أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - صورتان لمفهوم الأمن الوطني السوري: مقاربة نقدية















المزيد.....



صورتان لمفهوم الأمن الوطني السوري: مقاربة نقدية


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1453 - 2006 / 2 / 6 - 11:30
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


يعتقل أشخاص في سوريا، فيبادر معارضون ونشطاء حقوق إنسان إلى التنديد باعتقالهم، وقد يدينون "النظام الأمني"، ويؤكدون أن هؤلاء المعتقلين ليسوا خطرا على البلاد، دون أن يكون واضحا معيار التمييز بين ما هو خطر وما هو ليس كذلك. وفي عام 2005 اضطرت القوات السورية للانسحاب من لبنان، وتعرض النظام لضغوط هائلة، وشعرت أكثرية السوريين بخطر الوضع في البلاد وحولها، لكن دون أن يساءل أحد ودون أن يقدم أحد كشف حساب عن تعريض أمن البلاد للخطر ودون أن يكون لدى أحد مفهوم وضاح لأمن البلاد أصلا. وقبله في عام 2004 ضربت إسرائيل في دمشق أو حولها، ولم تدفع الضربات إلى نقاش حول استراتيجية سوريا في معالجة الخطر الإسرائيلي في ظل فشل استراتيجية السلام وصعوبة المواجهة العسكرية.
ترى، ما صفات الشيء الذي يعتبر خطرا على البلاد؟ ما هو الشيء الآمن بالمقابل؟ كيف يصان أمن سوريا؟ من هو الصديق ومن هو العدو؟ ما هي الأهداف الوطنية الكبرى التي يعتبر المساس بها خطرا على الأمن الوطني السوري؟ ما هي العلاقة بين أمن سوريا و"الأمن القومي العربي"؟ بين أمن سوريا وأمن نظام حكمها؟ هذه الأسئلة وأشباهها هي ما يفترض أن تجيب عليها العقيدة الأمنية السورية. وسنقول في هذا المقال إن هذه العقيدة غير موجودة، وان عدم وجودها بحد ذاته خطر على البلاد وأمنها. على أننا سنحاول تقصي نظام الغياب هذا أو منطقه، في محاولة لتجاوز منطق الإدانة والهجاء السياسي من جهة، وتوسيع الاهتمام الفكري بقضايا غائبة تماما عن أفق اهتمام الديمقراطيين السوريين من جهة ثانية.
قبل بعض الوقت نشرت جريدة "السفير" ملفا أعده منذر مصري، وسأل فيه 13 مثقفا وناشطا سوريا: من أين يأتي الخطر على سوريا اليوم (السفير، 11/11/2005)؟ تفاوتت أجوبة المثقفين والناشطين، لكن لم يكن واضحا تعريفهم للخطر، ولا معاييرهم في تصنيف الأخطار، ولا كذلك تصورهم عن الكائن المعرض للخطر: سوريا. قال بعضنا إن الخطر الأول هو النظام، وقالت قلة إنه الخطر الخارجي، ومزج أكثرنا بينهما، وقالت قلة أخرى إنها تركيبة المجتمع السوري المعرضة للتنازع الأهلي. على مألوف السوريين قدم المشاركون أفكارا نبيهة، لكن دون إعمال فكر ودون هدوء في النبرة ودون ما يشير إلى تركيب فكري (كاتب هذه السطور كان بين المساهمين). تقديراتنا حدسية أو إيديولوجية، تتصل بمواقعنا وتفضيلاتنا، لا يسندها مبحث مستقر المقدمات والمفاهيم والإشكاليات ولا شعور بالأمن يحرر من اندفاعات الشعور.

مفارقة النظام الأمني
ترتسم على الفور مفارقة: يبدو النظام السياسي في سوريا متمركزا حول الوظيفة الأمنية، ويقال أن "الأمن" هو "كل شيء" في البلد، فكيف تأتى أنه ليس هناك مفهوم واضح للأمن الوطني السوري؟ يصدر رصد المفارقة هذه عن افتراض أن البعدين الجهازي والفكري للوظيفة الأمنية متساوقان حتما، وان مزيدا من الأجهزة الأمنية يعني مزيدا من الفكر الأمني والوعي الأمني. والحال ليس هذا ضروريا وليس هو الواقع. ونميل إلى الاعتقاد بأن غياب مفهوم محدد للأمن الوطني ليس عيبا في عين المسؤولين عن الوظيفة الأمنية في سوريا بل هو عنصر اساسي في مفهومهم للأمن. فمن شأن وضوح العقيدة الأمنية، أي تعريفا واضحا ومتسقا للأخطار والأعداء والأهداف الأمنية التي تسعى إليها المنظومة الأمنية (مركب الأجهزة والعقدية والممارسات والوظيفة الأمنية)، أن يمنح المواطنين السوريين قدرة على التنبؤ بسلوك الفاعلين الأمنيين ومعرفة للخطوط الحمر التي يحسن تجنبها ومساحة الأمان السلوكية والفكرية والعملية التي يتمتعون بها في أنشطتهم، أي بالمجمل شعورا بالأمن. وهذا نقيض ما تصبو إليه فلسفة الأمن السورية التي تربط بين مردودها من الأمن وبين منع كل أنواع الخصوم، الداخليين بالخصوص، من توقع سلوكها. قد نذكر أن السيد رفعت الأسد ألح في مؤتمر حزب البعث عام 1979 على ما دعاه "سرية العقل الأمني" كي لا تعرف ثغراته ولضمان استحالة التنبؤ بسلوكه، وذلك على أعتاب أزمة اجتماعية ووطنية خطرة سجلت قفزة في المكون الأمني للنظام، ومحت الفارق بين أمن البلد وأمن النظام. ورغم أن السيد رفعت هزم بعد خمس سنوات تأسيسية وطوال من اقتراحه ذاك، فإن برنامجه هو الذي طبق كما يحصل كثيرا في الثورات والانقلابات العنيفة. بل آل نظام الحكم إلى أن يكون المنظمة الأشد سرية في البلاد (وعنفا وتطرفا وفئوية، لكن هذا بحث آخر).
نريد من ذلك أن نقول إن غموض مفهوم الأمن، وليس وضوحه، عنصر مكون للمنظومة الأمنية السورية.
هذا واقع غريب لكنه يلقي ضوءا مهما على تكوين وبنية الدولة. وهو يشير، في تقديرنا، إلى تغلب الوجه الجهازي للدولة على وجهها الأخلاقي أو الإدلوجي، إن استخدمنا لغة عبد الله العروي، وكذلك إلى تفوق الوجه التسييري على الوجه التاريخي في بنيانها.
وكما ألمحنا فوق، لم يبد المثقفون والديمقراطيون السوريون اهتماما بقضايا الأمن. لقد اكتفينا على العموم بالتنديد بالتجاوزات الأمنية، وبانتهاكات أجهزة الأمن لحقوق الإنسان، وبكشف مسؤولية أجهزة الأمن عن لا-أمن المواطنين وتعدياتها على حقوقهم وحرماتهم. ولم نقترح مفهوما متسقا للأمن الوطني، أو نعمل على إعادة بناء الوظيفة الأمنية والأجهزة الأمنية حول هذا المفهوم. هذا العمل مهم بحد ذاته، لكنه ايضا مفيد عمليا للحد من إساءة استخدام السلطة الأمنية والحجج الأمنية. أسباب ذلك مفهومة: النجاة من "الأمن" مقدمة على تفكيره أو التفكير فيه. والنظرية الأمنية، إن استخدمنا تعبيرا مفخما، لا تنبع من المعاناة من أجهزة الأمن، بل هي تقتضي تراجع المعاناة شرطا لها. الخائف يفكر في أمنه كشعور لا كمفهوم، وبالتأكيد لا يفكر في أمن بلاده أو الأمن بصورة عامة.
بالاهتمام بقضايا الأمن نريد أن نقول إن أمن سوريا والأمن في سوريا أهم من أن يترك لأجهزة الأمن ورجال الأمن، أهم أيضا من يترك لمنطق الإدانة أو التحريض الذي ينجر له معارضو "الأنظمة الأمنية" تلقائياً. لدى الأولين، كما سنرى، مفهوم ضيق للأمن الوطني يطابقه مع أمن نظام الحكم، ما يعني أن أمن البلاد بخير طالما كان نظام الحكم مستقرا. هذا أيضا بحد ذاته خطير على أمن البلاد. لذلك ندعو منذ الآن إلى نزع تسييس المنظومة الأمنية، وفي الوقت نفسه إخضاعها للسياسيين من رجال الدولة، وهو ما يقتضي بدروه أن يكون هؤلاء السياسيون منتخبون. ويوحي الأخيرون بأن الأمن شر بحد ذاته، الأمر الذي يجد ترجمته السياسية إن تسنى لهم الوصول إلى السلطة في السير على منطق الممارسة الأمنية التي نقموا عليها دون أن يحيدوا عنها قيد أنملة. بالتفكير في الشأن الأمني نحاول توفير المفاجآت السيئة على أنفسنا، بعد انقضاء "دولة" الأمن.
لكن هل صحيح أنه ليس لدينا في سوريا عقيدة أمنية؟ الواقع انه لدينا عقيدتان بدلا من واحدة. ولذلك ليس لدينا عقيدة أمنية وطنية. هناك مفهوم قديم للأمن القومي العربي. وهناك مفهوم نستخلصه من الممارسة يرد الأمن الوطني إلى أمن النظام الحاكم.


• مفهوم الأمن القومي العربي
تكون مفهوم الأمن القومي العربي في مرحلة صعود الفكرة القومية العربية في الخمسينات، ووضع تصورا طموحا وامبراطوريا للأمن العربي، فنظر إلى المحيط نظرة تتراوح بين الارتياب والعدائية بوصفه مصدر أخطار أمنية، وافترض توجها عربيا ثابتا نحو الوحدة أو على الأقل التضامن الفعال، واعتبر إسرائيل خطرا وجوديا. هذا المفهوم يعطي فكرة مبالغا فيها عن قوة العرب، وثقة مبالغا فيها أيضا بأن الزمن حليفهم، وان المستقبل سيحمل لهم الوحدة والقوة. إنه مفهوم مناسب لكتلة أقوى مما كانه العرب في أي يوم.
أيام الصعود ذاتها لم تتبلور منظومة أمنية فعالة حول هذا المفهوم. اليوم لم يعد مناسبا كلية. الإصرار عليه يقود إما إلى سياسات انتحارية، أو يقوم بدور ضباب إيدولوجي يحجب انتقال السياسة الأمنية إلى التمحور حول حماية النظام ودوام بقائه، وذلك من وراء الوفاء الخطابي للعقيدة القومية.
الممارسة الأمنية السورية لا تستهدي بمفهوم الأمن القومي العربي رغم حرصها على بث الاعتقاد بأنها تفعل ذلك. فقد خضع هذا المفهوم لتحول وظيفي نقله من مجال توجيه سياسة النظام إلى إضفاء الشرعية عليه وتسويغ مطامحه في الخلود. هذا التحول ممكن لأن العروبة عنصر مكون لأية وطنية سورية ممكنة. وتخفي الاستمرارية الخطابية انقطاعا في وظيفة المفهوم ومفرداته وإحالاته، فضلا عن السياسات الفعلية الممارسة تحت اسمه. وقبل أن يكون هذا غش فكري وإيديولوجي هو خطر أمني. بالأحرى، هو خطر لأنه غش، لأنه يحجب عن الناس الواقع الحقيقي. فالكذب والتزوير وعدم تسمية الأشياء بأسمائها تقلل من قدرة الناس على التوجه في الواقع وتضعف تحكمهم بمصيرهم وتثير لديهم ردود فعل غير سليمة، وربما غير عقلانية، وتعطل قدرتهم على فهم السياسات التي تستظل بالغش والتزوير والتأثير عليها. فإما أن يتواطؤوا ضد أنفسهم ومصالحهم، أو يستسلموا لواقع لا يستوعبونه ولا يملكون نفاذا إلى خفاياه، أو يتصرفوا بطريقة عنيفة رغبة في جلاء الملتبس وتوضيح الغامض.
على العموم، ندرك في سوريا أن الحرب التي يتحدث عنها الخطاب الأمني السوري، المنحول من الفكرة القومية العربية، ليست حربا، وأنها لازمة خطابية للعقيدة الرسمية، لكننا لا ندرك ان هذا بالغ الخطر لأنه تزوير للواقع وتشويش للمدارك من جهة، ولأنه لعب بالحرب لا بد ان يرتد إلى الداخل من جهة أخرى. وهذا واقع الحال. فبلاغ الحرب وأجهزة مواجهة الخطر (الأجهزة الأمنية) وتمركز الدولة حول الوظيفة الأمنية، كلها مسؤولة بصورة لا يمكن تخفيفها عن تطبيع القوة والإكراه والعنف في حياة البلاد، كما عن منع السياسة عن أهلها. حين تتحدث كل يوم عن المواجهة والصمود والمجابهة والأعداء، وحين تخضع الحياة الداخلية لمنطق المواجهة المفترضة تلك، وحين ولا تتحدث أبدا عن أصدقاء وحلفاء وخصوم وتفاوض وتسويات سياسية في الداخل، فإن الرسالة المضمرة أنه ينبغي أن يكون السوريون كتلة واحدة صماء، وأن أي ابتعاد عنها هو خيانة، وأن الشكل الواحد للاختلاف والخصومة السياسية هو علاقة العداوة، وعلاجها الوحيد هو الإبادة الجسدية أو السياسية. هذا هو مفهوم الوحدة الوطنية البعثي (سنفرد له تناولا مستقلا). وهو لا يترك بابا للتغيير غير مفتوح على العنف. وهو أيضا خطر بالغ.
وهو بعد مبدأ انقلاب المنظومة الأمنية السورية على نفسها: فإسرائيل، العدو القومي والدولة التي تحتل أرضا سورية، والتي كانت خارج السياسة وداخل الحرب حتى حرب تشرين الأول 1973 غيرت موقعها، وبعد قليل، وبدءا من أوساط السبعينات، احتل موقع الحرب الاعتراض المحلي المحتمل. ليس تفسير ذلك صعبا. فالمنظومة حربية ولا سياسية، وهي تنتج الأعداء وتطلبهم. وحين لا تتعدى إلى هذا العدو لأسباب تخص الإمكانيات تتعدى إلى غيره. إن حربيتها فعل لازم لتكوينها، أما تعديه إلى هذا العدو دون ذك فيتحدد بقدراتها. لا ننس أن تلك كانت أيام الفشل في الرد على التحدي الإسرائيلي كما تمثل في هزيمة حزيران (نظام ناصر والنظام البعثي انقلبا على سابقيهما لفشلهما في منع نكبة 1948)، وعدم الاعتراف بالفشل في وقت واحد. النظام الذي لا يعترف بالفشل لن يقبل إعادة النظر في بنيانه وشرعيته بل سيكون حساسا وبالغ العنف خيال أي مساءلة له على هذين الصعيدين. هذا ما حصل. النظم المهزومة ستدفّع شعوبها ثمن الهزيمة دما وكرامة ومستقبلا. منذ ذلك الوقت انقلبت العلاقة بين النظام والأهداف الوطنية. بات النظام هو الهدف وأمست الأهداف عقيدة مشرعة له.
لقد خرجت إسرائيل من الحرب إلى السياسة، لكن دون أن ينال هذا التحول تغطية فكرية وثقافية تستوعبه. بالطبع ليس من مصلحة سوريا خوض مواجهة عسكرية مع عدو أقوى بكثير ومسنود من اقوى أقوياء العالم. حيال هذه الواقعة التي يدركها المسؤولون السوريون جميعا قدمت الهيمنة على لبنان مخرجا جانبيا يتيح في الوقت ذاته الاستمرار في الحرب (بالوكالة) والوفاء لنظرية الأمن القومي مع تجنب المواجهة المباشرة. أغلق هذا المخرج بعد الانسحاب السوري من لبنان، وإن يكن الحنين إليه لا يزال قويا، وإن يكن الحلم بإعادة فتحه، أو بالأحرى الإمساك بمفاتيحه، يلازم الحكم البعثي. والواقع أن مفهوم حرب الوكالة غير منصف لحزب الله الذي واجه إسرائيل عن إيمان مهتديا بقيم قومية ودينية عادلة حقا. لكننا لا نتحدث عن حزب الله. نتحدث عن نظام الهيمنة السورية.
إلى جانب المخرج اللبناني ، ثمة نظرية رفض التطبيع التي لمع نجمها في تسعينات القرن العشرين حين بدا ان المفاوضات السورية الإسرائيلية قد تثمر اتفاق سلام مع العدو القومي. غير أن رفض التطبيع ليس نظرية كافية لاستيعاب خروج العدو القومي من الحرب إلى السياسة ولا هو سياسة متسقة، بقدر ما إنه إعداد النفس لتقبل تسوية سياسية، غير عادلة، مع إنقاذ كرامتها (أي النفس) بمنحها شعورا بمقاومة ثقافية واجتماعية. كان رفض التطبيع حيلة تتيح للنظام الجمع بين تشدد فكري وعقيدي حيال "الكيان الصهيوني" ومرونة سياسية ودبلوماسية حيال "إسرائيل". غير أن هذه الازدواجية ليست نظرية أمنية ولا سياسة أمنية بقدر ما هي بديل زائف عنهما وهروب من مقتضياتهما. وأكثر ما يتجسد خطل هذه الازدواجية فيه هو أن أقسى حكم يمكن أن تناله مصافحة الرئيس بشار الأسد مع الرئيس الإسرائيلي موشيه كتساف في نيسان 2005 هو حكم العقيدة البعثية بالذات ومفهوم الأمن القومي العربي المرتبط بها. كان يمكن للمصافحة تلك ان تكون إشارة رمزية مقبولة في إطار مفهوم أمني مختلف، لكنها في إطار المفهوم المعلن للنظام السوري بالذات لا يمكن تسويغها. النظام غير قادر على تبرير سلوكه استنادا إلى عقيدته هو. وهذا أمر غير عقلاني يدل على الحاجة إلى تجديد المنظومة الأمنية السورية، مفهوما وأهدافا وممارسة وأجهزة. أما سر هذه اللاعقلانية فبسيط جدا: عقيدة النظام لم تعد موجها لسلوكه كما قلنا. على أن العقلانية تستعاد إذا اعتبرنا أن الهدف الأسمى هو البقاء في السلطة. فالعقيدة تمنح شرعية بقاء، وتفل حسا نقديا عند جمهور وطني الحساسية، لكنه ضعيف سياسيا وفكريا.

سياسوية بلا مبادئ
سنلتزم الإطار النقدي لهذا التناول، لكن النظر في بعض الأمثلة يضيء تناقضات عقيدة الأمن القومي العربي.
تحولت علاقة النظام بالجوار أيضا. كانت العلاقة مع تركيا حربا باردة حتى عام 1998، مارس فيها النظام حربا بالوكالة ضد تركيا عبر حزب العمال الكردستاني وردت تركيا بضغوط مائية وتوثيق علاقتها مع إسرائيل وصولا إلى التهديد بالحرب قبل التوصل إلى اتفاق أضنة الذي استجابت فيها السلطات السورية للمطالب التركية جميعا. هنا أيضا حصل انفراج سياسي دون عمق فكري. في العقيدة الأمنية السورية المقررة، العقيدة القومية العربية كما قلنا، لا يمكن تسويغ انصلاح العلاقة السورية التركية، رغم أنه عقلاني سياسيا. أكثر انسجاما مع هذه العقيدة أن يدان التطبيع مع تركيا ويلام على نسيان اسكندرون، وصولا إلى تخوين النظام. هذا ما جرى بالفعل وإن على نطاق ضيق من قبل أصناف من المعارضين في الخارج. صمت معارضين آخرين في الداخل والخارج لا يصدر عن خوف محتمل من النظام، بل عن شعورهم بأن العقيدة الأمنية الرسمية باتت منفصلة عن الواقع، ولا يمكن بناء أمن البلد عليها، حتى لو يكن التحول عنها متسقا ومدروسا.
الجمع بين علاقات سياسية واقتصادية حسنة وعدم التخلي (المؤقت؟!) عن اسكندرون صعب في ظل الضعف السوري الحالي، ويزداد صعوبة في ظل ضمور الفكر الأمني والاستراتيجي السوري. لا نقاش حرا في سوريا يمكن ان يساعد في إنعاش الفكر وتنمية وظائفه الاجتماعية الأمنية في شرح الواقع وتغطيته معرفيا وعمليا وقيميا.
يمكن القول، تاليا، إن وجوها من سياسة النظام الخارجية أكثر عقلانية مما تنص عليها عقيدته نفسها، وهو لا يفلح في ممارسة السياسة على المستوى الإقليمي والدولي دون "خيانة" عقيدته بالذات. هذا، مرة أخرى، وضع غير عقلاني، منبعه، كما قلنا مرارا، أن وظيفة العقيدة لم تعد توجيه السياسة بل تشريع السلطة. النظام السوري من وجهة نظر عقيدته بالذات "خائن". هو ليس كذلك. هو ضعيف حيال من عرفتهم العقيدة القومية العربية في صيغتها البعثية بأنهم أعداء. وهو غير عقلاني: لا يستطيع التخلي عن العقيدة ووظيفتها المشرعة، ولا يمكنه بالمقابل بلورة سياسات تلتزم بها. يفضل الفصام، أي الجمع بين سياسة واقعية تلتزم بموازين القوى، وعقيدة منفصلة عن الواقع تستجيب لمقتضيات الشرعية. النتيجة سياسوية بلا مبادئ، وإن تكن عقلانية، ومبادئ غير صالحة للسياسة، وإن تكن شعبية.
الإرهاب الذي يُلجأ إليه أوقات الشدة مخرج من الفصام وشاهد عليه.
والواقع أن لانتحال عقيدة الأمن القومي العربي نتيجة غير مقصودة تتمثل في حفز الإرهاب. إذ يمكن للإرهاب أن يكون نتيجة لمفهوم سياسي وأمني خرج من سياسة الدول ولم يخرج من أيديولوجياتها، ولا من سياسة مجموعات صغيرة من مواطنيها. خرج من سياسة الدول لأن الدول منظمات عقلانية نسبيا تدرك الممكن وغير الممكن، فتسعى وراء الأول وتنأى بنفسها عن الثاني. لكنه لم يخرج من إيديولوجياتها لما يدره بقاؤه من عوائد شرعية على نظمها الحاكمة، ومن توحيد أو تخفيف انقسامات نخب السلطة فيها. والخروج من السياسة واللجوء إلى الإيديولوجية مميز لنظم الطغيان المحدث التي تسند شرعيتها إلى مبادئ إيديولوجية وليس إلى الاختيار الشعبي. ولم يخرج (مفهوم الأمن القومي) من سياسة مجموعات صغيرة وهامشية احتفظت بإيمانها به لأن هذه لا تبالي بالعقلانية ومنطق الممكن، لذلك تجنح نحو الإرهاب. فالإرهاب وفاء لعقيدة لم تعد سياسية، ولم يعد ما تنص عليه من أهداف وتطلعات ممكنا. الإرهاب بعبارة أخرى سياسة وفية لعقيدة مجردة ومتنكرة للواقع الملموس. (ينطبق هذا التحليل على مفهوم الأمة الإسلامية والعقيدة المنية المتضمنة فيه، والذي لبثت تنشره المؤسسات الدينية والتعليمية السعودية حتى 11 ايلول..)

التخوين بديلا عن السياسة
من وجهة نظر مفهوم الأمن القومي العربي العلاقة السيئة بين "الأقطار العربية" عار ينبغي التكتم عليه. الضمير القومي يسلم بتطابق جوهري ودائم بين مصالح الأقطار، فإن ساءت العلاقات بينها فإن سبب ذلك هو حتما ان بعض هذه الدول عميل يتحرك بوحي من أوامر جهات معادية للعرب، أي أنه غير عربي حقيقة. واقعيا كانت العلاقات بين سيئة وأسوأ بين معظم الدول العربية، بما فيها سوريا وجوارها. وكان الحل البعثي الدائم لهذه الفضيحة هو اللجوء الواسع إلى التخوين والإخراج من العروبة. ليس هناك رئيس او حاكم عربي، قريب او بعيد، لم يكن خائنا يوما من الأيام في الخطاب السياسي البعثي. هذا ينطبق على العراق وعلى الأردن وعلى منظمة التحرير ثم السلطة الفلسطينية، وعلى السياسيين اللبنانيين قبل الطائف وبعد الانسحاب السوري.
هذه التخوينية الموسعة أوثق صلة بتناقضات المفهوم البعثي للأمن القومي منه بخيانات مزعومة تحدق بسوريا الأمينة وحدها على قيم الأمة وأهدافها. فإنكار التعدد واختلاف المصالح المحتمل يلعب على المستوى القومي العربي الدور ذاته الذي يلعبه إنكار التعدد السياسي والديني والإثني في الداخل السوري، أعني تسويغ احتكار الشرعية والسلطة وتجريم المعارضة وكبح الانشقاق. وهي، التوسعية التخوينية، هي ما بقي من توسعية المفهوم القومي شبه الامبراطوري الذي ورثته سوريا من الحقبة القومية، والمتصل بملابسات نشأة الكيان السوري الحديث في نهاية الحرب العالمية الأولى، الملابسات التي لا تزال تعاش، أو تدرك على الأقل، بوصفها رضة ولادية، إن لم نقل خطيئة اصلية. وكما أشرنا فوق، فإن المفهوم هذا لم يكن متناسبا مع إمكانيات العرب في طور صعودهم، دع عنك إمكانيات سوريا وحدها.
شق هذا الواقع طريقه بصعوبة إلى الإدراك في السنوات الأخيرة التالية للحرب الباردة ولانتهاء عصر الحكام المحاربين في المشرق العربي. لكن لم يتواكب الاقتصاد في التخوين الخارجي مع فتح النقاش حول العقيدة التخوينية التي لا يزال النظام يمتح منها ما قد تدره عليه من شرعية. اليوم، نلاحظ إنعاشا للتخوين الداخلي حيال المعارضين في الداخل السوري، ما يشي بحدة الصراع السياسي والإيديولوجي في البلاد، رغم ما يبدو من عدم تناسب هائل في القوة بين الطرفين. نلاحظ أيضا عودة للتخوين حيال سياسيين لبنانيين، لكنه "عرض انسحابي" يشير إلى صعوبة تحمل الفطام المفاجئ من الإدمان اللبناني.
دفع إلى تحسن العلاقات مع "القطر العراقي" ضعف نظام صدام وانتهاء أية أخطار يمكن ان يتسبب بها لنظيره البعثي في سوريا. حين ضرب صدام إسرائيل بعدد من الصواريخ عام 1991، كانت سوريا في حالة حرب معه. من وجهة عقيدة النظام البعثية، هذه فضيحة لا يزال يرجع إليها بعض القوميين، لكنها قد لا تكون كذلك من وجهات نظر عقلانية أو براغماتية. بالمناسبة، رغم شهرة الرئيس حافظ الأسد بـ"البراغماتية" فإن ما كان ممأسسا في نظامه ليس البراغماتية، بل مزيج الإكراه وما يسمى في سوريا بالمبدئية. لعله لذلك ماتت البراغماتية تلك مع موت صاحبها.
مع الأردن ظلت العلاقة مضطربة. رغب الحكم السوري على الدوام في التأثير على الخيارات السيادية الأردنية. الجوار والأصل الشامي المشترك وتمدن سوريا وتقدمها المفترض على الأردن (قبل أن يُريّف العهد البعثي البلاد ويفقرها)، من بواعث هذه الرغبة. لكن الملك حسين ووريثه حافظا على العموم على علاقة ممتازة مع أميركا، ومع إسرائيل، لتجنب الوقوع تحت التأثير السوري (والسعودي والعراقي). الأردن دولة تحمل سمات المشرق وسمات الجزيرة العربية، وبحكم نشاتها وموقعها هي دولة وظيفية تكوينيا، تفصل منطقة "الشرق الأوسط" (الصغير) الملتهبة عن منطقة الخليج سريعة الالتهاب. ومفهومها لأمنها يدين أولا لموقعها ثم لتكوين مجتمعها (فلسطينيون وأردنيون مناصفة تقريبا)، وهي تداري قلقها الكياني بالانضواء تحت لواء قوة كبرى، وبتجنب اية مواجهة في منطقة كلها مواجهات. سوريا، بالمقابل، تداري قلقها الكياني بالرسائل الخالدة وبالهرب إلى الأمام أو إلى الخارج. تتحد مع مصر، تهيمن على لبنان، تتحكم بالفلسطينيين... كل شيء يرشح دولا قلقة وجوديا لأن تكون دولا قلقة العلاقات. هذا ما جعل العلاقة مع لبنان حرجة قبل عام 1976، وسطحية بعد عام 1989، ومرشحة لمزيج من الحرج والسطحية بعد ربيع 2005. كان لبنان (يداري قلقه الكياني بعقيدة الفرادة ..) خط دفاع خارجي عن نظام الحكم، وكان للهيمنة عليه فضل في الاستقرار السوري الشهير. انتهاء الهيمنة قد يفتح أبواب التغير السياسي في سوريا. الهيمنة على لبنان تجد شرحها المناسب في النظرية الأمنية الداخلية وليس في نظرية الأمن القومي العربي.
الخلاصة ان العقيدة السياسية والأمنية للحكم السوري مستمدة من العقيدة القومية العربية، وهي عقيدة حرب ومواجهة، خطر وأمن. من وجهة نظر هذه العقيدة، كل انفراج هو فاصل مؤقت بين مواجهتين. هذه العقيدة مستمدة كما قلنا من مرحلة الصعود العربي وما زكته من قراءة عظامية للتاريخ العربي، وكذلك من الوهم الاستراتيجي الأول للحرب الباردة، أعني جعل الضعفاء كالعرب يبدون اقل ضعفا واكثر قوة حيال الأقوياء الذين بدوا بالمقال اقل قوة واشد ضعفا (انشغال الكبيرين ببعضهما حد من حريتهما ومنح الصغار حرية لم ينالوها عن جدارة). الفكرة القومية العربية كلها فكرة قوة وصعود. يمكن لها أن تعود بطريقة ما إذا تحسن موقع العرب أو النخب العربية في النظام الدولي.

• أمن نظام الحكم
لاحظنا أن العقيدة الأمنية المبنية على تصور الأمن القومي العربي هي واجهة تشريعية لنظام الحكم، فيما اللب السياسي هو ضمان هيمنته وبقائه. الصيغة البعثية لمفهوم الأمن الوطني تغطي على الهاجس الأمني للنظام بالعقيدة القومية العربية.
بمنطقه البديهي يقود تمركز المفهوم الأمني حول تخليد نظام الحكم إلى ادخار موقع العدو لقوى الاعتراض المحلية التي ستعتبر مصدر أخطار يستوجب المراقبة الدائمة والاختراق العميق والتقييد العنيف. لقد اقتضى قياس أمن البلاد بأمن النظام واستقراره، على الدوام، نزع استقرار المجتمع المحكوم واعتباره منبع أخطار أمنية. الاستقلال الاجتماعي محظور. المعارضة السياسية عدو. هذا واقع غير معترف به، ولا يمكن الاعتراف به بالطبع. لكن تحليل الممارسة السياسية والأمنية الفعلية لا يحيل إلى غيره..
لا مقام للسياسة في النظام الأمني. ثمة "الأخوة" أو العداوة المطلقة. الاختلافات السياسية والفكرية إما معدومة أو مطلقة. ليس هناك اختلافات نسبية ومصلحية تحل بالسياسة، ليس هناك فسحة للتسويات والتفاوض والمساومات والحلول الوسط. المساومة الوحيدة التي يرضى بها النظام هي التي يقبل فيها الطرف الآخر بإلغاء ذاته. ولا يرتضي من خصومه الداخليين ما هو أقل من التنازل عن وجودهم. وهو في الأصل يحول المختلفين إلى خصوم، والخصوم إلى أعداء برسم السحق والإبادة. بالمقابل لا يقبل بالأصدقاء والحلفاء المستقلين فيحولهم إلى أتباع. هذه المفهوم المتطرف خطير أمنيا وضار سياسيا ومفسد أخلاقيا. حالة الطوارئ التي ولدت مع الاستيلاء على السلطة عام 1963 (وليس في حزيران 1967 ولا في تشرين 1973..) اختزنت من تلك التجربة المكونة حدس أن العدو في الداخل. نظرية العدو الداخلي الأخطر من العدو الخارجي نظرية مميزة للأحزاب العقيدية جميعا. حزب البعث ليس استثناء.
لكن النظام يصدر عن تجربة مكونة أخرى وأشد انحفارا في جسمه وروحه، هي مواجهته مع الإسلاميين (ومع تيارات غير إسلامية، إن لم تكن معادية للإسلاميين) التي استمرت صفحتها الدموية بين أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، وصفحاتها الأقل دموية حتى اليوم. تجربة مكونة رغم أنها وقعت بعد سنوات من انقلاب 1970، لأنها كانت مواجهة "تناحرية" اتسمت بعنف هائل، ولأنها نقشت عميقا في لا وعي النظام الحالي ودخلت في تكوينه وسجله الوراثي، ولأن النظام ورث منها حساسية ضارية حيال كل أشكال الانتظام الاجتماعي المستقل التي لا تتم تحت رقابته. والإخفاق المتكرر في معالجة نتائج تلك التجربة يدل على درجة تعضيها واستدماجها غريزة مستقلة في عضوية النظام. يدل على ذلك ايضا رفض النظام المتكرر لأية مبادرات مصالحة من قبل الإسلاميين، بل وعودته منذ أيار من العام الماضي إلى منطق قمع العلمانيين على غرار ما فعل عام 1980، وفق قاعدة من ليس معنا فهو ضدنا.
الفشل المتمادي في حل هذه المشكلة يعطي انطباعا بان حلها مرتبط بـ"حل" النظام. هذا ينذر بلغم متفجر على طريق مستقبل البلاد. وهو من الأخطار التي يتعين التحسب لها منذ الآن.
منذ عام 200، تلامحت مؤشرات قلقة على تحول من الحرب نحو السياسة داخليا، وإن يكن متأخرا قرابة عشر سنوات عن دخول إسرائيل في السياسة، وأقل انسجاما من دخولها أيضا. بل يمكن القول إن الفرصة ضاعت، وإن التحول نحو السياسة فشل في أن يصير سياسة في سوريا. بنية النظام امنية لا تزال، مضادة للسياسة لا تزال. لكن المتغيرات الداخلية والخارجية باتت تحول بينه وبين غرائزه الأمنية. لا مجال لملء الفجوة بين الغريزة والممكن بغير السياسة، أعني الإقرار بتعدد المصالح والتفضيلات الاجتماعية والسياسية وبشرعية حصولها على تعبيرات سياسية وبضرورة إعادة بناء النظام السياسي على التعاقد بينها. غير أنه يبدو أن النظام غير قادر على بلورة سياسة منسجمة في أي اتجاه، وخصوصا في مرحلة ما بعد قرار مجلس الأمن 1559، وبصورة أخص منذ بدا التقرير الدولي في اغتيال الرئيس الحريري. هذا هو المأزق الذي يتحكم بالنظام وبسوريا ككل. فما يمكن أن يجنب البلاد خضات خطيرة في المستقبل القريب والمتوسط هو تغيير النظام السياسي وإعادة الروح السياسية له، لكن من يشغلون مواقع القرار غير قادرين ولا راغبين في التحول نحو نظام السياسة. ولا مجال للخروج من هذا المأزق عن طريق القمع. فإطلاق اليد في الداخل يقتضي غطاء خارجيا قويا أو بالعكس حكومة ديمقراطية مضمونة الشرعية، وإلا كان وصفة وصفة للانهيار العام وربما النزاع الأهلي. وفي غياب غطاء خارجي من النوع الذي توفر لموجة القمع الشامل في مطلع الثمانينات، يجد النظام نفسه أمام خيار مصيري عليه وعلى البلد: إما التغيير أو الانهيار. إما تجديد المنظومة الأمنية في إطار مفهوم جديد متماسك للأمن الوطني السوري يندرج بدوره ضمن مفهوم جديد للوطنية السورية، أو ما لا ندري من فقد السيطرة على المصير والانزلاق في مسالك الانحلال والتفسخ.
بعد 11 أيلول واحتلال العراق والانسحاب من لبنان وجملة الضغوط الدولية المواكبة نشأ تناقض جديد بين حاجة النظام إلى الشرعية الداخلية وحاجته إلى البقاء التي قد يعرقلها الأميركيون أو من يوكلونهم. إذا ثابر على شرعيته العقيدية التقليدية (غير "مكسورة" بشيء من "البراغماتية") جازف بفرصه في البقاء، ولا يبدو أن فرص البقاء يمكن تحصيلها دون مساس بتلك الشرعية. كان مدار براغماتية الرئيس حافظ الأسد حل المعضلة والفوز بالبقاء دون تغيير نمط الشرعية العقيدية: البراغماتية مع الخارج والعقيدة والإكراه في الداخل. كيف سيحل النظام الحالي المعضلة نفسها؟ ليس هذا واضحا بعد. في أواسط تموز 2005 قال الرئيس بشار الأسد في حديث لصحيفة نيويورك تايمز إن الأميركيين لا يدركون أن العدو المشترك لهما معا هو التطرف الديني. واضح أن النظام يبحث عن وكالة وتمديد لنفسه. البقاء أولا، ثم تصطنع الشرعية المناسبة.
من وجهة نظر وطنية عقلانية يبدو أن هناك حلا واحدا: تدشين التحول نحو نظام تعاقدي يقوم على الشرعية الدستورية ويحرر نفسه من الرغبة في البقاء إلى الأبد، راهنا تجدده بانتخابات حرة دورية.

سوريا بلا عقيدة أمنية
لربما لاحظنا أنه ليس هناك عقيدة أمنية سورية. هناك، كما قلنا، عقيدة للأمن القومي العربي، لم تعد مناسبة لرسم السياسات، وهناك عقيدة لأمن النظام متمحورة حول بقائه. وفقا للأولى سوريا قطر عربي يستمد نظام حكمها شرعيته من إدراجه القطر في مخطط تاريخي مآله الوحدة العربية. ووفقا للعقيدة الثانية ترتد سوريا إلى نظام حكمها. أين سوريا كدولة مستقلة، متميزة عن نظام حكمها، ولها تاريخ ذاتي لا يعرف مآله؟
التناقضات العميقة التي رصدناها، وبالخصوص العجز عن حلها، تثير تهم التخوين واللاوطنية وتشير إلى شيء أعمق من أزمة عقيدة الأمن الوطني الرسمية. إنها تطل على ما سماه برهان غليون قبل سنوات "أزمة الوطنية السورية". على أننا نركز هنا على البعد الكياني، لا السياسي، للأزمة. فهي أزمة شرعية وجود الكيان لا شرعية السلطة وحدها، وهي أزمة دمج وهوية وطنية، وليست أزمة تمثيل سياسي ونظام حكم طغياني فحسب. إذ لا يزال الكيان السوري هشا، غير حائز على ولاء عميق من مواطنيه. الولاء ينصرف إلى الأمة العربية أو الإسلامية من جهة، أو إلى الطوائف والإثنيات المكونة للمجتمع السوري من جهة أخرى. لا مجال للتوسع في هذه القضية هنا. نكتفي بالقول إن أزمة العقيدة الأمنية الرسمية هي وجه من وجوه أزمة الوطنية السورية. التباس الوطنية وتشوشها يوفر أرضية للصراع على الوطنية ولتكاثر الاتهامات بالخيانة. التخوينية المنتشرة مؤشر على أزمة الوطنية قبل كل شيء آخر.
غياب عقيدة أمنية يحيل كذلك إلى غياب تصور واضح عن الأهداف الوطنية السورية. ما هي الأهداف الوطنية لسوريا؟ الوحدة والحرية والاشتراكية؟ فيما عدا أن هذه أهداف حزب سوري، فإنه لم يعد من الجدي اعتبار الوحدة العربية هدفا للسياسة السورية، ولا كذلك الاشتراكية. ماذا عن الحرية؟ يمكن وينبغي أن تغدو الحرية هدفا وطنيا، لكن دون ذلك تغيير جذري في هيكل النظام السياسي وعقديته.
لكن الفكرة المنفصلة عن الواقع مؤهلة أكثر من غيرها للقيام بوظائف رمزية أو تعبوية أو تشريعية. والفكرة (الوحدة والحرية والاشتراكية، والعقيدة البعثية ككل) التي لا تفيد في رسم سياسات وطنية عقلانية تفيد في حفظ تماسك نخبة السلطة وتخوين الخصوم.

ثورة أمنية؟!
سوريا أضحت بحاجة إلى ثورة أمنية. ثورة ضد "الأمن". أساسها نزع سياسية الأمن وإعادة الأمن أمنا وطنيا، ونزع عقيدية الجيش ورده جيشا وطنيا، ونزع حزبية الدولة وردها دولة وطنية. اليوم أجهزة الأمن هي مصدر نزع الأمن، لأن عقيدتها تقوم على نظرية العدو الداخلي الذي هو كل الناس ما عدا من يثبت ولاؤه.
هي ثورة ضد المنظومة الأمنية بالضرورة. إذ لا يمكن ضمان أمن البلد على أرضية مفهوم للأمن يقتصر على استقرار نظام الحكم، ويعتبر حرية المواطنين خطرا محتملا.
السؤال هنا: هل يمكن التحول نحو نظام أمني جديد دون مشكلات أمنية أو اضطرابات أمنية؟ ثمة جيلان من الأمنيين تعضت لديهم الغريزة الأمنية المعادية لكل أشكال الحراك الداخلي المستقل. ومن اللافت، على سبيل المثال، أنه رغم أن الأنشطة المستقلة خلال السنوات الخمس المنصرمة كانت علنية بالكامل فإن أجهزة الأمن السورية لم تكن تستطيع التعامل معها إلا بعد تحويلها إلى تقارير سرية. هذا يعني أن تكوينها ينتمي إلى زمن فات، وأنها تطالب الأخطار بأن تدور حولها بدلا من أن تدور هي حول الأخطار و"تقتلها بحثا" ومعرفة. في ذلك ما يشير إلى أن المركزية الأمنية باتت خطرا أمنيا. ففي زمننا هذا تحولت من مركزية الوظيفة الأمنية إلى مركزية أساليب وتقنيات أمنية لا تدرك من الأخطار إلا ما تدربت عليه في زمن التجربة المكونة الثانية للنظام السوري الحالي، أعني تجربة سحق الاستقلال الاجتماعي طوال الربع الأخير من القرن العشرين. بعبارة أخرى، تبحث المنظومة الأمنية السورية عن المفتاح الضائع حيث يوجد الضوء وليس حيث ضاع المفتاح. وتشم الخطر حيث لم يعد ثمة خطر، وبالمقابل هي غير قادرة على إدراك واستباق الأخطار الحقيقية على الأمن الوطني. التفجيرات التي وقعت في دمشق خلال عام 2004 ضد نشطاء فلسطينيين دون أن تتمكن أجهزة الأمن من كشف أحد وراءها برهان على ما نقول. "اكتشاف" تنظيمات أصولية وتكفيرية برهان آخر على البحث تحت الضوء. وهو يشير أيضا إلى نزعة الجنرالات المتأصلة إلى خوض الحرب السابقة.
وهذا بالطبع وجه آخر من وجوه اللاعقلانية في المنظومة الأمنية السورية، ومن ورائها في النظام السياسي. ذروة اللاعقلانية تتجسد، كما هو معروف، في أن الأمن هو مصدر الخوف والهلع الحقيقي في سوريا. ليس الأمر كذلك في بلدان العالم الأخرى. الأمن يسمى أمنا لأنه يبعد الخوف ويحمي الناس. لدينا هو خطر على الناس ومصدر رعبهم وقلقهم، والبعد عنه، وليس القرب منه، هو الذي ينجي.
إلى المفهوم الأمني والأجهزة الأمنية، تقتضي الثورة الأمنية تحولا في موقع الوظيفة الأمنية في النظام السياسي السوري. اليوم هي وظيفة مهيمنة ومتضخمة، وهذا ينزع السياسة من المجتمع ومن الدولة ذاتها. ضده، ينبغي إخضاع الأمن للسياسة في سياق إعادته أمنا وطنيا.
الثورة الأمنية غير ممكنة في ظل نظام الحزب الواحد والعقيدة البعثية المفروضة قسرا كعقيدة وطنية. والتحول نحو نظام تمثيلي تنافسي وتعددي حاجة أمنية لسوريا قدر ما هي مطلب ديمقراطي ووطني.
الثورة الأمنية تقتضي أيضا الاعتراف بالتعدد الأهلي والسياسي للمجتمع السوري وتنمية المشترك السياسي والوطني بين سوريين مختلفين، وليس حذف الاختلافات بينهم بالقسر. هناك حل واحد لمشكلة الأقليات في سوريا هو المساواة الفردية والجمعية في الحقوق وفي النفاذ إلى السلطة. في سوريا فائض كبير على نظام حكمها، إن لم يتم تغيير النظام لاستيعابه تحول مصدرا لعدم استقرار الكيان السوري كله. العروبة جزء من سوريا. وسوريا عربية بمعنى أساسي، لكنه واحد: أكثرية سكانها عرب، أي بمعنى تعاقدي وسياسي وتاريخي، لا بمعنى ماهوي وجوهري وفوق تاريخي. يمكن بالطبع المجادلة في هذه النقطة. لن ندافع هنا عن موقف محدد. النقاش ضروري من أجل الوضوح و..الأمن.
التحول نحو نظام تمثيلي مدخل إلى عقلنة السياسة الخارجية السورية، بما يقرب أمن سوريا الوطني من أمن السوريين. ثمة بلا شك عنصر تاريخي وثقافي في مفهوم الأمن الوطني، عنصر يجعل أمن سوريا لا يرتد إلى أمن هذا الجيل أو ذاك من أجيال السوريين، أي إلى مفهوم محض تعاقدي للأمن، لكن حذف البعد التعاقدي من مفهوم الأمن يجعل منه أداة تتصرف بها اعتباطيا أطقم الحكم. بالمقابل من شأن حذف البعد التاريخي والثقافي، كما تجنح نزعات ديمقراطوية، يقود إلى تحطيم الدولة والمبدأ الوطني ذاتها.
والثورة الأمنية أخيرا بعد واحد من ثورة متعددة الوجوه تنقل البلاد من الدولة الأهلية والأمنية إلى الدولة المدنية والوطنية. ومن الدولة كاحتكار للحرب الأهلية إلى الدولة كاحتكار للعنف الشرعي. ثورة تؤسس لنظام جديد للشرعية وللوحدة الوطنية وللأمن الوطني وللمصلحة الوطنية. وهي ثورة تقطع مع العروبة الامبراطورية لمصلحة عروبة دستورية متصالحة مع "الأقطار" القائمة، منفتحة على تعدد كل منها، ترى إلى ذاتها كمشروع لا كسقف. فلنستعر لها اسما قديما: الثورة الوطنية الديمقراطية.

خاتمة
جانب أساسي من الأزمة الأمنية السورية سببه ضعف بلادنا. جانب لا يقل أساسية سببه جمود النظام وفقره السياسي والفكري. الجمود هذا واحد من أسباب الضعف، وعائق أمام مواجهته أيضا. حاولت هذه المقالة طرح مقاربة نقدية لمفهوم الأمن الوطني السوري. أردنا قلب العقيدة الأمنية السائدة على أصحابها: النظام الأمني هو أكبر خطر أمني على سوريا. تطوير الفكر الأمني، بالمقابل، ضروري للدفاع عن أمن سوريا وعن الحرية في سوريا. ونعود، مرة أخرى، إلى القول إن الأمن الوطني أهم من أن يترك للأمنيين.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سوريا ولبنان: تاريخ هويتين أم هوية تاريخين؟
- تخطيط لمراحل العلاقة العربية الغربية بعد الحرب العالمية الثا ...
- الامبريالية، الشمولية، السلفية؛ وماذا بعد؟
- غياث حبّاب
- عام سوري قصير ومليء!
- ريجيم، نظام، سلطة: تعليق لغوي سياسي
- عودة الولايات المتحدة عن «الثورية الطفولية» إلى سياسة أكثر و ...
- في أزمة الدكتاتوريات ومستقبل العمل الديمقراطي
- مغزى سياسة -شارع ضد شارع-
- الوطنية السورية: طرح المشكلة
- من أجل جبهة ثقافية ضد الموت
- من الداخل غير ممكن، ومن الخارج غير ديمقراطي؛ كيف التغيير إذن ...
- السياسة الأميركية في -الشرق الأوسط-: من الاستقرار إلى الفوضى ...
- في ذكرى خالد العظم: رائد القومية الاقتصادية في سوريا
- الثالث المأوساوي أو فرص التركيب الوطني الديمقراطي
- تمرين في التربية الشمولية
- نزع مدنية المجتمعات يقوي التطرف والطائفية
- بيان في نزع القداسة عن السياسة
- -قيام، جلوس، سكوت-: مسرح الهوية وتجديد القبلية الثقافية
- مأزق الإصلاحية السورية


المزيد.....




- بالأسماء والتهم.. السعودية نفذت 3 إعدامات السبت بحق يمني ومو ...
- -أمام إسرائيل خياران: إما رفح أو الرياض- - نيويورك تايمز
- صدمتها مئات الاتصالات -الصعبة- في 7 أكتوبر.. انتحار موظفة إس ...
- مفاوضات -الفرصة الأخيرة-.. اتفاق بشأن الرهائن أم اجتياح رفح! ...
- مذكرة أمريكية تؤكد انتهاك إسرائيل القانون الدولي في غزة
- زيلينسكي يخفي الحقيقية لكي لا يخيف الشعب
- الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع -حماس-
- ميزات جديدة تظهر في -تليغرام-
- كيف يمكن للسلالم درء خطر الموت المبكر؟
- كازاخستان تنفي بيعها مقاتلات خارجة عن الخدمة لأوكرانيا


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - صورتان لمفهوم الأمن الوطني السوري: مقاربة نقدية