أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهير فوزات - الرجل والعادة الزرّيّة















المزيد.....

الرجل والعادة الزرّيّة


سهير فوزات

الحوار المتمدن-العدد: 5979 - 2018 / 8 / 30 - 09:05
المحور: الادب والفن
    


وقف أمام المرآة يضع اللمساتِ الأخيرةَ على أناقتِه قبل خروجه إلى دوامِه، حين حدثَتْ تلك الحادثة التي أرقته زمنًا. كان قد اغتسل وجفف شعره وصففه وحلق ذقنه ولبس ثيابا نظيفة وتعطر كما يفعل كلّ يوم بلا استثناء منذ سنتين، منذ دخل معهد الالكترونيات وتحددت ملامح مستقبله المشرق.
لأول مرّة -بلا سبب علميّ واضح- تواجهه مشكلة كهذه: بينما كان يرفع ذراعيه ليرتب شعره من الخلف، انقطع زرّ قميصه الورديّ قميصه المفضّل الذي اشتراه –بالكاد- منذ بضعة أشهر وكان يخطط أن يبدأ به حياته المهنية بعد أشهر، حين يتخرج ويبدأ عمله الذي ينتظره مسبقًا ككل طلاب هذا الاختصاص.
غيّره بسرعة كي لا يتأخر وعلقّه على علّاقة ثياب ثم على مسمار في الحائط كما نعلق جدول أعمال الأسبوع أو موعدًا مهما، كي يحل تلك المشكلةَ حين يعود بعد الظهر.
في المعهد أثناء النهار أخذ الزرّ من تفكيره حيّزًا مهمًّا، كلما سها عنه مع الأصدقاء والصديقات أو خلال الحصة الدراسية، عادت به خلوته أو صمت قصير ممن حوله إلى حدث الصباح ومشكلته.
فكّر أولا -وهو المعروف عنه حل مسائل الرياضيات والفيزياء المعقّدة- لماذا انقطع هذا الزر بالذات في منتصف القميص في نقطة لا تشكل مركز ثقل! لماذا انقطع في هذه المرحلة بالذات، حين رفع ذراعيه عاليا! وبدأ يحاول أن يتذكر إن كانت هناك في مراحلَ أخرى من حياته حادثةٌ مشابهة، أو إن كان قد طبق عليه ضغطا غير منطقي خلال الشهور السابقة بحركة أو بأخرى!
فكّر أيضًا في سرّ انقطاع زرّ بهذه الأهمية: في منطقة الكرش. فهو زر جوهري في حياة القميص انقطاعه يوحي بسمنته وترهّله أو عدم رشاقته. زر لا يمكن تجاهله، فالأزرار في القميص كالبشر في الحياة، بعضهم محوري وأساسي لا يمكن للمحيط تجاهل غيابه أو متابعة الحياة دونه وبعضهم أقل أهمية ويمكن التغاضي عن دوره، بعضهم احتياطيّ وقد تمضي الحياة من حوله دون أن تلتفت أصلا لوجوده.
حين عاد إلى المنزل توجه مباشرة إلى علاقة الثياب أخذ القميص ثم ذهب إلى مقر والدته في المطبخ حيث رائحة الأكل الشهيةُ تملأ الفضاء. قبّلها على خدها فابتسمت دون أن تنظر إليه، وهي تحرّك الوجبة فوق النار.
-أمي انقطع زر قميصي الجديد. ألقت نظرة سريعة ثم ردت وهي تشير إلى طاولة التلفاز في غرفة الاستقبال التي ترى جزءًا منها:
-ضعه هناك لأخيطه لك، الآن وقت الغداء.
-سوف تنسَينه كجَوْربي الذي رميتُه بعد أن أخذ قيلولة شهر جنب التلفزيون!
أطفأت صنبور الماء وأبقت يديها المبتلّتين فوق المجلى وحدجتْه بنظرة هي بين العتب والغضب. بتلك النظرة تلت عليه خطاب الأمهات التقليدي في مثل تلك الحالات.
ابتسم ابتسامة صفراوية وانسحب هو وزرّه نحو غرفة المعيشة. بحث عن أخته الكبرى (سميرة) فلم يجدها. أخته الأخرى التي تكبره بعامين تمسك كتابًا لا ترفع بصرها عنه إلا للضرورة. فكر قبل أن يتكلم "سأعطيها فرصة ذهبية لتنطلق في محاضراتها عن المساواة الجندرية وعن سخافة تقسيم المهام المنزلية بين رجولية ونسائية وعن استقلالية المرأة وعن مفهوم الفرق بين الخادمة أو الأخت والأم والزوجة... و..و.." لكنه قرر أن يغامر، فقميصه الوحيد في أزمة زرّيّة وعليه تشكيل خلية أزمة عاجلة...
-"سليمة"
نادها فرفعت بصرها نحوه دون أن تحرك رأسها، وحين لوح تلويحًا خفيفا بالقميص بيد وبالزر في اليد الأخرى، اتّخذت ملامح وجهها خلطة استنكار واندهاش وقرف وتحفّز، ففهم مجمل الجواب و رفع يديه مستسلمًا وانسحب.
ليس له إلا (سميرة) أخته الأخرى التي تكبره بأربع سنوات، حبيبة قلبه وأمُّه الثانية. واصل البحث عنها ومناداتَها فوجدها تنشر الغسيل في الشرفة. اعتذرتْ منه بلطف لأنها الآن مشغولةٌ ووعدته بإصلاح الزر فيما بعد. أنهتْ نشرَ الغسيل ودخلتْ. وتركتْه واقفا على الشرفة مع قميصه حائرًا. اتكأ بمرفقيه على سور الشرفة، وترك بصره يسرح بعيدًا يفكر في حلّ. بعد قليل لاحت حركة في الشرفة المقابلة فالتفت: كانت (سلام) ابنةُ جيرانِهم الفاتنةُ، طالبة ال(بكالوريا) قد أخرجت كرسيّها وكتابها لتدرس على الشرفة. حين لمحته ابتسمت وحرّكت أصابع يدها محاولة ألا يراها أحد ما في الداخل. ابتسم بدوره وهزّ رأسه هزّا خفيفًا حتى لا يلفت الانتباه من جهته. تظاهرت بالتركيز في الكتاب، وهو ثبت بصره عليها بينما أطلق تساؤلاته حول قدرتها أو رغبتها في تركيب زر القميص وصار يتخيل نفسه يطلب منها ذلك وكيف يمكن أن تكون ردة فعلها. فكر: "النساء الجميلات لا يحببن أعمال المنزل، هل عليّ إذن حين أفكر في الزواج أن أختار امرأة قبيحة؟ وماذا لو كانت قبيحة ولا تعرف أن تخيط زرًا كأختي (سليمة)؟! كيف لي أن أتأكد قبل الزواج أنها تجيد الطبخ والغسيل والكوي ...وخاصة خياطة الأزرار!" هنا انتبه إلى أنه يشتت تركيز (سلام) التي كانت تسترق النظر إليه بين حين وآخر، وتتصرف بطريقة توحي بأنها مراقبة.
لملم قميصه ودخل فقد كانت أمه تنادي الجميع إلى الطعام. بعد الغداء تسلّل إلى غرفة الجلوس وسرق من الدرج إبرة وخيطًا بعد أن يئس من استجداء النساء. دخل الحمام وأقفل الباب ثم شغل صنبور الماء ليوهم من في الخارج أنه يستحم. وبدأ يحاول إدخال الخيط في الإبرة. لم يكن الأمر سهلًا، يبدو أنه وقع على خيط أثخن من اللازم أو إبرة صغيرة، بعد عدّة محاولات نجح في إدخال الخيط فشعر بمتعة الانتصار. المتعة التي شعر بها جعلته يفكر في مرّات قادمة؛ هل تصبح خياطة الزر عادة يحتاجها من وقت لآخر ليتغلب على صعوبات الحياة ويستعيد توازنه؟ وماذا لو عرف أصدقاؤه أو أبناء عمومته وأخواله أنه يقوم بأعمال النساء ويخيط أزراره بنفسه؟ وماذا لو ضبطه (منذر) أخوه الأصغر يمارس (العادة الزرّية). هنا دق أخوه الصغير الباب معلنا حالة طوارئ في حاجة المرحاض. لملم قميصه والإبرة والخيط بسرعة، وبلل شعره ببعض الماء للتمويه ثم خرج.
بقي القميص معلقا عدّة شهور على الحائط أمامه. ماثلا فوق المسمار كخيبة مريرة وتحدّ مبطّن، يشكل بوصلة خفيّة لمستقبله.
يوم حمل نتيجة تخرجه من المعهد وعاد إلى المنزل ليفرح قلب والديه؛ كان ينتظر من أمه الكلمة التي قالتها: " الآن نستطيع تزويجك لتتحمل مسؤولية بيت" فأجاب كما لو أنه أعدّ هذا الجواب منذ الأزل: " المهم ألا تكون عنيدة ومسترجلة كأختي (سليمة)...والأهم أن تعرف كيف تطبخ وتخيط الأزرار" ضحكوا جميعا ما عدا سليمة التي كشّرت واكتفت بالصمت -على غير عادتها- كي لا تخرب فرحة الجميع.
كان قد أمضى الشهور الماضية في دراسة أشكال النساء ومواصفاتهن وفي الوقت القليل الذي كانت تتيحه له كثافة الامتحانات حاول الاطلاع على بعض المقالات في علم الفراسة. كان إذ يمشي في الشارع يحاول تطبيق ما يقرؤه ويحاول تحليل نفسيات النساء حسب أشكالهن وتقدير أيِّهِنّ الأقرب إلى النموذج الذي يستطيع إسعاده. فمثلا ذات الأنف النحيل عصبية المزاج ومتكبرة، ذات العينين الصغيرتين دقيقة الملاحظة وماهرة في الأعمال الدقيقة. أما ذات الورك العريض مع أكتاف عريضة فهي جيّدة الخصوبة وتتحمل الإنجاب، لكنها قد لا تجيد خياطة الأزرار، وهكذا...
******
بعد سنتين وبضعة شهور من حادثة الزر. و سنة واحدة فقط من زواجه السعيد من عروس اختارها بدقّة بالغة في المنطقة الوسط بين الجمال والقبح وبين قوة الشخصية والخضوع التام واختبر في خطبتهما القصيرة مهارتها في الأعمال المنزلية واهتمامها بتفاصيله الصغيرة من أكل ولباس وما إلى ذلك.
وقف أمام المرآة يضع اللمسات الأخيرة على أناقته قبل خروجه إلى دوامه. كان قد اغتسل وجفف شعره وصففه وحلق ذقنه ولبس ثيابا نظيفة وتعطر كما يفعل كلّ يوم بلا استثناء.
فجأة، بلا سبب علميّ واضح، بينما كان يرفع ذراعيه ليرتب شعره من الخلف انقطع زر قميصه السماويّ، زر الكرش. خلع القميص بسرعة وتوجه إلى غرفة النوم، كانت زوجته تغطّ بجانب طفلهما ذي الثلاثة شهور الذي أرقها طوال الليل. كانت تبدو بثياب النوم أضخم من ضخامتها التي أحدثتها الولادة في جسمها. وكانت تبدو مع الإرهاق الذي يكسو وجهها أكثر قبحا من أي وقت. خاصة وقد تخيّل نظرتها إن طلب منها إعطاءه بعضًا من الاهتمام الذي تعطيه لطفلها وطلب منها إصلاح زر القميص.
تنهّد تنهيدة عميقة، تناول من الخزانة قميصًا على غير تعيين لبسه. ثم طوى قميصه السماويّ بعناية وحذر وأنزل صندوقًا أسود من الكرتون من فوق الخزانة.
فتح الصندوق فأطلّ قميصه الورديّ القديم مطويًّا بعناية، بزرّ مقطوع في الوسط وزرّين أعلاه وأسفله وكأنه يحدق فيه بعينين باردتين ويسخر.



#سهير_فوزات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأمومة ليست مجرد الإنجاب وليس الطفل ملكية
- تائي المربوطة: أما آن لها الانعتاق؟
- لم أتعلّمْ!
- الباب المتبقّي
- رمضان يزيد غربتي
- حبرٌ أبيضُ
- إن كنت مثلي
- المُسقّف العربي وذو اللحية الزرقاء
- ما هو إلا بعض الخدر
- قبل الطلقة الأخيرة
- قليل من الوقت الإضافي
- الحب... وفخ العيش المشترك
- بحيرة الحقيقة
- قصة لن تنتهي
- قيس وليلى...والذئب


المزيد.....




- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهير فوزات - الرجل والعادة الزرّيّة