكندرية من أنصار فوقاس بواسطة نيقيتاس ، جنرال هرقل ، الذى كان قد غادر قرطاج إلى القنسطنطينية فى محاولته الناجحة للإستيلاء على الإمبراطورية. كان البطريك الجديد، الذى نُصب بمجرد أن هدأت الأمور بمصر، هو الكريم اللطيف القديس جون المتصدق، ولكنه كان قد جاء إلى هذا المنصب بحكم مركزه الشخصى، وليس بحكم فضائله الكثيرة، فقد كان إبناً لأحد حكام قبرص السابقين، وكان من الواضح أنه مرشح نيقيتاس، حيث أنه كان مرتبطاً به بروابط الصداقة الشخصية، ويقال حتى أنه كان أخيه فى الرضاعة. وعند توليه، كما أُخبرنا، كان هناك سبع كنائس فقط فى الإسكندرية تحت ولاية البطريرك الأرثوذكسى( الخلقدونى). وحتى فى هذه الكنائس السبع فقد كانت كنيسة التريساجيون تنشد بالنص المونوفيزيتى، وذلك بتأثير العادات المحيطة على الأرجح، أو ربمالإن بعض مهتدى إيولوجيوس كانواقد أحضروا موسيقى كنائسهم معهم. كان مقر البطريرك القبطى المعتاد فى تلك الفترة يقع فى المركز الديرى العظيم إيناتون، وفى تلك الفترة كان دميان يزور الإسكندرية زيارات مناسبية، وكان حتى قد مكث هناك لبعض الوقت، لكنه لم يجرؤ أبدا على الإقامة الدائمة هناك.

( شهدت السنوات العشر التى أعقبت وفاة ثيودوسيوس، بطريرك الكنيسة المونوفيزية المصرية فى منفاه بالقنسطنطينية سنة 566م، فترة من الإرتباك حيث تم ترشحيح عدة أسماء لم تستطع أى منها الجلوس بالفعل على العرش الأسقفى، منها أثناسيوس الموحد بالثالثوث، وبولس لأسود الأنطاكى، وتيودور أسقف جزيرة فيلة، ولونجينوس أسقف النوبة ، وذلك حتى تمكن رجال الكنيسة السكندريين من إقامة الشماس العجوز بطرس أسقفاً لهم سنة (576-577م). كانت فترة ولاية الأسقف بطرس قصيرة لم تزد كثيراً عن سنة واحدة، لكنه تمكن فى أثنائها من ترتيب كثيراً من أمور الكنيسة المصرية، وتعيين كثيراً من الأساقفة المونوفيزيين خارج الإسكندرية، وعندما مات خلفه سكرتيره دميان ثم أنستاسيوس الآنى ذكره).

وفى سنة 604م خلفه أنستاسيوس، وهو كاهن سكندرى يرتبط بالطبقة العليا، وربما كان هو نفسه عضواً سابقاً فى مجلس المدينة. أصبح تأثير الكهنوت والزعامات السكندرية هاماً مرة أخرى، عندما عادت الظروف إلى حالتها شبة العادية . وبعد أن بالغ قليلاً فى ظهوره العام ، وقع أنستاسيوس ضحية لشكوى إيولوجيوس إلى السلطات ، وفقد ملكية إحدى الكنائس السكندرية. أما إنجازه العظيم فقد أدخر إلى نهاية أسقفيته، وهو إنهاء الإنشقاق بين الكنائس القبطية والسورية( المونوفيزية). وقد شارك أثناسيوس (راكب الجمل)، والذى كان قد تبع بطرس الكالينسيومى فى أنطاكية، رغبة أنستاسيوس فى السلام. كانت العقبة الرئيسية التى كان على البطريركين مواجهتها هى تشدد بعض أتباعهما. ومن جانب آخر كانت المستعمرة السورية فى الإسكندرية متلهفة إلى الإتحاد. كان هناك مزيد من الروابط التى أقيمت بين الرهبان السوريين وبين العلماء فى إيناتون، والذين كانت أعدادهم تزداد بالفارين من الغزو الفارسى، الذى كان يكتسح سوريا آنذاك. كان بينهم العالم توماس الهارقلى، الذى كان يراجع النسخة السورية للكتاب المقدس عن المخطوطات الإغريقية. كان أحد الذين أخذور دوراً رئيسياً فى تلك المفاوضات بشأن الإتحاد، رجل علمانى بارز هو ستراتيجيوس دوق أركاديا رئيس عائلة أبيون، والتى كانت مونوفيزية فى عهد الإمبراطور أنستاسيوس، وأرثوذكسية فى عهد جستنيان. وقد أصبح أعضائها اللاحقون مرة أخرى مصريين بالمشاعر والإهتمامات، وعادوا إلى الكنيسة المصرية. وقد حث ستراتيجيوس بنجاح على ضرورة نسيان المنازعات القديمة وعدم إحيائها، ومن ثم فعلى النائس أن تتحد على أساس من توافقاتها الحالية وبدون تقرير، إذا ماكان دميان أوبطرس هو الأكثر خطأ فى الجيل السابق وكما تساءل ستراتيجوس :

( لماذا يجب أن نجرح بعضنا البعض بشكل خاطئ وغير عادل؟ ولماذا لانضع حداً لذلك النزاع عديم السبب ، وننهى هذا الإنشاق ونصنع السلام مع إخواننا الشرقيين). وأخيراً تم الإتحاد فى سنة 616م، وإحتفل به بمشاركة البطريركين فى خدمات مهيبة فى إيناتون. وقبل نهاية العام توفى أنستاسيوس.

ومن غير المؤكد إلى أى حد إمتد النفوذ الخلقدونى فى تلك السنوات خارج أسوار الإسكندرية. وقد وسع جون المتصدق من إهتمامه الرعاوى إلى جامعى البردى المهملين فى مستنقعات مريوط، والتى ربما كانت، وكما كان الحال فى أيام أثناسيوس، تحت السلطة التشريعية البطريركية المباشرة. ويذكر التاريخ القبطى لتاريخ البطارقة وجود إثنين وثلاثين قرية مونوفيزية إلى الغرب من الإسكندرية، والذى ربما يعنى أن الباقى منها فى ذلك الجزء من البلاد كان خلقدونياً. كان المقامان التوأمان لميناس ولسيروس وجون غرب وشرق المدينة، وبشكل واضح، فى أيادى أرثوذكسية ، فعلى الأقل كان جون يزورها دون أن يراوده أى شك فى أنه كان خارج نطاق طائفته. ولكن مقامات من مثل ذلك النوع كان يمكن أن ترحب بزوار من كلا الطائفتنين، وأنه ليثير قليل من الدهشة فقط أن نقرا عن إيناتون السكندرية، وهى تقع بين مؤسسات كانت تقع تحت السلطة التشريعية لجون( الخلقدونى)، فى نفس السنوات التى قام فيها البطاركة المنوفيزيون بجعل مقراتهم الرئيسية فى الدير الذى يحمل نفس ذلك الإسم. ويبدو من الممكن أن تكون البطريركية الخلقدونية قد أمنت ملكية صومعة أو نزل كان تابعاً لإيناتون فى المدينة، ومن ثم فقد إستطاعت أن تضع الإسم على كتبها ، كما كان الأمر. وقد بدا أن الأديرة المجاورة أيضاً كان لها منازل فرعية فى الإسكندرية. ويبدو دير باخومى يقع بالقرب من الميناء ، و يظهر فى أحداث السنوات الأخيرة من مصر الرومانية، كأنه مسكناً لرهبان ميتانويا الخلقدونية فى كانوبوس.
كانت الأهمية الواضحة للبطريركية الخلقدونية هى مركزها الإقتصادى والمدنى، وذلك هو الذى جعل من ( حياة جون المتصدق) مصدراً هاماً للتاريخ الإقتصادى والإجتماعى. كان لدى البطريركية هيئة على قدر كبير من التنظيم فى إدارة أملاكها، توازى تلك التى يملكها الملاك الفرديين أو الأملاك الإمبراطورية. ولقد كان بإمكانها، وبشكل عادى، تصدير كميات كبيرة من الحبوب أو ممارسة التجارة فى أهم منتجات الإسكندرية الصناعية. كانت شحنة من العباءات المانعة للماء أو الفضة أو سلع كمالية أخرى إلى الأدرياتيك، هى نماذج من المنتجات المذكورة. كانت سفن الكنيسة تستطيع التوجه إلى أى مكان فى البحر المتوسط، وقد ذهبت حتى إلى بريطانيا من أجل القصدير، رغم ان الظروف الأسطورية التى رويت خلالها تلك الحادثة لاتثير الثقة بشكل كامل. ويقال أن جون قد سمح لكابتن بحرى جدير ولكن الظروف أفقرته، بأن يتاجر بإحدى سفن الكنيسة، فدفعته الرياح إلى بريطانيا دون أن يدرك ذلك، وهناك إلتقط شحنة من القصدير، وفى توقفه فى بينتابوليس فى طريق العودة، وجد أنها قد تحولت إلى فضة. وربما تكون هذه الرواية طريقة للتعبير عن إختلاط المخاطرة الكبيرة بالفوائد الكبيرة فى مثل تلك المغامرات. وقد وزع جون دخل البطريركية فى أعمال خيرية، لاحصر لها تقريباً، على الأفراد، كما كفل مؤسسات خيرية كثيرة، مثل مستشفيات الولادة وملاجئ المشردين فى القيصرون. وربما كان مثل ذلك النشاط لأسقف مخلص مثل جون كنوع من قاضى العدل أو تربيون الشعب، قد أصبح ممكناً نتيجة لمزيج من السلطة التشريعية القانونية، والنفوذ الشخصى والرعاوى والحقوق القانونية العديدة، التى كان الأساقفة قد حصلوا عليها. كان لدى جون، كما أُخبرنا، ساعات محددة يستمع فيها إلى الشكاوى من المظالم، وكان يشعر بالحزن إذا لم تقدم له أخطاءً ليصلحها. وقد كان يصر على الموازين والمقاييس الأمينة فى أسواق المدينة، وقد إختلف ذات مرة بقوة مع راعيه نيقيتاس عندما أراد الأخير تنظيم السوق بحيث يحقق أرباحاً للحكومة، بينما كان جون يفكر أكثر فى إحتياجات الفقراء. وقد أنهى جون النزاع بإرسال بعض رجال الكنيسة إلى نيقيتاس فى ختام اليوم مع رسالة تقول( الشمس تغرب ياسيدى). كان أكثر رذيلة يكرهها جون هى المرارة والغضب، وقد رويت روايات كثيرة عن تدخلاته الدرامية من أجل فض المنازعات أو تهدئة النفوس الغاضبة، سواء بين رجال الكنيسة او بين الناس العاديين. وإذا ماكانت مثل تلك الروح قد سادت بين سائر قادة الكنيسة فى مصر بشكل عام، فإن الإنقسامات التى نجد أنفسنا مضطرين لتأريخها هنا ،ربما ماكانت حدثت. وليس هذا تعليق حديث فقط، فكما حذر أحد أصدقاء جون موسكوس الديريين( إن الإنقسامات بين المسيحين ماكانت لتحدث إذا ماكانوا أكثر كمالاً فى حب الله والإنسان).
كانت الإسكندرية البيزنطية مازلت تحتفظ بإهتمامها القديم بالتعليم، ورغم أن شخصيات القرن السادس مثل جون فيلوبونوس، وكوزماس إنديكوبليستوس، تُذكر عادة فى التاريخ لغراباتها بشكل أساسى، فإنها تمثل إتجاهاً من الإهتمام الثقافى. فربما كان التوحيد بالثالوث الخاص بجون، ومجهود كوزماس لمطابقة جغرافية الكتاب المقدس بأرض مسطحة كما وصفها موسى، أموراً مضحكة ولكنها كانت تظهر مع ذلك أن ذلك النشاط الثقافى كان مازال مستمراً . وقد إلتقى جون موسكوس بجماعة من النساك العلماء على النمط القديم فى الإسكندرية. كان أكثر الشخصيات جاذبية هو كوزماس العالم، والذى كان مسكنه لا يمتلئ بغير الكتب تقريباً، والتى كان مستعداً لإعارتها بسخاء. كان إهتمامه الأساسى هو بالمجادلات الموجهة نحو هداية اليهود. وفى أحد أماكن مصر السفلى ظل أحد الأديرة من تلك الفترة يحتفظ بمجموعة من أعمال أوريجن، والتى أمكن من خلالها إكتشاف كثير من أبحاثه القديمه الهامة. كان إيولوجيوس مفكر دينى على قدر يساوى فى الأهمية أى من معاصريه، وكان دميان وخلفائه، بين المونوفيزيين على الأقل، يعرفون صياغات تقاليدهم من الفكر المسيحى. ولكن وبرغم كل ذلك، فقد كان كلا من إيولوجيوس ودميان سوريين. إن هناك إنطباع بأن الولاء للصياغات كان أكثر شيوعاً على الجانبين فى الإسكندرية، أكثر من الإهتمام بمحتواها، وكما هو الحال فى بعض المجادلات الدينية الأكثر حداثة، فهناك مزيد من الناس كانوا يعرفون أنهم مع أو ضد كتاب ليو، بأكثر من هؤلاء الذين قد قرأوه فى الواقع. وقد أحضر إيولوجيوس إلى أرض الوطن من صديقه جريجورى قصة، عن كيف كان الكتاب قد قُرئ وصُحح بواسطة القديس بطرس نفسه ، عندما كان قد تُرك على مقبرته، والذى ربما يُمثل سوء فهم للتعبيرات الرومانية عن حياة بطرس وحديثه لخلفائه. وعلى هذا فإن الوثيقة التى كانت تُبجل من جانب كانت تُحقر من الجانب الآخر، وبين المونوفيزيين كان الإهتمام الفكرى بالخلاف سورياً أكثر منه مصرياً. كان دميان هو آخر قادة الكنيسة القبطية فى أرض الوطن، العارفين بالمواضيع الدقيقة للثيولوجيا الإغريقية، والتى سلمها خطابه العقائدى المحفوظ ، بكفاءة، إن لم يكن بجفاء. وفى زمانه أحيا معلم سكندرى يدعى ستيفن الموقف الجوليانى فى الكنيسة القبطية، وأصر على أنه لايمكن ان يكون هناك تمييز بين الإنسانية والإلوهية فى المسيح بعد إتحادهما فى طبيعة واحدة. ولكن وبشكل ذى مغزى فقد كان بطرس الأنطاكى، هو الذى إضطلع بالرد وكان التاريخ اللاحق لتلك المناقشة سورياً.
حصلت الكنيسة القبطية على المكانة العليا خارج مجاورات الإسكندرية، ففى بدايات القرن السابع نسمع عن أساقفة خلقدونيين فقط فى أقصى الشمال فى سيرينيكا، والتى كانت تتبع العالم الإغريقى أكثر مما تتبع العالم المصرى، وكذلك فى رينوكولورا على الحدود السورية. وفى أماكن أخرى كان للكنيسة الإمبراطورية أنصار قليليين فقط ، ولكن لم يكن هناك مراكز منظمة. ويدل وجود مجموعة من الرهبان الأجانب فى الواحات الكبرى، بينهم قبادوقى ورومانى وقارئ سابق فى كنيسة القنسطنطينية، على إستيطان أرثوذكسى بسيط فى ذلك المركز البعيد. ولكن فى الجزء الأكبر من مصر، كان الناس غير مدركين تقريباً أنه كان هناك أى إنشقاق فى الكنيسة. لقد كان هناك بعض الرهبان الأرثوذكس فى المراكز الديرية القديمة، ولكن كان يجب تحذيرهم بأن لايشاركوا فى القربان المقدس فى الكنائس المحلية، حيث لم يكن يُعترف بالمجامع الأربعة التى أقرت بطبيعتين للمسيح. أشعر جون الأعضاء المنعزلين لكنيسته أنه من الأفضل لهم أن يكونوا بلا قربان، بدلاً من المشاركة فى قربان الهراطقة، مما يدل على أنه لم يكن هناك كنائس خلقدونية فى معظم أرجاء مصر. ولكن الإتصالات الودية الأقل رسمية لم تكن ممنوعة. كان جون موسكوس خلقدونياً تماماً فى إتصالاته فى الإسكندرية، ولكنه عندما كان يدخل إلى عمق البلاد، فإن نوادره وتعاليمه التثقيفية تأتى من مصادر قبطية فى معظمها. وربما كان ذلك أسهل لإن معظم قصص جون عن المصريين أتت إليه بشكل غير مباشر. وعلى هذا نجد أن رئيس الدير فلاديوس السكندرى ، والذى كان من سالونيكا أصلاً ، قد أخبر جون عن راهب من أرسينوى تبع مجرماً إلى الإعدام كى يتعلم الإنفصال عن العالم. كما أخبره رجل علمانى من أنتينوى عن الحياة المثقفة للص مهتدى إسمه أبو دافيد الهرموبوليسى. وفى البتراء سمع من أحد الرهبان عاش فى شبابه فى سيت، عن تقاليد ذلك المركز وقصة دانيال المصرى، والذى كان من المؤكد أنه من الجماعة المونوفيزية. وبين الأقباط كان من الممكن أن يُحترم حتى بطريرك خلقدونى طالما أنه لم يكن مضطهدا للأرثوذكس( كان الأقباط يرون أنفسهم أرثوذكس ، أى اصحاب العقيدة التقليدية الحقة، ولكن اللفظ فى هذا السياق هنا يطلق فى الواقع على الخلقدونيين أتباع الكنيسة الإمبراطورية، أما الأقباط فيسمون إما بالأقباط أو بالمصريين أو بالمونوفيزيين). وقد مثل جون الصائم، بطريرك القنسطنطينية من سنة 582 إلى سنة 595م ، النوع التنسكى من التقوى التى تقدره الدوائر المونوفيزية، وقد حفظت إحدى عظاته عن التوبة فى التقاليد القبطية والسورية. كما يبدو أن جون المتصدق قد وجد طريقه إلى أجندة القديسيين القبطية، ربما بنقل القصص الخاصة به إلى بطريرك قبطى لاحق يحمل نفس الإسم.
وفى مدن وقرى الدلتا وصعيد مصر، كان الإمبراطور مصدراً بعيداً للسلطة، وحتى البطريرك فى الإسكندرية لم يكن أكثر منه فى الواقع. كان الوجهاء المحليون هم القوة الفعالة فى الدولة، كما كان الأساقفة ورؤساء الأديرة هم السلطة الفعالة فى الكنيسة. وبعد زمن جستنيان لم يكن هناك تقريباً أى تدخل إمبراطورى فى الشئون المحلية فى مصر. وقد صور بعض الكتاب المحدثين بيزنطة كأنها عصر مسالم فى التاريخ المصرى، تُركت فيه البلاد تطور مصادرها الخاصة، وقد توازن فيه نفوذ كبار ملاك الأراضى الزراعية بممتلكات الفلاحين، الذين لابد أنهم كانوا ميسورى الحال، وإلا لما كانوا إستطاعوا دفع مثل تلك الضرائب الباهظة. وهناك آخرون ، وربما بمزيد من المبررات ، يرونه كعصر قاس إتحدت فيه قوى الوجهاء المصريين فى الحكومة مع الحقوق المالية والتشريعية التى كانوا يتمتعون بها فى ممتلكاتهم ، على خلق مؤسسات ذات طابع إقطاعى. لقد كان هناك وبالتأكيد إتجاهاً نحو نفس نوع الموقف المماثل لأوربا العصور الوسطى ، رغم أن الأمور لم تسير فى ذلك الإتجاه. و تكفى الأحداث التى يذكرها حنا النقيوسى بدون دهشة لتدل على حالة شاملة من الفوضى، فمثلاً تم إزاحة أغسطال متمرد بصعوبة كبيرة، لكنه تمكن من العودة مرة أخرى ليباشر عملاً جديداً، وقصة الإخوة الثلاثة الذين كانوا قد عينوا حكاماً لمدناً فى شمال مصر وهم ينهبون مدينتين بدون إذن حاكم الإقليم ويثيرون تمرداً خطيراً، وقصة شخص يدعى أزارياس فى أخمين( بانابوليس)، يرهب المنطقة بجيشه الخاص حتى بدأت القوات العسكرية النظامية تتحرك ضده.
وفى هذا العالم المضطرب تأخذ الكنيسة مكانها، ممثلة بوحداتها المحلية، كأحد القوى فى مجتمعها. وفى نفس الوقت كان يمكن اللجوء إلى قادتها طلباً للحماية ضد المعتدين. وفى وثيقة من سنة 528م، يسجل وكلاء كنيسة أوكسيرينشوس إرسال الآلات إلى مستأجر فى ممتلكاتها بنفس الشكل الذى يستخدمه الملاك العلمانيون فى نفس المنطقة. ويصدر شخص إسمه أورليوس سيس وهو عامل مسجل ، والذى يعنى فى الواقع أنه كان رقيقا أوماشابه ذلك، فى ضيعة كولوتيس المملوكة للكنيسة، إيصال إستلام على النحو التالى :

( إلى كنيسة الله الكاثوليكية المقدسة التى يقودها الأكثر قداسة وتقوى أبونا أبو بطرس أسقف مدينة أوكسيرينشيوس المجيدة ومن خلالك أيها المبجل فيب القس والخادم الكاثوليكى ).

كان أورليوس سيس يحتاج إلى عجلة لآلة كنسية، كانت فى عهدة فيب لرى أرض كروم وأرض زراعية عادية. ذهب سيس إلى المدينة ليرى كيف يمكنه الحصول عليها، وأصدر له فيب أمراً بذلك إلى راهب إسمه لوقا، وبصرف النظر عن رجال الكنيسة الموظفين فى تلك الإدارة، فإن هذا يعكس نظاماً وإجراءات مماثلة لتلك التى كانت متبعة فى الممتلكات الخاصة. وفى هذا السياق فإن الكنيسة الكاثوليكية هى إصطلاح قانونى، أكثر منه عقائدى يشير إلى الكنيسة العامة للمدينة، التى يقودها الأسقف فى تمييز عن الأديرة أو كنائس الأبرشية الريفية. كان لدى كنيسة هرموبوليس مساحات واسعة من الأراضى، تكفى لإن تُقسم إلى أقسام من أجل تسهيل إدارتها. كان طاقم الموظفون فيها يشمل جنوداً خاصين، كما كان يفعل الملاك من الوجهاء العلمانيين. وتسجل مجموعة هامة من الوثائق من الفيوم أوامر من أجل توفير زيت موجهة إلى سيركوس وهو شماساً يتاجر فى الزيت، أصدرها الشماس والكاتب العام بتريوس، والذى من الواضح أنه كان مديراً لأملاك الكنيسة، التى يحتمل أنها كانت كنيسة أرسينوى. كان طلب الزيت من أجل دفع رواتب رعاة الأغنام ورعاة البقر، ومن أجل أتعاب أحد المحامين ومن أجل دفع مصاريف إصلاح قوارب قنوات و قوارب أنهار، ومن أجل تنظيف الجمال ودفع أجور بنائين، وصناع قرميد ومسافرين إلى الإسكندرية وفلسطين، وللهبات الخاصة مثل ترميم كنيسة أو منحة إلى دير. وتتضح علاقة الكنيسة بتلك الوثائق من خلال الإشارات إلى ( الرب الذى يحمية الإله)، وهو يأمر بمصاريف خاصة به أو بآخرين. ويبدو أن الأرض موضوع الوثائق كانت تنتج الزيت الخاص بها وتستخدم جزءً، منه لدفع بعض الرواتب عيناً ولبعض المصاريف المتفرقة الأخرى.
ربما كانت الديرية المصرية فى القرن السادس قد أصبحت فى حالة من الجمود، ولكنها لم تكن قد فسدت بأى حال. فقد إستمرت كل أشكال الحياة الديرية من النظام الباخومى المركزى، إلى النظام التنسكى الفردى، كما أن مؤسسات جديدة كانت مازلت تتخلق. ومع ذلك فقد كان بعض من المراكز القديمة، قد تلقى ضربات خطيرة من غارات البدو فى وقت مبكر من زمن البطريرق دميان، والتى وصلت إلى حد غزو المناطق الغير محمية من البلاد. كان رهبان الواحات الكبرى يخطفون ويحجزون من أجل الفدية، كما حُطمت المراكز الديرية المفتوحة فى سيت وهرب قاطنوها إلى أماكن متفرقة فى مصر وفلسطين. ومع ذلك فلم تكن الحياة الديرية فى سيت قد أُضطربت بالكامل. أعطى تركز الخلقدونيين فى الإسكندرية أهمية أكبر للأديرة الواقعة داخل المدينة نفسها، وحتى هناك كان يوجد مثل هؤلاء النساك البدائيين أمثال الجندى التقى، الذى كان يقضى صباحه ينسج الحصير ويقرأ صلواته على خطوات القديس بطرس، ثم وعند الظهيرة يرتدى ردائه العسكرى ويلتحق بوحدته. كانت المؤسسات الديرية المصرية، وكوحدات إقتصادية، تنقسم إلى ثلاث طبقات. كانت الجماعات المنظمة جماعياً هى مايجب أن نسميه هيئات ذات شخصية قانونية، وللأغراض الإقتصادية كانت الجماعة تُمثل برئيسها، والذى مثله مثل الأسقف ربما كان يتصرف من خلال مشرف. كان يمكن أن يكون هناك مزيد من الوكلاء للمؤسسات الكبيرة مثل( الدياكونيتى )،الذى قام بتجميع الحبوب التى إستلمها دير ميتانويا فى كانوبوس من طيبة أو( الأبوكريسيارى)، الذى تفاوض على بيع الخمور من دير باخومى فى هيرموبوليس إلى أسقف فى بينتابوليس. إن كل وصية من ذلك العصر كانت تتضمن نوع من الميراث للكنيسة وغالبا، ولكن ليس دائما، ماكانت توهب إلى الإبقاء على الخدمات الدينية من أجل سلام روح صاحب الوصية. وفى هذا السياق يمكن أن يشير إصطلاح منحة إلى منحة القربان المقدس، أو بشكل عام إلى أى منحة تقية مثل المنحة السنوية من 371 مكيال(أرتاباس)، من القمح التى كانت تقدمها عائلة أبيون إلى مستشفى فى أوكسيرينشوس. كان أى دير، وبإستمراره المفترض، مستقبلاً مناسباً لمثل تلك المنح التذكارية. وفى أحد الوصايا أقام كبير الأطباء فى أنتينوى نوع معقد من الوديعة، حيث كان على الدير الذى ترك له قطعة من الأرض، كى يستخدمها فى الخدمة الدينية الخاصة به (البروسوفوريا )، أن لايستخدم الدخل المتحصل منها فى أى شئ عدا ذلك، كما كان يجب على ورثته الآخرين أن يدفعوا الضرائب على تلك الأرض، مما قد يعطيهم الفرصة لمتابعة تنفيذ الكنيسة لإجراءات الوصية.
وعلى الطرف الآخر كان هناك الراهب الفرد فى صومعته، والتى كان يمكن أن نسميها ديره أيضاً، ولكنها فى نظر القانون لم تكن أكثر من مجرد كوخ مملوك بشكل شخصى. ولكن هناك فى الصحراء كان يُفترض أن يكون كل فرد ساكناً وليس مالكاً. فكما يقول رئيس الدير آسياس (إذا مارجعت إلى صومعتك القديمة ووجدت شخصاً آخرا هناك فلا تنزعج ولكن إبحث عن مكان آخر). ومع ذلك ففى المدن أو فى الأماكن القريبة منها، كان على الساكن الناسك أن يمثل امام القانون بصفته مالك أو مستأجر، ولم يكن هناك ضمان لإن يستمر إستخدام تلك الملكية فى أغراض العبادة. وعلى ذلك يشير أحد عقود الإيجار أن دير أبو كوبريوس فى مدينة أوكسيرينشوس، قد إنتقل إلى ملكية إحدى النساء التى تقدمت لإستئجاره أو لإستئجار جزء منه، بهدف جعله مخبزاً. ويشير أحد قوانين جستنيان إلى بيع الأديرة كأحد المساوئ المنتشرة فى مصر بصفة خاصة، وربما يقدم وجود مثل هذه الصوامع الخاصة تفسيراً لتلك العادة وربما يفسر أيضاً نقص الأديرة الناجم عن تدمير الستمائة دير الواقعة إلى الغرب من الإسكندرية، التى يقال أن الغزاة الفرس قد دمروها سنة 617م. ولايعتبر ذلك الرقم مستحيلاً، إذا ماتضمن عدداً من الصوامع الفردية بالإضافة إلى الجماعات المنظمة.
كانت الجماعات الغير رسمية التى ظلت تتنامى فى مصر القرن السادس، تقع فى موقع متوسط سواء فى التنظيم أو فى الوضع القانونى. كان الناسك يجمع بعض المريدين حوله ممن كانوا يرغبون، أحياناً، فى توفير نوع من الإستمرار لجماعتهم، دون تأسيس جماعة منظمة بشكل كامل. كانت التلال الواقعة إلى الغرب من طيبة القديمة تمتلئ بمثل تلك المؤسسات، و بالقدر الذى أعطى المقاطعة فى القبطية إسم تل جيم المقدس. كانت أروقة المقابر القديمة توفر فى الغالب نقاط إستيطان مناسبة للناسك الأصلى، الذى كان يمكن أن تنمو حوله جماعة بسيطة، لكنها كبيرة العدد أحياناً. وفى الوقت المناسب كان يبنى برج للجوء إليه فى حالة تراكم المتاع والمنقولات الديرية بقدر يكفى لجذب اللصوص. وقد تم الكشف حديثاً عن واحد من أكبر وأشهر تلك الجماعات، وهو دير أبيفانيوس حيث عكست البقايا التى عثر عليها إستمرار الحياة الصناعية والدينية جنب إلى جنب هناك. وللأهداف القانونية فإن مثل هذه المؤسسة كان يمكن أن يترجم إلى نوع من الشركة المساهمة. وعلى هذا فقد ترك خلفاء المؤسس المقدس أبيفانيوس ممتلكاتهم إلى ثلاثة ورثة، هم راهبان ورجل علمانى، بشرط أن يستمر إستخدامها لأغراض دينية. وربما كان الرجل العلمانى عضواً متوقعاً فى الجماعة، أوالأكثر إحتمالاً أنه قد وجد من الملائم ضمه إلى الملاك كنوع من الوصى. ولأكثر من مرة كانت الأبرشيات المجاورة تختار أساقفتها من نساك ذلك التل المقدس والذين كانوا، أحياناً، يحتفظون بإرتباطتهم وحقوقهم السابقة، ويعودون لقضاء بعض الوقت مع إخوتهم بين الحين والآخر. وينطبق ذلك المثل على بيسنتيوس القبطوسى، الذى رسمه دميان فى أخريات القرن السادس، والذى ظل قلبه متعلقاً بالصحراء، حتى بينما كان يقوم بواجباته الأسقفية بعناية كاملة. كانت أهم واجبات الأسقف المصرى فى القرن السادس هى الإحتفال بالطقوس، والإشراف على رجال الكنيسة الأقل مرتبة، والتهذيب الأخلاقى لجماعته وحمايتهم من مضطهديهم. كان من شأن مثل الواجبين الأخيرين أن يثقلا بقوة على نفس هادئة مثل بيسنتيوس، رغم أن شخصية أشد قوة ربما كانت ترحب بهما.
ونجد شئ من فرح المعركة فى الخطابات الرعاوية للأسقف إبراهام الهرمونثيسى، والتى تطرد من رحمة الكنيسة هؤلاء الذين يطلقون زوجاتهم لأسباب أخرى عدا الزنا ،و هؤلاء الذين يقبلون بهم فى جماعتهم أو يكتبون لهم وثائق قانونية، وهو يقول :
( إن هذه ليست كلماتنا ولكنها كلمات الله، فإذا ماكانت أى رغبة ترضى روحه دعه يحققها ) .
وبنفس القوة نجده يقول فى بيان آخر :
(وحيث إننى قد أُخبرت إن سات يسئ معاملة الفقراء، وأنهم قد أخبرونى أنه يسئ معاملتنا ويجعلنا فقراء وتعساء، فإن ذلك الذى يسئ معاملة جيرانه محروماً من العيد، وهو مثل يهوذا الذى قام من العشاء مع سيده وخدعه).
وهكذا يمضى مقارناً سات بالشهود الزور والخدم الغير أمناء فى الكتاب المقدس. وإذا ماكان يمكن أن تكون مثل هذه الرعود مؤثرة أم لا، يتضح من خطاب إعتذارى موجهاً من أحد ملاك الأراضى إلى أحد الأساقفة يرفض فيه تدخل الأسقف لصالح أحد المزارعين،ولكنه يعد فى نفس الوقت، بأنه إذا ماأصر الأسقف على مايريد فسوف يُنفذ مايريد. كان يمكن لرئيس دير مبجل مثل أبيفانيوس أن يستقبل مثل تلك الإلتماسات، أو حتى إلتماسات شخصية أكثر إثارة للمشاعر مثل الخطاب المرسل من رئيس شمامسة عجوز، كان قد عانى كل حياته على يد الرؤساء، والآن كان يطلب من الأب أن يمنحه حكماً نهائياً على حياته، بحيث يمكنه أن ينهى أيامه فى سلام.
بدت الحياة الداخلية لأى أبرشية قبطية وقد تحركت بعيداً فى الواقع عن السياسات الكنسية العليا للإسكندرية، ويبدوأنه كان هناك جو من الرسمية عندما كان يلتقى العالمان كما هو المشهد فى حياة بيسينتيوس عن أسقف البلد، وهو يجلس مع رجال البطريرك الذين حضروا بخطاب الفصح. وبنفس الشكل الذى زخرفت به رسالة دميان الطويلة جدران دير أبيفانيوس بلغة إغريقية وليست قبطية. وأكثر مما كان الرهبان كان الموظفين الكنسيين العاديين هم أيضاً رجال الشعب، يعينون فى الغالب بوعد بسيط بأداء واجبات المقام، وإطاعة قواعد الكنيسة وأوامر الأسقف، وكبح النفس عن الشهوات فى أيام الخدمة و أثناء الصوم الكبير. ولمصلحة مثل هؤلاء الرجال ، والذين كان تعليمهم الدينى يتكون من دراسة أحد الأناجيل، وربما حفظ سفر المزامير عن ظهر قلب ، قامت كنائس الأقاليم فى مصر بحفظ مجموعات من القوانين والقواعد القديمة، مما يفسر لماذا عاش كثير من أوامر الكنيسة، التى كان يمكن أن تفقد، فى نسخ مصرية، سواء قبطية أوعربية.
كانت قوانين أثناسيوس هى نموذج جيد للوثائق المتداولة فى سنة 600م، رغم أنها قد تعود إلى قوانين زمن أثناسيوس نفسه. وهى تصور كنيسة مدينة ريفية برجال كنيستها المتزوجين، والذين يمكن أن يكونوا أيضاً مزارعين أو حرفيين أو يمارسون تجارة أمينة. كانت الكنيسة أيضاً تمتلك الأراضى، وكان يجب أن تتأكد من ان يكون مزارعيها أمناء بشكل واضح. كان على الأسقف أن يولى الفقراء عناية خاصة، ويشترك مع كبير كهنته والمشرف فى إدارة مداخيل وعطايا الكنيسة. وكان عليه، فى الغالب، أن يأكل مع رجال كنيسة المدينة ويجمع من يعمل منهم فى القرى فى مجامع دورية. كان الأثرياء يعاملون ببعض الشك ، خاصة أنه كان من الممكن أن يحولوا الكهنة أو الراهبات ، فى حالة النساء الثريات، إلى أتباع شخصيين. فإذا مادخل رجل غنى إلى الكهانة فلابد أن يعتبر كل أملاكه وكأنها موهوبة للكنيسة، وأن لا يعتمد عليها فى معيشته. وقد حدثت مثل تلك المواقف فى الإسكندرية فى عهد جون المتصدق، فقد كان إثنان من رجال كنيسته صناع أحذية فى حياتهما الخاصة، ومن ناحية أخرى نجد أن البطريرك كان مضطراً لإبعاد طامح ثرى عن منصب الشماسة، لإنه كان قد تزوج مرتين، وبسبب ذلك لم يكن مؤهلاً بموجب القانون. وفى وثائق الملكيات الكبيرة يمكن أن نرى الصورة من جانب آخر، إذ يبدو رجال الكنيسة القرويين وكأنهم مستأجرين مثلهم مثل أى فرد آخر، ويضطلع الشمامسة بصفة خاصة وغيرهم من رجال الكنيسة أحياناً بالأعمال ووظائف السكرتارية، والتى يفترض أن معاملاتهم مع أمور الكنيسة قد أهلتهم لها.
نمت الفنون والثقافة القبطية بشكل متزايد جنب إلى جنب مع التقاليد الإغريقية المصرية، التى كانت مازلت باقية. لم يتقاطع الإنقسام اللغوى والثقافى تماماً مع ذلك الكنسى، لإنه كان هناك عناصر تتكلم الإغريقية فى الإسكندرية وفى أماكن أخرى فى الكنيسة القبطية. كانت الإغريقية مازلت هى لغة الإقتصاد والتعليم فى مصر البيزنطية، وربما ظل جزء كبير من الطبقة الوسطى يحفظ حساباته ويكتب خطاباته بالإغريقية، بينما يتحدث فى المنزل ويؤدى صلواته باللغة المصرية. سادت اللغة القبطية فى الجنوب حيث كان يمكن حتى للأسقف أن يملى وصيته بتلك اللغة ليترجمها كاتب العدل بعد ذلك إلى الإغريقية. وإنه من الممكن ان نفكر فى كنائس الأقاليم وقد تزينت بصور المسيح والقديسيين على النمط القبطى الحى البسيط، الذى يعيد إلى الحياة على الجدران الشخصيات المقدسة التى كان يشار إليها فى الصلوات. ومما لاشك فيه، أنه كان فى المدن الكبرى نماذج أكثر تأثيراً من أى من تلك النماذج الصغيرة نسبيا التى بقيت. ومن جانب آخر فإن كاتدرائيات الإسكندرية، والتى إختفت الآن مع الأسف بأعمدتها المطعمة بالفسيفساء، ومذبحها العظيم ومقاعد رجال الكنيسة حوله، ماكانت لتختلف كثيراً، عن تلك التى كانت موجودة فى أى مدينة عظيمة. كانت الزخرفة الدقيقة للتفاصيل واحدة من الهبات الرئيسية للإسكندرية ومصر للفن الإسلامى التالى، وكانت بلاشك ممثلة فى الكنائس المصرية وزخارفها. ويبدو التأثير المصرى ، إن لم يكن فى الواقع تأثير الصنعة المصرية ، فى واحدة من أبرز الأعمال الفنية للقرن السادس ، وهى كرسى مكسيميان فى رافينا. ويزين هذا الكرسى الأسقفى بصور القديس يوحنا المعمدان والمبشرين الإنجيليين الأربعة، وبسلسلة من المشاهد من حياة المسيح وحياة يوسف.ٍ ويبدو الأخير فى المشاهد المصرية وهو يرتدى شعار سيرابيس. كانت سيرة يوسف فى مصر ، فى بعض جوانبها، رمزاً لإنتصار المسيح ، بدأت بزيارته رضيعاً إلى مصر، وإنتهت بإهتدائها وسقوط سيرابيس.
وربما كان كرسى مكسيميان نتاجاً لورشة بيزنطية، ولكن إختيار وتنفيذ الموضوعات يشير إلى بعض الإرتباط بالفن المسيحى السكندرىٍ، والذى يعتبر ذلك الكرسى أحد تذكاراته الرئيسية. وحتى كنيسة القرية، فقد كانت موضع عناية وزخرفة، كما نعرف من بيان جرد كنيسة أبا سيوس فى قرية أبيون والتى لانستطيع، مع الأسف، تحديد مكانها تماماً، بسبب شيوع الإسم. ولكن التاريخ هو القرن الخامس أو السادس، ومن المحتويات يبدو الأخير هو الأكثر إحتمالاً. كان لدى كنيسة أبا سيوس ثلاثة كؤوس قربان، وطبق قربان من الفضة، وحجابان بقضبان من الفضة، وطاولة مذبح من الفضة، تقف على أساسات من البرونز ومزودة بثلاثة وعشرين غطاءً من الكتان. كان هناك أيضا مصباحان من الفضة، وثمانية من البرونز، وواحد وعشرين كتاباً، من ورق الجلد، وثلاثة من ورق البردى، وسيف والذى ربما كان يعنى سكين لقطع خبز القربان، وثلاثة كراسى ومقعدين أصغر وبعض المواد الأخرى الأقل وضوحاً.
ويشير تاريخ الطقوس المصرية إلى أن كنيسة مصر كانت أقل إنعزالاً مما كنا نتوقع. ظل الطقس السكندرى الخاص بالقديس مرقس مستخدماً، رغم أن أتباع خلقدونية كانوا قد بدأوا عملية إدخال ملامح أجنبية عليه، أو إستخدام طقوس أخرى أدت فى النهاية إلى إستيعاب أبرز ملامح كورال طقس القنسطنطنية، ثم إلى عدم الإستخدام التام للطقس السكندرى. وتدل بعض الإشارات العرضية فى ( حياة جون المتصدق)، على أن الطقس السورى الخاص بالقديس جيمس كان مستخدماً فى الإسكندرية فى زمنه، أو على الأقل واحداً من أهم ملامحه وهو الدعاء الكاثوليكى، الذى يتلوه الشماس أمام ( أبينا). وربما تكون الإرتباطات السورية الفلسطينية بالعديد من القادة الأرثوذكس فى الإسكندرية، قد أدت إلى بعض التأثير الطقسى أيضاً. وتبدو الطقوس القبطية الحالية وكأنها إشتقت من طقوس القديس مرقس، كما كانت مستخدمة فى أحد كنائس الأقاليم، وقد إحتفظت ببعض من التجاوب والصياح المختصر فى شكله الإغريقى الأصلى. ولكن فى المناسبات العادية فإن دعاء القربان المقدس( العشاء الأخير)، المركزى لم يعد هو دعاء طقس القديس مرقس القديم نفسه، ولكنه دعاء يُنسب إلى القديس بازيل. وهو فى الواقع شكل مختصر من نوع الدعاء السورى الممثل فى طقوس القديس جيمس، و فى اللوازم البيزنطية لطقوس القديس بازيل والقديس كريسوستوم. ويُعرف هذا البازيل المصرى فى الإغريقية وفى القبطية أيضاً. وربما قد أصبح مستخدماً فى مصر خلال أحد فترات العلاقات الطيبة بين الإسكندرية وأنطاكية أو القنسطنطينية، وقد إحتل مكانه فيما بعد بسبب إيجازه النسبى.
عكس الفن كما عكست الطقوس إحساس المؤمنيين بوجود القديسين، فقد أصبحت كنائس الإسكندرية القديمة تُعرف بأسماء القديسين، بحيث وهبت كنيسة ثيوفيلوس إلى القديس كوزماس والقديس دميان، وكنيسة القيصرون إلى القديس مايكل، رغم أنها قد ظلت تعرف أكثر بأسمائها القديمة. كانت الإنعامات الخارقة للطبيعة التى كان رجال ذلك العصر يعتقدون فيها بسهولة، هى زيارات قديسى الزمن القديم إلى الرجال المقدسين فى عصرهم ، والتى ربما كانت طريقة للإقرار بأن الكنيسة المصرية كانت تنظر آنذاك إلى أيامها العظيمة الماضية. ويقال أن سنشيوس قد كُرم بزيارات من أنبياء أصغر، عندما كان يقرأ كتاباتهم، وعندما زار أبيفانيوس فى ديره إنضمت شخصية ثالثة إلى محادثتهم، والتى لم تكن سوى الحوارى بولس. وفى الجانب الآخر من مصر، أدرك إيولوجيوس أثناء إلقاء عظته زيارة القديس جوليان الشهيد، وحضر ليو نفسه ليشكره لدفاعه عن كتابه (المجلد). وقد حدثت الزيارة الأخيرة، مع ذلك، فى حلم لرفيق صومعته مما يقدم لها تفسيراً منطقياً.
كانت مصر، وكما أدرك المعاصرون آنذاك، تقترب من نهاية حقبتها اليونانية الرومانية، وكانت على وشك أن تصبح مرة أخرى جزءً من عالمها الشرقى. ظهر التوقع عن الأحداث القادمة فى الإتجاه إلى الأفكار الشرقية فى الفن، والذى بدا وكأنه يسبق الغزو الفارسى والعربى فى القرن السابع، أو ربما أظهر ان الغزو الأول( الفارسى )، قد كان له أثر أعمق مما نتصور فى فترته القصيرة. ويبدو أن نوع من التوهج فى الخطاب الدينى كان جزءً من نفس الإتجاه، إذ يُنسب إلى الإمبراطور موريس أنه قد أمر بوجوب أن تبدأ الوثائق الرسمية بعبارة ( بإسم ربنا يسوع المسيح ). والذى ربما كان تطوراً طبيعيا لعصره. و أحياناً يبدو المزيد من مثل تلك الصيغ المفصلة، مثل تلك التى تبدأ عقد إيجار غرفة من قبل بائع خضروات فى أرسينوى:
( بإسم الثالوث المقدس موحد الطبيعة، الأب والإبن والروح القدس، وسيدتنا المقدسة ثيوتوكوس وكل القديسيين)، ومما قد يبدو مضحكاً للإذن الحديثة ، يبدأ تقرير رسمى لموظف أراضى حكومى بالكلمات ( ومرة أخرى أحضر لسعادتكم الأخبار الطيبة بأن نهر مصر المبارك المخصب قد إرتفع بقوة المسيح )، ثم يبدأ بتقديم الإحصائيات بعد ذلك. والواقع أن مصر البيزنطية كانت قد أصبحت مستعدة، لأشكال خطاب التدين الإسلامى التى كانت على وشك أن تعرفه.





6- من فاروس إلى الفاليرون إلى المطار

أعطى إى إم فورستر عنوان( فاروس والفاليرون) لكتابه الرائع، الذى إحتوى على مقالات عن الإسكندرية القديمة والحديثة، وقد أخذ هذين الإسمين من المنارة الضخمة الأسطورية، التى كانت تشرف على المدينة القديمة من جزيرة فاروس، ثم من خليفتها الغامضة(الفاليرون) التى ظلت معلقة لبعض الوقت فى صخرة سلسلة المنخفضة، إلى أن إنزلقت فى مياه المتوسط دون أن يشعر بها أحد.
عاشت المدينة العظيمة بعد سنة 642م، خلال ألف سنة من تناقص الأهمية التدريجى تحت حكام مصر من العرب والأتراك، حتى أُختصرت أخيراً إلى مجرد مدينة تركية صغيرة من مدن العصر العثمانى تقع على جزيرة فاروس السابقة، بينما نمت شبه الجزيرة التى كان يربطها سداً بالمدينة القديمة. وفى العصر الحديث ، أصبحت الإسكندرية مركزاً عالمياً للتجارة الدولية مرة أخرى، وأصبح مينائها هو الرمز الحديث الملائم لمدخل مصر، كما كانت المنارة عجيبة العالم التى أطلت على الميناء القديم فى العصر اليونانى الرومانى. ولكن قبل أن يبدأ ذلك التاريخ التالى للإسكندرية، شهد الجيل الأخير من الحكم الرومانى فى مصر سلسلة من الأحداث الدرامية، وردود أفعالها الفورية التى أسست نمط العلاقت الدائم بين ورثة البطريركية المتنافسين ، وبين تقاليدها.
يمكن أن يقارن التوازن الذى وجده كل من الأرثوذكس والمونوفيزيين فى بدايات القرن السابع، بذلك الذى وجد فى إيرلندا فى بعض الفترات فى أخريات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، ففى كلا الحالتين كان هناك مؤسستان كنسيتان يدعى كل منهما أنه الممثل الحقيقى للكنيسة الوطنية القديمة، وفى كلا الحالتين كانت تلك التى تؤيدها الحكومة، والتى كانت تمتلك أهم مبانى الكنيسة القديمة تُعتبر من قبل معظم السكان الوطنيين طائفة هرطقية تساندها قوى أجنبية. وبطبيعة الحال فقد كان هناك إختلافات، فلم تكن الكنيسة الخلقدونية تمتد عبر البلاد كلها كما كانت كنيسة إيرلندا، كما أن العلاقات الدولية لأقباط مصر كانت تختلف تماماً عن تلك الخاصة برومان إيرلندا الكاثوليك. ولكن فى كل حالة كان هناك كيان دينى وطنى لاتشجعه الدولة، وكان يمكن قمعه أيضاً بقوانين إلزامية لكنه كان يحظى بولاء الغالبية العظمى من السكان، وكان يعتقد أن الجماعة التى ينتمى إليها هى الكنيسة الكاثوليكية أو الأرثوذكسية الحقيقية. وهنا أيضاً يمكن أن نجد توازى أقل بينهما، فى أن الطبقة الكنسية العليا و الطبقة الأرستقراطية المنتمية إلى الكنيسة الأكثر شعبية كانت رسمياً موالية للسيد الأجنبى، ولهذا السبب فقد كان يُنظر إليها بعين الشك والريبة أحياناً من قبل معظم الأعضاء الجامحين فى الكيان الذى يفترض أنهم كانوا يقودونه. كان البطريرك دميان ينهى رسائله الرسمية بالدعاء بأن يتغلب الإمبراطور على كل أعدائه، والذى يمكن أن يقارن ببيانات الولاء لملوك الهانوفر، التى كانت تتلى فى المناسبات من قبل الأساقفة الرومان الكاثوليك الإيرلنديين.
كان تيبريوس الوصى على العرش منذ 574م، والإمبراطور منذ 578م إلى 582م، هو آخر إمبراطور بيزنطى ينظر إليه الأقباط ببعض الحب، وذلك ربما بسبب أن إضطهاد الكنيسة القبطية كان قد إنتهى فعلياً فى عهده، كما كان ممثلو الإمبراطور فى مصر، على الأقل ، كرماء ولو بشكل سلبى تجاه تأسيس البطريركية القبطية فى ضواحى الإسكندرية. ومن الصعب تفسير عدم شعبية خليفته موريس (582-601م)، لإنه قد تابع سياسة سلفه. ولكن موريس لم يكن من نوع الحكام الذى يمكن أن يجتذب التأييد الشعبى، وقد جعلته مجهوداته فى سبيل بناء مالية الإمبراطورية يبدو كأنه جشعاً بخيلاً وأدت فى النهاية إلى سقوطه. إن أحد الحقائق القليلة التى تُذكر عن سياساته المصرية هى أنه قد باع القمح المصرى، والذى قد يعنى أنه قد أنقص توزيعه المجانى فى الإسكندرية والقنسطنطينية. ومن ناحية أخرى، فربما كان ذلك قد توازن بقراره، بأن لا يعتبر بعد ذلك ربابنة أسطول القمح المصرى مسئولين شخصياً عن الخسائر الناتجة عن غرق السفن. وفى أى الأحوال، وبالنسبة للمصريين، فلم يكن الإطاحة به، وقتل كل عائلته على يد فوقاس أكثر من مجرد تغيير آخر لحاكمهم البعيد.
ومع ذلك فقد أثارت قسوة وعدم كفاءة فوقاس المعارضة. وفى سنة 609م، أبحر هرقل من قرطاج ، حيث كان والده العجوز حاكماً ونائباً للإمبراطور هناك، من أجل مهاجمة القنسطنطينية وخلع فوقاس، وذلك فى الوقت الذى تقدم فيه قائده نيقيتاس على طول الساحل نحو مصر. كان هناك إضطرابات محلية فى مصر، وكان الجنرال بونوسوس أحد قواد فوقاس فى طريقه إلى هناك ومعه الحيوانات المتوحشة وآلات التعذيب ، كما سجل المؤرخون. ومرة أخرى عكست أحداث الحرب فى مصر موقف الزعامات المحلية، والذين كانوا هم المسئولين الحكوميين أيضاً، وعكست كذلك الطريقة التى كان يتكلم بها الصوت الشعبى فى العالم البيزنطى، من خلال الكنيسة أحياناً، و من خلال أحزاب السيرك الرومانى أحياناً أخرى. رحب رجال الكنيسة والشعب، الزرق والخضر، بنيقتاس فى الإسكندرية. هرب البطريرك الخلقدونى ثيودور إلى كنيسة القديس أثناسيوس عند ساحل البحر، حيث قُتل هناك. وفى نقيوس كان ثيودور أسقف المدينة واحداً من القادة الذين مزقوا شعار فوقاس من بوابة المدينة، وعندما وصلت قوات بونوسوس ومؤيديوه المصريون، تقدم ثيودور للقائه بكتاب الأناجيل، ولكن ضربت عنقه بمجرد أن عرفت أنشطته السياسية.
وفى الإسكندرية وعندما شعر نيقيتاس بالخطر تشاور مع ثيوفيلوس المستعمد، وكان أحد النساك الذين أقاموا على قمة عمود، وإستولت قصته على خيال القدماء والمحدثين على السواء. لم يكن ذلك النوع من التنسك مألوفاً فى مصر، وربما قدم ظهوره مثالاً من التأثير الأجنبى فى الإسكندرية. كان قديسو الأعمدة مستشارين أفضل فى الشئون العامة، بأكثر مما يمكن أن نتصور، لإنهم كانوا يملكون ليس فقط ميزة تأملاتهم وصلواتهم، ولكن أيضاً ماكان يعرفونه من زوارهم الكثيرين.
قاد نيقيتاس قواته، متشجعاً بنبوءة ونصيحة ثيوفيلوس، إلى خارج بوابة الشمس، وهزم بونوسوس فيما أصبح المعركة الفاصلة فى الحملة. خسر بونوسوس مدينة فى أثر أخرى، ثم هرب إلى فلسطين تاركا نيقيتاس سيداً على مصر( بمشيئة الله وصلوات القديسين)، كما علق حنا النقيوسى. وفى تلك الأثناء كان هرقل قد وصل إلى القنسطنطينية وهزم فوقاس بمساعدة قوات من شمال إفريقيا والإسكندرية، ونودى به إمبراطوراً فى خضم حماس شعبى كبير. وقد ذكر فى مصر أن بنيامين الأنتينويى، الذى كان راهبا متنبأ مثل جون الليكوبوليسى، كان قد تنبأ بتلك الأحداث .
كانت السنوات الأولى من حكم هرقل فى مصر هى محلياً حكم نيقيتاس، والذى من الواضح أنه لم يكن قد حصل على مركز الأغسطل فقط، ولكن على صلاحيات خاصة كنوع من نائب الإمبراطور على مصر كلها. تم فُرض النظام من جديد وعُين مسئولون جدد وربما أفضل، وخُفضت الضرائب لثلاث سنوات كما وجد متعاون جيد لمنصب نائب الإمبراطور فى شخص البطريرك جون المتصدق. وللمرة الأولى أصبحت مصر سعيدة تحت الحكم الرومانى، وحتى أكثر مصالحة مع المركز الرسمى للكنيسة الخلقدونية. ولكن الإمبراطورية ككل كانت مهددة بخطر الهجوم الفارسى، الذى كان كسرى قد بدأه بحجة الإنتقام لصديقه موريس، لكنه إستمر ضد المنتقم الحقيقى للإمبراطور موريس، الإمبراطور الجديد هرقل. أظهرت سيرة هرقل تبدلات غريبة من أشكال الطاقة العظيمة والإحباط فى نفس الوقت، وكان آنذاك قد سقط فى نوبة من نوبات النوع الأخير، بينما كان الفرس قد بدأوا يرون إمكانية إعادة غزو ممتلكاتهم القديمة. وفى سنة 615م، سقطت أورشليم ( القدس) فى أيديهم، وإمتلأت الإسكندرية باللاجئين وخصص البطريرك جون المتصدق كل موارده لإعانتهم، وأرسل الإمدادات إلى فلسطين من أجل إعادة بناء الكنائس وفداء الأسرى والتخفيف عن المتضررين. كان إثنان من مبعوثيه فى هذا الشأن هما رئيس دير إيناتون، ورئيس دير القديس أنطونيوس، مما قد يشير إلى نوع من التعاون مع الكنيسة القبطية فى مثل تلك الأمور. ولكن المد الفارسى إستمر، وفى السنة التالية هدد الإسكندرية نفسها. عُزلت المدينة عن مصادر إمدادتها وإضطر جون المتصدق لعكس تجارة كنيسته المعتادة، وإستورد القمح من صقلية. ومع ذلك فعندما سادت الفوضى المدينة وأصبحت على وشك السقوط أبحر نيقيتاس وجون من الإسكندرية إلى القنسطنطينية. وفى الطريق شعر جون أنه كان مستدعى إلى محكمة أعلى فتوقف فى قبرص ، موطنه الأصلى ، حيث توفى هناك فى 11 نوفمبر من سنة 617م.
أصبح المسيحيون الذين إنشقوا عن الكنيسة الإمبراطورية حلافاءً واضحين للفرس. وفى سوريا إتخذ الفرس بعض خطوات من أجل التعاون مع الأرمينيين واليعاقبة السوريين (اليعاقبة السوريون هم السوريون أتباع المذهب المونوفيزيتى وقد سموا بهذا الإسم نسبة إلى أسقفهم يعقوب أحد أهم أقطاب ذلك المذهب)، وكذلك مع المسيحيين المحليين سكان إقليمهم فى العراق، والذين كانوا قد أصبحوآنذاك نسطوريين رسمياً بدرجة أو بأخرى (النساطرة هم أتباع المذهب الملكانى أى مذهب الدولة البيزنطية والقائل بمبدأ الطبيعتين عكس المذهب المونوفيزيتى القائل بطبيعة المسيح الواحدة وقد سموا كذلك نسبة إلى نسطوريوس الأسقف البيزنطى أحد أهم أقطاب مذهب الطبيعتين كما تقدم قبل ذلك)، ولكن لم يبد أن شئ مثل ذلك قد تم التوصل إليه فى مصر. ففى الذاكرة القبطية عاش الفرس كغزاة ومدمرين فقط ، فهم الذين دمروا الأديرة المزدهرة والقرى الواقعة إلى الغرب من الإسكندرية، وقتلوا رهبان نقيوس بناء على إشاعة كاذبة عن ثروتهم وشرهم. وحتى فى صعيد مصر، فقد شعر الأسقف بيسينتيوس بالرعب عندما ظهروا وهرب إلى ملاجئه القديمة فى الصحراء. ومع ذلك فبمجرد أن أستولواعلى السلطة فى مصر فقد قتم قبولهم ، سلبيا على الأقل، كنوع آخر من الحكام الأجانب. وبشكل من الأشكال كان الأقباط وكنيستهم أحسن حالاً تحت حكم الفرس مما كانوا تحت حكم الرومان. كان أندرونيكوس الذى خلف أنستاسيوس كبطريرك سنة 616م، كاهناً لكنيسة الأنجليون مرتبطاً ببعض العائلات الكبيرة فى الإسكندرية، وقد إستطاع أن يبقى فى المدينة خلال فترة أسقفيته. وجزئياً كان ذلك بسبب مركزه، ولكن بلا شك كان ذلك بشكل أكثر مباشرة لإن نيقيتاس كان لديه أشياء أخرى يفكر فيها أثناء الحصار أكثر من مكان إقامة البطريرك الوطنى، وبطبيعة الحال لم يكن ذلك الأمر يعنى الفرس فى شئ. مات أندرونيكوس سنة 622م، وخلفه بنيامين ، وهو راهب قبطى من الريف. ومع بنيامين إنتهت سيطرة رجال الكنيسة وكبار مواطنى الإسكندرية على البطريركية، رغم أنه ولعدة قرون كان رجال الدين السكندريون قد ظلوا يحتفظون بحقوق خاصة فى الإنتخابات البطريركية. قاد بنيامين كنيسته على مدى أربعين سنة فى ظل ظروف متغيرة بشكل غريب، وبدأت به سلسلة من البطاركة الأقباط بشكل أساسى. و مع ذلك ، وحتى تحت حكم الفرس، فقد إستمر الخلقدونيون فى الإسكندرية يملكون مبانى الكنيسة، التى كانوا يسيطرون عليها منذ حوالى قرن من الزمان، وقد خلف البطريرك الخلقدونى جون المتصدق بطريرق غامض يسمى جورج.
حُررت مصر من الفرس نتيجة لأحداث وقعت فى مكان آخر. وفى سنة 622م، نهض هرقل أخيراً لشن حملة من القنسطنطينية وتطويق الفرس. كانت بيزنطة العصور الوسطى، وبشكل من الأشكال، هى آخر دول المدينة الإغريقية العظيمة، وكان الحماس الدينى الوطنى الذى سبق هرقل فى طريقه بإسم المسيح وأمه، واحداً من الصور الصارخة على قوة المثل العليا البيزنطية. وتلقائياً توقف القمح السياسى بالضرورة مع خسارة مصر ولم يُسترد مرة أخرى بعد ذلك. كان يمكن للقنسطنطينية وكمركز تجارى أن تقف على قدميها بنفسها، ومن ثم فإن الإمداد العام للعاصمة، والذى كان دائماً إعتباراً هاماً فى السياسة الرومانية على مدى حوالى ثمانمائة عام ، قد إختفى من الصورة. أخضعت حملات هرقل الرائعة عبر أرمينيا الفرس تماماً. وفى سنة 628م، إنتهت الحرب بإنتصار هرقل ثم، وربما قبل ذلك، أخلى الفرس مصر. وفى السنة التالية توج الإمبراطور إنتصاره بإعادة بقايا صليب الصلبوت إلى القدس( الصليب الذى يقال أن المسيح قد صلب عليه، والذى كان الفرس قد إستولواعليه بعد إحتلالهم لأورشليم القدس)، وهو حدث مازالت تقاويم كنائس الشرق والغرب تخلد ذكراه بعيد تمجيد الصليب المقدس فى الرابع عشر من سبتمبر من كل عام. وتروى الأسطورة اللاحقة كيف أن الإمبراطور قد وجد أنه من المستحيل أن يصعد على جبل صهيون فى ردائه الإمبراطورى حاملاً بقايا الصليب، وكيف أن البطريرك قد إضطر إلى تحذيره أنه فقط فى ملابس بسيطة وسيراً على الأقدام يمكنه أن يأمل فى حمل الصليب، وهى أسطورة كانت تعنى، بلا شك، تحذير صليبى كل العصور عن كيف يجب أن يستخدم الإنتصار الذى تحقق بإسم صليب المسيح. تبع إنتصار هرقل سياسة من توحيد الدين والدولة، والتى بدت حكيمة فى البداية، ولكن مالبثت أن تحولت إلى كارثة. ومرة أخرى، وكما كان الحال فى أيام زينو، بُذّل مجهود من أجل إيجاد صيغة توافق ترضى كل من المونوفيزيين والخلقدونيين، بحيث يمكن تأييد الإمبراطورية بالصلوات المتحدة لكنيسة متحدة. ومن الواضح أن الفكرة بدأت كمقابل كنسى لعمليات هرقل العسكرية فى آسيا الصغرى وأرمينيا. وبذلك ربما أصبح هناك طرفاً مستعداً لإن يقول بأن هناك طبيعتان للمسيح، إذا ماقبل الطرف الآخر الإقتراح الذى أيده المفكرون المونوفيزيون، ولم ينكره الخلقدونيون رسمياً ، بأنه كان هناك إرادة واحدة وعمل واحد للمسيح، (فحيث أن الذى يعمل هوواحد فقط، فإن هناك طاقة واحدة وقوة ناشطة واحدة فقط)، كما قال سفيروس كإستدلال واضح من الموقف المونوفيزيتى. أما الموقف المعاكس بأن الإرادة البشرية ليسوع هى جزء ضرورى من طبيعته البشرية الكاملة، والتى نشأت طبيعياً من ثيولوجيا ليو وخلقدونية، فلم يتم التأكيد عليها بشكل خاص .
( المقصود هنا مذهب الإرادة الواحدة للمسيح، الذى تم التوصل إليه فى عهد هرقل كصيغة توفيقية بين أنصار مذهب الطبيعتين وأنصار مذهب الطبيعة الواحدة، ويعنى أنه وبصرف النظر عن وجود طبيعة واحدة للمسيح أو طبيعتين، فمن المؤكد أن له إرادة واحدة، وذلك كحل وسط بين المذهبين المتصارعين، لكنه إنتهى بالفشل شأنه شأن كل محاولات التوفيق السابقة).
وبنجاح ظاهرى باشر الوكلاء الإمبراطوريون ماأسماه مؤرخ لاحق( بالإتحاد الهزيل)، على هذا الأساس العقائدى الجديد مع الأرمينيين واليعاقبة السوريين. كان سرجيوس أسقف القنسطنطينية الذى بارك رحيل هرقل للحرب، أكبر مناصر لهذه الصيغة التوفيقية. كان وكيله فى مصر، قيرس ، شخصية غريبة، و يبدو حين نستعيد صورته شخصية شريرة، وكان أسقفاً سابقاً فى شمال شرق آسيا الصغرى، وقد أرسل آنذاك إلى الإسكندرية مزوداً، بكل السلطة التى كان يمكن للإمبراطور أن يمنحها له كبطريرك وأغسطل لمصر، مع بعض الحق فى طلب التعاون من سلطات الأقاليم الأخرى. أحضر قيرس معه صيغة العقيدة التوحيدية الجديدة وأمن قبولها فى إجتماع لرجال الكنيسة السكندريين، وقرر أن طائفة الثيوديسيين (أى المونوفيزيين) قد إتحدت مع الكنيسة، وإنها قد تواصلت معه بالآلاف فى الثالث من يونيو سنة633م. والواقع أنه ربما كان مهتدو قيرس خليطاً من الخلقدونيين السابقين، من الذين كانوا قد إبتعدوا قليلاً فى السنوات الماضية، كما كانوا من العناصر الرسمية والأرستقراطية فى الإسكندرية، والذين كانوا مستعدين لقبول نيابة إمبراطورية قوية. ولكن خارج الإسكندرية فلم ترفض تلك الصيغة التوفيقية فقط، ولكن لم يعرف حتى أنها كانت توفيقية. فكل ماسمعه وتذكره الأقباط هو أن الإضطهاد قد إشتعل مرة أخرى، وأن عقيدة خلقدونية الكريهة كانت على وشك أن تُفرض عليهم. وربما كان هناك بالفعل بعض إشاعات عن نيات قيرس، لإن بنيامين قد هرب بمجرد وصوله تقريبا، إذا لم يكن قد فعل ذلك قبل وصوله بالفعل ، وتوقف قليلاً فى دير القديس ميناس، وبين الجماعات التى كانت مازلت تعانى ضعفاً فى نيتريا وسيت، ثم شق طريقه بإتجاه الجنوب ببطء. ومثل أثناسيوس قبل ثلاثة قرون من ذلك التاريخ، فقد شعر بالأمان فى طيبة، بحيث كان يمكن له الظهور حتى فى مثل تلك المراكز المعروفة فى منزل شنودة القديم بالدير الأبيض، رغم أنه وفى معظم الوقت كان يختفى فى أماكن غير معروفة.
وإزداد ضغط قيرس تدريجياً حتى تحول إلى إضطهاد حقيقى مات فيه بعض الضحايا ، ومنهم أخو البطريرك بنيامين نفسه. تم طرد كثير من الأساقفة والرهبان من أسقفياتهم وأديرتهم وبدأوا يشعرون بالقهر من إدراك حالهم، وقد بدأوا يخضعون إلى مالم يكن سوى عقيدة خلقدونية وليو. وقد ذكر مؤرخ قبطى عن دير قريب من الإسكندرية أنه لم يظهر به أى مرتد، لإن كل رهبانه كانوا مصريين ولم يكن بينهم أى أجنبى. وربما لم يكن الإغريق هم المقصودين بتلك الإشارة أكثر مما كان السوريين، والذين كانوا أكثر إنفتاحاً على الإقناع بالأساليب الفكرية الدقيقة الموظفة. تم تحقيق قدر واضح من النجاح وتم إستمالة إثنين من الأساقفة هما، فيكتور الأرسينويى، وقيرس النقيوسى، كما خضع كثير من الأديرة لإمتثال قسرى، وتم تنصيب الأساقفة الخلقدونيين ، إذا ماكان يمكن تسميتهم كذلك فى تلك المرحلة ، حتى أقصى الجنوب فى أنتينوى، أى بكلمات أخرى حتى عاصمة إقليم طيبة الشمالية. ولكن كان ذلك على حساب مثل تلك النية الطيبة التى كان ألأقباط مازالوا يكنونها للإمبراطورية. وبالنسبة لتاريخ مصر فإن تفاصيل ذلك الخلاف التوحيدى هو فى الواقع ذو أهمية قليلة، مثل بعض التسويات الأخرى لتلك الفترة، لإنه كان يبعد الأنصار الأوفياء لكلا الجانبين. فبين الأرثوذكس، كان صفرونيوس أسقف أورشليم والصديق القديم لجون موسكوس، قد عارض ذلك على الفور وإتخذت روما نفس الموقف بمجرد أن إتضحت المسائل. عاشت التوحيدية الإمبراطورية بعد الموقف السياسى، الذى بدأت من أجله حتى وفى نهاية الأمر تم التخلى عنها فى المجمع العام السادس سنة 681م، ولكنها أثناء ذلك كانت قد أنتجت حالة عدم الرضى العام الذى سهل الغزو الإسلامى لسوريا ومصر.
فبعد سنوات قليلة فقط من إنتصار هرقل الكبير مات محمد سنة 632م، وفى تلك السنة كانت الجزيرة العربية قد توحدت، وأصبح من الممكن أن يبدأ التوسع السريع للإسلام خلف الحدود العربية. لم تكن الإمبراطورية ولا الإمبراطور مستعدين للمقاومة الفعالة فى سوريا، والتى كانت قد قاومت فى الماضى كثيراً من الغزوات الآتية من الشرق. هُزمت الجيوش الإمبراطورية بين السنوات 634-636م، وهرب هرقل إلى القنسطنطينية، وكان واحداً من آخر أعمال البطريرك صفرونيوس فى سنة 637م، هو إستقبال الخليفة عمر فى أورشليم. ومع ذلك لم يتم أى تغيير فى السياسة، أو وضع خطة موحدة للدفاع فى مصر، التى إخترقها أربعة آلاف من قوات العرب بقيادة عمرو بن العاص سنة 639م. وتسجل أحد أوراق البردى أن بعض الإستعدادات البسيطة كانت قد إتخذت بطلب المؤونة العسكرية( بناء على طلب سيدنا قيرس البابا الأكثر قداسة وخشية لله)، فى سنة 639-640م. وفى ظل تلك الظروف فإن الضعف ليس هو مايبعث على الدهشة، ولكن قوة المقاومة التى قام بها الجانب الرومانى. فقد قدم عمر إلى بلد منقسم على نفسه يكره معظم سكانه حكامه الأجانب، ومنقسما من الناحية العسكرية والسياسية إلى وحدات ليس بينها تعاون فعال. وبحلول سنة 640م أصبح قيرس مستعداً، وبشكل واضح، للتخلى عن حصن بابليون الواقع على رأس الدلتا ومعه كل البلد ، لكن هرقل أزاحه عن مركزه السياسى الذى فشل فيه تماماً، وإستدعاه إلى القنسطنطينية. وقد كان هناك أو منفياً فى مكان قريب عندما مات الإمبراطور العجوز بعد إنتصاراته وإنتكاساته العديدة، وذلك فى 11 فبراير سنة 641م.
وتقرر مصير مصر فى الشهور القليلة التالية، فقد إستسلم حصن بابليون فى يوم عيد الفصح من نفس السنة، وإكتسحت قوات عمرو معظم البلد بإستثناء الإسكندرية وبعض مدن الشمال الأخرى. لايمكن وصف موقف الأقباط تجاه الغزاة بالقول ببساطة أنهم قد رحبوا بهم كمحررين، ومع ذلك فقد كانوا يشعرون ، وبأقل تقدير، ببرود شديد تجاه القضية الرومانية وكما ذكر حنا النقيوسى عندما تحدث عن إنهيار المقاومة فى أنتينوى ( عندما رأى المسلمون ضعف الرومان وعداء الناس للإمبراطور هرقل بسبب الإضطهاد الذى أوقعه على كل أرض مصر فيما يخص العقيدة الأرثوذكسية بناء على تحريض البطريرك الخلقدونى قيرس ، فقد أصبحوا أكثر جرأة وأكثر قوة فى الحرب).

ولكن مدينته نقيوس ومدن أخرى قد عانت بشدة بعد أن أحتلها العرب(وبينما بدأ الناس فى مساعدة المسلمين وإستسلمت قلة منهم لهم طواعية فقد هرب جمع كبير من جميع الأحزاب إلى الإسكندرية وبعض أماكن أخرى كانت مازالت فى أيدى الرومان).
وفى تقدم الغزاة سقط شمال مصر فى حالة من الفوضى. وفى دفشير بالقرب من الإسكندرية ثار الجينوسيون وإستردوا كنائسهم. وفى الإسكندرية كان هناك قتال بين عناصر مختلفة من اللاجئين وبين السكان المحليين ، عاكسة منافسة أحزاب السيرك وتأثير الإنقسامات الدينية والتحاسد بين مختلف المسئولين الذين جاؤا من أجزاء مختلفة من البلاد، و كانوا قد تجمعوا آنذاك فى الإسكندرية. لم يمكن إرسال أى مساعدة من القنسطنطينية حيث كانت مرتينا، أرملة هرقل، تحاول تأمين وراثة العرش لأبنائها. كان قنسطنطين الثالث، إبن هرقل من زوجته الأولى، قد مات بعد حكم مائة يوم ولم يحدث حتى خريف سنة 641م أن أصبح إبنه قنسطانز مسيطراً على الأمور بشكل ثابت. إسترد قيرس مكانته فى القنسطنطينية، ولكن حينما رجع إلى الإسكندرية فى سبتمبر فقد كان هناك إحتمال ضعيف لمزيد من المقاومة.
وفى يوم عيد الصليب المقدس فى 14 سبتمبر سنة 641م، شهد القيصرون آخر مناسباته المهيبة التى إستمرت لقرون ثلاثة بصفته الكنيسة الإمبراطورية فى الإسكندرية. كانت المدينة سعيدة بعودة بطريركها الذى كان السكان الخلقدونيون مازالوا يعتبرونه كذلك. توجه قيرس أولاً إلى المنزل الباخومى بالقرب من الميناء، ثم وفى موكب إحتفالى توجه من هناك إلى الكنيسة حاملاً معه بقية من صليب الصلبوت. ولكن كان هناك شئ غريب فى سلوك قيرس حتى عندما كان يعظ فى موضوع يوم العيد، وبدا كأنه فأل شئوم عندما تلى الشماس مزمور خاص بدلاً من ذلك الذى كان محددا لذلك اليوم. وربما كان قد إستخدم مزمور الفصح ( هذا هو اليوم الذى صنعه الرب)، وعلى كل حال فقد تطلع الناس إلى البطريرك المذهول وإنتشرت الإشاعة (إنه لن يعيش ليرى فصح آخر). ربما كان قيرس مازال يأمل فى نوع من التسوية السياسية التى كان يمكن أن تدخر شئ من مصر للإمبراطورية، أو على الأقل مركز ما لنفسه. ولكنه عندما ذهب ليرى عمرو فى بابليون فقد قدمت لمصر الشروط الإسلامية المعتادة فقط ، وهى التسامح مقابل الجزية. ومع ذلك وبشكل أكثر كرماً من المعتاد ، فقد أعطيت مهلة سنة تقريباً لإخلاء الإسكندرية ورحيل الرومان الراغبين فى الرحيل. وتم تنفيذ الإتفاقية بشكل منتظم ولكن قيرس نفسه قد مات قبل الفصح التالى تماماً فى يوم خميس العهد فى 21 مارس سنة 642م، وتم تولية خلفه الشماس بطرس فى يوليو من نفس السنة وغادر آخر الجنود الرومان بأيام قليلة بعد يوم عيد الصليب المقدس و فى 29 سبتمبر دخل عمرو وقواته المدينة. ورغم أن بعض الأرقام قد ضوعفت بلا شك فلا يوجد شئ غير معقول فى تقريره الذى رفعه إلى الخليفة عمر فى المدينة :
( لقد إستوليت على مدينة لاأستطيع أن أقول عنها إلا أنها تحتوى على أربعة آلاف قصر، وأربعة آلاف حمام وأربعة آلاف مسرح وإثنى عشر ألف بائع خضروات وأربعين ألف يهودى).
وقبل مضى وقت طويل إكتشف الأقباط أن العرب كانوا طامعين فى ضرائب مصر، كما كان الرومان تماماً، ولكن النتيجة الفورية لذلك الغزو كانت مجرد تحررهم من الإضهاد الذى كانوا يتعرضون له على يد قيرس. ولفترة من الزمن أخذ بعض الوجهاء الأقباط ، والذين كان بعضهم وليس كلهم قد تحول إلى الإسلام ، المراكز العليا فى الإدارة، رغم أن ذلك لم يستمر إلا لسنوات قليلة فقط. ورجع بنيامين فى سلام إلى الإسكندرية ودخل كنائسه مرة أخرى وأسس علاقات ودية مع عمرو. ولهذا الوقت تعود بلاشك عظته عن الزواج فى كانا ، والتى حث فيها سامعيه على أن يأتوا إلى إحتفال الزفاف الحقيقى للكنيسة، وحذرهم ضد عدم التوقير وعدم الطهارة بأمثلة مأخوذة من سنواته فى المنفى. أصبح بنيامين قادراً فيما تبقى من سنوات أسقفيته على إعادة بناء مؤسسة الكنيسة وبعض من أبنيتها، ودشن قبل وفاته سنة 662م، كنيسة جديدة للقديس مرقس فى الإسكندرية، وكذلك كنيسة جديدة للجماعة المتجددة للقديس مكاريوس فى سيت. كانا هذان هما مركزا البطريركية لقرون، حتى حول إنتقال العاصمة السياسية والإضمحلال التدريجى للإسكندرية مركز البطريركية فى النهاية إلى القاهرة. كانت كنيسة القديس مكاريوس الواقعة على الطريق الصحراوى بين المدينتين مركزاً إضافياً مناسباً سهل الوصول إليه، ولايقع تحت أعين الحكام الجدد مباشرة. لم يعانى الخلقدونيون أكثر من مجرد فقد مركزهم المتميز السابق، حتى أنهم قد ظلوا يحتفظون بالقيصرون رغم أن كنيستى ثيوناس وأثناسيوس، قد أخذتا منهم وحولتا إلى مساجد. ولكن الأسقف بطرس سرعان ماغادر مصر وظل مكانه شاغراً بعد وفاته سنة 655م، إلى مايقرب من سبعين عاماً.
ربما يخدم دير القديس مكاريوس فى وادى النطرون كرمز لتاريخ الكنيسة القبطية. تعود تقاليد الدير إلى تاريخ الجماعات التى أسسها مكاريوس المصرى فى الأيام الكلاسيكية للفكر المسيحى السكندرى وللديرية المصرية، ورغم خضوعه للإنشقاقات الداخلية والهجمات الخارجية، فإنه لم يفقد أبدا نوع من الحياة المتواصلة خلال تقلبات القرون الأولى. وفى العصور الوسطى جُمعت الصوامع معاً من أجل الدفاع داخل جدار محيط، ومن ثم تحول مجتمع النساك إلى جماعة ديرية مكتفية ذاتياً، بنفس الشكل الذى عاشت به الكنيسة القبطية منطوية على نفسها خلال بعض فترات العداء تحت حكامها المسلمين. وفى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر زارت مجموعات من الزوار الأجانب دير القديس مكاريوس وباقى أديرة الصحراء الأخرى، لتؤمن بعض مخطوطاتها أو تدرس بعض بقاياها القديمة. وأخيراً وفى العصور الحالية، أُعيد بنائه بطرق متعددة من أجل الملائمة الحديثة دون أن يكيف الدير نفسه تماماً مع نمط الحياة الحديثة.
ربما كانت الحقيقة الرئيسية للتاريخ اللاحق للكنيسة القبطية هى الحقيقة البسيطة لبقائها. ويبدو أن مؤرخها للقرن السابع قد إفترض أن مثل ذلك التاريخ قد إنتهى مع الغزو الإسلامى. كانت ذروة قصته هى سقوط الإمبراطورية البيزنطية الهرطقية، بالنسبة إليه، وبعد تلك المحنة الكبيرة لم يعد هناك سوى حالة شاذة من الإحتلال الأجنبى. ولكن مصر الإسلامية ملكت تاريخاً طويلاً ، أولاً تحت حكم الأمراء الذين كان يرسلهم الخلفاء، ثم تحت حكم ممالك متعددة من الخلفاء أو السلاطين المنافسين، الذين إتخذوا منها قاعدة لهم. وبعد سنة 1517م، إنتقلت مصر إلى سلطان الأتراك العثمانيين، وهكذا عادت لتحكم من البسفور مرة أخرى، على الأقل إسمياً. أسس عمرو مقره حيث كان قد نصب خيمته خارج بابليون، وخدمت سلسلة من المدن فى نفس المنطقة كعاصمة حتى أسس الخلفاء الفاطميون فى سنة 969م، آخر تلك العواصم وهى المدينة التى سُميت بالقاهرة ، بمعنى المنتصرة ، والتى نسميها نحن كايرو، ويسميها الفرنسيون ربما بشكل أكثر صواباً ليكير. وهكذا إنتقل مركز مصر مرة أخرى إلى مجاورات العواصم الفرعونية القديمة، وأخذ حكامها يتطلعون بإتجاه آسيا أكثر مما يتطلعون بإتجاه البحر. تمتع البطاركة الأقباط بعلو المقام الخطر الذى سقط على رؤوس الأمم الخاضعة، التى تعيش تحت الحكم الإسلامى، فقد كان يمكن أن يصبحوا فى أى وقت أداة للضغط القانونى أو الغير قانونى على جماعتهم، كما كان يمكن لعلامات الخضوع الظاهرية أن تتطور بسرعة إلى مضايقة أو حتى إضطهاد.
وفى القرن الثامن قام بعض الولاة بهجمات ضد الأديرة التى كانت مازلت مزدهرة، ومن المحتمل أن يكون التحول الجماعى الأول إلى الإسلام قد حدث فى ذلك الوقت. ومنذ زمن الخليفة المجنون الحاكم بأمر الله الفاطمى فى القرن الحادى عشر، كان هناك سلسلة من الإضطهادات من الممكن أن يكون الأقباط قد تناقصوا فى نهايتها إلى النسبة التى هم عليها اليوم، أى حوالى واحد على أربعة عشر من مجموع السكان. وماتت اللغة القديمة كلغة حديث ولكل الأغراض، فيما عدا الطقوس، إستبدلت بآداب مسيحية كُتبت بالعربية. وفى القرن الرابع عشر كان هناك محاولة لإحياء اللغة القديمة، كما كان هناك محاولات أخرى فى الماضى القريب، ولكن ذلك لم يسفر عن أى نجاح يُذكر.


ملحق :

قائمة بأسماء البابوات المصريين حتى الغزو العربى.

1. مرقس
2. أنانيوس أو حنانيا
3. أبيليوس
4. سيردون أو سيردو
5. بريموس
6. جستس
7. إيمينيوس أو إيمينيس
8. مارسينيوس أو مرقس
9. سيلاديون
10. أجريبينوس
11. جوليان.
التواريخ غير مؤكدة فى حالة الإحدى عشر إسما الأول المذكورة هنا.
12. ديميتريوس الأول ( 189-231م)
13. هيراقليس (231- 247م)
14. ديونيسيوس (247-264م)
15. مكسيموس (246-282م)
16. ثيوناس (282-300م)
17. بطرس الأول (300-311م)
18. أخيلاس (312م)
19. الإسكندر الأول (312- 328م)
20. أثناسيوس الأول (328-373م)
21. بطرس الثانى ( 373-380م)
22. تيموثى الأول (380-385م)
23. ثيوفيلوس (385-412م)
24. كيرلس الأول ( 412-444م)
25. ديسقوروس الأول (444-454م)
26. تيموثى الثانى أليريوس(القط) (457-477م)
27. بطرس الثالث مونجوس (477-490م)
28. أثناسيوس الثانى (490-496م)
29. جون الأول هيمولا (496-505م)
30. جون الثانى نيكيوتيس ( 505-516م)
31. ديسقوروس الثانى ( 516-517م)
32. تيموثى الثالث (517-536م)
33. ثيودوسيوس الأول (536-566م)
34. بطرس الرابع (576-577م)
35. دميان ( 578-607م)
36. أنستاسيوس (607-619م)
37.أندرونيكوس ( 619-626م)
38. بنيامين (626-665م)
منشأة المعارف – الإسكندرية
رقم الإيداع

2862/2009

الترقيم الدولى

0-1724-03-977-978



#عبدالجواد_سيد (هاشتاغ)       Abdelgawad_Sayed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شم النسيم - عيد الفرح والخلود
- تاريخ مصر فى العصور الوسطى - تأليف ستانلى لين بول - ترجمة عب ...
- مصر الحديثة وصراع الهوية
- تعديلات الدستور وأغلال العثمانيين والمماليك
- المرأة السعودية ، صراع الحرية والتغيير
- رسائل العام الجديد
- تداعيات التاريخ والصراع فى اليمن
- إغتيال خاشقجى والعالم والمملكة السعودية
- نبيل النقيب ، ضحية جديدة لمحاكم التفتيش المصرية
- الجامعة العربية والشرق الأوسط والمتوسط
- بوتين وإغتيال الثورة السورية
- مختصر تاريخ اليونان القديم
- قانون يهودية إسرائيل وصراع الخير والشر فى الشرق الأوسط
- صلح وستفاليا والشرق الأوسط والمستقبل
- سبينوزا- ضمير العصر الحديث
- تعريب التعليم - مزرعة الإرهاب
- الإنتخابات السيساوية وخيانة الثورة المصرية
- مثقفى الشهرة وتعطيل التطور
- لماذا يجب أن نكره الثورة الإيرانية؟
- محمد بن سلمان ورائف بدوى


المزيد.....




- سعودي يوثق مشهد التهام -عصابة- من الأسماك لقنديل بحر -غير مح ...
- الجيش الإسرائيلي يواصل ضرباته ضد أهداف تابعة لحماس في غزة
- نشطاء: -الكنوز- التي تملأ منازلنا في تزايد
- برلين تدعو إسرائيل للتخلي عن السيطرة على غزة بعد الحرب
- مصر تعلن عن هزة أرضية قوية في البلاد
- روسيا تحضر لإطلاق أحدث أقمارها لاستشعار الأرض عن بعد (صور)
- -حزب الله- يعلن استهداف ثكنة إسرائيلية في مزارع شبعا
- كييف: مستعدون لبحث مقترح ترامب تقديم المساعدات لأوكرانيا على ...
- وسائل إعلام: صواريخ -تسيركون- قد تظهر على منظومات -باستيون- ...
- رئيس الوزراء البولندي: أوروبا تمر بمرحلة ما قبل الحرب وجميع ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالجواد سيد - مصر المسيحية - تأليف - إدوارد هاردى - ترجمة -عبدالجواد سيد