|
مقاربتان حولاوان في التفكير السياسي العربي
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1523 - 2006 / 4 / 17 - 10:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تتوزع التحليلات السياسية العربية على خطين عريضين: خط التحليلات ذات التمحور الجيوسياسي، وخط التحليلات المتمحورة حول نظم الحكم العربية وسياساتها الداخلية. في الصحف والمجلات، ينشغل الكتاب العرب بتناول الأوضاع الإقليمية، فتكثر في تحليلاتهم مدركات من نوع العالم العربي والشرق الأوسط والإستراتيجية الأميركية والسياسات الإسرائيلية والخطط الإيرانية وخيارات تركيا ومستقبل الصين ودور روسيا.. والامبريالية والنظام الدولي وموازين القوى..؛ أو يكتبون عن تكوين وطبيعة أنظمة الحكم العربية، فتنغمر كتاباتهم في عالم دلالي مكون من مدركات الاستبداد والقمع والديمقراطية والمعارضة والتغيير والفساد وما إلى ذلك. تميل التحليلات الأولى إلى التغاضي عن طبيعة أنظمة الحكم، وإلى إهمال قضية الديمقراطية أو وضعها في منظور إقليمي ودولي واسع، يضفي عليها قيمة نسبية جدا، فيما يمنح لمقاومة أو ممانعة مشاريع الهيمنة الأميركية والسيطرة الإسرائيلية قيمة مطلقة. بالمقابل تنزع التحليلات الثانية إلى إغفال السياق الجيوسياسي، وإلى عزل عمليات التغيير المحتملة في الدول العربية عن المتغيرات الدولية والإقليمية الكبرى، أو خفض مرتبة الدور التفسيري والعملي لهذه في أوضاع الدول العربية القائمة. وتميل التحليلات الجيوسياسية، بصورة نسقية، إلى الربط بين أوضاع الدول العربية، أو إلى اعتبار البلاد العربية وحدة تحليل، وربما، وإن بدرجة أقل، وحدة عمل. وأكثر المحللين المنتمين إلى هذا الخط هم عروبيون أو قوميون عربا. بالمقابل تجنح التحليلات المتمحورة حول طبيعة أنظمة الحكم إلى التفكير في الدول العربية كلا على حدة، حتى لو أمكن لها أن تفكر فيها كعالم واحد من الناحية الثقافية. وتستثنمر التحليلات الجيوسياسية ثنائية داخل/خارج، فيما توظف التحليلات الثانية في ثنائية استبداد/ ديمقراطية. لقد قادت عودة الجيوسياسي مع نهاية الحرب الباردة، ثم بعد 11 أيلول 2001، وبالأخص بعد احتلال العراق في 2003، إلى تعسير الانتقال الديمقراطي في المجال العربي. هذا منطقي. إذ يتعذر أن يغير الناس أنفسهم ونظمهم الذاتية حين يكونون مهددين بتغيير يفرض عليهم من خارجهم. هذه خبرة إنسانية عامة تنطبق على الأفراد والجماعات والدول (في صراعهم مع سجانيهم، قد يتمسك السجناء السياسيون بأفكار وولاءات فقدوا إيمانهم بها: هنا يتصدر مطلب التماسك و"الصمود"، ويلعب ضد الحاجة الحيوية لتغيير الذات..). لقد أثارت تغيرات جيوسياسية عاصفة مخاطر الهيمنة الخارجية، ودفعت قضايا الوطنية والهوية والاستقلال إلى صدارة تفكير وهموم الفاعلين السياسيين، بينما دفع المطلب الديمقراطي إلى الوراء. ويناسب هذا الترتيب أنظمة حكم استبدادية أسست شرعيتها على استنفار المخاطر الخارجية، وعملت على نزع شرعية معارضيها برميهم بالغفلة عنها. ورغم ما ينطوي عليه هذا الطرح من تزييف فإن المعضلة حقيقية: كيف يمكن الانتقال إلى الديمقراطية في شروط تغيرات جيوسياسية غير مسيطر عليها وهيمنات مهددة؟ يقلب الديمقراطيون السؤال: كيف يمكن مقاومة الهيمنة في شروط الاستبداد؟ غير أنهم يطرحونه في صيغة استنكارية، تفترض أن الجواب معروف. ليس معروفا. إن تجنب الحلول اللفظية لهذه المعضلة يقتضي قفزة في الفكر السياسي، نحدس أن استكشاف مفهوم النظام الشرق أوسطي يمكن أن يساعد على تحقيقها. ويستند هذه الحدس إلى الإخفاق المتكرر في التصدي للتحديات الخارجية وإلى إجهاض متكرر ايضا في عملية الدمقرطة وفتح النظم السياسية. إن تكرر الفشل يدفع نحو إعادة النظر في أسس تفكيرنا السياسي. لسنا في "الوطن العربي الكبير"، ولا في دول منفصلة عن بعضها كأنها جزر متباعدة. إننا في الشرق الأوسط. وليس الشرق الأوسط إقليما جغرافيا، بل هو نظام أمني وسياسي إقليمي يجمع دولا مختلفة ومتخاصمة، لكنها متفاعلة بعمق وقوة، تجمع بينها تواطؤات على استقرار النظام وتفاهمات موضوعية، وأحيانا ذاتية، على توازن القوى فيه. وهي تفاهمات وتواطؤات لا تمنع الخصومة، ولا حتى العداء، بشرط عزلهما عن المساس العميق بدوام النظام. تشارك الولايات المتحدة في النظام كحائزة على السيادة العليا، وإسرائيل كقوة متفوقة قادرة على اعتراض التفاعلات الإقليمية غير المناسبة لها، وأنظمة الحكم العربية كقوى مسيطرة في مجتمعاتها. فالشرق الأوسط هو النظام المكون من دول عربية استبدادية، تحكمها سلطات غير منتخبة، ومن إسرائيل متفوقة ويهودية، ومن سيادة أميركية عليا. والنظام منشغل أولا وأخيرا بحفظ ذاته، أي ببقائه وبقاء تفاعلات وتغيرات أطرافه تحت عتبة المساس بأسسه. ويستجيب النظام بصورة ممتازة لهاجس إسرائيل في البقاء، ويراعي هاجس الأنظمة العربية في التأبيد، ويخاطب رغبة الولايات المتحدة في استبعاد أية منافسة عالمية محتملة واحتلال القرن الحادي والعشرين. وبفضل هذا النظام، خرجت قضية التغيير السياسي في الدول العربية من كونه قضية داخلية، إن من حيث الإمكان أو من حيث المآل، وأضحت قضية إقليمية ودولية كما تثبت جملة التفاعلات الجارية الآن حول فلسطين وحول لبنان وحول سوريا، بما في هذه التفاعلات مواقف إسرائيل الغنية بالدلالة حيال فلسطين وسوريا بالخصوص. ونميل إلى أن مفهوم النظام الشرق أوسطي هو الذي يمكن أن يقوم بدور جسر نظري بين صنفي التحليلات اللذين أشرنا إليهما ويخرجهما من مأزقهما المشترك. إن نقطة ضعف المقاربة الجيوسياسية تتمثل في عدم طرحها للتساءل شرعية وتمثيلية نظم الحكم القائمة فيها، أي في عماها الديمقراطي، بينما يتمثل ضعف المقاربات الديمقراطية في ارتباكها أمام وقائع الهيمنة الإقليمية والدولية، أي في عماها الجيوسياسي. إننا نتحرك على غير هدى اليوم حين نفكر في مقاومة الهيمنة الأميركية والسيطرة الإسرائيلية دون مساس بنظمنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية الراهنة. ونخبط خبط عشواء ايضا حين ندعو إلى الديمقراطية ونعمل من أجلها دون تفكير الشروط وعلاقات القوى المكونة للنظام الشرق الأوسطي. ولعلنا نلاحظ أنه ليس لدى الديمقراطيين العرب أفكارهم الخاصة حول مقاربة المسألة الإسرائيلية والعلاقة مع الولايات المتحدة ومشكلات الأقليات والأكثريات في المجال العربي. ضمن هذا الشرط يميلون إلى استعارة تفكير القوميين في هذه القضايا، وهو تفكير يجمع بين العقم والفشل، إن حكمنا من السوابق. ويمكن للجمع بين مقاربتين حولاوين أن يفضي إلى عمى تام: اندراج ضمن النظام لضمان بقاء الأوضاع الاستبدادية القائمة؛ أو إلى استنارة حقيقية: وضع العمل الديمقراطي في سياق تعديل العلاقات الشرق أوسطية غير الديمقراطية. على أن الترابط التحليلي بين قوى النظام الشرق أوسطي وقضاياه لا يصلح بحال برنامجا للعمل السياسي. منطق السياسة يقتضي البدء بما هو أسهل. والحلقة الأضعف في النظام هي الدكتاتوريات العربية. ما يعني أن تغييرها، بما يتضمنه من حلول ديمقراطية لمشكلات الأقليات (مشكلة الأقليات في المجال العربي من العناصر الجوهرية للنظام الشرق أوسطي)، هو المدخل إلى تغيير ديمقراطي للنظام. إذ ينبغي، أولاً، أن تقوم أطراف عربية، عقلانية وديمقراطية، من أجل أن تكون قادرة على مساءلة النظام عن لا عدالته، ومن أجل أن يحوز احتجاجها عليه درجة من الصدقية. إن الشرق الأوسط، من وجهة نظر عقلانية وتغييرية، إن أمكن لهذا الجمع أن يقوم، ينبغي أن يكون وحدة التحليل الصغرى (العالم هو الوحدة الكبرى)، ووحدة العمل الكبرى في مدى العقود القادمة (الدول القائمة هي الوحدات الصغرى). ومن شأن اتخاذه موضوعا أصيلا للتفكير السياسي أن يخرج كلا من التعاون العربي والعمل الديمقراطي من الطريق المسدود الذي وصلا إليه.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العدو ذات تنقذ نفسها، ونحن ينقذنا التاريخ، لكن بأن نغدو موضو
...
-
ماذا يفعل السلاح في الشارع؟
-
التلفزيون والسجن: صندوقا السلطة
-
لماذا يخسر الديمقراطيون العرب لعبتهم الديمقراطية، دائما؟
-
عيد الكراهية الوطني الثالث والأربعون
-
القوميون الجدد وسياسة الهوية
-
-إعلانُ دمشق- واكتشاف سوريّا!
-
طاقة الرمزي والعقلانية الرثة
-
الطغيان والواقعية النفسانية
-
حداثتنا الفكرية: قومية ألمانية، علمانية فرنسية، اشتراكية روس
...
-
إلى المثقفين اللبنانيين: تعالوا زوروا سوريا!
-
الأقليات غير موجودة في سوريا، لكن إحصاء الطوائف ممكن!
-
حوار حول السياسة والثقافة في سوريا
-
تقويم نقاش أزور: من صراع القيم إلى نقد السياق المؤسسي
-
ضد التكريس
-
فلسطين وإسرائيل: اختيار شراكة مفروضة!
-
صورتان لمفهوم الأمن الوطني السوري: مقاربة نقدية
-
سوريا ولبنان: تاريخ هويتين أم هوية تاريخين؟
-
تخطيط لمراحل العلاقة العربية الغربية بعد الحرب العالمية الثا
...
-
الامبريالية، الشمولية، السلفية؛ وماذا بعد؟
المزيد.....
-
رئيسة المكسيك تكشف ما قالته لترامب عندما عرض إرسال قوات أمري
...
-
لواء مصري يكشف بالتفاصيل حقيقة الأنباء عن إنشاء قاعدة عسكرية
...
-
نتنياهو يطالب قطر -بالكف عن اللعب على الجانبين- في مفاوضات غ
...
-
والد أحمد الشرع يهدد إسرائيل: سنقاتلكم بأظافرنا ونعرف متى نض
...
-
مؤسسة -هند رجب- تكشف هوية الضابط الإسرائيلي المسؤول عن قتل ا
...
-
السفارة الروسية لدى السويد تدين الحملة المعادية لموسكو في وس
...
-
تحطم طائرة فوق منازل في سيمي فالي بولاية كاليفورنيا الأمريكي
...
-
الخارجية السودانية تتهم -قوات الدعم السريع- بقتل 300 مدني غر
...
-
الجزيرة ترصد أوضاع الأطفال داخل مستشفى الرنتيسي بغزة
-
على وقع تظاهرات مستمرة.. هذه أبرز مطالب الأحزاب في بنغلاديش
...
المزيد.....
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
المزيد.....
|