|
إلِكْترا: الفصل السادس 1
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5882 - 2018 / 5 / 24 - 02:47
المحور:
الادب والفن
مرة أخرى، رأت السيّدة السورية نفسها في فيللا الأسرة المُحسنة. مكالمة الرسام الفرنسيّ العجوز، كانت قد بلبلت الخانم بسبب ما حفلت به من ملابسات غريبة. إذ حملق فيها، عبرَ السماعة، صوتٌ ضعيف يكتنفه الخَوَر واليأس: " أرغب برؤية ابنة الشريفة، وبأقرب وقت لو كان بإمكانك تدبّر الأمر. سأمضي في سفرة بعيدة، ولعلني لا أرجع قط إلى المغرب.. ". ثم واصل كلامه بنفسٍ ممتلئة غماً، مردداً اسمَ الطفلة كأنه يُطلق أنيناً: " خَجيْ، خجي..! إنني مقصّرٌ في حقها. والدتها كانت ربيبة لي. فإنني بمثابة جدّها، أليسَ كذلك؟ أنتَ تفهمين عليّ، يا سيّدتي! نعم، لقد قررتُ أن أترك لها شيئاً في وصيّتي، عسى أن تنتفع به عندما تكبر ". قبل أن يتسنى لها التعقيب على كلامه، كان الرجلُ يضع السماعة كما لو أنه أصيبَ بنوبة أو خرّ مغشياً عليه. شعورُ الحَرَج، جعل " سوسن خانم " تقبل سلفاً دعوة العشاء، المقترحة من لدُن " سُميّة ". فإنها رأت أنه سيكون أقلّ وطأة إبلاغُ الأسرة بطلب المسيو الفرنسيّ، حينما تجتمع معهم في جوّ من البهجة. وإنها هيَ " سميّة "، من ردت على الهاتف، يوم أمس، حينَ اتصلت بها الخانم بغيَة إبلاغ الأسرة بأمر الزيارة. كانت سعيدة، نافدة الصبر، لما تهيأت لها هذه السانحة على حين فجأة: " نحن لا نحظى برؤيتك إلا نادراً، وا أسفاه! "، اختتمت قولها الابنةُ الكبرى للأسرة في غير قليل من التصنّع. يبدو أنها كانت تبحث عن فرصة مناسبة، للتقرب مجدداً من السيّدة السورية الغنية ـ كما يبحث كلبُ صيد عن طريدةٍ يُرضي بها صاحبه. وصلت في الموعد المقرر، كعادتها. كانت الساعة تمام السابعة مساءً، لما اجتازت الفناء الضيّق للفيللا، الأشبه بالدهليز بانحصاره بين جدران المسكن الداخلية والخارجية. دخلت الصالة بهيئتها المبهرة، متبوعة بحاشيتها. على أثر نظرة خاطفة على الحضور، بدت الضيفةُ عالية المقام راضيةً مغتبطة. على أنّ هذا الشعور ما عتمَ أن خمدَ مع ابتسامتها، آنَ تكلمت " سميّة " عن قرب وصول ابنة الخالة مع رجلها العراقيّ: " تأخرا قليلاً، لأنهما بحَسَب ظنّي سيمران على أحد المحلات ". عندئذٍ، عضت الخانم على شفتها السفلى في حركة من تذكّر أمراً ملحّاً: " آه، ذهني المضطرب جعلني أسلوَ شراء حلوى لمناسبة العشاء "، خاطبت نفسها قبل أن تميل على مرافقتها لتهمس شيئاً في أذنها. هذه الأخيرة، ما لبثت أن مضت إلى خارج الفيللا بعدما تمتمت بضع كلمات عن نسيانها حاجةٍ ما. اتجهت إلى السيارة، المركونة أمام مدخل الفيللا، في ذات الوهلة الشاهدة على نهوض الخادمة كي تتبع " خدّوج " إلى الدور الثاني لإلقاء نظرة على الطفلة. " أوه، الجميع هنا إذاً؟ يا لها من صحبة نادرة! "، هكذا هتفت ابنة الخالة حالما ولجت الصالة. لاحَ أنها كانت تتكلم مع " زين "، التي عادت أدراجها إلى الصالة وهي تداري ارتباكها. كانت بالكاد قد فتحت باب " الرانج روفر "، مهتديةً بضوء القمر الضئيل، حينَ هتفت لها امرأة العراقيّ من خلال نافذة سيارتهما. ويبدو أن هذه قد تكهنت بسبب خروج مرافقة الخانم؛ فما كان منها إلا أن أعادتها، ملوّحة بعلبة حملتها بيدها: " اشترينا ما يكفي من الحلوى.. ". ثم أضافت خالعةً صفة الازدراء على نبرتها: " سأكلم مخدومتك، فلا تخشيَنّ شيئاً من هذه الناحية! ". انصاعت المرافقة على مضض، وما لبثت أن تبعت الزوجين السعيدين، الذين سارا نحو باب الفيللا وقد وضعَ كلّ منهما يده في يد الآخر. وهذا " رفيق "، يلقي بدَوره نظرة على السيّدة السورية فيها ما فيها من استهانة. دخل الصالة شامخَ الرأس بأنف الصقر، محوطاً ذاته كمألوف العادة بمظهر العظمة والتحفظ. ثم حضرَ الطبيب العجوز، " عبد المؤمن "، قبيل موعد تقديم العشاء، ليُشغل مَن يَدعوه تحبباً " مواطني المشرقيّ " عن ضغينته تجاه عدوّة أيام زمان. استهل العجوزُ الحديثَ، باعثاً شيئاً من الحيوية في جوّ الصالة الصامت. توجه نحوَ عميدة الأسرة، ليقول لها فجأةً وهوَ يرمش بعينيه الرخوتين كعينيّ الحردون: " رأيته أخيراً، ذلك الطيفَ المستوطن منزلكم زمناً. ألا إنه قد انتقل إلى مسكني، وربما لمجرد تغيير الجو! ". استولت الدهشة على ملامح المرأة المُسنّة، مشفوعة بتمتمة من شفتيها لتعويذة أو ما أشبه. في الأثناء، كانت ضحكة ضيفتها قد انطلقت بصورة لا إرادية. على أنّ الخانم استعادت مظهرها الجاد، الصارم. قدّرت ولا شك مشاعرَ أولئك الناس، المتطيرين من سيرة الأشباح والأطياف والجنّ وأضرابهم. خاطبته " سميّة " بلهجة مراعية، وكانما تهدهد طفلاً: " هوّن عليك، يا صديقي. طيفُ منزلنا، لم يعد له وجود حقاً. لعله أخفى نفسه بين حوائج شقيقي وزوجته، حينما انتقلا إلى منزلهما الجديد " " كلا، لا يمكن هذا. أنا رأيته بعينيّ أكثر من مرة، أؤكد لك. بل إنه.. إنه جالسني مرةً على الأريكة، دونما أن ينطق بنأمة.. " " ألا يمكن أن تكون رأيت شقيقك الراحل في الحلم، أثناء نومك على الأريكة؟ " " لا، أبداً. هل أنا قاصرُ العقل كي لا أميّز بين صورة شقيقي البهية وصورة ذلك العجوز الشقيّ، الأشبه بالحلّوف؟! "، أجابها زاعقاً بصوت خنزيرٍ بين فكيّ فهدٍ مفترس. وإنما في هذه الأجواء، المفعمة بالمرح والجزَع في آنٍ واحد، استهلت الخانم في عرض طلب " مسيو جاك " بخصوص الطفلة. كانت أكثر هدوءاً ودِعَة، لما عادت تلك الليلة ووجدت نفسها في صالة مقر إقامتها. راحت ترشفُ النبيذ الفرنسيّ الفاخر، بينما كانت تقلّب في رقة وكلف أوراق مخطوطة " مسيو غوستاف " وكأنما هيَ تتأمل صوَرَ شخصياتها: " أولئك الأصدقاء والمعارف، أغلبهم مات أو اختفى سواء أكان عزيزاً أو فاسداً. ربما ينضم الرسام العجوز إلى إحدى هاتين الفئتين، بعدما أضجرته حياة الوحدة والعزلة في الضاحية المنحوسة تلك. وتبقى المدينة الحمراء مثل مطحنة الجحيم، تسحق عظامَ عشاقها وأرواحهم بدون كلل أو رحمة ". > مستهل الفصل السادس/ الجزء الثاني، من رواية " كعبةُ العَماء "
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سيرَة أُخرى 69
-
إلِكْترا: الفصل الخامس 5
-
إلِكْترا: الفصل الخامس 4
-
إلِكْترا: الفصل الخامس 3
-
إلِكْترا: الفصل الخامس 2
-
إلِكْترا: الفصل الخامس 1
-
إلِكْترا: الفصل الرابع 5
-
إلِكْترا: الفصل الرابع 4
-
سيرَة أُخرى 68
-
إلِكْترا: الفصل الرابع 3
-
إلِكْترا: الفصل الرابع 2
-
إلِكْترا: الفصل الرابع 1
-
إلِكْترا: الفصل الثالث 5
-
إلِكْترا: الفصل الثالث 4
-
إلِكْترا: الفصل الثالث 3
-
سماءٌ منشقّة
-
إلِكْترا: الفصل الثالث 2
-
إلِكْترا: الفصل الثالث 1
-
هيتشكوك المصريّ؛ مقاربة لأحد أفلامه
-
إلِكْترا: الفصل الثاني 5
المزيد.....
-
ملامح من حركة سوق الكتاب في دمشق.. تجمعات أدبية ووفرة في الع
...
-
كيف ألهمت ثقافة السكن الفريدة في كوريا الجنوبية معرضًا فنيا
...
-
شاهد: نظارة تعرض ترجمة فورية أبهرت ضيوف دوليين في حدث هانغتش
...
-
-الملفوظات-.. وثيقة دعوية وتاريخية تستكشف منهجية جماعة التبل
...
-
-أقوى من أي هجوم أو كفاح مسلح-.. ساويرس يعلق على فيلم -لا أر
...
-
-مندوب الليل-... فيلم سعودي يكشف الوجه الخفي للرياض
-
الموت يفجع الفنانة اللبنانية كارول سماحة بوفاة زوجها
-
وفاة المنتج المصري وليد مصطفى زوج الفنانة اللبنانية كارول سم
...
-
الشاعرة ومغنية السوبرانوالرائعة :دسهيرادريس ضيفة صالون النجو
...
-
في عيد التلفزيون العراقي... ذاكرة وطن تُبَثّ بالصوت والصورة
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|