أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طارق حربي - الطريق إلى الناصرية 2















المزيد.....



الطريق إلى الناصرية 2


طارق حربي

الحوار المتمدن-العدد: 6063 - 2018 / 11 / 24 - 08:39
المحور: الادب والفن
    


2- الوصول إلى البيت.
للاطلاع على الفصول في الموقع الشخصي.
https://tarikharbi.wordpress.com
وصلت إلى بيت أم حيدر فوجدتها، وشقيقاتي الأخريات وأولادهن وبناتهن وزوج شقيقتي الكبرى في انتظاري، فرحت لذلك الأستقبال كثيراً، شاعراً بعمق الأنتماء يتجدد، كف مشهد الأجواء العائلية أن يكون افتراضياً فأصبح واقعياً، وإني أعود إلى مكاني الطبيعي بين أفراد عائلتي الكبيرة، في الواقع لم أتعود هذا الحشد الكبير من المستقبلين، منذ دخلتُ في نظام الفردية والأنانية الأوربي والخصوصية الإنسانية، الذي أصبح في بلاد الصقيع عصب الحياة الاجتماعية، ورحت أتأمل الوجوه المحيطة بي بعد نفي طال، ففيما تقدم الزوج في السن تساقطت أسنانه وابيضّ شعره، وسوف يحرره الموت بعد حوالي ثلاث سنوات، وهو لم يتجاوز الستين من عمره إلا ببضع سنوات، وهدت الحيل من شقيقاتي أمراض القلب والضغط والسكري والمفاصل وغيرها، كبر الأولاد الذين كنت أشيلهم على ذراعي وألاعبهم، تزوجوا وأنجبوا أبناء جعلوا كذلك يشيلونهم ويلاعبونهم!
لقد تغيرت الحياة خلال 22 سنة في العراق كثيرا!
لكن يحتمل التغيير نوعين من التفسير الأول نحو الأمام والثاني نحو الوراء، ويبدو أن العراق سائر بخطى واسعة إلى الوراء!

جولة حرة
لم أصبر طويلاً في البيت فخرجت بعد العصر في جولة حرة في الناصرية، وأول ماصدمت عينيّ فيها، قلائد الزبالة التي تتوج صدر المدينة الغافية في حضن الفرات الناضب!، وإذا كنت فزعت من كثرة الأوساخ والقاذورات وانتشارها في كل مكان، فقد رجحت أن لم تعد تثير اهتمام الناس أهمية الحفاظ على النظافة والبيئة، إذا فشلت السياسة وشاع الفساد وشح الخبز واستشرى الفقر، وهرب المواطنون أفواجاً أفواجاً خارج أسوار الوطن خوفاً من المجهول!

لم تكن الناصرية ما قبل تسلط البعث بمثل هذا الحال المريع، كان جهد البلدية واضحاً، سواء في تنظيف الشوارع والساحات العامة أم العناية بالحدائق وغيرها، كانت الشوارع نظيفة بخطوط عبور السابلة والسيارات أقل عدداً وتلوث البيئة شبه معدوم، ويتذكر أبناء جيلنا أن في مديرية البلدية عنوان وظيفي يدعى (الجاووش) وأصل اللفظة تركي من بقايا الاحتلال العثماني للعراق، الأرجح أنه ألغي من النصاب منذ فترة طويلة، فلكل عدد من الأحياء السكنية (جاووش) واجبه المرور على البيوت وتسجيل الغرامات على الساكنين، لأن (شيف) رقي رمي هنا أو قشر موز هناك، كان الناس يرمون فضلات الطعام في الأماكن المخصصة من قبل البلدية لجمع النفايات، أما اليوم فيرميها الكثيرون بجانب الحاويات وأي مكان بلا ذوق!، اليوم ومهما عززت البلدية من جهودها فإن الفاسدين للتمويل بالمرصاد كل سنة، وليست وزارة البلديات في إطار الفساد الشامل، الذي شل عصب الحكومة المحلية فقصرت عن تقديم الخدمات، أكثر نزاهة من الوزارات الأخرى!

ولا شيء يقبض النفس مثل انتشار الأوساخ والقاذورات والسكراب في كل مكان بما في ذلك الأرصفة، التي هي أصلاً بلا ملامح جمال ونظافة وتنظيم، خالية من أشجار الزينة و أصص الزهور!، رميت هنا وهناك أثاث منزلية ومكيفات هواء قديمة صدئة، ومبردات هواء وثلاجات وقطع غيار سيارات، هياكل صدئة لسيارات كبيرة وصغيرة، و(ستوتات) قديمة عاطلة صدئة، وأجهزة كهربائية عفا عليها الزمن عجبت لوجود أجهزة استنساخ بينها!، وهوادج طقوس عاشورائية غطاها الغبار حتى حال اسوداد لونها!
أما الطامة الكبرى فهي انتشار محلات بيع المواد الإنشائية بين البيوت محتلة الأرصفة، مسببة أمراضاً للجهاز التنفسي للإنسان بما يتطاير منها من مواد البناء!

شممت هواء الناصرية متغير الخواص، وكان مشبعاً بعوادم السيارات والغازات المنبعثة من منهولات الشوارع، وما ينبعث من تلال النفايات، مختلطاً بفساء خيول العربات المارة، وبقيا عهد الطاغية المريض وتغير النفوس!، فترحمتُ على النسائم العذرية في السبعينيات من القرن الماضي، حيثما حملت رسائل شوق طشرتها بين نوافذ العاشقات، اللواتي كن يحفظن عن ظهر قلب قصائد عمي الشاعر الشعبي زامل سعيد الفتاح الغزلية وبينها (هدني داده صخام وجهي/ الوادم تباوع علينه/ وذاك ابوي براس عكد الهوى يصنت حجينه/ خدي يفضحني بحمرته بهيده مصه ولاتكرصه/ خدي مايحمل الكرصه!) إلى آخر القصيدة.
***
لم تروي ظمأي إلى مشاهدة المدينة جولة الصباح فخرجت قبيل المساء، إلى شارع النيل المؤدي إلى نهر الفرات حيث تقع مقهى الأدباء ولقاء الاصدقاء، أفردت أشواقي المجنحة لتطير بي في أرجاء المدينة المتناقضة العشوائية لكي أراها كلها في يوم واحد لترتاح نفسي!، تغيرت معالم شارع النيل الذي أصبح هو وشارع الحبوبي قلب المدينة النابض بخفوت، بما انتشرت على ضفتيه من دكاكين ومحال تجارية خشبية و(جنابر) وعربات صغيرة حديدية، كانت تستخدم سابقاً في نقل مواد البناء مثل الجص والأسمنت والطابوق والحصى، وخشبية لنقل الفواكه والخضروات وغيرها، واختلط في الفوضى العارمة وانعدام الذوق محلات بيع ثياب نسائية مع محلات بيع خضروات مجاور، ولحم مفروم في صواني مفتوحة للغبارمع محلات تصريف العملة، ومحلات بيع الخردوات ومقهى تتصاعد منه أدخنة الفحم والناركيلة والسكائر وهكذا، ودلل باعة متجولون على بضاعتهم بأصوات عالية، تطور التدليل على البضائع من الصياح إلى وضع مكبرات صوت صغيرة في واجهة محال بيع الثياب والكهربائيات، أو على (جنابر) الخضروات المعروضة للبيع والعربات الصغيرة مما زاد في الازعاج، وثمة من يقول إن معظم البضائع المستوردة التي تتراوح بين قوسي نفاد الصلاحية وسوء النوعية، تجلبها من مناشىء رخيصة مافيات الأحزاب الدينية، في ظل انعدام الرقابة وموت الضمير!
– كلشي داخل المحل بألف دينار!
– معطرات شامبوات مزيل شعر صبغ أظافر بألف دينار!
– باودر مسكارة مكياج بألف دينار!
– دوه فار دوه صرصر دوه كمل دوه للبك دوه للدود بألف دينار!
ضجيج مكبرات الصوت يسمع في كل مكان ويصم الأذان!

وكما في شارع الحبوبي يسير الناس في شارع النيل فوق النفايات والفضلات بلا مبالاة، بعدما أصبحت جزءً لايتجزأ من حياتهم اليومية، قناني مياه الشرب وعلب العصائر وأغلفة بضائع مرمية أمام الدكاكين، قشور فاكهة الموز وطماطم تالفة وباذنجان متعفن وخيار ذابل مرمية على أبواب محلات بيع الخضار، وفي الشارع الذي يشهد فوضى لا مثيل لها اختلطت أصوات الباعة بأصوات الشحاذين الجدد، ممن ألقت بهم موجة الطائفية بعد التغيير على ضفتي الشارع الفوضوي فاقتعدوا الأرصفة يشحذون من المارة بمكبرات صوت مزعجة، يقرأون الأدعية ويذرفون الدموع وهم يصفون مقاتل الأئمة بأصوات لا تخلو من بحة الجنوب الممتدة كأغصان مثقلة بطيور البين والفراق، وهنا وهناك جمعت أكوام بل تلال من صناديق الفواكه الكبيرة المستوردة من إيران ومصر وتركيا والأكوادور وأقفاص الطماطم وغيرها، في انتظار سيارة البلدية الاختصاصية لرفعها لكنها لا تأتي إلا مرة واحدة ليلاً، وانتشرت هنا وهناك أسلاب مهملة مخلوطة ببقايا أعضاء دجاج مذبوح وريش ملوث بالدماء، جلود حيوانات وصوف مخلوط بدمائها، وربما يخرج عامل تنظيف من عيادة طبيب مطلة على الشارع أو مضمد غير مرخص، ليزيح كومة من الإبر المستخدمة الملوثة بدماء المرضى، وصدريات منقوعة بالدماء وكمامات وأكياس الماء المغذي، فتختلط فضلات الحيوان بفضلات الإنسان!

في سوق الخضار بقيت بدون رقابة الجهات الصحية المختصة العربات الصغيرة المذكورة، حيث حُملت بأكياس الفاصوليا والبازلاء والعنب المجفف (الكشمش) والعدس والباقلاء لبيعها، وضع في أعلاها مكبر صوت صغير ينادي على المشترين بأزعج ما يكون!، وعربات خشبية ملئت بالفواكه والخضروات مع مكبر صوت أيضاً، وثمة العشرات من صناديق الفلين الكبيرة القذرة لحفظ الماء والعصائر باردة، وهل ينفع تبريدها بعد تعرضها للشمس وسوء التخزين ناهيك بانتهاء صلاحيتها؟!، زحام السيارات على أشده لكن يصل في المساء إلى ذروته، ويعجب الزائر في الفوضى اللانهائية لوجود سيارات حديثة فاخرة الطراز لا تحمل الكثير منها أرقاماً، تسير ببطىء على النفايات فلا يقطع سيرها الوئيد إلا العابرون الكئيبون اللامبالون، حاملين أكياساً مملوءة بالمواد الغذائية لونها الأسود يقبض النفس وهو من تركة عهد الحصار، دائخين يجتازون الشارع تعتمل في قلوبهم أوجاع حيث لا مكان للمسرات، الأرجح أن كل فرد منهم يتمنى لو أن الانتعاش في الرواتب واودهار الأسواق بالبضائع يستمر طويلاً، قبل أن يبدأ حصار جديد على البلاد!

لا يوجد في مدينة الغبار شيء إسمه متعة التسوق وفي الغالب لا يفرح الناس، فكل شيء ضدهم الأقدار والسياسة والمناخ في حاضر بائس ومستقبل غامض، وكلما ضحكوا من القلب خرجوا عن مألوف حزنهم الطويل كنخيل الجنوب، متداركين ذلك بقولهم (ضحك خير يا علي بن أبي طالب!) إنهم لم يتعودوا على الفرح ويعيشوا مواسمه!
***
إن روضة أطفال الناصرية الواقعة إلى الجهة اليمنى من شارع النيل، وكانت فيما مضى الوحيدة في المدينة ولها سيارة لنقل الأطفال في السبعينيات، من النوع الذي ينقل التلاميذ في الولايات المتحدة الأمريكية، وسائقها مطرب شعبي راحل أغلقت، فيما ملأت الجنابر والنفايات بابها، وحال لون السياج المتصل لمدرستيّ الهدى النموذجية والعدنانية للبنات قرب الروضة، ونبتت على طوله دكاكين هجينة لبيع الثياب والأحذية ولوازم البيت وقمصان نوم نسائية من طراز قديم، حال لونها لكثرة تعليقها في موجات الغبار التي يثيرها مرور آلاف السيارات يوميا، اسطوانات التعزية في محلات بيع (السيدي) مما يضيف أجواء حزينة على الشارع ويراكم أحزان المارة المتصلة من عاشوراء إلى عاشوراء!، إن عملية غسل الأدمغة الذي يقوم به محل التسجيلات الدينية الواقع مقابل الروضة، ما تعجز عنه فضائية طائفية بعد التغيير من تأثير على عشرات الألوف من المارة والمتسوقين يومياً، بل إن تأثيره يمتد إلى الأحياء المجاورة للسوق والشارع، فمن مكبرات الصوت الكبيرة المثبتة في بابه تتعالى أصوات أناشيد دينية، تذكر بالعمل الصالح ويوم الحساب وتحث على زيارة المقابر!، يظهر شاب لم يبلغ الخامسة عشر من عمره على شاشة تلفزيون كبيرة سعة (50) بوصة، معلقة على واجهة المحل، منشداً في مقبرة النجف بصوت مكلوم به بحة الجنوب الشجية، يكاد لا يمر أحد في الشارع إلا وتطفر دمعة من عينه!، فالكل موجوع ومثكول بفقد عزيز تتلجلج دموعه بين جفنيه، في الثكنة العسكرية التي يسمونها العراق!، وفي تكرار الأنشودة من الصباح الباكر حتى منتصف الليل ويقول البعض بأن ذلك مقصود، لأن المحل تابع لأحد الأحزاب الدينية النافذة في المدينة، ما يميت قلب الإنسان ويحضه على ترك الدنيا وأحوالها ويزهده بها ليجهز نفسه لليوم الآخر!

مستوصف العيادة الخارجية المهدم منذ سنوات طويلة مقابل مدرسة الهدى بقي على حاله أنقاضاً مليئة بالنفايات والبراز، وغير بعيد عنه تقع مقهى النرجيلة حيث يتوزع على أرائكها الشباب العاطلون عن العمل يسرحون مع الدخان ودوائره المكبلة للعقل والفعل، غير مبالين بشيء وهم يتصفحون الإنترنت في هواتفهم المحمولة!

شارع الحبوبي

هو الشارع الرئيس في مدينة الناصرية منذ تأسيسها، وكان أحياه الشعراء في قصائدهم والكتاب في كتبهم والفنانون في لوحاتهم والمطربون في أغانيهم، هو عصبها التجاري وشريانها الدافق بالناس والأحداث والفعاليات الاجتماعية والسياسية، وشهد عبر تأريخه دخول الجندرمة العثمانية لاعتقال المتمردين على السلطة العثمانية من عشائر المنتفق، ولعله أحد الأسباب التي جعلت الوالي العثماني مدحت باشا يطلب من المهندس البلجيكي تيلي، الذي استقدمه لرسم خريطة المدينة الجديدة الناصرية (والرمادي أيضاً)، أن تكون شوارعها الرئيسة والفرعية مستقيمة لتسهيل مرور الجندرمة وحركتها، كذلك شهد الشارع مرور فيصل الثاني بعد تتويجه ملكاً على العراق سنة 1953، صحبة خاله الوصي عبد الإله خلال زيارتهما إلى الناصرية، ومسيرات كشفية بنين وبنات ومعلمين ومعلمات مرتدين أحلى الحلل في المناسبات الوطنية لا الطائفية، فيما الأعلام العراقية ترفرف بين أيديهم لا أعلام الأحزاب الدينية الطائفية وهوياتها الفرعية، وذهاب التلاميذ والموظفين صباحاً إلى مدارسهم ووظائفهم وعودتهم ظهراً، والتظاهرات المؤيدة للعهد الفاشي، حيث يأمر الرفاق البعثيون المتمنطقون بالمسدسات بخروج طلبة المدارس والموظفين من مدارسهم ووظائفهم، في مسيرات طويلة حاشدة في مناسبات أعياد الحزب والثورة وعيد ميلاد المقبور، أو تأييداً لنظامه الوحشي في قضية ما تهم الأمة العربية لا العراق!، أو لمناهضة الفساد والمطالبة بتحسين الخدمات والقضاء على البطالة ورفض خصخصة الكهرباء وغيرها في العهد الجديد، كما شهد الشارع في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي تسيير حملات الحج، وكانت كرنفالاً رائعاً تتمظهر فيه الروح العراقية حباً وحناناً في وداع المسافرين، من الشارع أو من الأزقة المؤدية إليه إلى سوق الشيوخ أو إلى السماوة، ومن هناك تسلك الأرتال طريق الحج أو درب زبيدة زوج الخليفة هرون الرشيد، واستخدم بعد فتح العراق وانتشار الإسلام في المشرق، وحتى قبيل الحرب العراقية الإيرانية المشؤومة كان الشارع يشهد بين وقت وآخر مسيرات عفوية لأعضاء منتخب الناصرية لكرة القدم، في اليوم الثاني على فوزه في مباراة مهمة على الضيف الخصم في بطولة الجمهورية وغيرها، ففي كرنفال عفوي يتلقى أفراد المنتخب الأنيقون أجمل التهاني من عشاق الكرة في المدينة، مواكب الزفاف الطويلة تقطع الشارع في المقدمة منها سيارة العروسين مزينة بالورود والشرائط الملونة، فيما الموسيقى تصدح في الشارع المزدحم والأغاني الشعبية
ـ لا تكول استهتار هذا طبعنه!
ـ اليوم يومك يابطل العب على الجربايه!
ـ عريس وربعه يزفونه!
ـ جد ذراعه وعرس بيه انجب يا لشامت؟!

وعلى سيد شباب أهل الجنة في موسم عاشوراء من كل عام قبلاً وبعداً، تتوقف الأعمال والمصالح والزمن ويسود الشارع حزن عميم يشمل حتى الساكنين فيه من المسيحيين والصابئة، الأرجح حتى اليهود قبل تسفيرهم إلى اسرائيل من سنة 1948 حتى سنة 1952 في حملة كبيرة أطلق عليها حينذاك (عزرا ونحميا)، وتسير مواكب العزاء الحسينية بهوادجها الكبيرة، وهي عبارة عن أبلام مجللة بالسواد لكن مضاءة بألوان زاهية تعكسها اللوكسات واللمبات، لا يقدر على رفعها إلا رجال أقوياء مفتولو العضلات يتقدمون المواكب ما يضفي عليهم صفة البطولة، كان أحدهم وهو بائع سمك في السوق ضخم الجثة لا يمتنع عن الشراب إلا في الموسم احتراماً وإجلالاً، وسوف ينتحر ذات نهار وقيل إنه كان سكراناً، قاذفاً بجسمه الثقيل من فوق الجسر إلى النهر، وأشيع عنه في وقتها وكانت حالات الانتحار نادرة في المدينة، أنه أطلق صرخة قوية في وداع أهالي الناصرية!

شارع تمر فيه مواكب التعزية منظمة تنظيماً دقيقاً متنافسة فيما بينها في اللطم وضرب الزنجيل حد الأدماء، في هذا الموكب حلقة رجال بأجسادهم القوية مفتولو العضلات يلطمون الصدور المشعرة، وثمة في مجتمع الحريم والحرمان تقف المئات من النساء على ضفتي الشارع ناظرات إليهم ربما باشتهاء!، وفي ذاك الموكب ضرب الزنجيل الحديدي في جلد متواصل على الظهر بطريقة مازوخية، حتى يحمرّ الجلد ويطفر الدم أو يكاد!، وربما غالى البعض في حب آل البيت والشعور بالذنب على مقتلهم في يوم الطف وطلباً للثواب، فأضافوا إلى أطراف الزناجيل سكاكين صغيرة وشفرات لمزيد من السلخ ونزف الدماء!، ومن المهرجان الحزين تتعالى أصوات المقرئين (الرواديد) فلكل موكب رادود ذي صوت شجي نائح، اتصالاً بالأصوات الشجية النائحة في معابد سومر على موت تموز كل عام، موكب الكسبة وموكب النجارين وموكب الحدادين وموكب المجارية وغيرها كثير، وكانت أعين رجال الأمن مفتوحة وآذانهم صاغية على كل صغيرة وكبيرة في الناصرية المتمردة على ظلم بغداد لها وإهمالها، وربما استدعت مديرية أمن الناصرية أو الأمن العامة في العاصمة هذا (الرادود) أو ذاك، لأنه لمَّحَ في قصيدة شعبية إلى جور السلطات الرجعية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، أو في السبعينيات بعد اغتصاب العصابات البعثية الأجرامية للسلطة، وفي اليوم التاسع من عاشوراء يحلق المئات من الرجال شعورهم ويضربون على رؤوسهم بالعصي (المشق) تخديراً لليوم العاشر، الذي سيشهد شج الرؤوس وسيلان الدم في الشوارع حزناً على استشهاد الامام الحسين وأخيه العباس، والعشرات من آل بيتهم وصحبهم في واقعة الطف المعروفة.

منذ التأسيس اتفق سكان الناصرية عفوياً على تسمية شارع الحبوبي بـ (عكد الهوا)، وكانت تملأه أشجار السيسبان والسدر والصفصاف حتى مطلع الستينيات من القرن الماضي، وتملأه اليوم الصبات الكونكريتية القبيحة والعلامات المرورية البلاستيكية المتنافية مع الذوق العام وتضرب الفوضى أطنابها في كل مكان، علامات مرورية بائسة نفذها مقاولو الأحزاب ومافياتها مقابل أموال طائلة، حيث يتردد في الإعلام أن الكثيرين منهم هربوا بما رصد لهم من التمويل السنوي للبلدية قبل إتمام عملهم، على رداءته التي انكشفت في موسم الأمطار أو موسم الصيف الحار!، وقبل قبح الصبات أي حينما كان الشارع يزهو بالأشجارقبل عشرات السنين، كان السكان يتعرفون على الاتجاهات من خلال حركتها وميزوا الهواء الشمالي الغربي البارد، عن الهواء (الشرجي) الشرقي الهاب من الأهوار مشبعاً بالرطوبة، ما يجبر الكثيرين منهم على النوم في غرفهم دون سطوح البيوت.

(عكد الهوا) وقبل ذلك سمي بشارع حسين الأغا نسبة إلى أحد مدراء البلدية، أو ياسين المحروث الذي خلف الأغا في الإدارة، أو الأمير عبد الإله بعد الزيارة المذكورة، وسمي بشارع الحبوبي في السبعينيات بطلب من مدير البلدية الأسبق شاكر الغرباوي، نسبة إلى الشاعر ورجل الدين والمجاهد محمد سعيد الحبوبي (1849ـ1915). ولا نعلم لماذا لم يطلق على الشارع إسم الغرباوي نفسه ويوضع له تمثال بدلاً من تمثال الحبوبي وهو من مدينة النجف، والغرباوي ابن الناصرية وأوفى الأوفياء لمدينته وأفضل من رعاها وكتب عن تأريخها؟

وبدا لنا الشارع في سنة 2013 في حالة فوضى ورثاثة ومخاض عسير، بين الماضي العريق لشارع ثقافة ومقاهي ومكتبات وعمارة ومناسبات اجتماعية، وحاضر الأرصفة المكسرة وانتشار الأوساخ والقاذورات والسكراب في كل مكان، ضاعت ملامح الشارع بين كثرة المطبات وفوضى المرور والمباني التي نبتت على ضفتيه بدون دراسة وتخطيط للفضاءات، بما زادها من زحام السيارات وإطلاق عوادمها من تلوث البيئة.

لم يتغير شيء منذ أكثر من نصف قرن سوى إضافة (لمسات) جديدة من أكوام النفايات هنا وهناك، كما لو كانت وليمة وحوش في غابة استوائية لما علا البعض منها من حيوانات نافقة مثل القطط والطيور، انتشرت في المكان المقرف روائحها الكريهة، فبعدما يأسوا من قيام البلدية في إزالتها، يشاهد المارة أكوام النفايات منذ سنوات طويلة وقد أصبحت جزءً من مفردات حياتهم اليومية، يمشون فوقها ويشمون روائحها، يرمون هنا وهناك قناني الماء الفارغة وأكياس النايلون وعلب العصائر الفارغة، وأغلفة البضائع التي يبتاعونها من الدكاكين والمحلات، يفضونها في الطريق إلى البيت ثم يرمونها بلا مسؤولية!، لا يجب القاء اللوم على البلدية حسب بل يتحمل المواطنون جزءً من مسؤولية ما تحمله المدينة من تلال النفايات المخيفة!
***
ولن تجتهد في الناصرية بحثاً عن عناوين الفوضى، تجدها شاخصة في ساحة الحبوبي وسط المدينة حيث ينتصب تمثال الشاعر، وسرعان ما أبدلت صور صدام ويافطات الحزب والثورة وتمجيد القائد الضرورة بصور الرموز الدينية!، وعلى المشبك الخفيض الحديدي الدائري للتمثال فوضى لافتات تتراوح ألوانها بين الأبيض والأسود وكالح اللون وماحله!، بين الدعاية الانتخابية لسياسي نافذ في العاصمة يعزل لاحقاً بتهم فساد بمليارات الدولارات، زعم بأن أبواب مكتبه مفتوحة للمراجعين من أبناء ذي قار الكرام!، وأنه ما رشح نفسه لعضوية مجلس النواب عن المحافظة وفاز بالمنصب إلا خدمة لمواطنيها؟!، والدعوة إلى ورشة عمل في إحدى منظمات المجتمع المدني، ودعاية قديمة لأحد المرشحين لمجلس النواب، لم ترفع من مكانها ففات أوانها وحال لونها، ولا يستبعد أبناء الناصرية حصول صاحبها على ما يرفه حياته ويضمن مستقبل أولاده لعشرات السنين بعد موته!، ونعي شهيد وقع في إحدى العمليات الارهابية في العاصمة بعدما شح الرزق في الناصرية، وكان المئات من عمالها المسحوقين يقفون في مساطر الكاظمية وغيرها ببغداد طلباً للرزق، فيقف لهم النحس بالمرصاد ليسقطوا مضرجين بدمائهم في إحدى التفجيرات، ولا يكل رجال الأمن المسلحون في ساحة الحبوبي وأكثرهم من أبناء القرى والأرياف والأهوار عن أداء الواجب، فدورياتهم مسيرة أو ثابتة حتى الصباح، لكن البعض منهم منشغلون بتلفوناتهم المحمولة في الليل والنهار أكثر من اللزوم!

تحيط (الجنابر) و (البسطيات) بالساحة إحاطة السوار بالمعصم!، لقد ظهرت (الجنابر) في العراق في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي نتيجة لتفشي الفقر، وامتدت بعد الحصار لتتصل بالسوق السوداء بعد انهيار الدولة، ولا يمكن فصل ظاهرة انتشار (الجنابر) عن أسباب الفقر، فهي امتداد لظاهرة التسول وانتشار العشوائيات والبطالة والتدهور في كل المجالات.

إن دوافع اتخاذ المهمشين والمسحوقين من الرصيف مكاناً للبيع والشراء هو الفقر، وإدخال العراق بعدد من الحروب والأزمات الاقتصادية، ما قضى على الطبقة الوسطى فأصبحت نسبة كبيرة من الشعب فقراء أو تحت خط الفقر، لذلك اتخذ الشباب العاطلون عن العمل بل وحتى الجامعيين والخريجين العاطلين من (الجنبر) و(البسطية) عاملاً لكسب الرزق.

شارع الحبوبي الذي تحول إلى شارع اقتصاد (الجنابر) ضاعت معالم الرصيف فيه وانتشرت ظواهر التحرش العلني والسرقة، وها هو يغرق في اللامبالاة والفوضى، فقد انتشرت خلف التمثال في مدخل الشارع الذي يمنع فيه سير السيارات أحياناً، الحواجز الأمنية ورجال الشرطة والاستخبارات، وكما في بقية المدن انشغل البعض منهم بهواتفهم المحمولة!، فيما وضع باب حديدي مشبك كبير يسحب على عجلات إلى يمين التمثال، لغلق شارع النيل المؤدي إلى عدة أحياء كبيرة منها الصالحية والعسكري وسومر، والأرامل والأيتام حيث يقع بيتنا سابقاً!

إن غلق مداخل الشوارع الرئيسة بأبواب حديدية يفضي عملياً إلى نظام التقسيم إلى محلات، قد يؤدي لاحقاً مع استتباب الجهل وانتشار التقاليد العشائرية وضعف الأجهزة الأمنية، إلى نشوء عداوات واقتتال مناطقي، ولامراء أنها إحدى علامات تمزق النسيج الاجتماعي بعد عشرات السنين من المآسي المتلاحقة على العراق!
***
وبدت الناصرية مدينة جدباء يلفها الغبار، انحسر نهرها وانعدمت في شوارعها الأزهار والأشجار والمساحات الخضراء، والأخيرة مما تريح النفس وتكون ملاذاً للعوائل وتصريفاُ لطاقة الأطفال في الملاعب، أما شوارعها فذكورية كفرت بالأنوثة ومن أسباب ذلك تسلط الدين الزائف والعادات البالية والتقاليد المبالغ فيها، فانزوت بين أربع جدران، ومثل بقية مدن العراق ازدادت نسبة العنوسة في الناصرية وارتفعت معدلات الطلاق، حيث لا يطول عمر الزواج أحياناً أكثر من بضعة أسابيع، وهو ما وقفت عليه في محكمة الناصرية (الأحوال الشخصية) وكذلك ما سمعت من قصص لا أعجب لها للأسباب المذكورة!

وتم في نهاية الشارع الطويل (شرقي المدينة) تخصيص حديقة الحاج عبود لتربية الطيور وبيعها!، وكانت سابقاً رئة يتنفس خلالها سكان المنطقة وملاعب لأطفالهم، لتختنق الناصرية بعد إهمال مساحة خضراء أخرى تقع في غربيها لا تقل أهمية عنها، وهو منتزه الناصرية، الذي سنتحدث عنه في سطور لاحقة.

ضاق شارع الحبوبي الذي كان فيما مضى نظيفاً ورحباً ومنظماً بما فيه الكفاية، يسع طريقين لمرور السيارات وخطوط عبور السابلة، أصبح بما انتشر على جانبيه من (بسطيات وجنابر) لبيع الألبسة والحقائب والمواد الغذائية وغيرها، عبارة عن زقاق طويل مزدحم بالمواطنين، من مرضى ومتسوقين ومتجولين ومتسولين ومتحرشين بالنساء أيضاً!

شارع كئيب بلا روح اختلطت فيه ملامح شارع بملامح سوق هرج!
ضاعت ملامح الرصيف والشارع بين (الجنابر) و(العربات) والنفايات!
شارع تنادي في أوله شحاذة بصوت يصم الآذان صباحاً ومساءً، تفترش الأرض وأمامها طفلة مريضة مسجاة على قطعة كرتون قذرة
– أرحموا هاي الطفلة المسكينة .. يمه!
– مريضة وما عندي فلوس الدوه والطبيب .. يمه!
– خمس يتامى بركبتي وما كو معيل .. يمه!

مدينة شوارعها المستقيمة المتقاطعة كالصلبان يصلب عليها أبناؤها منذ عشرات السنين، ينطوي كل إنسان في الناصرية على سر دفين، تتلاطم في داخله أمواج من الرفض والتمرد والأسئلة عن الحياة والمصير ولم يأت ذلك من فراغ، فقد كوَّنه تاريخ العراق عامة والناصرية خاصة، وراكمت فيه السياسة من احباطاتها، وما جاء على الحكم خلال نصف القرن الأخير من أنظمة رجعية وطاغية وحروب وحصار، ختمها الاحتلال الأمريكي وما جاء به من طائفية وقومية وفساد الحكام الجدد، فتركت الإنسان في الناصرية نهباً للضياع واليأس في واقع مديني متدهور، فالحكم فاسد والهواء فاسد والطعام غير صحي والأطفال لا يشربون الحليب!، ونرجح أن تغير النفوس يحتاج إلى زمن طويل وأجيال عديدة قبل أن تعود إلى طبيعتها السوية!

وليست الشوارع الفرعية المؤدية من شارع الحبوبي إلى نهر الفرات، أو إلى أسواق بيع الفواكه والخضروات واللحوم، بأحسن حالاً من شارعي النيل والحبوبي، من حيث الفوضى وانتشار الأوساخ والقاذورات، ووضع الصخور والدكات الأسمنتية وعلب الزيت الكبيرة الفارغة، أمام المؤسسات الحكومية والمحال التجارية، تحسباً لهجومات محتملة بالسيارات المفخخة تطال الناصرية بين وقت وآخر!، إن ضيق الشوارع الفرعية بالمارة بما زادها من تدهور الأوضاع الخدمية في كل مكان، أحال الذاكرة إلى عراق ما قبل تشكيل الدولة، وربما أبعد من ذلك التأريخ!

وكما كانت قبل ربع قرن وتستمر حتى الساعة السابعة أو الثامنة مساء، مازالت حركة البيع والشراء نشيطة في قلب المدينة خافتة ضربات القلب، ولا تبقى في النهاية سوى مفارز الشرطة وعربات بيع الأطعمة المكشوفة، وصناديق باعة شرائح الموبايلات وتصريف العملة، وأصوات قوية تطلقها محلات تسجيل الأناشيد الدينية، فقد حل المساء وعاد الناس إلى بيوتهم، أمسى الشارع مقفراً إلا من قلة قليلة من العابرين!

الناصرية سليلة حضارات العبيد وأور وأريدو ولارسا وأوروك، ووضع فيها الملك العادل أورنمو أولى التشريعات في التاريخ، سبقت قوانين لبت عشتار ملك أيسن وأشنونا وحمورابي بقرون، بدت لنا بعد عقدين من السنين مدينة مهدومة من أركانها الأربع، الناصرية التي لا أخفي حبي الشديد لها ولسكانها، خصصتُ لها بعد التغيير موقعاً إلكترونياً فاعلاً أسميته (www.summereon.net) نال استحسان المتابعين قبل الجوائز، وكتبت عنها عشرات المقالات أجمعت فيها، على ضرورة بناء مدينة جديدة على مبعدة من الناصرية الحالية، المفتقرة إلى أبسط شروط المعيش الإنساني بعدما فاق التدهور كل تصور!
***
في الصباح الباكر تبدو ساحة الحبوبي وهي قلب المدينة الغافية شبه خالية إلا من العمال المبكرين إلى أعمالهم وأصحاب المحلات التجارية، وقد بدأوا برش الماء على التراب في واجهات المحلات لتثبيته وطلباً لرزق، وتلك إحدى عادات الشرقيين التي لاحظناها في الهند وتايلند وغيرها، لما للماء من دلالة مقدسة وتطهيرية في الأديان وثنية وإبراهيمية، ومن جهة ثانية لإغراء المشترين بنظافة المكان المريح للنفس، ومع إشراقة الصباح وبدء الحياة اليومية رحت اجتاز في الساحة بين المتاجر و(الجنابر) والمحلات والصيدليات والمطاعم، وأسواق تصريف العملة وصناديق بيع شرائح التلفون النقال (Sim Card)، وعربات الأطعمة المكشوفة حيث تحط عليها فيالق الذباب خلال النهار، كما كانت تحط قبل عشرات السنين على العربات أمام باب مدرستنا قرطبة القريبة من الساحة، تأكل وتتبرز وتبيض وتطير منها أجيال جديدة في كل يوم!، ودعمت خشية من الحرامية أبواب المحلات والمتاجر بأبواب فولاذية مشبكة بأسياخ، حكمت بأقفال كبيرة، مشهد سلبي يحيل إلى الايجابي من الأقفال، التي يضعها العشاق على الجسور في باريس مثلاً مع الفارق، ففيما توضع الأقفال هناك رمزاً للتعبير عن الحب والصداقة، توضع هنا لمنع الحرامية من السرقة في بلد خالي من الرقابة ويشهد موت الضمير!
في يوم ما سوف تزول تلك المظاهر المؤسفة ويشيد جسر للحب في كل مدينة عراقية؟!

بعد حوالي نصف ساعة توقفت سيارة البلدية لرفع النفايات قرب تلالها، ترجل منها عاملان فتحا بطانية عسكرية غامقة اللون وشرعا يملآنها، واحد إثنان ثلاثة ثم رميا المحتويات في جوف السيارة الكبيرة، مشهد يومي صادم لايأبه به سكان المدينة بعدما تعودوا على مشاهدته، وأصبح أحد مفردات الشارع وحياتهم اليومية، وشرعت أصور التلال البغيضة وأنشرها في صفحتي على الفيس بوك، منتقداً بحماس مبالغ فيه كما قال لي بعض الأصدقاء بعد صدمة الزيارة الأولى، تقاعس الحكومة المحلية والبلدية عن أداء واجبهما، خطوات أخرى ووقعت عيناي على أشنع ما شاهدت في حياتي من صور على الاطلاق، فقد علقت على الأعمدة الكهربائية قطع من الورق المقوى بحجم (30×20) سنتمتراً دهنت بمادة صمغية واستخدمت مصائد للذباب!
***

إن التأمل في قلب المدينة التي تنازع سكرات الموت منذ اندلاع الحرب ضد إيران، يزيد من الإحساس الداخلي بقوة الانتماء إليها مهما كان شكل خرابها، وإحدى صور خرابها الجديدة كثرة أعداد السيارات حتى خيل إلي حينذاك أن أعدادها فاقت عدد نفوس الناصرية!

فوفقاً لبيانات الجهاز المركزي للأحصاء التابع لوزارة التخطيط فإن مئات الآلاف من السيارات دخلت إلى العراق بعد سنة 2003 ومن مناشىء مختلفة، وبما أضيف إلى عدد السيارات الموجودة أصلاً في العراق فقد بلغ المجموع 5.8 مليون سيارة، في بغداد وحدها أكثر من مليوني سيارة وفي ذي قار 136 ألف سيارة جديدة وقديمة.

سيارات من مناشىء رخيصة إيرانية وصينية وكورية تسير في شوارع ضيقة لا تستوعب هذا العدد الهائل من السيارات، ومزدحمة بقيت بدون إشارات مرور ولا شرطة مرور إلا في أماكن منتخبة، اختناقات مرورية تسبب إهداراً للوقت ناهيك بالحوادث المريعة اليومية التي رفعت نسبة الوفيات في العراق رغم تقدم الطب في عالم اليوم!، وقد رافق زيادة عدد السكان وزيادة المداخيل زيادة عدد السيارات لكن دون شق الطرق وتعبيد الشوارع الرئيسة وتوسعتها أو بناء جسور معلقة أو أنفاق وتنظيم السير، ثمة سيارات حديثة بقيت بلا أرقام تمخر عباب فوضى شارع الحبوبي جنباً إلى جنب مع سيارات قديمة، كان يمكن أن يكون مصيرها السكراب بأبخس الأثمان، لو كان هناك رقابة وقوانين تحمي المواطنين مما تنفثه من أدخنة سوداء قاتلة، إن أسهل مهنتين في العراق اليوم هما العمل في بسطية أو قيادة سيارة أجرة، فهنالك من يستوردها من تجار الأحزاب الدينية من إيران لرخص ثمنها إحداها تدعى (السايبه)، أطلق بحقها العراقيون نكات كثيرة، قبل سنة 2003 كان بائعو الخضروات يدللون على بضاعتهم بقولهم (هاي الطماطه .. هذا الخيار!) لجلب انتباه المشترين، وعجبت لسواق الأجرة ليس في الناصرية حسب بل في المدن الأخرى، كيف يدللون على تأجير سياراتهم بقولهم (هذا التكسي .. هذا التكسي!)، وأحياناً يفتحون بابها ليرغبونك في الصعود، ويمكن تعليل تجمعهم على الزبائن وفتح الأبواب لهم دون رغبتهم، إما إلى شحة الرزق وكثرة سيارات الأجرة وتنافس أصحاب السيارات الخاصة من موظفين وقوى الأمن الداخلي بعد نهاية الدوام معهم، أو أن النفوس تغيرت فعلا وقد لخص ذلك أحد الاصدقاء بقوله ساخراً (الناس مدري تسودنت .. مدري الملح مغشوش!)
***
ثمة موظفون يكحون في الطريق إلى أماكن عملهم، بكر قبلهم عمال المسطر وأغلبهم من سكان القرى والأرياف المحيطة بالناصرية، حاملين أدوات العمل البدائية من مجارف ومعاول إضافة إلى زوادات غداء، انطلقت عربات تجرها حمير تتبرز ماشية!، و(ستوتات) بيع الغاز كلما احتك حديدها بقناني الغاز يصدر صوتاً مزعجاً لا يأبه به في ضجيج الشارع أحد!، وينبعث من عدد من المحلات المفتوحة ترتيل قرآن بالطريقتين العراقية والمصرية، هنا وهناك تسمع أصوات صباح الخير
– صباح النور
– تكول أخبار أمس داعش محتلين جامعة تكريت وهاجمين على مجلس المحافظة؟!
– الله يستر هاي كلها من ورا السعودية؟!

تنهض الناصرية في يوم صيفي جديد تشرق فيه الشمس على المخلوقات والأمكنة، ومثل بقية مدن العراق تفتتح يومها لا بأخبار منجزات مشاريعها التنموية واستثماراتها وعصرنتها وازدهارها، بل بأخبار التفجيرات التي تهز العاصمة وغيرها ويترجع صداها في قلب الساحة، فتتخذ الأجهزة الأمنية احتياطاتها اللازمة بغلق عدد من الشوارع وتكثيف الدوريات وبدء المداهمات الليلية، وغالباً ما يشير الإعلام المحلي والقيادات الأمنية والناشطون في مواقع التواصل الاجتماعي، إلى وجود خلايا نائمة لا سيما من أعضاء حزب البعث المحظور، الذين سرعان ما انتموا إلى الأحزاب الدينية بعد التغيير، نظراً لوجود مشتركات بين الحزب القومي الفاشي، والأحزاب الدينية في المبادىء والخطاب والممارسة!

ازداد زحام المواطنين قبل الساعة التاسعة، موظفون وعمال ومرتادو المقاهي ومتسوقون للفطور، لكن لا وجود لطلاب المدارس فالموسم الدراسي لم يبدأ بعد، إن خلو الطرقات من التلاميذ الصغار الذاهبين إلى المدارس، بثيابهم الملونة وجلجلة ضحكاتهم ومزاحهم وصدى أصواتهم في الصباح، يجعل الأمل محذوفاً من صورة الحياة اليومية فهم بهجة الحياة وأمل المستقبل.



#طارق_حربي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انهيار التعليم في العراق
- حي الأرامل
- بيان حول الاعتداء السافر ضد المتظاهرين في مدينة الناصرية.
- عقيل حبش .. بطل من الناصرية
- موعد في غوا (رحلة إلى العراق والهند) الفصل الأول : الناصرية ...
- موعد في غوا (رحلة إلى العراق والهند) الفصل الأول : الناصرية
- في الليل تسطع نجمتها!
- كم هو حزين هذا الصباح؟!
- مثل ام ولد غركان .. بالناصرية؟!
- يكون غدا أثرا
- 9 هلالية!
- مقطع من القصيدة النرويجية
- استمارة الصافي مرفوضة وسنقوم بتوكيل محامين دوليين!
- دعوة إلى محافظ ذي قار الجديد التنازل عن منصبه!
- قرب مكان الانفجار الثاني بالناصرية !
- هوامش حول حرية التعبير في العراق
- الأستاذ الجامعي السعودي سعد الدريهم .. إبن أي شارع أنت؟!!
- مقهى عزران وشاعر المدينة .. فصلان من كتاب (الناصرية .. شخصيا ...
- علم الغربية .. باطل!
- حول طبخة الحكومة العراقية الجديدة في طهران !


المزيد.....




- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طارق حربي - الطريق إلى الناصرية 2