أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - حوار حول السياسة والثقافة في سوريا















المزيد.....



حوار حول السياسة والثقافة في سوريا


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1465 - 2006 / 2 / 18 - 10:29
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


أجرى الحوار خلف علي الخلف وماجد المذحجي من موقع "جدار"
*من يرصد الوضع الثقافي في سوريا خلال حقبة استمرت اكثر من اربعين عاما يلحظ بوضوح تبعية " المثقف " للسلطة سواء كانت هذه (السلطة) في الحكم أو في المعارضة (التي شكلت سلطاتها على أحزابها) .. لمَ خفت صوت المثقف المستقل المتباين... حامل المشروع الذي يكشف ويشخص ويحلل، اكثر مما يصيغ برامجاً (شعاراتية ) في الحالين .. أنت كأحد الذين انحازوا الى خيار التبعية للسياسي كيف تنظر لهذا الامر من موقعك الحالي ..؟
** برأيي لم تمر فترة على سوريا كان فيها المثقف مستقلاً للدرجة التي يوحي بها السؤال..لقد تميزت الحياة الثقافية لدينا دائماً بالمذهبية من ناحية، والدوران حول الشأن السياسي من ناحية أخرى. واعني بالمذهبية ولاء المثقفين لنظم فكرية كلية، تتوفر على إجابات كاملة على أسئلة الوجود والتاريخ والاجتماع البشري والفكر... قلما كان لدينا المثقف المستقل، المنتج للمعرفة والمعاني والقيم الجمالية، والذي يضع نفسه وافكاره موضع تساؤل ..
ومن أسباب هذا الوضع بتقديري ضعف الطبقة الوسطى التي تملك الوقت والتأهيل الكافي للاشتغال في الشأن الثقافي.. ويتصل أحد الأسباب أيضا بحداثة الكيان السوري. فنحن لسنا مصر ولا لبنان، ولا حتى تونس أو المغرب، من حيث أنه ليس هناك تقليد ثقافي وطني يبنى عليه ويدعم استقلالية المثقف. لذلك، وباعتبار أن المثقف يحتاج دائما لسند ثقافي، فقد وجد المثقف السوري هذا السند في العقائد والمذاهب الفكرية المكتملة كالماركسية والقومية العربية بالصيغة البعثية (الصيغة البعثية وليس الناصرية، لأن الصيغة الناصرية اكثر براغماتية وأقل مذهبية) والإسلامية. سوريا بلد قلق وجودياً. إنها كيان حديث لم يتأت له الوجود إلا منذ 85 سنة. سورية الحالية اخترعت عام 1918. حداثة السن هذه تؤدي إلى تكوين خاص عند نخب هذا البلد. فالقلق الكياني ينتقل بالعدوى إلى المثقفين ولا يمكن تهدئته إلا بعقائد هادية مهدية (كلية)، وبالولاء لقيم كبرى وخلاصية: تحررية، إنسانية، دينية، أو قومية (عربية أو سورية او كردية..). لذلك أيضاً كان المثقفون السوريون منجذبين إلى فلك الأحزاب ومشاريعها التي لم تكن سياسية بل كانت تنطوي دوما على بعد خلاصي. والواقع أنه حصلت عملية مزدوجة المثقفين تسيسوا، والأحزاب تثقفت. وقلما كان لدينا أحزاب سياسية بالمعنى المبني على استقلال السياسة عن العقيدة أو المشروع أو الدين. كان لدينا أحزاب تبشير، أحزاب عقائد. هذا لا يقتصر على الإسلاميين. عقائد أحزابنا جميعا، حتى وقت قريب، هي دين ودولة.
هناك نقطة ثالثة تسببت بغياب المثقف المستقل، تتمثل في الوزن المهم فعلاً للمثقفين من أصل ريفي. فإذا كانت سوريا بلدا قلقا كيانيا، فإن المثقف الريفي هو شخص يجمع إلى القلق عقد النقص والشعور بالدونية، ويعمل على تعويضها بالانتماء إلى حركة كبرى لها هم تغييري، تغيير عالم لا يحترمه ولا يوفر له موقعا لائقا.. العالم ليس على قياسنا، فننحاز إلى تغييره ليصبح على قياسنا. هذا الشرط أهّل جنون العظمة عند المثقف الذي لم تتح له الفرصة ليمارس سلطة عبر الأفكار، أي عبر نشاطه النوعي المستقل. أهّل كذلك لظهور الطاغية، وعرقل نشوء المثقف المستقل.
نحن إذن لم نخسر مثقفا مستقلا، ورأيي هو العكس.. اليوم يأخذ بالتشكل نموذج المثقف المستقل إلى حد ما، والسبب إفلاس المشروع الذي قام على تحطيم الطبقة الوسطى، والأزمة التي تعيشها النظم العقيدية التي تحدثنا عنها. وبفضل هذه الأزمة يضطر الواحد منا لأن يقول كلاما له معنى. لم يعد ثمة مشروع تحريري كلي يكفل معنى ما نقول ونكتب. مضطرون للوقوف على أقدامنا بعد إصابة العكاكيز الإيديولوجية لجيلنا بالنخر. نحن نلنا استقلالنا أكثر مما فزنا بحريتنا.
* كيف؟ .. هل تقر بان المثقف لم يكن له دور، وان نيله لاستقلاليته جاء من خارجه ..؟
** لم نبذل جهدا كافيا كي نكشف تهافت النظم العقيدية التي تجيب على كل الأسئلة. لم نكشف عناصر الشمولية والاستبداد فيها. ماتت، تأزمت، ونتيجة لهذا صرنا مستقلين. هذا هو الوضع اليوم. نحاول أن نقف على أقدامنا، عدد متزايد منا يحاول أن يقف دون عكاكيز. بموازاة أزمة النظم العقيدية هذه هناك أزمة الأحزاب السياسية التي أدت إلى ارتفاع المظلة التي كانت تؤطر عددا كبيرا من المثقفين.. ارتفعت.. فاضطروا أن ينصبوا قاماتهم ويعتمدوا على أنفسهم ويستقلوا. انفطمنا عن خيار التبعية الغبي.
خياري الحالي هو التدخل في السياسة بأدوات المثقف. هذا ليس أفضل الخيارات على الإطلاق، لكنه خيار معقول. بحكم تكويني والتجارب التي مررت بها، وتحديدا الاعتقال، اهتمامي بالثقافة لا يصل إلى تجنب طموح التغيير السياسي والأوضاع التي أدت بي إلى السجن وطموح تغييرها. أتمنى في كثير من الأحيان أن أتحرر من هذا الهاجس باتجاه الاشتغال الفكري والكتابة بـ"مزاج"..
*هل ترى ان تراثك الشخصي ضاغط في هذا الاتجاه ... العمل الحزبي .. مضاعفات تجربة الاعتقال ؟
** لا شك. لكن ليس بمعنى انتمائي الحزبي السابق، ولكن الآثار التي ترتبت عليه، والتي هي بالتحديد تجربة السجن المديدة. وهذا لا يعني أي نوع من التبرؤ من تجربتي الحزبية لكنه فعلا مرتبط بنتائجها ومرتبط بواقعة السجن.
* يبدو أن مشروع ( المثقف) السوري مستمد من السلطة سواء كان مندمجاً في هذه السلطة ومروجاً لها او كان معارضاً لها، إذ ان اغلب اشتغاله هو سياسي محض ويستمد مشروعيته أيضاً في الحالين من هذه السلطة إذ ان غياب هذه السلطة التي ديدن المثقف السوري المعارض هو (فضحها) والاشارة الى وقائعها السياسية وأنها فعلت كذا وكذا وتفعل كذا وكذا حتى أن معارضته في كثير من الاحيان هي مطلبية ان تفعل هذه السلطة كذا وكذا.. ألا ترى أنه بغياب هذه السلطة لن يبقى أي اشتغال (فكري) مهم يمثل ديمومة في المجتمع ..بمعنى أن غياب هذه السلطة (لأي سبب من الاسباب ) ستجعل تنظيرات هذا المثقف تهوي ولن تخلف أثرا .. أنت كأحد المشتغلين بنقد هذه السلطة وتبدو مكرسا كتاباتك لهذا كيف تنظر للامر ؟
** رأيي أن السؤال غير عادل، ويهمل أن سوريا محكومة بنظام غيب كل نشاط مستقل ويطمح إلى رؤية الناس من داخلهم وخارجهم، ووجوههم وأقفيتهم، في الوقت نفسه. إذا هربت من السياسة، فالسياسة تلحق بك. إذا قلنا نريد تنظيف الشارع الذي بجانبنا، يعتبر هذا اعتداء سافرا على السلطة. وإذا طلبنا من الناس عدم الرشوة، اعتبر هذا تهديدا للنظام. وإذا تداعيت أنت وأصدقاء إلى اجتماع فيه قليل من الثقافة والشرب، يعتبر هذا انتهاكا للثوابت الوطنية. السياسة إذن مفروضة علينا في سوريا، هناك تسييس إجباري. الملاحظة صحيحة، لكن بكل بساطة الشرط السياسي حاضر بقوة في حياتنا اليومية كمثقفين معنيين بالشأن العام، وحتى كمواطنين. هل يستطيع المثقف أن يقول إنه سيكتفي بكتابة قصائد أو رسم لوحات أو يقرا في الفلسفة ..متجاهلا هذا الشرط العدواني والضاغط؟ جوابي نعم، لكن في ذلك شيء من قلة الحساسية ومن الأنانية. ثم إني أرى أن الثقافة في بلادنا تزدهر عندما ترتبط بالشأن السياسي..
* بأي معنى ؟
** مرت فترة على سوريا في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين فصمت العلاقة بين الثقافة والسياسة، فماذا كانت النتيجة؟ ماتت الثقافة! في مجتمع غير حر، الثقافة التي تنفصل عن السياسة تموت، لأن الماء الذي تسبح فيه السياسة والثقافة واحد، وهو الحرية، أي القدرة على قول كلمة لا والقدرة على المبادرة الذاتية. في سوريا الاهتمام بالسياسة هو الاهتمام بالشأن العام. النظام يتكفل بتوحيدهما لأنه يرفض أي نشاط عام مستقل لا يشرف عليه مباشرة ولو كان تنظيف شارع كما قلت قبل قليل. في أمريكا مثلا يمكن أن يهتم الشخص بالشأن العام دون الاهتمام بالسياسة (يحرر مجلة، يشكل رابطة، يشارك في جمعية، يخرج في تظاهرة احتجاجية..). لكن هنا كل هذا يدخل تحد سقف السياسة. إذن عندما يموت الاهتمام بالشأن العام بسبب انعدام الحرية تموت الثقافة. الذي أعاد شيئا من كرامة الثقافة في سوريا في السنوات الأخيرة هو ظروف مواتية إلى حد ما، أدت إلى عودة الاهتمام بالسياسة بهامش محدود لكنه معقول.
* الا ترى انه لا يوجد شروط مستقلة لفعل ثقافي مستقل إلا بحضور فعل سياسي يحرك المشهد كلياً؟ واحتجاجي هنا ليس على حضور السياسي، بل على طغيانه الكلي على أي فاعلية ثقافية لا تكون واجهتها سياسية ...
** هذا مرتبط بالظرف السوري وظروف البلدان الشبيهة التي تنعدم فيها الحرية. في فرنسا (والدول الديمقراطية) تموت السياسة ليس نتيجة المخابرات والخوف والديكتاتورية. إنها تموت نتيجة أن هذه المجتمعات وصلت إلى فرط النضج فلا يعود هناك تمايزات مهمة بين الحزب الاشتراكي والحزب الديغولي. لأن القيم الكبرى للمجتمع تصبح محسومة ومدونة في المؤسسات الاجتماعية (صحافة حرة – برلمان – أحزاب – جمعيات – نقابات مستقلة – بحث علمي..) وبالطبع في حياة مادية مرتفعة كثيرا فوق مستوى الضروريات. فموت السياسة هناك هو نتيجة فرط نضج المجتمع الصناعي والديمقراطية. وموت السياسة عندنا هو نتيجة انعدام الديمقراطية وتدهور مستويات الحياة المادية. لذلك صعب أن يتكلم المرء عن حياة الثقافة دون حياة سياسية ديناميكية نابضة ونشطة..
أعود إلى النقطة التي تكلمت عنها، وهي صحيحة. فنحن بطريقة أو بأخرى بعثيين، بمعنى نظامنا النفسي، انفعالاتنا.. تركيب الشخصية لدينا مرتبط بمعارضة النظام البعثي والكشف عن أكاذيبه وفساده. تبعاً لهذا ربما يفقد الواحد منا صلاحيته إذا زال النظام البعثي. بمعنى أن قدرتنا على التعايش الايجابي مع شروط ما بعد البعث، قدرتنا على الإبداع المستقل، ربما تكون موضع تساؤل وقتها. لكن خلّي الإخوان البعثيين يتيسروا ووقتها نتفاهم!
يبقى أني أظن أن ما قام به المثقفون، بغض النظر عن الاتفاق والاختلاف مع آرائهم، هو مساعدة المجتمع السوري على هضم وتمثل تجاربه.. قمنا بدور المعدة وليس دور الرأس. لو كان بلدنا أكثر حرية لكان دورنا اقل "هضمية"!
* تدعو دوما الى خط جامع للمعارضة الوطنية الديمقراطية، وبشكل تعميمي كما نرى، داعياً اياها لتجاوز الخلافات بينها باتجاه اصلاح النظام او تغييره، دون الحرص على التفكير بخلق ضمانات مشتركة فيما بينها، ودعني احدد الاخوان المسلمين. هل يمكن خلق شراكة معهم كفصيل ديمقراطي سوري شريك للفعاليات العلمانية الاخرى في البلد دون أن يقدم هذا الفصيل ضمانات واضحة لاحترامه الحريات الاجتماعية في هذا البلد؟ وهل يمكن تجاوز مثل هذا التفصيل تحت عنوان عريض هو ضرورات المرحلة..؟ ألا يعتبر هذا تخلي عن موقعك كمثقف علماني والانحياز الى ما هو سياسي؟
** اعتقد انه من المهم فعلياً توحيد حركة المعارضة الديمقراطية في سوريا لان سياسة النظام تقوم على نهج "فرق تسد". لكن هذا لا يعني بأي حال إعلان حالة طوارئ عقلية ضمن المعارضة، ولا إغماض العين عن الفروقات المحتملة بينها. بخصوص الإخوان بالذات، المسألة في نظري مسألة عدالة، وليس تعاطف مع سياستهم أو توجهاتهم. ما دعيت له هو الإقرار بحق متساو للإسلاميين وغير الإسلاميين في العمل العام في سوريا. بمعنى عدم إنكار الحق المتساوي في العمل السياسي وعدم اشتراطه بالإيديولوجيات والعقائد. ينبغي تأكيد الحق المتساوي للجميع في العمل العام، خصوصاً إن كان يتعرض للإنكار من قبل البعض، وبالأخص أن من كان ينكر هذا الحق هو السلطة. فإذا كنت مع الإخوان في هذا الحق فلأنه هناك من ينكره عليهم اكثر من غيرهم وليس انحيازاً لهم...
* السؤال يتعلق بمنطق الشراكة مع الاخوان ولا يتعلق بفكرة الاقرار بحقهم في العمل السياسي لأنها فكرة مقرة ضمناً ...
** لا أبدا. لا يوجد إقرار بحقهم هذا، ليس في أوساط السلطة فقط بل كذلك للأسف في أوساط غير قليلة من الطيف الديمقراطي، من المعارضة. أنا أدافع عن حق عادل. لو كان هذا الحق معترفا به لوفرت عن نفسي جهد الدفاع عن قضية لست متحمسا لمضمونها..
* كيف يمكن صياغة منطقة فعالية مشتركة بين فاعلين علمانيين وفاعلين اسلاميين مُقرين ضمناً كمعادين للحريات الاجتماعية في سوريا ؟
** أنا مضطر هنا أن أكون محامي الشيطان، أو ربما ينبغي القول في سياق الكلام على الإسلاميين: "محامي الرحمن". أي سأدافع عن القضية الخاسرة لتوضيح ما يفترض أنها القضية الرابحة.
هناك تحولات في توجهات الإسلاميين، إذ يتوجه الاخوان المسلمون السوريين نحو القبول باللعبة الديمقراطية وبمبدأ الدولة الحديثة، بوصفها دولة تعاقدية وتداولية، دولة مواطنين إلخ. من حق أي كان أن يشكك في هذا التحول. لكن المسلك العقلاني، في رأيي، هو أن نأخذ علما به، ونحاول الدفع نحو تقبل منسجم ومستقر للديمقراطية. أنا مدرك تماما أن مفهوم الإسلاميين للديمقراطية هو مفهوم إجرائي، لا يتقبل فكرة سيادة الإنسان وحرية الاعتقاد الجذرية التي تعني الحق في تغيير الاعتقاد والحق في عدم الاعتقاد، أي بلا جمجمة ولا غمغمة الحق في تغيير الدين والحق في "الارتداد". لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله. نحن في عالم دنيوي، يجري فيه الناس تسويات مستمرة ويومية بين دينهم ودنياهم وليس في عالم المطلقات الذي لا يتخيل غيره علمانيون ممن إذا تصرف الإسلاميون بمقتضى عقيدتهم الدينية أدانوهم بتهمة الأصولية، وإذا تصرفوا بمنطق براغماتي أدانوهم بتهم الخروج عن النص وخيانة إيمانهم. الإسلام بالنسبة لي مرفق عام، ويعنيني كفاعل عام، بصرف النظر عن إيماني من عدمه ..
وبعض الذي لا يدرك لا يستطيع اتخاذ القرار بشأنه لا البيانوني ولا غيره. ثمة تناقضات في الفكر الإسلامي وفي تفاعله مع الحداثة تحتاج تسويتها والعثور على حلول إبداعية لها إلى أجيال. أقصد أن الإسلاميين ليسوا أحرارا حيال النص والتراث الفقهي وتأويلات الإسلام بالدرجة التي يظنها خصومهم. وبعض مشكلاتهم هي مشكلات الفكر الإسلامي، يعني مشكلاتنا نحن، لأن الإسلام مرفق عام كما قلت. تسهل الإطاحة بالمعتدلين الإسلاميين من قبل متطرفين إسلاميين إذا طلبنا منهم الالتزام بفلسفة الديمقراطية كاملة أو تركها كاملة. دعنا نتذكر أن الشيوعيين السابقين، وأنا منهم، أعادوا الاعتبار للديمقراطية على أرضية الماركسية أولا، ولا يزال كثيرون منهم لا يستطيعون قبولها إلا بقدر ما تتقبلها ماركسيتهم. اليوم بعضنا يتقبل الديمقراطية بصرف النظر عن وجود أو عدم وجود فتوى ماركسية بشرعيتها. لو طلب من الشيوعيين المعارضين السوريين في أوساط السبعينات أن يؤمنوا بالديمقراطية دون مرحلة وسيطة من الجمع بينها وبين تصور غير أرثوذكسي للماركسية لكان ذلك تعجيزا ودفعا لهم إلى الاستمرار في تمجيد دكتاتورية البروليتاريا حتى اليوم.
* من يتابع فكرتك عن " الخط الثالث " في سوريا ( التي تعني باختصار شديد الدعوة لخيار ديمقراطي غير مستكين لواقع النظام الحالي وكذلك معارضاً للتبعية لاخر خارجي " أمريكا ") يرى أنها فكرة يتم الاشتغال عليها في منطقة نظرية . وما يهمنا هنا هو الفكرة بشكلها النظري ..إذ كيف يمكن صياغة مفاهيم لهذا الخيار لا تبدو محض خطابة تداعب منطقة معممة في الذهنية المجتمعية .. ألا يعتبر الانحياز لمفهوم غائم ( واقعياً ) هو محض عزل للواقع والاشتغال على واقع ذهني افتراضي ؟
** بداية، فكرة الخط الثالث ليست من إبداعي. لقد طرقت مرتين في سوريا سابقا. المرة الأولى في أواخر السبعينات، في سياق الصراع بين السلطة والاسلاميين، وكان القصد منها هو اقتراح خيار على الشعب السوري مختلف عن خيارين عنفيين هما خيار السلطة وخيار الاسلاميين. وهو خيار التغيير الديمقراطي. والمرة الثانية في مرحلة ما بعد احتلال العراق والتهديدات الأمريكية بغزو سوريا، وكان مضمونه اقتراح خط مختلف على الشعب السوري عن التغيير عن طريق الغزو وعن نظام الحزب الواحد الحالي.
نقطة الضعف الواضحة للخط الثالث هو أن القوى الداعية له ليست بمستوى تشكيل قطب سياسي قادر على جعله خياراً حقيقيا مقابل الأمريكيين والسلطة، لكني لا اعرف خياراً آخر أقل تناقضا أمام الشعب السوري.
هناك معنيان لفكرة الخط الثالث، معنى مبتذل يقول: أنا ضد الأمريكيين وضد هذا النظام.. وهو معنى سلبي وسهل ويترك زمام المبادرة للسلطة الاستبدادية وللأمريكيين، ينتظرهم ليحددوا خياراتهم ثم يسير في المنتصف، على مسافة متساوية منهما.. هذا كلام فارغ. والمعنى الايجابي للخط الثالث هو الارتباط بمصالح الشعب السوري الجوهرية: الاستقلال الوطني، حرية المواطنين، دولة قابلة للحياة وقابلة للإصلاح، مستويات حياة تضمن الكرامة الإنسانية... ورسم السياسات على هذا الأساس. وهذا حاليا خيار مأساوي بكل معنى الكلمة. لأنه لا يمتلك مرتكزات في الواقع، وربما يحتاج إلى تعميد بالدم: أن يكون لدينا شهداء من أجل الديمقراطية والاستقلال في نفس الوقت. تعرف أن لدينا شهداء من اجل حرية الوطن، لكن أين شهداؤنا من أجل الحرية، حرية المواطنين؟ باختصار: الخط الثالث هو الأصعب وليس الأسهل. وهو إما إن يكون مأساوياً أو لا يكون، على طريقة أبطال الدراما الإغريقية. هو بالضبط تحدي القدر دون ضمانات مسبقة بأن لا نسحق بنتيجة هذا المسعى. لكن مأساويته هي المأساوية المنتجة للحرية.
* هل ترى أن هذا خياراً سياسياً الآن ...!!
** حتى اليوم الخيار الثالث ليس خياراً سياسياً. إنه خيار "ميتا سياسي"، إذا جاز التعبير، بمعنى خيار مؤسس للسياسة، ويحتاج إلى ترجمة إلى سياسة فعلية. وهذه الترجمة ستكلف دما. على كل حال أفضل برهان على الصفة السياسية الخط الثالث هي ممارسته. فهو مسألة عملية ينجح في الإجابة عليها السياسيون العمليون وليس الدارسون والمحللون النظريون. وأنا متضامن مع هؤلاء السياسيين العمليين قلبا وقالبا في جهدهم الشاق من اجل إنقاذ كرامة الشعب السوري من الطغيان المحلي ومن الاحتلال الخارجي.
* ماذا تعني بأن ترجمته ستكون مكتوبة بالدم ؟!
** اقصد أن يكون هناك أناس مستعدين للتضحية بالدم من اجله. هناك حقان: حقنا بالاستقلال الذي شكله المنحط هو النظام الحالي، وحقنا بالتغيير الذي شكله المنحط هو الامريكيين. تأسيس حق يوحد مطلبي الاستقلال والتغيير غير ممكن في الأفق الراهن بدون تضحيات، دون دفع ثمن قد يكون باهظا ولاإنسانيا..
* إذا أنت تعود الى سؤالي الأول حول هذا الموضوع وتقر باستحالة هذا الخيار واقعياً ...
** كل الممكنات التاريخية الكبرى مصنوعة من المستحيل..
* الا ترى انك تنتقل هنا من منطقة الاشتغال السياسي الى منطقة ضمير المثقف
** قلت لك إن هذه لها علاقة بالميتا سياسي. أنا متطفل على السياسة. ملعبي المفضل هو الثقافة. مع ذلك أنا مقتنع أنه في كل عمل صغير من اجل تنظيم قوانا على أرضية العقلانية والاعتدال نكون قد استصلحنا مساحة اوسع من اجل مستقبل مستقل وديمقراطي.
* تتحدث دوما عن مجموعة الحمايات التي تستبق مناطق (الحقيقة) في سوريا ، أي الاعلام الرسمي والامن، فالاول يكرس الكذب والثاني يحميه ، هل يمكن النفاذ من هذا التراث ثقيل الوطئ على الفاعل السوري عبر رفع سقف التعبير؟ ودون وصل هذا التهشيم لليقينيات السلطوية بفعل مدني مناهض يتعدى كونه رد فعل على اجراءات امنية تطال هؤلاء الذين يخشون المكرس سلطويا .. بشكلٍ أوضح: ما هي الخيارات المتاحة لكم كفاعلين سوريين لتقديم منطقة أخرى للحقيقة، وأعني بها كواقع مغاير هنا
** الخيارات معدومة، وغير ممكن النفاذ الذي تتحدث عنه. وهذا ما يجعل المعارضة فعلا تأسيسيا وليس فعلا سياسيا فقط. الفعل السياسي المحض يكون فعلا سياسويا بالمعنى الذي تحدث عنه ياسين الحافظ، أي مرتبطا بالتفاعل مع الحدث السياسي وحده. جعل فعل الاعتراض السياسي فعلا تأسيسيا يعني جعله فعلا منتجا للمعنى والحرية. قول لا للطغيان، هو فعل مؤسس للثقافة، فعل مؤسس للحرية والمعنى. وبالتالي فالاعتقاد بأن السياسي خطر على الثقافة هو "حكي فاضي".
المسألة المدنية أو الحضارية في سوريا (والبلاد العربية) تراجعت لمصلحة أفكار التغيير والثورة التي كان اهتمامها منصب على مسألة الفاعلية والنجوع، وليس على مسألة الارتقاء والتمدن والتجدد الفكري وإتقان الإعمال والأساليب المصقولة والمرهفة في الإحساس والتعامل بين الناس.. الأشياء التي اعتبرت متعلقة بالبرجوازية.. لقد كانت نقطة ضعف البرجوازية السورية في الزمن قبل البعثي وقبل الوحدة هي قلة حساسيتها اتجاه المسألة الفلاحية والضغوط الخارجية (مبدأ أيزنهاور – حلف بغداد – العدوان الثلاثي – التوسعية الإسرائيلية ..) وهو ما جعل ضباطا وطنيين في أواخر الخمسينات يرون أن الوحدة مع مصر هي الحل، دون أن تستطيع طبقة أعيان المدن ذات الأملاك الواسعة في الريف، والتي كانت تحكم سوريا ضبطهم أو السيطرة عليهم.. عندما انفكت الوحدة كانت الطبقة هذه قد وصلت إلى درجة متقدمة من الانهيار. فقد كانت ترى هؤلاء الضباط يسنون سكاكينهم ليقطعوا رقبتها دون أن تستطيع فعل شيء ضدهم. انهارت بشكل نهائي في عام 1963، وجاء الإخوان البعثيون الذين شعارهم الضمني: الكثير من الفاعلية والقليل من المدنية، حتى كشفت هزيمة 1967 أن لا فاعلية ولا مدنية. وسيستغني عنهما معا نظام ما بعد 1970 بطموح شبه امبراطوري أجوف.
مغزى السنوات الخمس الماضية هو عودة المسألة المدنية على جدول الأعمال بعد الإفلاس السياسي والفكري لجماعة الفاعلية (بعثيين – شيوعيين –إسلاميين..) والمسألة المدنية تعني: الاهتمام بقضية التحضر، الاهتمام بالثقافة المدنية وقيم التسامح والنسبية واليسر، الاهتمام بسياسة تقوم على التسوية وعلى الحلول الوسط والمساومات والالتقاء مع الخصم في منتصف الطريق.. وما إلى ذلك، تمييزا عن الثوروية التي وضعت المجتمع في خيارات ضيقة: لا تستطيع أن تحتفظ برأسك إلا إذا أصبحت تفكر بيديك! عودة المسألة المدنية أو الحضارية رد فعل على حزب الفاعلية الذي يقول إن اليدين أهم من الرأس، والذي ترجمته السياسية هي حكم العسكر. المؤسف أن فكرة أن اليدين أهم من الرأس هي فكرة مثقفين، وكانوا الضحية الأولى لها!
* في مقال لك تذكر ان ( الشي ء الجوهري هو الاستقلالية. ومما لا يحتاج الى بيان ان المقصود بالاستقلالية اليوم وفي الامس، هو ان نستقل بتحديد خياراتنا ورسم سياساتنا واحتكار وضع اولوياتنا) وسأدرج هذا في سياق الاسئلة السابقة الا ترى ان هذا يتجاهل واقع تاريخي لدول (التخلف) وهو انها لم تكن يوماً مستقلة هذا اولاً، وثانياً يبدو هذا كاشتغال ثقافي فكري حالم يتجاهل واقع العلاقات الدولية اليوم وامس وغدا. هل يجدر بالمشتغل بالحقل الثقافي الفكري أن يعزز حلما لا سند له أم يفكك هذه الأحلام (الواهمة) ويعريها ؟
** المقصود بالاستقلالية هنا هو الاستقلال الفكري، أي أن نفكر من رأسنا وليس من رأس غيرنا. ولا علاقة لهذا التصور بالقول بالانعزال الثقافي أو الحضاري عن العالم، ولا من ناحية أخرى بإنكار وقائع التخلف والضعف والتبعية. اقصد بالاستقلالية هنا أن نضع نحن خياراتنا ولا يحددها لنا غيرنا. ومن اجل التوضيح أقول كانت التنظيمات الشيوعية مطالبة أن تكون مستقلة عن موسكو، دون أن يعني ذلك أنها ينبغي أن تكون مساوية للاتحاد السوفييتي حتى تطالب أن تكون مستقلة عنه. كان عليها ان تفكر بالقضايا السورية مثلا او العربية من وجهة نظر بلدانها وشعوبها. وبالمقابل الليبرالية العربية مدعوة اليوم اكثر من أي شيء آخر إثبات الاستقلالية عن السياسات الأمريكية وليس من المعقول أن ننتظر أن يصبح الليبراليون العرب مرتبطين مباشرة بالأمريكيين حتى يكونوا مطالبين بالاستقلالية. الاستقلالية موقف للعقل حيال الواقع، المرتكز الأساسي والحقيقي لها هو إرساء التبعية للنفس، بمعنى أن الشيء الذي يجمعنا بتيارات التاريخ الصاعدة هو أننا مرتبطون بقوى اجتماعية، بشعب، بثقافة، بتاريخ. الاستقلالية عن الغير مصنوعة من التبعية للذات. الاستقلالية عن الأمريكيين مصنوعة من التبعية للشعب السوري.
* دعني أعود للسؤال إذ أرى أن هذا اشتغال حالم، اشتغال (ثقافي). ودعني اعود للوقائع أيضاً فنحن لم نكن مستقلين يوماً. واصبح الحديث عن هذا الامر (الاستقلال والاستقلالية ) يحدث لدينا منعكس شرطي عكسي فنعتقد أننا سنباع عم قريب من اجل الحفاظ على (الكرسي) تحت راية هذا الكلام ، وكلما تم الحديث عن رفض التبعية نتذكر هزائمنا ولا اعني هنا فقط على المستوى السياسي العسكري فقد انهزمنا على مستوى الافكار أيضاً فنحن لدينا مشكلة معللة الاسباب تجعلنا نعتقد إن استخدام مفردات من مثل استقلال ، نضال ،عروبة ، قومية و... يراد بها اشياء أخرى
** نعم لدينا مشكلة حقيقية، وهي انعدام الثقة بالنفس بعد معاناة مريرة من هزائم كثيرة، تجعلنا نعتقد أن الاستقلال تبجح، والكلام عن العروبة تعصب، والكلام عن الإسلام ظلامية، واستخدام كلمة نضال تصبح علامة على الانغلاق. لا أنكر هنا أن كلمة نضال استخدمت لإضفاء شرعية على أنظمة تجمع بين الدكتاتورية والتفاهة واستخدمت العروبة راية للشوفينية والجمود والاستبداد ..الخ لكن دعنا لا نرمي الطفل مع الغسيل القذر كما يقول المثل الغربي. فإذا أردنا أن نرمي هذه المدركات التي استخدمتها الأنظمة لإضفاء الشرعية على نفسها لن يبقى لدينا إلا الصمت لأنهم استخدموا اللغة العربية من ألفها إلى يائها. وهذا لا يعني بأية حال أنه لا يوجد حاجة ملحة لنقد الأفكار والشعارات والإيديولوجيات. كذلك أعتقد أن مدركات مثل الاستقلال، العروبة، النضال، الإسلام، المقاومة... الخ تستوجب "إقامة الحد" عليها كما كان يقول إلياس مرقص. وأعني بذلك نقدها ومساءلتها وتفكيك احتكارات المعنى والسياقات السلطوية التي اندرجت تلك المدركات فيها.. هذا شيء، واعتبارها رموزا لعالم بائد ويجب التخلي عنها معه شيء آخر. هذه عدمية وتطرف وتعكس استسلاما للأنظمة الحالية. هذا التطرف هو رد فعل للأنظمة الحالية، لكن رد فعل من جنسها.. علينا أن نتحرر من صنمية المفاهيم ومن الصنمية المقلوبة ايضا. أن نكف عن عبادة بعض الكلمات، لكن أن لا ننجر كذلك إلى شن حروب ضد بعض الكلمات.
* دعني اخالفك واقول أني اعتقد أن ليس من يقول بهذا يعبر عن قرب ما ( بطريقة عكسية حتى ) من الانظمة بل إني ارى ان الاشتغال الحالم هو الاقرب للانظمة لان القول لا للأمريكان لا للانظمة يعني واقعياً بقاء الحال كما هو عليه إذ واقعياً واشدد على واقعياً يبدو انه لا خيار آخر...
** أعطني خياراً يجمع بين الواقعية والحرية، وسأضرب لك تعظيم سلام! عندي خيار واقعي يقول أمريكا هي الحل، لكن يبدو هذا الخيار يتجاهل حقيقة أن السيادة العليا في المنطقة هي بالفعل للأمريكيين، وأن أنظمتنا بالذات ما هي باقية على قيد الحياة إلا بفضل الأمريكيين. عندي خيار واقعي آخر هو هذه الأنظمة التي ستلتحق إذا أتيح لها بالأميركيين ضد شعبها وضد الديمقراطيين، وهي الآن تبحث عن رضاهم بالسراج والفتيلة. ماذا تريد أن اختار؟ شخصيا لا أطيق أن أكون من طرف الغادري ولا من طرف وصال بكداش. وبالمناسبة هذه مواقعنا إذا التحقنا بأي من الطرفين: لن نكون إلا ديكورا أو جبهة وطنية تقدمية. لا تظن أننا إذا التحقنا بالأميركيين سنكون حكام البلد. ما سنكونه هو في أحسن الأحوال نموذج محروق مثل الجلبي في العراق. بينما سيحكم - لكن دون سيادة- الطائفيون. وإذا انضممنا إلى النظام كما يدعو البعض فسقفنا هو وصال بكداش وصفوان قدسي. هذا نظام لا يقبل حلفاء أو أصدقاء. يريد أتباعا وشهود زور فحسب. الأميركيون مثله تماما.
مع اعترافي بصعوبات فكرة الخط الثالث وفكرة الاستقلالية في الوقت، أعطني خيارا يستطيع أن يوحد الشعب السوري أكثر من هذا الخيار، ووحدة الشعب السوري شيء مهم. ستقول لي أن خيارك قلق وعسير. أعترف بهذا. لذلك هو خيار مأساوي. بالنهاية أنا لستُ سياسيا، ولا تهمني الفاعلية السياسية المحضة، أعني لا تهمني كمعيار وحيد. تهمني أكثر منها الأبعاد القيمية والأخلاقية والثقافية للعمل العام. لذلك أفضل كلمة منشق على كلمة معارض، رغم عدم شيوعها بالعربية.
* هل تستند إلى تاريخ الانشقاق عن الاتحاد السوفييتي ؟
** بشكل عام نعم .. لأن كلمة منشق لم نتعرف عليها إلا من خلال النموذج السوفييتي وأوربا الشرقية. الأنظمة التي تلتهم الحياة السياسية بالكامل لا تنتج إلا المنشقين والمثقفين المستقلين. لو كان هناك حزب ليبرالي في الاتحاد السوفييتي لما سمعنا بزاخاروف أو سولجنتسين. لو كان هناك حريات في تشيكوسلوفاكيا لما سمعنا بهافل، ولبقي كاتبا مسرحيا مهما فحسب. ولو كان لدينا حزب علني أفضل من حزب صفوان القدسي وأفضل من أحزاب شرعية مصرح لها بالعمل لما سمعت بأمثالنا.
* برأيك هل الخيار الديمقراطي الأمريكي يتعارض ضمناً مع المنطق الديمقراطي الحقيقي، لأنه كما يبدو مفرغ لصالح المصالح الامريكية الاساسية في المنطقة، إذ انه يبدو مروجاً لديمقراطية دون حدود استقلال واضحة خصوصا انها بجب ان لا تتعارض مع مجموعة المصالح هذه . لكن ألا تعتقد ان جملة الخيارات الضيقة التي تمتلكها المنطقة مفرغة اساسا من خيار ايجابي بينما يفتح التوجه الامريكي خيارات متعددة لهذه الشعوب ويجعل مستقبلها رهين بها لاول مرة، وحجم الضرائب الذي سيدفع لن يكون اكثر مما دفعته الشعوب وهي تحت ضغط هذه الانظمة الديكتاتورية المخيفة، لقد اصبحت هناك فرصة للخروج من درجة الصفر التي وقف فيها التطور في المنطقة ، ويحدث هذا نتيجة الهزة الامريكية فيها ... ألا يجب أن تحدث هذه الهزة الامريكية منطقة اشتغال على المفاهيم خارج النسق السابق كليا بما يعيد تأهيل مواقع كل الفاعلين في المنطقة بما فيهم المثقفين ؟
** الحاجة لمنطقة اشتغال مستقلة على المفاهيم، حسب تعبيرك، سابقة على تحول أمريكا إلى "قوة تغييرية" في "الشرق الأوسط"، ومرتبطة بأزمة أو تعفن المشروعين الاشتراكي والقومي العربي. والحاجة إلى تأهيل الفاعلين في المنطقة، بما فيهم المثقفين، حسب كلامك سابقة ومستقلة أيضا عن تحول أمريكا إلى قوة تغيير(الذي نحتفل اليوم بعيده الرابع). الذي أنا ضده في سؤالك هو: الأنظمة أفلست، إذن أمريكا هي الحل! لأن هذا يعني استسلام للمجهول أمام إفلاس المعلوم الذي نحن فيه. الذي نراه في العراق لا يشجع على الترحيب الانفعالي بالفاعلية التغييرية للأمريكيين. أنا منحاز للمنطق الكلاسيكي: فكرة الاستقلال البسيطة التي تقول "ما حك جلدك مثل ظفرك". يبدو الكلام بلدياً، لكن ليس لدي برهان على صحة شيء مخالف له أو عكسه. برأيي أنه، تحت وطأة استبطان الهزائم والإخفاقات والتسمم باحتقار الذات، يحصل انتقال غير شرعي من إفلاس الأنظمة القائمة إلى سلامة المشروع الأمريكي (الشرق الأوسط الكبير). إذا كنت أنت خصمي وأنا سيء، فهذا لا يعني تلقائيا أنك جيد. ثم إنه حتى لو عمل السيد بوش كبابا نويل واتى بالديمقراطية بالعلب سنفسدها إذا لم تكن تستجيب لأوضاعنا ومتصلة بهمومنا ومطالبنا وحساسياتنا وثقافتنا السياسية وهمومنا الجماعية وما إلى ذلك. صدام سفاح لا تعني أن بوش ملاك..
* ألا يداعب هذا المنطق من التفكير منطق السلطة حول الخصوصية..
نعم هناك تقاطع بلا شك. لكن دعنا نمضي إلى ما وراء العناوين. نحن اليوم بحالة عدم توازن فكري ونفسي تجعلنا نرى ونعرّف الحقيقة أو الحرية بأنها ما هو مختلف عن هذه الأنظمة وخطابها وسياساتها. لكن هذا تعريف غير كاف لأن خلاف هذه الأنظمة قد يكون حربا أهليه لا تبقي ولا تذر. أريد كذلك أن أقول شيئا يغيب عن بال الكثيرين: أمريكا لا شك ديمقراطية كدولة، لكنها ليست ديمقراطية كقطب دولي أو كإمبراطورية. ولا تشتق توجهات السياسة الدولية للولايات المتحدة (وهي سياسات غير ديمقراطية) من طبيعة نظامها كدولة (ديمقراطية). الديمقراطية تاريخيا، من أثينا لليوم، مرتبطة بالامبريالية، حسب ريجيس دوبريه. كون أمريكا دولة ديمقراطية، لا يعني أنها كقوة دولية هي ديمقراطية. إسرائيل ديمقراطية فيما يخص اليهود، لكن هي اكثر العنصريات عنصرية اتجاه الفلسطينيين والعرب. ثم أن الاتحاد السوفييتي كان دولة غير ديمقراطية، لكن عندما كان موجودا كان النظام الدولي اكثر ديمقراطية لأنه كان يوفر حماية موضوعية للضعفاء. وما هي الديمقراطية، دخلك، إن لم تكن حماية الضعفاء؟ هناك عدم تطابق بين الأوضاع الواقعية وإيديولوجيات الفاعلين، وهذا ما قد ينطبق على سوريا بعد مؤتمر البعث.
* لماذا فقط بعد المؤتمر من يومهم هكذا ؟
** في بالي شيء محدد: جاء العهد الحالي تحت راية الإصلاح. لكنه بعد أن شكل فريقه الخاص بعد مؤتمر حزيران الماضي، ما يسمى بالحرس الجديد، بات اقل صلاحا واشد فسادا واستبدادا. بينما حين كان "الحرس القديم" موجودا كانت هناك هوامش أوسع نسبيا للعمل العام المستقل، وكان الفساد أكثر حذرا. هذا ليس الفضل فيه لما يسمى الحرس القديم بل للتوازن في قمة السلطة، وعدم تمكن أي طرف من إطلاق يده في البلاد. وأعتقد أنه لو أطلقت يد الحرس الجديد في البلاد لخربها بسرعة قياسية لشدة نهمه وانعدام كفاءته وطيشه. ما يحد منها اليوم هو الضغوط الدولية التي استثارتها سياسات هذا الفريق.
* ماذا بقي من التراث اليساري لديك ؟ حيث لم تعد تمايز انت بشكل شخصي بين التعبيرات الليبرالية واليسار، وسقف التمايز كما تورده أنت: ان ما تبقى من اليسار هو الحلم الواسع بفكرة العدالة الاجتماعية .!! هل تعتقد ان هذا كاف ؟ وكيف يمكن خلق تصور واضح لتمايزات اليسار على مستوى الافكار وتمثلاتها بعد ان ضاقت الحدود لهذه الدرجة بينها وبين التعبيرات المعادية لها سابقا ؟؟
** فكرة اليسار في البلاد العربية تكونت من أمرين: الحداثة والمساواة، وهذا فرقها عن الليبرالية التي تركز كثيرا على الحداثة والفرد، وفرقها عن الإسلامية التي تركز على العدالة والجماعة. الذي بقي لدي هو الرغبة بتوحيد هذين المطلبين المساواة والحداثة. هناك الكثيرين لفرط تركيزهم على الحداثة أهملوا مطلبي الاستقلال والعدالة، والعكس هناك من ركز على العدالة، وهؤلاء أما ظلوا شيوعيين أو أصبحوا إسلاميين. الذي بقي هو الحلم بتوحيد هذه المطالب.. اليوم اعتقد أن يسارا معاديا لـ الليبرالية يؤدي إلى همجية محدثة، إذا جاز التعبير. هذا هو الفرق بين الاشتراكية الديمقراطية والشيوعية والديمقراطية الشعبية في شرق أوربا. لم تكتف الاشتراكية الديمقراطية بالليبرالية، لكنها لم تستغن عنها. الليبرالية هي الطبقة الأقدم من طبقات الحداثة السياسية والحقوقية، لذلك هي اليوم الطبقة الأعمق.. لا تكفي وحدها، وبنفس الوقت لا يمكن قيام بناء سياسي حديث دونها. وما أعنيه بالليبرالية هو فكرة حقوق الإنسان والدستور وفصل السلطات وسيادة القانون وحرية الفرد.. هذه أفكار ليبرالية قحة، لكني أرى اليوم وضعنا عكس وضع أوربا تاريخيا. اليوم الليبرالية لا يمكن أن تعيش إلا ضمن الديمقراطية، بمعنى السيادة الشعبية. في أوربا المدخل كان الليبرالية ثم استوعبت ضمن الديمقراطية. سيادة شعبية دون ليبرالية تقود إلى استبداد شعبوي من النوع الناصري أيام الستينات. وليبرالية دون سيادة شعبية تقود في بلادنا إلى حكم أوليغارشي يستفيد منه الأغنياء فقط. اليساري ما بعد الشيوعي معني بإدراك هذه التناقضات.
دمشق – ايلول 2005



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تقويم نقاش أزور: من صراع القيم إلى نقد السياق المؤسسي
- ضد التكريس
- فلسطين وإسرائيل: اختيار شراكة مفروضة!
- صورتان لمفهوم الأمن الوطني السوري: مقاربة نقدية
- سوريا ولبنان: تاريخ هويتين أم هوية تاريخين؟
- تخطيط لمراحل العلاقة العربية الغربية بعد الحرب العالمية الثا ...
- الامبريالية، الشمولية، السلفية؛ وماذا بعد؟
- غياث حبّاب
- عام سوري قصير ومليء!
- ريجيم، نظام، سلطة: تعليق لغوي سياسي
- عودة الولايات المتحدة عن «الثورية الطفولية» إلى سياسة أكثر و ...
- في أزمة الدكتاتوريات ومستقبل العمل الديمقراطي
- مغزى سياسة -شارع ضد شارع-
- الوطنية السورية: طرح المشكلة
- من أجل جبهة ثقافية ضد الموت
- من الداخل غير ممكن، ومن الخارج غير ديمقراطي؛ كيف التغيير إذن ...
- السياسة الأميركية في -الشرق الأوسط-: من الاستقرار إلى الفوضى ...
- في ذكرى خالد العظم: رائد القومية الاقتصادية في سوريا
- الثالث المأوساوي أو فرص التركيب الوطني الديمقراطي
- تمرين في التربية الشمولية


المزيد.....




- نقار خشب يقرع جرس منزل أحد الأشخاص بسرعة ودون توقف.. شاهد ال ...
- طلبت الشرطة إيقاف التصوير.. شاهد ما حدث لفيل ضلّ طريقه خلال ...
- اجتياج مرتقب لرفح.. أكسيوس تكشف عن لقاء في القاهرة مع رئيس أ ...
- مسؤول: الجيش الإسرائيلي ينتظر الضوء الأخضر لاجتياح رفح
- -سي إن إن- تكشف تفاصيل مكالمة الـ5 دقائق بين ترامب وبن سلمان ...
- بعد تعاونها مع كلينتون.. ملالا يوسف زاي تؤكد دعمها لفلسطين
- السيسي يوجه رسالة للمصريين حول سيناء وتحركات إسرائيل
- مستشار سابق في -الناتو-: زيلينسكي يدفع أوكرانيا نحو -الدمار ...
- محامو الكونغو لشركة -آبل-: منتجاتكم ملوثة بدماء الشعب الكونغ ...
- -إيكونوميست-: المساعدات الأمريكية الجديدة لن تساعد أوكرانيا ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - حوار حول السياسة والثقافة في سوريا