أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - الطغيان والواقعية النفسانية















المزيد.....

الطغيان والواقعية النفسانية


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1481 - 2006 / 3 / 6 - 11:20
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يفسد الطغيان المديد النشط السياسة والثقافة معا، عن طريق إضفاء طابع نفسي مكثف عليهما وإضعاف عقلانيتهما. فهو يورث ضحاياه تجارب قاسية، تدفعهم إلى احتضان أحقادهم ومراراتهم وضغائنهم وندوب أرواحهم كما تحتضن الدجاجة بيضها إلى أن يفقس. تحل الأهواء محل المصالح، والمشاعر مكان الأفكار الواضحة، والانفعالات مكان المبادرة الواعية. وأعني بالطغيان السلطة التدخلية الاعتباطية، التي لا تكتفي بقمع معارضيها كما يفعل الاستبداد بل تطلب ولاء تاما من جميع رعاياها، وتفرض استعراضا دائما لهذا الولاء في المجال العام. ولتحقيق ذلك، تسحق من يشتبه بمعارضتهم، عبر التعذيب أو قضاء مدد طويلة في سجون وحشية أو تحكمهم بالإعدام. التعذيب والقتل والسجن ممارسات ضرورية لدوام مشاركة الرعايا جميعا في طقس الاحتفال بالطاغية، طقس عبوديتهم.
وتصبغ النزعة النفسية السياسة والثقافة بصبغة شعورية كثيفة، تمنع نهوضهما. فالثقافة لا تتفتح إلا إذا تحررت من مكنونات النفس، أو من المعطى النفساني المباشر، أو أيضا الواقعية النفسانية، واستقلت عنها؛ واستندت، بالمقابل، إلى مقدمات ومبادئ صنعية مشتركة. ومثلها السياسة، لا تستقل وتتطور إلا بضبط الاندفاعات النفسانية وعزلها، ومنع تسرب مياهها الملوثة بالهوى والشعور إلى المجال العام، والاستناد، عوضا عنها على مبادئ ومقدمات مصنوعة و"مشهورة" (معلنة ومناقشة وقبولها مستقر) ايضا.
أعني بالواقعية النفسانية رد الواقع إلى ما ينطبع على شاشة النفس، وتثمين الانطباع هذا بدلا من مقاومته وتصنيعه والشغل عليه وتطويعه. وإذا كنا نتحدث عن مغالبة الهوى وضبط النفس والسيطرة على دفقاتها الشعورية والتحكم بالغرائز، فإن المقصود بذلك حماية التعاملات بين الناس، وبالتأكيد الثقافة والسياسة، من النفساني المباشر الذي يميز الأطفال والطغاة والمجرمين. إن المعنى لا ينبع مباشرة من العناء، وإن كان هذا "مادته الأولية"؛ بينهما أدوات تخمير وتقطير وتعليب، تصفي خمر المعنى من ثفل المعاناة.
الكاتب الناضج هو الكاتب الذي يقاوم أفكاره الأولى، وليس فقط انطباعاته وخواطره. والسياسي الجدير هو السياسي الذي يضبط نفسه، ولا ينقاد لانفعالاته وأحقاده. فمن لا يجيد سياسة نفسه لا يمكن أن يجيد سياسة أنفس كثيرة، ومن ينقاد لهواه ليس جديرا بأن يقود أناسا متعددي الأهواء ومتنافريها. وقديما جعل العرب الحلم رأس فضائل سادة قومهم.

2
إن المشترك بين أنظمة الطغيان جميعا هو أنها تنكد عيش مواطنيها وتميل إلى التعامل معهم مثل الأيتام؛ أما خصومها المعلنون، فقد تسحقهم، أو، على الأقل، تذلهم وتعسر حياتهم. والهشاشة النفسية هي الثمرة المحتومة للطغيان، منظورا إليه كتجربة للقسوة والاعتباط، وكشح عاطفي شديد.
قد تتظاهر الهشاشة النفسية على شكل قسوة وتحجر نفسي وروحي. فمن أجل تحمل قسوة الطغيان العشوائية يضطر رعايا الطغيان إلى تسميك جلودهم، و"التمسحة"، وتسييج قلوبهم بجدران عالية من التبليد العاطفي الذاتي. فليس غير الاستيآس يخفف من وطأة اليأس، إنه تطعيم ضد اليأس بتشرب جرعات متزايدة منه. وبالمثل ليس غير الاستحباس يخفف من وطأة الحبس. والاستحباس مصطلح سجني، يعني التصالح مع السجن والتآلف معه وعدم الجزع منه، كأنه شرطنا الطبيعي. قد يكون الحلان هذان ناجحان، بيد أن شرط نجاحهما هو تأليف النفس على عدم توقع الكثير من الحياة، وعلى تقبل الشرط الموئس والامتناع عن السعي لتغييره. فكأننا نبتات صحراوية، تنجح في تحمل طغيان بيئتها، لكن هذا هو كل شيء تفعله: يستهلك جهد البقاء والتكيف كل طاقتها، فلا يترك لها وردا ولا ثمرا ولا ظلا.
وقد تتظاهر الهشاشة النفسية على شكل عاطفية صارخة، ملونة، تخفي تحتها نزعة قدرية عميقة. ولا تعارض بين الاثنتين. فهما تشتركان في زوال الإرادة كطاقة على التخطيط والترتيب والتركيب. تظهر الإرادة، بدلا من ذلك، في صيغة إرادوية عاصفة مميزة لنظام الطغيان النفسي والسياسي، أو في صيغة ركون إلى ما هو واقع مثل النبتة الصحراوية التي أومأنا إليها. من المألوف، لذلك، أن تتناوب النفسية العربية بين إقدام عاصف تتلوه استكانة خانعة.

3
لكن هل ثمة مخرج غير زائف من هذا الوضع؟ نعم بالتأكيد: مقاومة الطغيان والتجرؤ على مواجهته.
ليس ثمة شيء سحري أو بطولي حول المواجهة هذه، إنها مغالبة للخوف وتجاسر على إرخاء القيود وتوسيع تدريجي ومتردد لمساحة اللعب الحر. وفي هذا الجهد عنصر تجريبي، وعملية صح وخطأ، أي نحاول فإن لم ننجح، نحاول مرة أخرى بطريقة مختلفة. إنه عمل مدني بكل معنى الكلمة: أعني بذلك أنه بلا ضمانات للنجاح، بلا كفالة متعالية من أي نوع، وأنه عملية دنيوية وتراكمية، يسقط فيها ضحايا وخاسرون، لكن فرص النجاح محتملة دوما. وهي عملية صعبة، لكن صعوبتها صعوبة بشرية عادية، بل مبتذلة، لا شيء سريا أو بطوليا فيها.
يتعين أن نحطم أسطورة البطولة، من اجل أن نستطيع مقاومة الطغيان. إن تحطيم البطولية هو الضمانة الأقوى لقطع طريق الانتقال من طغيان إلى طغيان. فالطغاة في الغالب أشخاص بنوا أسطورة بطولة حول أنفسهم، أسطورة لا تسمح إلا لقلة نادرة أن تنال هذا المجد. وهم لا يحكمون إلا لأنهم استثنائيون، عباقرة، خارقون. إن الطغيان مؤسس على ندرة الأبطال.
نقاوم الطغيان بالدأب والصبر والسخرية والشجاعة.

4
نعود إلى ربط ما قلنا عن تأثير الطغيان المفسد للسياسة والثقافة. النفسانية السياسية والثقافية التي تتسبب بها فظاظة الطغيان هي بقاء في الطفولة ورفض للنضج. والنظم السياسية التي تعاقب شعوبها وتضربها كثيرا وتهينها تمنعها من النضج وتبقيها في الطفولة. والطفل، خلافا للناضج، قريب الرجع، يتلو رد فعله الفعل مباشرة، دون تدبر وعقل و"سياسة". الواقعية النفسانية هي، بالضبط، قرب الرجع والمباشرة، فيما الواقعية الواعية، السياسية والثقافية، هي بعد الرجع والأناة والصبر والتوسط. ولعل قرب الرجع أو بعده هو مقياس الهاشة النفسية، لو استطعنا أن نقيسه.

5
الكلام على إضفاء طابع نفسي على السياسة والثقافة يعني أيضا الكلام على إضفاء طابع شخصي عليهما، مع ما يعنيه ذلك من نزعة شخصنية، أي إحلال الأشخاص محل العلاقات، والمسؤوليات محل الأسباب، والأغراض محل الشروط والإمكانيات المتاحة للفاعلين. ومن هنا انتشار نظرية المؤامرة في ثقافتنا الحديثة. إذا يبدو العالم مكونا من ذوات مريدة، مغرضة، لا من علاقات وتقاطعات والتقاءات عارضة كثيرا أو قليلا. فنظرية المؤامرة هي البنت الشرعية للمفهوم الشخصني للعالم: الغرب شخص، أميركا شخص، اليهود شخص، و، في وقت مضى، الشيوعيون شخص، وبالطبع دوما نحن شخص، ما يجد ترجمته السياسية في بتر المختلف بيننا وردم فجواتنا المحتملة، وبالمقابل نصب أسوار صينية بيننا وبين العالم. من هنا أيضا كون البارانويا المرض النفسي القومي للعرب، أكثر حتى من الفصام الذي يشخصه دارسو الثقافة العربية الحديثة عادة (برهان غليون مثلا). من هنا كذلك شيوع نمط التفكير ضد (فلان أو التيار الفلاني) بدلا من التفكير بـ(الموضوع كذا أو المسألة كيت)، والفعل ضد بدلا من الفعل المتروى فيه، أي ببساطة شيوع سلوك رد الفعل. هذا يجعل من فكرنا بلا موضوع، بلا أرض صلبة يستند إليها، ومن فعلنا انفعالا ومراغمة وكيدا. وله الفضل في انتشار الخبث والسينيكية (الكلبية) في مجتمعنا ونفوسنا.
النموذج الأقصى للسلوك هذا هو أن كل تفاعلاتنا الاجتماعية ردود أفعال بلا أفعال، أسواء تفاهم بلا تفاهمات، معرفة بلا موضوع؛ أي بلا مبادرات تأسيسية وبلا تفاهمات تأسيسية وبلا ذاتية حقيقة. ذاك أن الذات بلا موضوع للمعرفة ترتد إلى مستوى الشعور، وبلا موضوع للعمل ترتد إلى مستوى الانفعال. ما دون اكتشاف الحرية في الحالين.
لكن لماذا المقاومة تحرر من النفساني المباشر؟ لأنها تصنع الموضوع، وتاليا الوعي أو الذات، بينما تقاوم الطغيان وتصطدم به. لأنها خروج من التذمر إلى الفعل، ومن "النق" إلى النقد، ومن الانطباع إلى تنظيم الإدراك، ومن المباشر إلى المبني والمتروي، أي إلى بروز الذات والموضوع فوق تشوش الشعور واختلاطه.
في ختام هذه التأملات، يبدو الطغيان نظاما سياسيا واجتماعيا يعوق ارتقاء الناس إلى ما فوق الشعور والانطباع، أو يردهم إلى مستوى الانفعال والعاطفة، لكنه ايضا شرط للمعرفة والعمل يبقي الإنسان أسير الدائرة الانفعالية، ويأسره في دائرة القصور والطفالة. الصلة بين الاثنين جلية: حين تضرب الناس أو تتحكم به اعتباطيا، إنما تأسرهم داخل نفوسهم، في دائرة الإحساس والشعور. الألم مضاد للعقل، وألم التعذيب يحطم اللغة والمنطق، كما تقول إيلين سكاري. والإذلال المديد يقتل القدرة على التفكير المنظم. واعتيادك القول "للأحيمق يا حليم" (المتنبي)، يفقدك السيطرة على مصيرك ويبقيك في دائرة الحمق والطغيان.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حداثتنا الفكرية: قومية ألمانية، علمانية فرنسية، اشتراكية روس ...
- إلى المثقفين اللبنانيين: تعالوا زوروا سوريا!
- الأقليات غير موجودة في سوريا، لكن إحصاء الطوائف ممكن!
- حوار حول السياسة والثقافة في سوريا
- تقويم نقاش أزور: من صراع القيم إلى نقد السياق المؤسسي
- ضد التكريس
- فلسطين وإسرائيل: اختيار شراكة مفروضة!
- صورتان لمفهوم الأمن الوطني السوري: مقاربة نقدية
- سوريا ولبنان: تاريخ هويتين أم هوية تاريخين؟
- تخطيط لمراحل العلاقة العربية الغربية بعد الحرب العالمية الثا ...
- الامبريالية، الشمولية، السلفية؛ وماذا بعد؟
- غياث حبّاب
- عام سوري قصير ومليء!
- ريجيم، نظام، سلطة: تعليق لغوي سياسي
- عودة الولايات المتحدة عن «الثورية الطفولية» إلى سياسة أكثر و ...
- في أزمة الدكتاتوريات ومستقبل العمل الديمقراطي
- مغزى سياسة -شارع ضد شارع-
- الوطنية السورية: طرح المشكلة
- من أجل جبهة ثقافية ضد الموت
- من الداخل غير ممكن، ومن الخارج غير ديمقراطي؛ كيف التغيير إذن ...


المزيد.....




- مشتبه به في إطلاق نار يهرب من موقع الحادث.. ونظام جديد ساهم ...
- الصين تستضيف محادثات بين فتح وحماس...لماذا؟
- بشار الأسد يستقبل وزير خارجية البحرين لبحث تحضيرات القمة الع ...
- ماكرون يدعو إلى إنشاء دفاع أوروبي موثوق يشمل النووي الفرنسي ...
- بعد 7 أشهر من الحرب على غزة.. عباس من الرياض: من حق إسرائيل ...
- المطبخ المركزي العالمي يعلن استئناف عملياته في غزة بعد نحو ش ...
- أوكرانيا تحذر من تدهور الجبهة وروسيا تحذر من المساس بأصولها ...
- ضباط وجنود من لواء المظليين الإسرائيلي يرفضون أوامر الاستعدا ...
- مصر.. الداخلية تكشف ملابسات مقطع فيديو أثار غضبا كبيرا في ال ...
- مصر.. الداخلية تكشف حقيقة فيديو -الطفل يوسف العائد من الموت- ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - الطغيان والواقعية النفسانية